الأربعاء، يناير 24، 2024

محطّات


  • كان جورج كارلِن (1937 – 2008) ممثّلا كوميديا وناقدا اجتماعيّا أمريكيّا، وقد اشتهر بروح الدعابة السوداء وبأفكاره حول السياسة واللغة وعلم النفس والدين والعديد من الموضوعات المحظورة. كان مراقبا ماهرا وذكيّا للعالم من حوله، وخاصّة للبشر ونقاط ضعفهم. وتجلّت طبيعته العملية والمجتهدة في قدرته على التواصل مع الناس من خلال روح الدعابة الثاقبة والبارعة في كثير من الأحيان.
    ويقال أن الأشخاص الذين يستمعون إليه يبدؤون في كره أنفسهم بعد مرور بعض الوقت لأنه يصوّر أعماقهم بأقصى قدر من الدقة، وفي النهاية يشعرون بأنهم لا يختلفون عن أيّ شخص أحمق آخر على هذا الكوكب. كان يدخل غرفة مليئة بالناس ويلقي بأصعب الحقائق في وجوههم ويهدم كلّ معتقداتهم وتصوّراتهم، ثم يترك الغرفة وهو ما يزال حيّا بل ومحاطا بالتصفيق من الجميع.
    هنا بعض آراء جورج كارلِن المتضمّنة في لقاءاته وفي سيرته الذاتية:
    *لا تقلّل أبدا من قوّة الأشخاص الأغبياء في مجموعات كبيرة.
    *هناك ليال تصمت فيها الذئاب ولا يعوي إلا القمر.
    *يعجبني أن أرى منظر زهرة أو بقعة صغيرة من العشب تنمو في صدع خرسانيّ. إنه عمل بطوليّ للغاية.
    *نحن البشر مهمّون جدّا في نظر أنفسنا. والجميع سوف ينقذون شيئا الآن. "أنقذوا الأشجار، أنقذوا النحل، أنقذوا الحيتان، أنقذوا تلك القواقع." وأعظم غرورا من هذا كلّه: أنقذوا الكوكب! مع اننا لا نعرف حتى كيف نعتني بأنفسنا!
    *لقد مرّ كوكب الأرض بما هو أسوأ بكثير منّا نحن البشر. مرّ بالزلازل والبراكين والصفائح التكتونية والانجراف القارّي والتوهّجات والبقع الشمسية والعواصف المغناطيسية والانعكاس المغناطيسي للقطبين. ومرّ بمئات آلاف السنين من القصف بالمذنّبات والكويكبات والنيازك، والفيضانات وموجات المدّ والجزر والحرائق والتآكل والأشعّة الكونية والعصور الجليدية المتكرّرة. فهل تعتقد ان بعض الأكياس البلاستيكية وبعض علب الألمنيوم ستُحدث فرقا؟ هذا الكوكب لن يذهب إلى أيّ مكان، بل نحن!
    نحن الذين سنذهب. لذا احزموا أمتعتكم. سنذهب بعيدا. ولن نترك الكثير من الأثر هنا. سيظلّ الكوكب هنا بعد ان نكون قد اختفينا منذ زمن طويل. وسوف يشفي وينظّف نفسه، لأن هذا عمله. إنه نظام تصحيح ذاتيّ. سوف يتعافى الهواء والماء وتتجدّد الأرض. نحن مجرّد طفرة فاشلة أخرى، خطأ بيولوجيّ مغلق آخر، طريق تطوّري مسدود. ولسوف يهزّنا الكوكب مثل مجموعة رديئة من البراغيث.
    *الحياة تصبح بسيطة حقّا بمجرّد أن تخلّص نفسك من كلّ ذلك الهراء الذي علّموك إيّاه في المدرسة.
    *من المهمّ في الحياة ألا تهتمّ بشيء. هذا سيساعدك كثيرا.
    *أؤيّد تماما فصل الكنيسة عن الدولة. فهاتان المؤسّستان تفسداننا بما فيه الكفاية، لذا فكلاهما معا موت مؤكّد.
    *لا تعلّموا أطفالكم القراءة فقط. علّموهم أن يتساءلوا عمّا قرأوه وأن يشكّكوا في كلّ شيء.
