:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الثلاثاء، سبتمبر 07، 2010

تاركوفيسكي: نحت في الذاكرة

كتب المخرج السينمائي الروسي اندريه تاركوفيسكي مطوّلا عن رسّاميه المفضّلين في كتابه النحت في الزمن. ليوناردو دافنشي كان أكثر الرسّامين الذين أشار إليهم في كتابه وأفلامه، ويأتي بعده مباشرة بيتر بريغل الأب.
كان تاركوفيسكي مفتونا، على وجه الخصوص، بما يمكن أن يُسمّى "الخاصّية السينمائية" للوحات بريغل. في لوحات هذا الرسّام، تبدو الحركة المتباينة للأشياء كما لو أنها تسير باتجاه قدرها النهائي والمحتوم. وهو كان ميّالا لملء لوحاته بعشرات الناس المنهمكين في أعمالهم وأنشطتهم اليومية ويبدون كما لو أنهم لا يعرفون شيئا ولا يكترثون بشيء.
في فيلم سولاريس، يركّز تاركوفيسكي على مضمون المكتبة على متن المحطّة الفضائية المعلّقة فوق محيط لا متناه وزاخر بالمخلوقات الغريبة.
البشر الذين يكافحون كي يبقوا عقلاء، فيما بحر سولاريس يعبث بذكرياتهم وبوعيهم، ينظرون إلى لوحة بيتر بريغل "صيّادون على الثلج" المثبّتة على حائط مكتبتهم الخشبية. هذه الصورة الدافئة والمريحة تصوّر صيّادين يعودون خاليي الوفاض وهم يهبطون إحدى التلال مع كلابهم المتعبة، بينما يلهو الفلاحون على برك المياه المثلجة أسفل منهم.
مكتبة المحطّة الفضائية تحتوي أيضا على تمثال نصفي للحكيم الأثيني سقراط ونسخة قديمة من رواية دونكيشوت يقتبس منها البطل في مشهد معبّر بعض الحكم الأرضية لـ سانشوبانزا.
أي أن تاركوفيسكي يضع الصورة الأكثر ارتباطا بالأرض في الفنّ في أعماق الفضاء البعيد ويحتفل بالنوستالجيا وبمستقبل الأرض، وليس الفضاء، وبالإنسانية بكلّ غرابتها البريغلية.
فيلم سولاريس يُعتبر أعظم أفلام تاركوفيسكي وأفضل أفلام الخيال العلمي على الإطلاق. وهو يتحدّث عن اكتشاف أنفسنا في مرآة عقل مخلوقات غريبة. ويستند الفيلم إلى رواية للمؤلف ستانيسلاف ليم كتبها عام 1961م. إننا نتحدّث عن خيال علمي حقيقي من النوع الفلسفي والتأمّلي من منتصف القرن العشرين.
يبدأ فيلم سولاريس بمشهد لبطله "كريس كالفين" الذي يراوده حلم يقظة وهو واقف عند الفجر في طبيعة من المروج التي غمرها الضباب. هذه هي طبيعة الأرض التي تؤرّقك طوال الفيلم. المناظر من خارج المحطّة الفضائية تُظهِر سحبا في دوّامات وبحراً يغلي. لكن هناك أيضا اللوحة عن الصيّادين في المكتبة. إنها بالضبط اللوحة التي تريد أن تكون معك على متن سفينة فضائية تبعد عن الأرض عدّة سنوات ضوئية. و"صيّادون على الثلج" ليست اللوحة الوحيدة على متن المحطّة. هناك أيضا أيقونة للرسّام الروسي القروسطي اندريه روبليف. هذا واحد من ارتباطات عديدة يخلقها تاركوفيسكي بين رؤيته الخيالية العلمية وبين رؤيته التاريخية، بين فيلم سولاريس والفيلم الذي أخرجه قبل ذلك عن رسّام الايقونات الروسي الكبير.
وكلا الفيلمين يجعلانك ترى الأرض كما لو انك تراها للمرّة الأولى.
في بداية سولاريس تظهر صور مطبوعة من القرن الثامن عشر تصوّر بالونات، بينما نلمح اندريه روبليف وهو يقف مع رجل آخر يحاول أن يطير في بالون مصنوع من جلود الحيوانات. هذه هي روسيا قبل ستمائة عام: عالم من غزاة التتار والرهبان الحمقى المقدّسين. يهرع الناس لمشاهدة الآلة الطائرة وهي ترتفع إلى السماء بينما ينسحب منظر الأرض إلى أسفل شيئا فشيئا. لكن البالون ينخفض مثل ملاك متمرّد وساقط. وآخر ما نراه منه هو رئة متبخّرة تنهار على الأطراف القذرة لأحد الأنهار.
ليس هناك فيلم آخر متجذّر في الأرض مثل هذا. كما لا تظهر فيه أيّ لمحة عن السماء. وتاركوفيسكي يجد باستمرار مناظر تبدو الأرض فيها وهي ترتفع وتملأ الشاشة. الكشف البطيء للغاية عن هذا المكان الأرضي في بداية سولاريس هو الذي يجعل منه فيلما عظيما.
إن تاركوفيسكي يجد متعة كبيرة في خلق أرضه المستقبلية. وبينما يقف كالفين في المروج صباحا، يرى من بعيد سيّارة تصل إلى سكّة خرسانية وذات مسار واحد. الطبيعة التي يصوّرها تاركوفيسكي حقيقية. وقيمتها تكمن في ذاتها، وليس فقط في كونها خلفية. لذا عندما يذكّرك بأن هذه هي الأرض المستقبلية حيث يتكلّم الناس الروسية لكنهم يتَسَمّون بأسماء أمريكية، فستقبل هذا وتقتنع به كرؤيا عن المستقبل.


