الاثنين، مايو 26، 2014

عشاء مع أوفيد/2

"الآن أكملتُ عملا لن يقدر على هدمه غضب جوبيتر، ولا النار ولا الحديد ولا الزمن الذي لا يشبع. فليأتِ، متى شاء، اليوم المحتوم الذي لا حقوق له إلا على جسدي، وليضع حدّا لمسار حياتي الغامض. سيكون اسمي عصيّاً على الفناء. وأينما توغّلَت قوّة روما بعيدا في الأرض التي تسودها، فلسوف يقرؤني الناس".
  • أوفيد، خاتمة كتاب "التحوّلات".

    لا تتوفّر معلومات وافية أو مؤكّدة عن حياة أوفيد. وكلّ ما نعرفه عن حياته الخاصّة مصدره كتاباته. ولعلّ هذه فرصة لسؤال الشاعر عن بعض الأمور المتعلّقة بظروف نشأته الأولى وكيف أصبح شاعرا.
    نعرف، مثلا، أنه ولد عام 43 قبل الميلاد، أي بعد اغتيال يوليوس قيصر بعام واحد. وكانت ولادته في بلدة سالمونا الايطالية لعائلة موسرة. وقد أخذه والده إلى روما لدراسة السياسة والخطابة، لكنه اختار الشعر. وقد تزوّج ثلاث مرّات وطلّق مرّتين قبل بلوغه الثلاثين وأنجب ابنة واحدة. وفي شبابه، سافر إلى آسيا الصغرى ثمّ إلى أثينا.
    ألّف أوفيد العديد من دواوين الشعر، أحدها عنوانه "رسائل من نساء بطلات"، وهو عبارة عن سلسلة من الرسائل من نساء أسطوريّات إلى أزواجهنّ أو عشّاقهنّ الغائبين. وهناك ديوان ثان بعنوان "فنّ الحبّ"، ويحكي عن قصّة حبّ بطلتها امرأة من الطبقة الرفيعة في روما تُدعى كورينا.
  • ❉ ❉ ❉

    كان أوفيد شاعرا غزير الإنتاج. شخصيّته وكتبه ألهمت في ما بعد كتّابا لاتينيين خبروا، هم أيضا، تجربة النفي مثل سينيكا وبوتيوس. لكن من بين جميع مؤلّفات الشاعر، يُعتبر كتاب "التحوّلات" الأكثر شهرة واحتفاءً. وبراعة أوفيد في هذا الكتاب غير مسبوقة. وبالتأكيد لا يمكن أن أتخيّل لقاءً مع الشاعر دون أن اطرح عليه بعض الأسئلة والملاحظات عن الكتاب.
    عندما تقرأ "التحوّلات"، ستلاحظ أنه يتحدّث عن عالَم يتخلّله إحساس بالحركة وبالتشوّش وغياب النظام. وتسلسل الأحداث فيه محكوم بالصدفة ولا يسير وفق منطق السبب والنتيجة. كما ستلاحظ أن كلّ قصّة من قصص التحوّلات يصاحبها عادة عنف ومعاناة. وهذا يضفي على جميع قصص الكتاب طابعا دراماتيكيّا، بالنظر إلى أن العنف يتضمّن ضحيّة تصرخ وتحتجّ وتبدو بلا حول ولا قوّة.
    والضحايا هم غالبا إناث بريئات يتعقبّهن مغتصبون من الآلهة أو من البشر. والسرد يثير في نفس القارئ إحساسا بالشفقة على الضحيّة عندما تتحوّل إلى شيء آخر، كما لو أن ضغط معاناتها يفوق قدرة البشر على التحمّل.
    ولا بدّ وأن تتساءل وأنت تقرأ الكتاب: كيف يجب أن نتعامل مع هذه التحوّلات، وهي العنصر المحوريّ فيه. ولماذا هذا الإصرار على التحوّل من خلال عملية وحشية؟ وهل يضيف هذا إلى التجربة الإنسانية شيئا؟ ثمّ هل أوفيد يقول هنا شيئا عن طبيعة الإنسان كما يفعل كلّ من هوميروس وهيسيود مثلا في كتاباتهما؟ وهل التأثير المستمرّ لقصيدة التحوّلات يعتمد على فهمٍ ما للحياة أو على تجربةٍ ما وجدها الناس ذات قيمة مثلا؟
    مثل هذه التساؤلات قد تثير اهتمام أوفيد عند طرحها عليه. وقد يكون عنده من الإجابات والملاحظات ما يجلي بعض الغموض.
    وأيضا لا بأس من الاستئناس برأيه حول وجهة النظر الرائجة والتي تقول إن القصيدة لا تقدّم أيّة رؤية خاصّة عن الحياة، وأنها في الأساس عبارة عن احتفال بالعبقرية الأدبيّة للكاتب، وبرهان على المتعة النقيّة للقصص الخيالية التي لا يخالطها دروس أو مواعظ أخلاقية.

