:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


السبت، مارس 05، 2016

موسى وميكيل انجيلو وفرويد

إلى ما قبل ظهور سيغموند فرويد، كان تاريخ الفنّ عبارة عن توثيق للأعمال الفنّية: كيف ظهرت وإلامَ انتهت، وما هي التأثيرات الثقافية والاجتماعية التي شكّلت دافعا للفنّان في انجاز هذا العمل أو ذاك.
لكن عالم النفس النمساويّ الشهير ابتكر طريقة لاكتشاف كيف ولماذا يؤثّر فينا الفنّ العظيم. ومن خلال دراسة العمل الفنّي سيكولوجيا، وكذلك التحليل النفسي للفنّان صاحب العمل، قدّم لنا فرويد أدوات فعّالة تمكّننا من فهم الإبداع وإدراك القوّة التذكّرية والعاطفية للفنّ بطريقة أفضل.
كان أسلوبه في دراسة الفنّ مشابها إلى حدّ ما لطريقته في تفسير الأحلام. فالصور في الأحلام، وكذلك في الرسم والنحت، ما هي إلا تقطير بصريّ للأفكار والتأثيرات.
كان فرويد متماهيا مع النبيّ موسى. كتابه الأخير كان عنوانه "موسى والتوحيد". والواقع انه كان يرى في نفسه، هو أيضا ومثل موسى، زعيما لجماعة صغيرة، لكن تأثيرها قويّ وواسع.
وكان فرويد يقول لأصدقائه دائما أن روما هي مدينته المفضّلة وأن زياراته لها تسرّه كثيرا. وقد عُرف عنه اهتمامه بالآثار وبجمع التحف. وكان يستخدم الآثار والتنقيب كتعبير مجازيّ عن العقل الباطن والكبت. وروما بطبقاتها المتعدّدة والقديمة من عصور النهضة والباروك والحداثة كانت تفتنه وتثير مخيّلته.
وقد جاء إلى روما أوّل مرّة لزيارة تمثال موسى، ثم عاد مرارا لمعاينة التمثال. دراسته بعنوان "موسى وميكيل انجيلو" لها تاريخ غريب. وقد نشرها عام 1917 باسم مستعار في دورية سيكولوجية.
لكن في البداية، ما هي قصّة تمثال موسى؟
في عام 1505، بدأت فكرة بناء قبر للبابا جوليوس الثاني، عندما كلّف هذا البابا ميكيل انجيلو بتصميم القبر الذي كان عبارة عن ضريح فخم.
وكان من المنتظر أن يوضع التمثال في كنيسة القدّيس بطرس التي كانت آنذاك تحت الإنشاء. وقد أتى الاقتراح ببناء الضريح من "بابا" كان يحبّ نفسه كثيرا، وكلّف للمهمّة نحّاتا شابّا كانت له، هو أيضا، طموحات عالية.
ومنذ البداية، كانت النيّة متّجهة لإقامة ضريح ينافس في الفخامة ضريح الملك الإغريقيّ ماسوليوس الذي يُعتبر إحدى العجائب السبع في العالم القديم. ومن اسم ماسوليوس اشتُقّت كلمة موسوليوم التي تعني باللاتينية "الضريح".
وتمثال موسى لم يكن سوى واحد من أربعين تمثالا داخل القبر. وهو على الأرجح كان أوّل قطعة يتمّ انجازها. وظلّ التمثال يشكّل عبئا ثقيلا على ميكيل انجيلو حتى بعد موت البابا جوليوس عام 1513م بوقت طويل.
فكرة التمثال مأخوذة من سفر الخروج في العهد القديم الذي يذكر أن موسى خرج من مصر مع قومه قاصدا "ارض الميعاد" التي سيؤسّس عليها امّة موحّدة. وعندما وصل موسى إلى سيناء صعد إلى الجبل، وهناك تلقّى الألواح المقدّسة المسمّاة اليوم بالوصايا العشر، والتي تُعتبر أساس الأخلاق المسيحية اليهودية.
