○ في مطار كابول، وبعد الحصول على بطاقة الصعود إلى الطائرة، ذهبت لاستصدار تصريح أمني. وقال لي أفراد الأمن: تأكّد من أنك لا تحمل أيّ شيء خطير".
حدث هذا منذ ثمان سنوات. كنت مسافرا إلى دلهي. وكنت خائفا وأنا أغادر منزلي ووطني لأوّل مرّة. فلم يسبق لي أن ذهبت إلى أيّ مطار أو صعدت أيّ طائرة أبدا. وللمرّة الأولى أيضا تعلّمت معاني المصطلحات، مثل تسجيل الوصول والمغادرة وبطاقة الصعود والهجرة وحزام الأمتعة والصالة.
بعد وصولي إلى دلهي، اضطررت إلى الإقامة في بيت ضيافة، قبل الانتقال إلى النزل الدولي بالجامعة، حيث حصلت على بعثة لمدّة عامين لدراسة الماجستير. داخل بيت الضيافة، كانت معظم الغرف بحجم كابينة، وكانت غرفتي مماثلة.
لم تكن الليلة ممتعة. مغادرة الوطن أمر مؤلم دائما. من أنت ومن أين أتيت يحدّدان وجودك. وكونك من الهزارا وأفغانيّا في نفس الوقت يمثّل لعنة. فليس أمامك سوى خيارات قليلة للغاية. إما أن تصبح مسلما سنيّا أو تغادر أفغانستان أو تخاطر بالقتل. ونفس الشيء ينطبق على الهزارا الذين يعيشون في وادي كويتا في باكستان.
يولد الهزارا حاملين معهم الكثير من المصائب. ويتعيّن علينا أن نتحمّل الفقر والفظائع العرقية. كما أن التعليم والوصول إلى مرافق الرعاية الصحّية اللائقة أمران بعيدان عن متناول أيدينا. وفي بعض الأحيان، نشعر وكأننا لا ننتمي إلى أرضنا ونعيش كلاجئين في منطقة غير مضيافة، ويُطلب منا مرارا وتكرارا أن ننقل مصائبنا إلى مكان آخر. هذه هي الحياة العادية للهزارا الذين يعيشون تحت ظلال غيوم قاتمة مليئة بالمآسي.
بما أن الجامعة تقع على التلال، فمن الواضح أن سطحها صخري. وبدا أن الخضرة تشكّل جزءا لا يتجزّأ من الحرم الجامعي، من الشجيرات والنباتات الصغيرة إلى شجرة البانيان العملاقة والبوغانفيليا.
ذهبت الى مكتب القبول والتسجيل وقدّمت مستنداتي، وكان هناك العديد من الطلاب الآخرين الذين كانوا مشغولين بتقديم مستنداتهم للقبول. وفجأة وقعت عيناي على سيّدة ترتدي ساريا أحمر. كانت تضع الكحل وكانت عيناها جاحظتين وشعرها مفرودا وعظام وجنتيها مرتفعة. كانت تشبه إلى حدّ كبير سيّدة من أصولي العرقية. حسنا، كانت مجرّد نظرة. عادة لا أحدّق في امرأة إلا أن تلاحظني. ثم شرعت في استكشاف الحرم الجامعي.
وبينما بدأت في السير، سمعت صوتا من الخلف يقول: المعذرة". التفت. كانت السيّدة نفسها التي ترتدي الساري الأحمر. سألتني: هل أنت من الشمال الشرقي؟". فقلت: لا، أنا من أفغانستان".
ارتسمت على وجهها ابتسامة ازدراء. واعتذرت وقالت إنني أبدو وكأنني آتٍ من الشمال الشرقي. وبعد قليل، أخبرتها أنني سأستكشف الحرم الجامعي، وسألتها ما إذا كانت تريد مرافقتي. فوافقت.
كانت تجربة جميلة. مشينا الى أن وصلنا الى أعلى جرف في المشهد الطبيعي. جلسنا على صخرة ضخمة ذات قمّة مسطّحة في المنتصف. وبدون أن نتحدّث كثيرا، استمتعنا بالنسيم العليل. وأحيانا كنا ننظر إلى بعضنا البعض ونتواصل من خلال أعيننا.