    ❉ ❉ ❉

    معظم قصيدة التحوّلات يتعلّق بأحداث في منتهى الوحشية. وإذا حاولنا اعتبارها، أي الحوادث، أحداثا حياتية، فإن الكتاب عندئذ يصبح عبارة عن صورة كئيبة ومظلمة عن تصرّفات وطبيعة البشر. أي انه يتضمّن رؤية لا تختلف عن الرؤية المتشائمة والأقدار المشئومة عن العالم في أدب كلّ من هيسيود وسوفوكليس.
    في أعمال هيسيود وهوميروس واسخيليوس وسوفوكليس، للأساطير معان خطيرة. فهي تضيء وترمز لجوانب مهمّة من طبيعة الحياة نفسها، مثل قدرة الآلهة على التدمير وأمزجتها الغاضبة وحبّها وكراهيّتها. والأحداث قد تبدو لاعقلانية ومضحكة وفجائية. لكنّها تُقدّم كرؤى جادّة عن طبيعة الأشياء التي تقع في مركز اهتمامنا، مثل رغبتنا في فهم القوى الأساسية خارج أنفسنا. والأساطير تُوظّف لتربط عالمنا المألوف مع الإحساس بالغموض الذي يساورنا عندما نتأمّل الأشياء التي هي خارج سيطرتنا والتي يستعصي علينا فهمها.
    غير أن أهمّ ملمح مثير للفضول في قصيدة التحوّلات، وهو سبب شهرتها على الأرجح، هو أنها لا تعرض مثل هذه الرؤية اليائسة عن الحياة ولا أثر لها فيها. وبرغم كلّ الوحشية فإن القصيدة توفّر قراءة سارّة وممتعة، بل ويمكن أن نصفها بأنها تحفة هزلية.
    هل سبق لك أن قرأت رواية الكونت دراكيولا؟ صحيح أن أجواءها مخيفة إلى حدّ ما، ولكن قراءتها جميلة وممتعة. وهذه الصفة تنطبق أيضا على "التحوّلات". وهي سمة تستحقّ الدراسة المتعمّقة، لأنها قد تكون أهمّ مؤشّر على الجاذبية القديمة والدائمة لهذا الكتاب.

    احد النقّاد قال إن من غير المجدي البحث عن معنى داخلي أعمق قد يكون أوفيد تركه للآخرين في "التحوّلات". فالكتاب يُبقينا دائما عند سطح التفاصيل، ولا يدعونا لنرى إن كانت سلسلة الكوارث هذه تقول أيّ شيء مهمّ عن العالم. انه كتاب يمكن أن نقرأه ونستمتع به دون أن يدفعنا أو يقودنا باتجاه أيّة منظومة من المعتقدات عن العالم أو عن فهمنا للكون.
    وهنا لا بدّ من إعادة طرح هذا السؤال على أوفيد: هل تتضمّن "التحوّلات" موقفا فلسفيّا، فكرة أو رؤية ما عن العالم، وهو ما لا يراه الكثيرون كما أشرنا آنفاً، أم أنها مجرّد قصص مسلّية وممتعة أراد الشاعر من خلالها أن يكشف عن مقدرته السردية ومهاراته الشعرية، بمعنى أن التجربة الجمالية فيها مقدّمة على الدروس أو المواعظ الأخلاقية؟
    من أشهر التحوّلات التي يحكي عنها أوفيد قصّة اوديب الذي تخبر ساحرة والديه بأن طفلهما، أي اوديب، سيكبر وسيقتل والده ويتزوّج أمّه. وعندما يكبر تتحقّق تلك النبوءة المشئومة. وهناك أيضا قصّة ديونيسيوس أو باخوس، وقصّة نرسيس وإيكو (أي الصدى).
    وفي مكان آخر من الكتاب، يتحدّث الشاعر عن قصّة ميداس. وميداس الحقيقيّ في هذا الكتاب هو المؤلّف نفسه. ولمسة الذهب التي لديه هي فنّه الذي يغيّر ويؤثّر. وإنجاز أوفيد يتمثّل في تحويل رؤية مظلمة ومحبطة عن الوجود إلى كوميديا كونية.