لكن موسى يُفاجأ عند نزوله بأن قومه عادوا في غيابه لعبادة الأصنام ووجدهم يرقصون حول عجل ذهبيّ. وقد استولى عليه الغضب ممّا رآه، وهو المعروف بمزاجه العصبيّ، فقام بتحطيم الألواح في نوبة غضب.
خلال عصر النهضة، أصبح كلّ من موسى وعيسى موضوعين مفضّلين للرسّامين. ومن يَزُر كنيسة سيستينا في الفاتيكان سيرى مقاطع مصوّرة من حياة هذين النبيّين تمتدّ من الجدار الشماليّ حتى الجنوبيّ. وأكثر الرسومات المتكرّرة تُظهر موسى ممسكا بالألواح عاليا فوق رأسه بعصبية وهو على وشك تكسيرها في الأرض.
تمثال ميكيل انجيلو عن موسى مختلف. وفرويد كان مفتونا بهذا الفارق. وقد لاحظ في البداية أن التمثال ليس عن موسى وهو على وشك تكسير الألواح. فالتمثال العملاق يصوّر شخصا ينظر ناحية اليسار. وليس هناك من شكّ في غضبه الشديد أو قوّة الانفعال التي يختزنها داخل جسده.
كما لاحظ فرويد لحيته الكثّة واليد اليمنى التي يُمسك بها الألواح، بينما الألواح على وشك أن تنزلق منه. وضعية ساقي الشخص توحي بأنه على وشك أن ينهض من مكانه ويندفع إلى الأمام. ومن المؤكّد أن الألواح ستسقط نتيجة لتلك الحركة.
زار فرويد التمثال ورسمه مرارا، ثم توصّل إلى استنتاج أخير مؤدّاه أن هذا هو موسى فعلا، فالثورة تنطق بها عيناه وكلّ عضلة من جسده الضخم، لكنّ التوتّر في الجسد واللحية يُظهر تردّده.
تمثال موسى هو عبارة عن عملاق ثائر وصعب المزاج في حالة صراع. لكن لماذا هذا الصراع؟ يقول فرويد: صحيح أن أمل موسى في قومه خاب، لكن يجب عليه أن يتذكّر أنهم أتباعه ولا يمكن أن يخاطر بالتخلّي عنهم ونبذهم. كان يعرف انه يجب أن يتحكّم في غضبه وأن يجدّد دين قومه.
يقال أن من بين عيوب التمثال حقيقة أن قدمي ويدي الشخص ضخمة بشكل لا يتناسب مع التمثال ككلّ. لكن هذا كثيرا ما يُفسّر بأن التمثال أريد له أن يُنظر إليه من أسفل. وأحيانا قيل أن هذا خطأ فنّي فرضه شكل عمود الرخام الذي نُحتت منه الأطراف.
وحتى عندما نحت ميكيل انجيلو تمثال بييتا عن المادونا وابنها، قيل وقتها وما يزال يقال إلى اليوم على سبيل النقد، بأن وجه الأمّ أكثر شبابا من وجه ابنها الميّت.
غير أن هذه هي فكرة النحّات لما يعنيه مفهوم الأم، وفي هذا أيضا تلميح لحياته هو. فقد انفصل ميكيل انجيلو عن أمّه عندما وُلد، وعُهد به إلى مربّية في قرية مجاورة. وبعد أن أعيد إلى أمّه، توفّيت بعد ذلك بوقت قصير وعمره لا يتجاوز السادسة. والواقع أن ميكيل انجيلو كان له أمّ لم تكبر في عينيه أبدا. وربّما كان هذا انعكاسا لرغبة الإنسان في أن يعود إلى حضن أمّه التي كانت وقت ولادته.


كان عقل ميكيل انجيلو المرهَق ميدان قتال متواصل. القوى المتعارضة للإيمان الدينيّ والجمال الوثنيّ كانت تتواجه في وعيه. لكنّ هذا ساعده على خلق مجموعة من التحف الفنّية الخالدة.
