هذه واحدة من أوائل الصور التي رأيتها في حياتي. وأتذكّر أن قريبا لي اشترى نسخة من هذه اللوحة وأتى بها إلى بيتنا ظنّا منه أنني سأحبّها لطرافتها. كان يدرك أن الأطفال عادة ما يحبّون رؤية الحيوانات وهي تتصرّف وتفعل مثلما يفعل الإنسان.
لكن بالنسبة لي وخلافا لما توقّعه ذلك القريب، كان منظر تيس ضخم يجلس على مؤخّرته ويتحدّث في جمع من النساء في مكان منعزل ومظلم أمرا يبعث على الانزعاج والقلق. وعندما اكتشف قريبي أن الصورة أتت بنتيجة عكسية وأنني أصبحت أراها في المنام، قام على الفور بإتلافها والتخلّص منها. وحرص على أن يفعل ذلك أمامي كي تطمئنّ نفسي.
في تلك الفترة كان من السهل أن تجد في المحلاتّ والأسواق التجارية عندنا كافّة أنواع اللوحات والصور الفنّية معروضة للبيع بأسعار زهيدة. كان هذا قبل انتشار ظاهرة الهوس الديني والتخلّف العقلي المسمّاة بالصحوة.
الغريب أنني عندما كبرت صرت أحبّ هذه اللوحة وغيرها من أعمال الرسّام الاسباني فرانشيسكو دي غويا بعد أن عرفت أن وراءها فكرا راجحا وعقلا مستنيرا.
وكثيرا ما تخيّلت غويا فيلسوفا ومفكّرا وعالم اجتماع في إهاب رسّام. وربّما لو كان فيلسوفا لكان مزيجا من فولتير وشوبنهاور وغوته. وهو بالمناسبة احد الرسّامين القلائل الذين يتمنّى الإنسان أن يراه ويقيم معه حوارا حول حياته ولوحاته. والصورة التي في ذهني عنه هي صورة إنسان على مستوى عال من الرقيّ والتعاطف والنبل. وبرغم انه كان صديقا للملوك ولأفراد الطبقة الاجتماعية الرفيعة، إلا انه كان يقف دائما في صفّ الناس البسطاء والفقراء والمهمّشين.
وقد رأى غويا أثناء حياته الكثير من شرور وآثام هذا العالم. رأى أهوال ومآسي الحرب في بلده وسجّلها في العديد من لوحاته. وصُدم بشدّة بما رآه من قسوة وهمجية الإنسان ضدّ أخيه الإنسان.
ولا بدّ وأنه كان يتساءل: هل يمكن أن تعرف هذا العالم على حقيقته ثمّ تستمرّ في حبّه؟ وكيف يمكن للإنسان أن يتصالح مع عالم تستشري فيه المعاناة والشرّ ولا مكان فيه سوى للظلم والقوّة الغاشمة؟ كان يؤمن بأن الإنسان العاقل الحكيم من الأدعى أن يقاوم هذا العالم ويشارك في تغييره، لا أن يقرّه كما هو أو يُذعن لقيمه المتوحّشة والجاهلة. وهذا هو بالضبط ما فعله غويا من خلال فنّه.
كان صاحب روح عظيمة تنبذ الظلم والاستبداد وتكره الحروب والتعصّب الديني والمذهبي والعرقي، وهذا ما جعلني أحبّه وأقترب من عالمه أكثر. ومع مرور الوقت أصبح رواقيّا، فراح ينتقد كلّ شيء ويسخر من أيّ شيء في محاولة لإبعاد عقله عن تداعيات ما يعرفه وإبقائه صاحياً.
لوحته فوق هي احد أشهر أعماله وعنوانها "سبت الساحرات" أو التيس العظيم. وقد أتمّ رسمها حوالي العام 1823. وهي تتضمّن إيحاءات سياسية واجتماعية على خلفية الصراع المرير الذي كان يدور آنذاك في اسبانيا بين الليبراليين من جهة وأنصار الكنيسة والدولة الملكية الاسبانية من جهة أخرى.
لكن بالنسبة لي وخلافا لما توقّعه ذلك القريب، كان منظر تيس ضخم يجلس على مؤخّرته ويتحدّث في جمع من النساء في مكان منعزل ومظلم أمرا يبعث على الانزعاج والقلق. وعندما اكتشف قريبي أن الصورة أتت بنتيجة عكسية وأنني أصبحت أراها في المنام، قام على الفور بإتلافها والتخلّص منها. وحرص على أن يفعل ذلك أمامي كي تطمئنّ نفسي.
في تلك الفترة كان من السهل أن تجد في المحلاتّ والأسواق التجارية عندنا كافّة أنواع اللوحات والصور الفنّية معروضة للبيع بأسعار زهيدة. كان هذا قبل انتشار ظاهرة الهوس الديني والتخلّف العقلي المسمّاة بالصحوة.
الغريب أنني عندما كبرت صرت أحبّ هذه اللوحة وغيرها من أعمال الرسّام الاسباني فرانشيسكو دي غويا بعد أن عرفت أن وراءها فكرا راجحا وعقلا مستنيرا.