نزلنا من الجرف وبدأنا في البحث عن شيء آخر. سألتني عن معنى اسمي "منتظر". فقلت: شخص ينتظر". قالت وهي تبتسم: أوه! إذن ماذا تنتظر؟". أجبت: هناك العديد من الأشياء غير المستقرّة في الحياة. نأمل في تغييرات أفضل". ردّت: جميل!". سألتها عن معنى اسمها "كاميلا". فضحكت وقالت: أنا في حال تناقض مع معنى اسمي. إنه يعني "إلهة الثروة"، وأنا لست أكثر من فقيرة!"
ثم ذهبنا إلى الكافيتريا لإشباع جوعنا في منتصف النهار. وبعد الغداء، تبادلنا أرقام هواتفنا ثم انطلقنا إلى أماكن إقامتنا الخاصّة. كانت كاميلا تعيش في أحد المباني. وقد سمّيت أغلب المباني على اسم الأنهار التي تجري في الهند. ومع مرور الوقت، بدأت أتعرّف عليها عن قرب. فالصداقة هي الحاجة الدائمة للحياة البشرية. وهي تساعدنا على إعادة اكتشاف أنفسنا من خلال عيون الآخرين.
مرّت ثمانية أشهر بسرعة وانتهت فترة دراسية مذهلة. كانت هذه الأشهر مليئة أيضا بالكثير من الحب. تجوّلنا كثيرا في دلهي. الهند هي تجسيد للثقافة المركّبة، ودلهي هي أفضل مثال على ذلك.
في وطني أفغانستان، كان الوباء والسياسة كلاهما ينفتحان مثل صندوق باندورا. كانت طالبان قد بدأت تشدّد قبضتها مع مرور كلّ يوم. وبالنسبة للحركة، الإسلام مجرّد أداة لإضفاء الشرعية على سياساتها. وموقفها تجاه مجتمعي، أي الهزارا، مروّع للغاية. كنت قلقا على عائلتي. في بعض الأحيان، تعيدني بعض الجروح غير الملتئمة إلى الوراء في الزمن، وأشعر أنني لن أتمكّن أبدا من الشفاء. لكنّي أتعلّم كيف أتعايش مع هذا أيضا.
وطوال هذه الفترة، كنت على اتصال دائم بأمّي. أحيانا أحثّها على السماح لي بالعودة إلى الوطن، لكنها تصرّ على ألا أفعل ذلك. أسألها ما إذا كان من المقبول أن أموت في بلد آخر، مثل اللاجئ. ولأنها امرأة متديّنة، كانت إجابتها بسيطة للغاية: بالنسبة للمؤمن، كلّ البشر لاجئون. نحن هنا في الدنيا لفترة وجيزة جدّا من الزمن ومنزلنا الأبدي هو قبورنا. وعاجلا أم آجلا، سندخل جميعا منزلنا الأبدي ولن نعود منه أبدا". تبدو آراؤها جذّابة، لكن كيف أجعلها تفهم أن هناك ألف بركان ينفجر في قلبي؟!
مرّت الأيّام وأكملت دراستي وحصلت على وظيفة لتلبية احتياجاتي المالية وكسب ما يكفي من المال لرعاية نفسي. ومهما كانت الظروف والمواقف، يجب أن نستمر. قد يكون الوطن هو المكان الذي نتمكّن فيه من العثور على المعنى الحقيقي للحياة. ومع ذلك، سأعود إلى وطني يوما ما، مع أو بدون معنى. إنها مجرّد مسألة وقت. م. عادل
حدث هذا منذ ثمان سنوات. كنت مسافرا إلى دلهي. وكنت خائفا وأنا أغادر منزلي ووطني لأوّل مرّة. فلم يسبق لي أن ذهبت إلى أيّ مطار أو صعدت أيّ طائرة أبدا. وللمرّة الأولى أيضا تعلّمت معاني المصطلحات، مثل تسجيل الوصول والمغادرة وبطاقة الصعود والهجرة وحزام الأمتعة والصالة.
بعد وصولي إلى دلهي، اضطررت إلى الإقامة في بيت ضيافة، قبل الانتقال إلى النزل الدولي بالجامعة، حيث حصلت على بعثة لمدّة عامين لدراسة الماجستير. داخل بيت الضيافة، كانت معظم الغرف بحجم كابينة، وكانت غرفتي مماثلة.