دراساته التشريحية بارعة في تعبيريّتها وإحكامها، كما أن تصميماته لقبور معاصريه، مثل ميديتشي وجوليوس الثاني، ظلّت على الدوام تُلهم الرهبة وربّما الخوف.
وقد عاش النحّات في زمن مثير تخلّلته غزوات نابليون وإصلاحات الكنيسة وفترات الاضطراب السياسيّ. كان مشهورا بحبّه للعزلة. وكان يطبّق على نفسه حالة امتناع عن المتع الدنيوية، بعد أن قرّر أن يصرف جميع انفعالاته ودوافعه على إبداعه الفنّي.
وممّا لا شكّ فيه أن ميكيل انجيلو بذل جهدا خرافيّا في رسم سقف كنيسة سيستينا، ما أدّى إلى تشويه عموده الفقريّ وإتلاف نظره إلى درجة كبيرة.
وبحسب ما يقوله المؤرّخ الايطاليّ انطونيو فورتشيللينو، كان أسلوب حياته المتقشّف وسيلة لادّخار المال. حتى مادوناته متقشّفات وبسيطات، وقد وضعهنّ في طبيعة قاحلة كردّ على انتقادات الكاهن سافونارولا الذي اتّهم الفنّانين وقتها بتصوير المادونا كبغيّ وذلك بإلباسها ثيابا غير محتشمة.
كان سافونارولا قد جاء إلى السلطة في فلورنسا وأتى معه بجملة من القوانين المتشدّدة التي تحذّر الناس من الفراغ والانشغال "بالاهتمامات التافهة". وطبعا كان من بين تلك الاهتمامات الرسم والنحت والحُليّ والمجوهرات والآلات الموسيقية، لذا اُلقي بها جميعا إلى النيران لتأكلها.
لكن لنعد الآن إلى القصّة الأصلية. بحسب فرويد، صنع ميكيل انجيلو تمثالا؛ ليس عن موسى الغاضب وإنّما عن موسى الزعيم الذي يعيش حالة صراع. انه ممزّق بين الغضب وبين الخوف في أن يتسبّب غضبه في تدمير ما كان قد بدأ عمله.
والحقيقة أن كلا الشخصين، أي النحّات والبابا جوليوس الثاني، كان لهما مزاج غضوب جدّا. وقيل إن وجه التمثال هو وجه البابا نفسه. وممّا يُروى أن البابا في إحدى نوبات ثورته ضرب ميكيل انجيلو بالعصا على ظهره. وردّا على ذلك، ترك الأخير الفاتيكان وغادر إلى فلورنسا تاركا البابا في حالة هياج.
وقد تصالح الرجلان مع بعضهما بعد جهد جهيد في ما بعد. وكان ميكيل انجيلو يعلم بأن عليه أن ينصاع في النهاية لرغبات راعيه.
جدار قبر جوليوس انتهى العمل منه طبقا لمخطّط ميكيل انجيلو عام 1547، أي بعد وفاة البابا جوليوس بأربعة وثلاثين عاما. وهو يمثّل محصّلة لسلسلة من التسويات والمفاوضات.
وعلى مرّ السنين، كان هناك جدل كثير عن النتوءات التي تشبه القرون والبادية على رأس موسى. وقد أضافها النحّات اعتمادا على ما ورد في سفر الخروج الذي يذكر أن موسى عندما تلقّى الوصايا العشر نزل من فوق الجبل وفي رأسه قرون من إثر حديثه إلى الربّ. وكانت تلك القرون تميّزه عن غيره وتمنحه نوعا من المكانة والمجد.
لكن يقال أن فكرة القرون نتجت عن ترجمة مغلوطة لكلمة في النصّ اللاتيني عن قصّة الوصايا على أن معناها "القرون"، بينما يشير معناها في العبرية الأصلية إلى صفة "التألّق أو السطوع".
ومن المثير للاهتمام أن فرويد في كتابه "موسى والوحدانية" طبّق مبدأ علمانيّا، فقال إن النصّ الإنجيلي يعني انه كان لموسى جبين بارز للغاية أو سنام، وعادة ما تقترن هذه الصفة بالذكاء الشديد.