وكثيرا ما تخيّلت غويا فيلسوفا ومفكّرا وعالم اجتماع في إهاب رسّام. وربّما لو كان فيلسوفا لكان مزيجا من فولتير وشوبنهاور وغوته. وهو بالمناسبة احد الرسّامين القلائل الذين يتمنّى الإنسان أن يراه ويقيم معه حوارا حول حياته ولوحاته. والصورة التي في ذهني عنه هي صورة إنسان على مستوى عال من الرقيّ والتعاطف والنبل. وبرغم انه كان صديقا للملوك ولأفراد الطبقة الاجتماعية الرفيعة، إلا انه كان يقف دائما في صفّ الناس البسطاء والفقراء والمهمّشين.
وقد رأى غويا أثناء حياته الكثير من شرور وآثام هذا العالم. رأى أهوال ومآسي الحرب في بلده وسجّلها في العديد من لوحاته. وصُدم بشدّة بما رآه من قسوة وهمجية الإنسان ضدّ أخيه الإنسان.
ولا بدّ وأنه كان يتساءل: هل يمكن أن تعرف هذا العالم على حقيقته ثمّ تستمرّ في حبّه؟ وكيف يمكن للإنسان أن يتصالح مع عالم تستشري فيه المعاناة والشرّ ولا مكان فيه سوى للظلم والقوّة الغاشمة؟ كان يؤمن بأن الإنسان العاقل الحكيم من الأدعى أن يقاوم هذا العالم ويشارك في تغييره، لا أن يقرّه كما هو أو يُذعن لقيمه المتوحّشة والجاهلة. وهذا هو بالضبط ما فعله غويا من خلال فنّه.
كان صاحب روح عظيمة تنبذ الظلم والاستبداد وتكره الحروب والتعصّب الديني والمذهبي والعرقي، وهذا ما جعلني أحبّه وأقترب من عالمه أكثر. ومع مرور الوقت أصبح رواقيّا، فراح ينتقد كلّ شيء ويسخر من أيّ شيء في محاولة لإبعاد عقله عن تداعيات ما يعرفه وإبقائه صاحياً.
لوحته فوق هي احد أشهر أعماله وعنوانها "سبت الساحرات" أو التيس العظيم. وقد أتمّ رسمها حوالي العام 1823. وهي تتضمّن إيحاءات سياسية واجتماعية على خلفية الصراع المرير الذي كان يدور آنذاك في اسبانيا بين الليبراليين من جهة وأنصار الكنيسة والدولة الملكية الاسبانية من جهة أخرى.
وغويا يصوّر في اللوحة الشيطان على هيئة تيس بقرون طويلة مكلّلة بأوراق السنديان، وهو جالس على ارض جرداء في ليلة مقمرة، تحيط به مجموعة من النساء الساحرات.
وإلى اليمين في الصورة تظهر ساحرتان تمسك كلّ منهما بطفل في يدها. الشيطان يبدو وكأنه يتصرّف ككاهن في حفل طقوسي لتعليم أو تلقين الأطفال، على الرغم من أن الخرافة الشعبية الرائجة في ذلك الوقت كانت تعتقد أن الشيطان كثيرا ما يتغذّى على الأطفال وعلى الأجنّة البشرية. وعلى الأرض إلى اليسار، يمكن رؤية هيكل عظمي لطفل رضيع يبدو انه قُدّم للتوّ كأضحية أو قربان.
وفوق، في السماء، يظهر القمر وسرب من الخفافيش التي تحلّق في حركة تحاكي استدارة القمر. الخفافيش تلقي بظلالها على المشهد وتصبغ الأفق بلون قاتم.
كلمة "السبت" في عنوان هذه اللوحة مستمدّة من العبرية، وتعني "التوقّف" أو "الراحة"، باعتبار السبت يوم عطلة دينية عند اليهود. لكن في ذلك الوقت، أي في العصور الوسطى، كان يسود اعتقاد بأن اليهود يعبدون الشيطان. وبناءً عليه، أصبحت "السبت" كلمة تصف التجمّعات الشيطانية للسحرة.
غويا استخدم صور السحرة في العديد من أعماله. وهناك من يرى أن بعضها ربّما تتضمّن انتقادا لطائفة وثنية قديمة تعرّضت لاضطهاد الكنيسة الاسبانية، ولكنها كانت ما تزال ذات نفوذ وتمارس طقوسها الخرافية الساذجة والغريبة في المناطق النائية من البلاد.
لكن هناك وجهة نظر أخرى أكثر رواجا تقول إن غويا في تلك اللوحات إنما كان يقارن بين السحر وأنشطة رجال الدين ويشدّد على التشابه بين السحرة والرهبان في طاعتهم الصارمة للتسلسل الهرمي لوظائفهم، أي من الأصغر سنّا إلى الأكبر وهكذا.
وبطبيعة الحال، ما كان بإمكان غويا أن يكون واضحا أكثر من اللزوم في بعض رسوماته. فعلى الجانب الآخر، كان أيّ انتقاد علني أو صريح لرجال الدين يعني إثارة غضب العيون الساهرة والمتربّصة لمحاكم التفتيش الاسبانية التي كان غويا يبذل قصارى جهده لاتّقاء شرّها.