لم تكن الليلة ممتعة. مغادرة الوطن أمر مؤلم دائما. من أنت ومن أين أتيت يحدّدان وجودك. وكونك من الهزارا وأفغانيّا في نفس الوقت يمثّل لعنة. فليس أمامك سوى خيارات قليلة للغاية. إما أن تصبح مسلما سنيّا أو تغادر أفغانستان أو تخاطر بالقتل. ونفس الشيء ينطبق على الهزارا الذين يعيشون في وادي كويتا في باكستان.
يولد الهزارا حاملين معهم الكثير من المصائب. ويتعيّن علينا أن نتحمّل الفقر والفظائع العرقية. كما أن التعليم والوصول إلى مرافق الرعاية الصحّية اللائقة أمران بعيدان عن متناول أيدينا. وفي بعض الأحيان، نشعر وكأننا لا ننتمي إلى أرضنا ونعيش كلاجئين في منطقة غير مضيافة، ويُطلب منا مرارا وتكرارا أن ننقل مصائبنا إلى مكان آخر. هذه هي الحياة العادية للهزارا الذين يعيشون تحت ظلال غيوم قاتمة مليئة بالمآسي.
بما أن الجامعة تقع على التلال، فمن الواضح أن سطحها صخري. وبدا أن الخضرة تشكّل جزءا لا يتجزّأ من الحرم الجامعي، من الشجيرات والنباتات الصغيرة إلى شجرة البانيان العملاقة والبوغانفيليا.
ذهبت الى مكتب القبول والتسجيل وقدّمت مستنداتي، وكان هناك العديد من الطلاب الآخرين الذين كانوا مشغولين بتقديم مستنداتهم للقبول. وفجأة وقعت عيناي على سيّدة ترتدي ساريا أحمر. كانت تضع الكحل وكانت عيناها جاحظتين وشعرها مفرودا وعظام وجنتيها مرتفعة. كانت تشبه إلى حدّ كبير سيّدة من أصولي العرقية. حسنا، كانت مجرّد نظرة. عادة لا أحدّق في امرأة إلا أن تلاحظني. ثم شرعت في استكشاف الحرم الجامعي.
وبينما بدأت في السير، سمعت صوتا من الخلف يقول: المعذرة". التفت. كانت السيّدة نفسها التي ترتدي الساري الأحمر. سألتني: هل أنت من الشمال الشرقي؟". فقلت: لا، أنا من أفغانستان".
ارتسمت على وجهها ابتسامة ازدراء. واعتذرت وقالت إنني أبدو وكأنني آتٍ من الشمال الشرقي. وبعد قليل، أخبرتها أنني سأستكشف الحرم الجامعي، وسألتها ما إذا كانت تريد مرافقتي. فوافقت.
كانت تجربة جميلة. مشينا الى أن وصلنا الى أعلى جرف في المشهد الطبيعي. جلسنا على صخرة ضخمة ذات قمّة مسطّحة في المنتصف. وبدون أن نتحدّث كثيرا، استمتعنا بالنسيم العليل. وأحيانا كنا ننظر إلى بعضنا البعض ونتواصل من خلال أعيننا.
نزلنا من الجرف وبدأنا في البحث عن شيء آخر. سألتني عن معنى اسمي "منتظر". فقلت: شخص ينتظر". قالت وهي تبتسم: أوه! إذن ماذا تنتظر؟". أجبت: هناك العديد من الأشياء غير المستقرّة في الحياة. نأمل في تغييرات أفضل". ردّت: جميل!". سألتها عن معنى اسمها "كاميلا". فضحكت وقالت: أنا في حال تناقض مع معنى اسمي. إنه يعني "إلهة الثروة"، وأنا لست أكثر من فقيرة!"
ثم ذهبنا إلى الكافيتريا لإشباع جوعنا في منتصف النهار. وبعد الغداء، تبادلنا أرقام هواتفنا ثم انطلقنا إلى أماكن إقامتنا الخاصّة. كانت كاميلا تعيش في أحد المباني. وقد سمّيت أغلب المباني على اسم الأنهار التي تجري في الهند. ومع مرور الوقت، بدأت أتعرّف عليها عن قرب. فالصداقة هي الحاجة الدائمة للحياة البشرية. وهي تساعدنا على إعادة اكتشاف أنفسنا من خلال عيون الآخرين.