    *لا يبدو أن الناس يدركون أنه لا يوجد أيّ شفاء أو راحة دائمة على الإطلاق في هذا العالم. لا يوجد سوى فترة توقّف قصيرة قبل الحدث المروّع التالي. وينسى الناس أن هناك شيئا اسمه الذاكرة، وأنه عندما "يُشفى" الجرح فإنه يترك ندبة لا تختفي أبداً.
    *نحن أمّة من الأغنام، وهناك شخص آخر يملك العشب.
    *أعتقد أنه من واجب الممثّل الكوميدي معرفة أين رُسم الخطّ ثم يتجاوزه.
    *بداخل كل ساخر مثالي إنسان مُحبَط.
    *لا أحبّ تقبيل المؤخّرات أو التلويح بالأعلام. أحبّ الأشخاص الذين يخالفون النظام والفردانيين. إعتنق الاستقلالية والفردية والنزاهة. وتجنّب المجموعات بأيّ ثمن. أبقِ دائرتك صغيرة. ولا تنضمّ أبدا إلى مجموعة تحمل اسما. وإذا توجّب عليك الانضمام بشكل لا مفرّ منه الى تجمّع، مثل نقابة أو جمعية تجارية، فلا بأس. لكن لا تشارك. وإذا أخبروك أنك لست لاعبا في الفريق، فهنّئهم على ملاحظتهم!
  • جاء الحصان، الذي كان مزيّنا بسرجه المبهرج وعاضّاً على لجامه الرغوي، بينما كان صهيله العالي والصاخب يتردّد عبر الجبال القريبة. لم يكن قد قطع مسافة طويلة قبل أن يتجاوز الحمار، الذي كان ينوء تحت عبء ثقيل ويتحرّك ببطء في نفس المسار. وعلى الفور نادى الحصان على الحمار بلهجة متعجرفة ومتغطرسة وهدّده بأن يدوسه ويدفنه في التراب إذا لم يفسح له الطريق. ولم يجرؤ الحمار المسكين الصبور على الاعتراض، فخرج بهدوء من طريقه بأسرع ما يمكن وتركه يمرّ.
    وبعد فترة وجيزة، أصيب الحصان نفسه برصاصة في عينه أثناء اشتباك صاحبه مع العدوّ، ما جعله غير صالح للاستعراض أو أيّ عمل آخر، فجُرّد من حليته الجميلة وبيع لشخص آخر. ثم التقى به الحمار وهو على تلك الحال البائسة وظنّ أن الوقت قد حان للتحدّث اليه فقال: مرحبا يا صديقي، هل هذا أنت؟ حسنا، لطالما اعتقدت دائما أنك ستتخلّى عن كبريائك في يوم من الأيام."
    الدرس المستفاد من هذه الحكاية هو أن الكبرياء والغطرسة أمران غريبان على العظماء حقّا. والذين يُظهرون الغطرسة، بدلاً من الصداقة والشفقة، عندما يتولّون مناصب عالية، لن يواجهوا سوى الازدراء بمجرّد أن تتغيّر حظوظهم في الحياة ويغادروا الجاه او المنصب.


  • الرسائل المتبادلة بين الرسّام الروسي إيليا ريبين ومواطنه الروائي ليو تولستوي تلقي بعض الضوء على وجهات نظرهما الفنّية والفلسفية، بالإضافة الى علاقتهما الشخصية.
    كان ريبين وتولستوي معجبين كثيرا ببعضهما البعض. وقد تراسلا في مواضيع مختلفة، بما في ذلك الفنّ والأدب والروحانية والقضايا الاجتماعية. وغالبا ما تناولت رسائلهما دور الفنّ في المجتمع وطبيعة الإبداع والعمليات الفنّية الخاصّة بكلّ منهما.
    وقد رسم ريبين تولستوي في عدّة مناسبات. وأسفرت صداقتهما عن عدّة بورتريهات. وإحدى أبرز تلك اللوحات تعود الى عام 1887 وتصوّر تولستوي وهو يقرأ في ضيعته في ياسنايا بوليانا بموسكو. في هذه اللوحة يظهر تولستوي وهو جالس على كرسي وممسك بكتاب. وهو يظهر كرجل مسنّ ذي لحية بيضاء طويلة ويرتدي لباسا ريفيّا بسيطا يُعرف بالقفطان.