وكان الرسّام قد غامر باتخاذ مواقف متشدّدة من تلك المحاكم ومن مطاردة الساحرات والمحاكمات التي تلت ذلك بفترة ليست بالطويلة. كما كان ينتقد بشدّة الأفكار التي كانت سائدة في زمانه والتي كانت تؤمن بالشعوذة والخرافات. كما هاجم بضراوة الإرهاب الديني واستبداد رجال الدين.
إذن سبت الساحرات أو التيس العظيم تسخر أيضا من الخرافات والخوف ومن لاعقلانية الجهّال الذين كانوا يؤمنون بالأشباح والغيلان ويثقون بالمعالجين الدجّالين وبالحكّام المستبدّين.
الظروف السياسية المضطربة في اسبانيا منذ بدايات القرن التاسع عشر أسهمت في الطبيعة المظلمة لما عُرف بلوحات غويا السوداء. الحرب والعنف والوحشية التي مورست ضدّ المواطنين الإسبان تركت الرسّام في حال من الذهول وشكّلت في ذهنه صورة قاتمة عن البشرية. كان كلّ ما يجري وقتها يدعو للإحباط واليأس. وكان منزل غويا في "كوينتا دل سوردو" ملاذه في سنواته المتأمّلة والناقدة.
وللحديث بقيّة غدا..
وإلى اليمين في الصورة تظهر ساحرتان تمسك كلّ منهما بطفل في يدها. الشيطان يبدو وكأنه يتصرّف ككاهن في حفل طقوسي لتعليم أو تلقين الأطفال، على الرغم من أن الخرافة الشعبية الرائجة في ذلك الوقت كانت تعتقد أن الشيطان كثيرا ما يتغذّى على الأطفال وعلى الأجنّة البشرية. وعلى الأرض إلى اليسار، يمكن رؤية هيكل عظمي لطفل رضيع يبدو انه قُدّم للتوّ كأضحية أو قربان.
وفوق، في السماء، يظهر القمر وسرب من الخفافيش التي تحلّق في حركة تحاكي استدارة القمر. الخفافيش تلقي بظلالها على المشهد وتصبغ الأفق بلون قاتم.
كلمة "السبت" في عنوان هذه اللوحة مستمدّة من العبرية، وتعني "التوقّف" أو "الراحة"، باعتبار السبت يوم عطلة دينية عند اليهود. لكن في ذلك الوقت، أي في العصور الوسطى، كان يسود اعتقاد بأن اليهود يعبدون الشيطان. وبناءً عليه، أصبحت "السبت" كلمة تصف التجمّعات الشيطانية للسحرة.
غويا استخدم صور السحرة في العديد من أعماله. وهناك من يرى أن بعضها ربّما تتضمّن انتقادا لطائفة وثنية قديمة تعرّضت لاضطهاد الكنيسة الاسبانية، ولكنها كانت ما تزال ذات نفوذ وتمارس طقوسها الخرافية الساذجة والغريبة في المناطق النائية من البلاد.
لكن هناك وجهة نظر أخرى أكثر رواجا تقول إن غويا في تلك اللوحات إنما كان يقارن بين السحر وأنشطة رجال الدين ويشدّد على التشابه بين السحرة والرهبان في طاعتهم الصارمة للتسلسل الهرمي لوظائفهم، أي من الأصغر سنّا إلى الأكبر وهكذا.
وبطبيعة الحال، ما كان بإمكان غويا أن يكون واضحا أكثر من اللزوم في بعض رسوماته. فعلى الجانب الآخر، كان أيّ انتقاد علني أو صريح لرجال الدين يعني إثارة غضب العيون الساهرة والمتربّصة لمحاكم التفتيش الاسبانية التي كان غويا يبذل قصارى جهده لاتّقاء شرّها.
وكان الرسّام قد غامر باتخاذ مواقف متشدّدة من تلك المحاكم ومن مطاردة الساحرات والمحاكمات التي تلت ذلك بفترة ليست بالطويلة. كما كان ينتقد بشدّة الأفكار التي كانت سائدة في زمانه والتي كانت تؤمن بالشعوذة والخرافات. كما هاجم بضراوة الإرهاب الديني واستبداد رجال الدين.
إذن سبت الساحرات أو التيس العظيم تسخر أيضا من الخرافات والخوف ومن لاعقلانية الجهّال الذين كانوا يؤمنون بالأشباح والغيلان ويثقون بالمعالجين الدجّالين وبالحكّام المستبدّين.
الظروف السياسية المضطربة في اسبانيا منذ بدايات القرن التاسع عشر أسهمت في الطبيعة المظلمة لما عُرف بلوحات غويا السوداء. الحرب والعنف والوحشية التي مورست ضدّ المواطنين الإسبان تركت الرسّام في حال من الذهول وشكّلت في ذهنه صورة قاتمة عن البشرية. كان كلّ ما يجري وقتها يدعو للإحباط واليأس. وكان منزل غويا في "كوينتا دل سوردو" ملاذه في سنواته المتأمّلة والناقدة.
وللحديث بقيّة غدا..