مرّت ثمانية أشهر بسرعة وانتهت فترة دراسية مذهلة. كانت هذه الأشهر مليئة أيضا بالكثير من الحب. تجوّلنا كثيرا في دلهي. الهند هي تجسيد للثقافة المركّبة، ودلهي هي أفضل مثال على ذلك.
في وطني أفغانستان، كان الوباء والسياسة كلاهما ينفتحان مثل صندوق باندورا. كانت طالبان قد بدأت تشدّد قبضتها مع مرور كلّ يوم. وبالنسبة للحركة، الإسلام مجرّد أداة لإضفاء الشرعية على سياساتها. وموقفها تجاه مجتمعي، أي الهزارا، مروّع للغاية. كنت قلقا على عائلتي. في بعض الأحيان، تعيدني بعض الجروح غير الملتئمة إلى الوراء في الزمن، وأشعر أنني لن أتمكّن أبدا من الشفاء. لكنّي أتعلّم كيف أتعايش مع هذا أيضا.
وطوال هذه الفترة، كنت على اتصال دائم بأمّي. أحيانا أحثّها على السماح لي بالعودة إلى الوطن، لكنها تصرّ على ألا أفعل ذلك. أسألها ما إذا كان من المقبول أن أموت في بلد آخر، مثل اللاجئ. ولأنها امرأة متديّنة، كانت إجابتها بسيطة للغاية: بالنسبة للمؤمن، كلّ البشر لاجئون. نحن هنا في الدنيا لفترة وجيزة جدّا من الزمن ومنزلنا الأبدي هو قبورنا. وعاجلا أم آجلا، سندخل جميعا منزلنا الأبدي ولن نعود منه أبدا". تبدو آراؤها جذّابة، لكن كيف أجعلها تفهم أن هناك ألف بركان ينفجر في قلبي؟!
مرّت الأيّام وأكملت دراستي وحصلت على وظيفة لتلبية احتياجاتي المالية وكسب ما يكفي من المال لرعاية نفسي. ومهما كانت الظروف والمواقف، يجب أن نستمر. قد يكون الوطن هو المكان الذي نتمكّن فيه من العثور على المعنى الحقيقي للحياة. ومع ذلك، سأعود إلى وطني يوما ما، مع أو بدون معنى. إنها مجرّد مسألة وقت. م. عادل
❉ ❉ ❉
❉ ❉ ❉
○ قرأ الفنّان الألماني آنسيلم كيفر مرارا رواية جيمس جويس الصعبة "يقظة فينيغانز". واستلهم أفكار بعض مَعارضه ولوحاته من أجواء تلك الرواية ومن طفولته وهو يصنع الألعاب من أنقاض منزل عائلته. وكيفر يرى الأنقاض كبداية لا نهاية. ويعود ذلك إلى ولادته في الأشهر الأخيرة المروّعة من الحرب العالمية الثانية، في بلدة جميلة في الغابة السوداء.
يقول: عندما ولدت، كنت في المستشفى مع والدتي في القبو. وفي تلك الليلة، قُصف منزلنا. ولو لم نكن في المستشفى وقتها لكنّا في عِداد الأموات. وفي طفولتي، لم يكن لديّ ألعاب. لذلك بَنيتُ منازل من طوب الأنقاض. وكان لديّ كلّ ما أريد، لأن عائلتي انتقلت إلى المنزل المجاور لمنزلنا المقصوف. كنت بجوار الأنقاض وكان الأمر رائعا. وكطفل، لم يكن ما حصل كارثة. كانت ألعابي هي كلّ ما أملك".
طفولة كيفر في بلد مهدّم بجوار منزل عائلته المدمّر، جعلته ما هو عليه الآن؛ الفنّان الذي ينقّب عن موقع قنبلة التاريخ الحديث. ولوحاته وتراكيبه تجسّد كوابيس الماضي بشغف. إنها آثار ناضجة وذات نكهة لاذعة تجعل معظم الفنّ المعاصر يبدو سطحيّا وبسيطا.