    وتجسّد اللوحة تركيز تولستوي العميق، كما تقدّم صورة للكاتب والفيلسوف المتفاني ذي المعرفة الواسعة والتأثير العالمي. ويضيف استخدام ريبين البارع للضوء والظلّ إلى الصورة عمقا وواقعية كما يسلّط الضوء على ملامح وجه تولستوي ويؤكّد على نظرته الثاقبة والذكيّة.
    واللوحة لا تُعتبر فقط تصويرا بارعا للكاتب، ولكنها أيضا تجسّد جوهر مساعي تولستوي الفكرية وارتباطه بالريف الروسي.
    وعندما عُرضت اللوحة لأوّل مرّة، حظيت باهتمام كبير وثناء من الجمهور ونقّاد الفن. وكان يُنظر إليها على أنها تصوير قويّ وحميم لتولستوي، حيث لم تلتقط مظهره الجسدي فحسب، بل أيضا عمقه الفكري وطبيعته التأمّلية. وحظي اهتمام ريبين الدقيق بالتفاصيل والاستخدام الماهر للضوء والظلّ والقدرة على نقل أجواء دراسة تولستوي بتقدير كبير من قبل النقّاد.
    كما لاقت اللوحة صدى لدى الجماهير بسبب تصويرها لتولستوي كشخصية موقّرة وأيقونة أدبية. كان تولستوي كاتبا مؤثرا للغاية في عصره وقد التقطت صورة ريبين له جوهر عبقريّته الأدبية، بالإضافة إلى دوره كفيلسوف.
    ولا يزال يُحتفل بهذه اللوحة باعتبارها تصويرا مبدعا لتولستوي وعملا مهمّا في تاريخ الفنّ الروسي. وكثيرا ما يعاد استنساخها والإشارة إليها في المناقشات حول حياة تولستوي وأعماله ومساهمات ريبين في فنّ البورتريه.
    المعروف أن ريبين رسم تولستوي في مناسبات أخرى أيضا وطوال فترة صداقتهما وأظهر جوانب مختلفة من مظهر الكاتب وشخصيّته.
    وقد حدث اوّل تبادل للرسائل بين الاثنين عام 1887 عندما بعث ريبين إلى تولستوي رسالة يعبّر فيها عن إعجابه برواية "آنا كارينينا". وردّاً على ذلك، كتب تولستوي رسالة شكر إلى ريبين، يشيد فيها بمواهبه الفنّية ويعبّر عن أفكاره حول الرواية.
    وعلى الرغم من أن المجموعة الكاملة من الرسائل بين الاثنين ليست متاحة على نطاق واسع، إلا أنه يمكن العثور على مقتطفات ومراسلات مختارة منها في السير الذاتية والمنشورات المختلفة لكلّ منهما. وتوفّر هذه الرسائل رؤى قيّمة حول النقاشات الفكرية والفنّية بين اثنين من عمالقة الثقافة الروسية في ذلك العصر.
    يقول ريبين واصفا أحد لقاءاته بتولستوي في أكتوبر عام 1880: في الحقيقة كنت اظنّ انني لن أتمكّن من زيارته. وكنت أخشى أن أشعر بخيبة أمل بطريقة ما، لأنني رأيت أكثر من مرّة في حياتي كيف أن الموهبة والعبقرية لا تتناغم مع الشخصية الحقيقية للكاتب.
    ويضيف: لكن ليو تولستوي كان مختلفا، فهو انسان رائع جدّا، وفي الحياة هو عميق وجدّي كما هو حال إبداعاته. وأمامه شعرت بأنني صبيّ تافه. كنت اريد أن أستمع إليه إلى ما لا نهاية. ولم يكن بخيلاً، فقد كان يتكلّم كثيراً ومن قلبه. وكم تمنّيت لو أستطيع أن اكتب كلّ ما قاله بأحرف ذهبية على ألواح من رخام وأعود لقراءة وصاياه كلّ يوم في الصباح وقبل الذهاب الى النوم.

  • Credits
    ilya-repin.ru