ميكيل انجيلو كان يشعر بأن هذا التمثال كان تحفة حياته. وطبقا للمؤرّخ جورجيو فاساري، فإن يهود روما كانوا يأتون جماعاتٍ وفرادى للنظر إلى التمثال وإظهار الإعجاب به كلّ يوم سبت.
لكن كان هناك أيضا جدل بشأن الصدع الظاهر في الرخام على الركبة اليمنى للتمثال. ويقال أنه عندما فرغ ميكيل انجيلو من إتمامه ضربه بالمطرقة وصاح قائلا: هيّا تكلّم"! وطبعا هذا لم يحدث أبدا ولم ترد هذه القصّة في أيّ مصدر موثوق.
كان فرويد يرى بأن دراسة العمل الفنّي من ناحية سيكولوجية يضيف الكثير إلى فهمنا لذلك العمل. وفي ما بعد وضع دراسة عن ليوناردو دافنشي، مضيفا معيارا آخر مهمّا لفهم العمل الفنّي، وهو العلاقة بين تطوّر الشخصية وتجارب الفنّان من ناحية وبين القطعة الفنّية من ناحية أخرى.
وقد أسهم فرويد في دراسته للعمل الفنّي من منظور علاقته بصانعه في إثراء دراسة الفنّ وتقدير الجمهور للأعمال الفنّية.
الجدير بالذكر أن ميكيل انجيلو توفّي وهو في التاسعة والثمانين من عمره، وكان ما يزال يعمل بنشاطه المعهود ويرتدي زيّ الفنّان المتقشّف. ومع ذلك، كان يُعتبر أكثر فنّاني عصره احتفاءً. شهرته كانت مدويّة في أرجاء أوربّا كلّها. ولهذا خصّته الكنيسة الكاثوليكية بمراسم دفن فخمة تعكس أمجاده الشخصية.
وفي صباح اليوم الذي توفّي فيه، تسلّلت مجموعة من أهالي فلورنسا إلى الكنيسة التي كان جثمانه مسجّى بداخلها، ثم سرقوا الجثمان وقاموا بإخفائه في عربة مدرّعة. وبعد ثلاثة أيّام، وصلوا به إلى فلورنسا حيث خرج في وداعه الآلاف.
ولم يرَ الناس وقتها موكبا بمثل تلك الضخامة عدا ما كان يُختصّ به القدّيسون عادة. كانت المعركة على جنازة ميكيل انجيلو رمزا للعلاقة المتناقضة دائما بين الدين والفنّ والسياسة.

Credits
michelangelo.org
creativecommons.org

الأحد، فبراير 28، 2016

عشاء مع بريغل

هناك بعض الرسّامين ممّن يتمنّى المرء لو رآهم وعرفهم عن قرب. وهؤلاء عندما تتأمّل رسوماتهم، تحسّ أن فيها فكرا وعمقا وفنّا وسعة خيال.
والأمر يشبه ذلك الشعور الذي يساورك عند انتهائك من قراءة كتاب شيّق ومفيد بأنك ترغب في الحديث مع مؤلّفه لبضع دقائق، كي تعبّر له عن شكرك وامتنانك على أفكاره الممتعة والمفيدة، ثمّ لكي تسأله عن بعض التفاصيل التي استوقفتك في كتابه أو تلك التي استشكل عليك فهمها.
وشخصيّا هناك أكثر من رسّام ممّن يثيرون اهتمامي وتستوقفني أعمالهم كثيرا، ويأتي في طليعة هؤلاء الرسّام الهولنديّ الجميل بيتر بريغل الأب.
وبداية، هناك ملاحظة جانبية، وهي أن لا مشكلة في أن يُكتب اسمه بريغل أو برويغل، فكلا النطقين صحيح بحسب من أرّخوا لسيرة حياته.
