:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الخميس، أبريل 03، 2008

سيكولوجيا الوشم

شاهدت منذ أيّام برنامجا، أو بالأحرى تحقيقا مصوّرا، بثّته إحدى القنوات البولندية عن فنّ الجسد. ورغم أنني لم افهم شيئا مما قيل فإنني مع ذلك حرصت على متابعة الصور والمشاهد بدافع الفضول وحبّ المعرفة. وقد عرض البرنامج مناظر لرجال ونساء ملئت أجسادهم بصور لشياطين وجماجم وأفاعي وعناكب وعقارب، إلى غير ذلك من الرسومات الصادمة والغريبة.
وقد حرّضني مضمون ذلك الفيلم على أن أبحث أكثر عن نشأة وتطوّر هذا النوع من الفنّ والغايات والدوافع النفسية التي تفسّر شغف بعض الناس بوشم أجسادهم وتلطيخها بتلك الألوان الصاخبة والأشكال الشاذّة والمخيفة.
ومن المعلومات التي أثارت اهتمامي عن الموضوع أن الثيمة الرئيسية المسيطرة على الوشم وفنّ الجسد عموما هي صورة الجمجمة، بحسب ما يقوله هنري فيرغيسون ولين بروكتر مؤلفا كتاب فنّ الوشم احد أشهر الكتب عن الموضوع.
علماء النفس يعللون هذه الظاهرة بأنها انعكاس لحالة الشكّ وعدم اليقين التي تتملّك الإنسان وخوفه الغريزي من المستقبل. كما أن صور الوشم التي ترمز للموت، وتأخذ شكل جماجم مشتعلة وثعابين تزحف عبر فتحات الجماجم وشياطين وحيوانات تنّين وخيول شاحبة وجنس وألسنة لهب، يمكن اعتبارها محاولة لاستحضار القوى الخفيّة في الكون والطبيعة، التي يرى فيها البعض عناصر حماية وخلاص مما قد يتلبّس الإنسان مستقبلا من مصير مظلم وبائس.
وهناك شبه إجماع على أن أشهر فنّاني الوشم في العالم اليوم هو بول بوث الذي وشم أجساد الكثير من الشخصيات العامّة والمشهورة من الجنسين. وقد بلغ من شعبية هذا الرجل وشدّة الإقبال على "خدماته" أنه يتعيّن على الزبون أن ينتظر سنتين قبل أن يحظى بفرصة لقائه.
وغرفة بوث مليئة بجماجم بشرية حقيقية وتنتشر على الحيطان كلمات "شكرا لكم" مكتوبة بالدم، بالإضافة إلى صور لمخلوقات شيطانية وحيوانات محنّطة. وأوّل وشم رسمه كان صورة لثلاثة شياطين تبرز من رؤوسهم قرون طويلة، وقد نقشها على ظهر صديقته.
في بعض الأوقات كنت أتساءل عن المغزى من وراء ميل بعض الرسّامين إلى تضمين لوحاتهم منظرا لجمجمة عادةً ما تظهر في اللوحة جنبا إلى جنب مع كتب وفاكهة ونظّارات ومزهرية وشمعة إلى آخره. رأيت مثل هذا المنظر كثيرا في لوحات بيتر كلاس Pieter Claesz و ارنولد باكلين و جورج دي لا تور Georges de La Tour وسواهم..
وقد عرفت تالياً أنه خلال عصر النهضة الأوربّي راجت لوحات مشهورة تظهر فيها جماجم إلى جانب صور القدّيسين والباباوات والملوك والأمراء، ربّما لتذكير الناس بضرورة أن يعيشوا حياة فضيلة واستقامة وتقوى.
إن رمزية الجمجمة واضحة في الطبيعة البشرية من حيث اقترانها بالموت، لكن هل لها رموز أخرى ابعد من فكرة حتمية الفناء وتذكير الناس بالآخرة؟ من الأشياء اللافتة التي قرأتها مؤخّرا عن هذا الموضوع أن صور الجماجم كانت رائجة كثيرا في الأدب الكلاسيكي الغربي، وهي ترمز إلى السيرورة أي مرور الزمن ومن ثم حتمية الموت في النهاية.
وفي قصص الفلكلور تتكرّر مشاهد الجماجم التي تتكلم، مذكّرة بالموت وبالتوبة والبعث والخلاص وبالمصير المترتّب على السلوك الخاطئ. ففي مسرحية هاملت لشكسبير، مثلا، يتحدّث الملك إلى جمجمة أحد أعوانه السابقين بعد أن ُعثر على جثّته في المقبرة. وفي هذه المسرحية أيضا هناك الكثير من المشاهد التي تبدو فيها الجثث والجماجم وهي تسير وتتكلم وتتفاعل مع الشخصيات الرئيسية في المسرحية.
ويحدث أحيانا أن نرى لوحات أو رسومات تصوّر حيّة أو أفعى ضخمة وهي تتجوّل بين ثقوب جمجمة. وفي هذه الجزئية، يقال إن الحيّة ترمز إلى المعرفة والخلود، فيكون المعنى المقصود أن المعرفة لا تموت بل هي باقية إلى الأبد قبل وبعد موت البشر.
وهناك من علماء النفس والاجتماع من يفسّر إقدام بعض الأشخاص على وشم أجسادهم بصورة جمجمة أو أفعى على انه أمر قد يؤشّر إلى انجذابهم للجانب المظلم من الحياة، سواءً بحكم طبيعة نمط حياتهم أو لأنهم مهتمّون بالدلالات الفلسفية والنفسية للموضوع.
وهناك من يجادل بأن صورة الجمجمة قد تصدم العين وتؤذي المشاعر، لكن رواجها وشعبيّتها في الفنّ قد يعني أن المجتمع قطع شوطا بعيدا في التصالح مع فكرة الموت باعتباره حادثة طبيعية وأمرا اعتياديا.
وقد يكون من بين أسباب شعبية الجمجمة في الفنّ، والوشم استطرادا، هو أن خطوطها ذات طبيعة دراماتيكية وانسيابية ولها القدرة على أن تفتن الفنّان وتثير مخيّلته بالقدر الذي تبعث في النفس شعورا بالخوف والهلع.
لكن ألا يمكن أن تتضمّن ظاهرة ميل بعض الأفراد إلى وشم أجسادهم بصور الشياطين والجماجم والأفاعي وغيرها من رموز الموت والظلام "عنصر تمرّد ما" قد يشير إلى ميلهم إلى الاستهانة بالحياة وتحدّي الأعراف الدينية والقيم التي اتفق المجتمع على تقديسها ووجوب احترامها والتمسّك بها؟
ومع ذلك لا يخلو الموضوع من جانب مشرق ومتفائل إلى حدّ ما. فهناك في المقابل رسّامون يستمدّون نقوش الوشم التي يحفرونها على أجساد زبائنهم من مناظر الطبيعة من أزهار ونباتات وجبال وأنهار وخلافه.
ومن أشهر فنّاني هذا النوع من الوشم الرسّام الصيني سياي ووجيان Seyi Wujian والكوري كيم جون والهندي انيل غوبتا الذي يستوحي رسوماته من لوحات كبار الفنانين القدامى والحداثيين. ثم هناك وشم الكانجي الياباني الذي يستعير مناظره من الرموز البوذية والكونفوشيّة ومن قصص الأساطير والملاحم الشعبية القديمة.


Credits
untamedscience.com