في فيلمه الآخر المتسلّل وهو آخر فيلم صوّره في بلده، ينفذ تاركوفيسكي بشكل أعمق إلى لا وعي العمارة السوفياتية. والمتسلّل صُوّر في محطّة كهرباء مهجورة تصبح هي "المنطقة". والمنطقة هي عبارة عن طبيعة متمنّعة يقود عبرها المتسلّل كاتبا وعالما في رحلة بحث عن حقيقة مخفيّة. الأنفاق الخرسانية المتحلّلة والبرك النتنة والجدران المقشّرة والمتداعية ومخابئ المجتمع الاشتراكي المحتضر توفّر صورة أيقونية عن مستقبل مروّع.
الصورة الأكثر إثارة هي الأخيرة. المتسلّل وعائلته يمشون على شاطئ موحل أمام محطّة لتوليد الطاقة النووية، في ما يبدو وكأنه إشارة غير مباشرة إلى كارثة تشيرنوبل التي ستحدث بعد ذلك بستّ سنوات.
مستقبل الغرباء هو هنا. لكنّ الناس ما يزالون هم الناس وما يزالون بحاجة لبعضهم البعض.
في سولاريس يلتقي كالفين العاقل والمتشكّك عشيقته أو زوجته هاري التي كانت قد قتلت نفسها منذ زمن طويل بعد أن اقتنعت بأن هذا العالِم المهنيّ والبارد لم يعد يحبّها. ردّ فعل كالفين يوحي بأنه لا يفقه كثيرا في العلاقات الإنسانية، فهو يضع هاري في صاروخ ويرسلها إلى الفضاء. غير أنها تتجسّد في غرفة نومه في تلك الليلة، فيمارسان الحبّ معا ويصبح هو جزءا لا ينفصل عن شريكه الخيالي.
وبينما تنظر هاري إلى لوحة بريغل، تتركّز الكاميرا على الصورة وتمرّ فوقها ببطء مظهرة تفاصيلها: طائر يطفو على غصن اسود يبدو الثلج عالقا بأطرافه، رجال بظهور منحنية يمشون إلى منازلهم، ومتزلّجون على الثلج.
لا يمكن أن يفعل مخرج آخر مثل هذا، أي يترك أحداث فيلمه كي يزور معرضا فنّيا كما لو أن هذا ليس فيلما خياليا وإنما برنامج وثائقي.
كان تاركوفيسكي يقدّر بحقّ صور بريغل لجلائها وواقعيّتها. لكنه مع ذلك يظلّ احد المخرجين القلائل الذين بقيت أعمالهم غامضة وحتى محيّرة في بعض معانيها.
شخصيّاته المغلقة تعكس الرموز والتجارب التي كانت تشكّل عالمه الخاصّ.
يمكن القول إن فنّ تاركوفيسكي يعمل على مستويات متعدّدة. فأعماله تربط السينما بفنون أخرى أقدم كالرسم والرواية والموسيقى. وهو يستخدم هذا الربط لتقديم تعليقات أخلاقية واجتماعية عن الماضي والحاضر.
كما أن في أفلامه إشارات كثيرة إلى الأدب، كما في فيلم المرآة الذي يتضمّن اقتباسات من تشيكوف وتولستوي وبوشكين ودانتي ودستويفكسي.
ومن الواضح أن تاركوفيسكي يتعامل مع اللوحات الفنّية بمثل ما كان يفعل دستويفسكي الذي كان يلمّح باستمرار إلى اللوحات في رواياته. سيستينا مادونا لـ رافائيل هي مثار حديث في الجريمة والعقاب. والمسيح الميّت لـ هولبين ترد في ثنايا احد الحوارات في روايته الأخرى الأبله. تاركوفيسكي يُظهر في أفلامه تماهياً مع دستويفسكي ومع نضاله ومصادر عذابه الروحي، ومع العذاب الجسدي الذي يحطّم أبطاله ويعصف بمصائرهم.
ومثل دستويفسكي، كان عند تاركوفيسكي قناعة عميقة بغموض الوعي البشري. وأبسط كشف عن هذه الرؤية هو مضمون فيلم سولاريس نفسه. فالبشر يصبحون موضع تساؤل وافتتان المخلوقات الغريبة، وليس العكس.
البشر هم الأعجوبة والمعجزة الحقيقية، وليس المخلوقات الغريبة.
ليس من قبيل المبالغة إذن أن يُطلق على تاركوفيسكي "دستويفسكي السينما" أو مخرج الأفلام الدستويفسكية.


Credits
andrei-tarkovsky.com
hcl.harvard.edu