لكن لماذا بريغل فنّان خاصّ ومختلف ومثير للاهتمام؟
هناك عديد من الأسباب، بعضها شكلانيّ والبعض الآخر جوهريّ. فبريغل، أوّلا، كان احد أشهر شخصيّات عصر النهضة الشمالية. وفنّه يذكّرنا بالحداثة وبالتأثير والقيمة العالمية للفنّ.
ثم انه كان فنّانا مبتكِرا، وهذا واضح من طريقة تصويره لحياة الفلاحين بطريقة هزلية وساخرة أحيانا، لكنها تشي بوعيه وإدراكه للظروف الاجتماعية التي كانت سائدة في عصره.
في زمن بريغل، أي في القرن السادس عشر، كانت هولندا أو الأراضي المنخفضة واقعة تحت الاحتلال الاسباني. ويبدو أن الرسّام رأى في حياة الفلاحين المتّسمة بالصخب والشدّة والعزيمة نوعا من الوعد بالحرّية والانعتاق.
وبريغل أيضا كان معروفا عنه مهارته في الرسم بالزيت وتعامله مع الألوان وأيضا مهارته في التوليف.
لكن ما هو أهمّ من هذا كلّه انه كان بارعا كثيرا في رسم التفاصيل. يكفي أن تتمعّن في تفاصيل بعض لوحاته كي يتشكّل لديك تصوّر عام عن طبيعة الحياة في قرى وبلدات الشمال الأوربيّ في منتصف القرن السادس عشر.
وقد يكون احد الأسباب المهمّة في افتتان الكثيرين ببريغل وانجذابهم لأعماله، بحسب احد النقّاد، هو روحه الكوميدية الساخرة، بالإضافة إلى حقيقة أن لوحاته لا تتحدّث إلى عصرنا أو تتنبّأ بما قد يحدث لاحقا، بل في كونها متجذّرة عميقا في سياقيها الزمانيّ والمكانيّ.
في لوحاته، هناك دائما شعور ما بالارتياح، فالحياة مستمرّة بوتيرة مطمئنة ودون مبالاة بالدراما العظيمة للتاريخ، وكلّ شيء يتحرّك بعيدا عن الكارثة. وهذا ما يبدو انه يقوله لنا.
كما أن كلّ لوحاته مليئة بالنشاط الإنسانيّ. لكن كثيرا ما نرى فيها شخصيّات تبذل جهدا مؤذيا وعبثيا وضارّا، سواءً كان لأنفسهم أو للآخرين.
وبريغل يركّز في رسوماته على غباء البشر وميلهم لارتكاب الشرّ وعلى ضعفهم أمام الخطيئة. وهو يرسم بعضهم بعيون جاحظة ونظرات بلهاء، علامة الغباء والحماقة. لكن بعض رسوماته تتضمّن معاني خفيّة وغامضة.
ومن الملاحظ أنه يميل إلى تفضيل ألوان محدّدة على أخرى. فهو، مثلا، يفضّل استخدام الأزرق مع الأحمر القرمزيّ. وفي أيّامه كان الأزرق يرمز للخداع والغباء، والأحمر للخطيئة وقلّة الاحترام.
لوحته فوق اسمها "زفاف فلاحين"، وفي فراغها يكدّس أكثر من أربعين شخصا. وكلّ هؤلاء تقريبا جلوس في غرفة مفردة، ومعظمهم حول مائدة واحدة يتناولون معا طعام العشاء.
ومع ذلك، ورغم هذا العدد الكبير من الأشخاص، إلا أن الفنّان يحفظ لكلّ شخص قيمته وتميّزه عن الباقين من خلال طريقته في استخدام الألوان والأشكال.


وفي نفس هذه اللوحة لا ينسى بريغل أن يرسم عروسه وسط ذلك الحشد. ويقال انه، هو أيضا، موجود ضمن المدعوّين، لكن من الصعب التعرّف عليه أو تمييزه. والغريب أن كتّابا كثيرين تنافسوا في محاولة تحديد شخصيّته في اللوحة، مرشّحين لذلك عدّة أشخاص.