    ❉ ❉ ❉

    من جهة أخرى، يمكن اعتبار "التحوّلات" كتابا عن تنوّع وسيولة الكون. وقصصه تذيب التقاليد الأخلاقية وتستكشف الأشياء الغامضة وتلغي الحدود والفوارق بين الرجال والنساء والحيوانات والآلهة والنباتات.
    وهو يستكشف الجندر من نواح كثيرة ومتعدّدة. وكلّ أصحاب نظريات الجندر الحديثة سيجدون في هذا الكتاب مادّة للتنظير. ولابدّ أن تستوقفهم، مثلا، شخصيّة هيرمافرودايت التي هي عبارة عن جنس مختلط، وشخصيّة اتالانتا التي تحبّ الصيد والرياضة مع أنها أنثى، وشخصيّة اخيل الذي يتنكّر على هيئة امرأة مع انه لا يُخفي اهتماماته الذكورية بالأسلحة. نظريّة الشاعر عن المثلية الجنسية مثيرة للاهتمام. فالتحوّلات الجندرية برأيه سببها التغذية وأسلوب الحياة وليس الطبيعة.
    متعة أوفيد القاتمة في رواية هذه القصص تستدعي الكثير من الأسئلة. لكن قصص اللقاءات الجنسية في الكتاب ممزوجة بأسئلة عميقة. مثلا، ماذا يعني أن يكون لديك أفكار ومشاعر محبوسة داخل جسد قابل للتحوّل؟ وما هي النفس؟ وما حدودها؟ وإذا تغيّر شكلك الخارجي، فما الذي يدوم بعد ذلك؟

    ❉ ❉ ❉

    ربّما يتفاجأ أوفيد عندما يعلم انه في العصور الوسطى كان هناك اتجاه لإضفاء سمة أخلاقية على كتاب "التحوّلات". وقد فُرضت عليه تفسيرات وعظية تتوافق مع تعاليم الكنيسة الكاثوليكية في روما في تلك الفترة وأضيف للقصيدة ما ليس فيها. لكن تلك التعديلات لم تنتهك الجوّ العامّ والأفكار التي يتضمّنها الكتاب. أي أن الكنيسة لم تضطرّ لحظر الكتاب خوفا منه، بل احتاجت فقط لأن تكيّفه، وذلك بفرض البناء الذي يناسب رغبات رجال الدين مع الإبقاء على الأسلوب السرديّ.

    ❉ ❉ ❉

    بعض النقّاد يذهبون إلى أن "التحوّلات" يتضمّن رؤية أو فكرة ما ذكرها أوفيد في الخاتمة عندما تحدّث عن الزمن وقدرته التي لا تُقهر. يقول: هناك أمم تصعد إلى القوّة والعظمة، وأمم أخرى تفشل وتسقط. طروادة كانت ذات وقت عظيمة بثرواتها ورجالها، وأعطت عشر سنوات من دم حياتها، والآن انتهت ولم يبق منها سوى الأطلال القديمة ومقابر الأسلاف المهدّمة".
    والمعنى الواضح لهذه العبارة هو أن روما، برغم عظمتها الإمبراطورية، من المحتّم أن تفشل، هي أيضا، وتسقط في النهاية. وفي الخاتمة، يهدي أوفيد كتابه لكلّ من يوليوس قيصر وأوغستوس. لكن وراء هذا الإهداء مفارقة لافتة، إذ أنه يشير ضمنا إلى انه أيّا ما كانت انجازات هذين القائدين السياسيين العظيمين، فإن أعمالهما لن تدوم طويلا.
    وما سيدوم حقّاً هو قصيدة أوفيد نفسها. وخاتمة الكتاب توضّح انه إذا كان التحوّل هو القاعدة في هذه الحياة، فإن الشيء الوحيد الذي يمكن أن ينجو من التحوّل أو التغيير هو العمل الفنّي. في الحياة أو السياسة، ليس هناك ثبات أو دوام للحقيقة. والخلود الوحيد الممنوح لنا، نحن البشر، يأتي من الأدب العظيم، مثل قصيدة أوفيد.

    Credits
    ancient-literature.com
    public.wsu.edu
    poetryintranslation.com