تَخَصُّص ومهارة بيتر بريغل الأب في رسم هذا النوع من اللوحات قد يكون هو ما دفع الناس لأن يطلقوا عليه لقب "بريغل الفلاح"، رغم انه كان في الواقع واحدا من حلقة المثقّفين الانسانويين في مدينة انتويرب. في ذلك الوقت كان الأفراد ذوو النزعة الإنسانية يهتمّون بالأفكار الدينية أكثر من الدنيوية.
ومن الواضح أن أسلوب بريغل كان يروق للذوق المدنيّ، أي ذوق سكّان الحواضر في تلك الفترة، بسبب طريقة مزجه بين الواقعية والدراما السردية وبين الحقيقة والإيهام.
وأعماله تخلو عادة من مشاهد العنف أو الدماء. حتى في لوحته مذبحة الأبرياء والتي تصوّر تلك الحادثة التاريخية التي تفنّن الرسّامون منذ القدم في تصوير دمويّتها وعنفها، لن ترى في لوحة بريغل هذه نقطة دم واحدة، فقط جنود وكلاب وخيول ونساء وأطفال، لدرجة انك قد تظنّ أن اللوحة إنما تصوّر مشهدا لنهب قرية.
ومعظم لوحات بريغل التي رسمها للطبيعة كان يتّبع فيها تقليد مواطنه الرسّام هيرونيموس بوش. ولهذا السبب لا تخلو أيّ من لوحاته من دلالة دينية ما.
مثلا لوحته صيّادون في الثلج لها معنى دينيّ مؤدّاه أن الإنسان لا حول ولا قوّة له وهو دائما ما يكون تحت رحمة الطبيعة والعناصر. وبناءً عليه، لا شيء يمكنه أن يجلب لحياة الإنسان راحة أو معنى سوى الإيمان بالله. يجدر بالذكر أن المخرج الروسيّ اندريه تاركوفيسكي وظّف هذه اللوحة في فيلمه بعنوان "سولاريس".
ولد بيتر بريغل الأب عام 1525 لعائلة ظهر منها على امتداد القرنين السادس عشر والسابع عشر أربعة أجيال من الرسّامين. وأشهر هؤلاء هما ابناه بيتر و يان اللذان حملا تراث أبيهما من بعده.
ويقال أنه عند وفاته في العام 1569، أمر زوجته بأن تُحرق عددا من رسوماته التي قدّر أنها ناقدة ومستفزّة أكثر مما ينبغي، كي يحمي عائلته من الاضطهاد السياسيّ والدينيّ.
أبناء بريغل الأب وتلاميذه الكثر اخذوا ماركته أو علامته الخاصّة في الرسم وجعلوها سمة للرسم الهولنديّ في ما بعد.
في لوحة "الراعي الرديء" لابنه بيتر بريغل، نرى فلاحا شابّا وهو يتخلّى عن قطيعه من الأغنام للذئاب كي ينفذ بجلده. لكنّه يهرب وعلى وجهه ابتسامة ساخرة. ربّما كان الراعي رديئا، لكنه آثر السلامة ونجح أخيرا في النجاة بنفسه. هذا هو الدرس الطريف الذي تقدّمه اللوحة.
المعروف أن بريغل الأب أتى إلى الرسم وهو في سنّ متأخّرة. وقد توفّي وهو شابّ نسبيّا، أي في سنّ الرابعة والأربعين. ولذا فإن لوحاته قليلة ونادرة جدّا ومن الصعب اقتراضها حتى من قبل مؤسّسات ومتاحف الفنّ العريقة.
لكن إن أردت أن ترى نماذج من أعماله، فما عليك إلا أن تزور موقع متحف فيينا الوطنيّ الذي يضمّ اكبر عدد من لوحاته التي بقيت حتى اليوم، وذلك بفضل رعاية أسرة هابسبيرغ الملكية للرسّام واهتمامها بأعماله. وأيضا هناك متحف الناشيونال غاليري في لندن الذي يضمّ لوحتين من أهمّ أعماله، الأولى تقديس الملوك والثانية منظر طبيعي في الرحلة إلى مصر .

  • موضوع ذو صلة: الطريق إلى كالفاري