لوحته العملاقة "عبّاد الشمس في منتصف الليل"، وهو اسم آخر مقتبس من جويس، تمثّل رؤية آسرة لعبّاد الشمس الطويل ببتلاته السوداء. وكيفر يراه رمزا لدورة الوجود لأنه "يرتبط بالنجوم بتحريكه رأسه باتجاه الشمس. وفي الليل يكون مغلقا. ولحظة انفجاره، يصبح أصفر وخياليّا. وتلك هي نقطة الانحدار. لذا، فإن هذه الزهرة رمز لحالتنا الوجودية".
ويتحدّث كيفر عن الأدب وعن الجهود التي بذلها طوال حياته لفهم رواية جويس، التي تختبئ قصّتها تحت طبقات من التلاعب بالألفاظ تجعل حتى الجملة الأولى منها كتلة من التحدّي: يجري النهر متجاوزا حوّاء وآدم، ومن منعطف شاطئ إلى منعطف خليج، يعيدنا عبر مسار سريع إلى قلعة هاوث والمناطق المحيطة بها".
فنّ كيفر يتدفّق كالنهر، لكن ظلمته تكمن في رؤيته للزمن كـ دورة، وهو ما يتشاركه مع جويس. ويشير تعبير "ملجأ إعادة التدوير" في رواية جويس إلى اعتقاد الفيلسوف جيوڤاني ڤيكو بأن البشرية تصعد عبر مراحل ثم تتراجع، وتدور من جديد. وكيفر يجد التاريخ الحديث مخفيّا في نصّ جويس الذي يبدو غير سياسي. وأحد الاقتباسات التي دوّنها يُظهر أن الكاتب الكبير كان ملِمّا بما كان يحدث في ألمانيا في ذلك الوقت.
الكتب، بوصفها صورة لضميرنا الجمعي الإنساني الهشّ، تتجلّى في كلّ مكان في أعمال كيفر الفنّية. هناك كتب محروقة وكتب بأجنحة تحلّق. وهناك كومة من الكتب مصبوبة من البرونز وتزحف عليها ثعابين. يقول ستيفن ديدالوس، الأنا الأدبية لجيمس جويس في روايته "صورة الفنّان في شبابه": التاريخ كابوس أحاول الاستيقاظ منه". ج. جونز
يقول: عندما ولدت، كنت في المستشفى مع والدتي في القبو. وفي تلك الليلة، قُصف منزلنا. ولو لم نكن في المستشفى وقتها لكنّا في عِداد الأموات. وفي طفولتي، لم يكن لديّ ألعاب. لذلك بَنيتُ منازل من طوب الأنقاض. وكان لديّ كلّ ما أريد، لأن عائلتي انتقلت إلى المنزل المجاور لمنزلنا المقصوف. كنت بجوار الأنقاض وكان الأمر رائعا. وكطفل، لم يكن ما حصل كارثة. كانت ألعابي هي كلّ ما أملك".
طفولة كيفر في بلد مهدّم بجوار منزل عائلته المدمّر، جعلته ما هو عليه الآن؛ الفنّان الذي ينقّب عن موقع قنبلة التاريخ الحديث. ولوحاته وتراكيبه تجسّد كوابيس الماضي بشغف. إنها آثار ناضجة وذات نكهة لاذعة تجعل معظم الفنّ المعاصر يبدو سطحيّا وبسيطا.
لوحته العملاقة "عبّاد الشمس في منتصف الليل"، وهو اسم آخر مقتبس من جويس، تمثّل رؤية آسرة لعبّاد الشمس الطويل ببتلاته السوداء. وكيفر يراه رمزا لدورة الوجود لأنه "يرتبط بالنجوم بتحريكه رأسه باتجاه الشمس. وفي الليل يكون مغلقا. ولحظة انفجاره، يصبح أصفر وخياليّا. وتلك هي نقطة الانحدار. لذا، فإن هذه الزهرة رمز لحالتنا الوجودية".
ويتحدّث كيفر عن الأدب وعن الجهود التي بذلها طوال حياته لفهم رواية جويس، التي تختبئ قصّتها تحت طبقات من التلاعب بالألفاظ تجعل حتى الجملة الأولى منها كتلة من التحدّي: يجري النهر متجاوزا حوّاء وآدم، ومن منعطف شاطئ إلى منعطف خليج، يعيدنا عبر مسار سريع إلى قلعة هاوث والمناطق المحيطة بها".
فنّ كيفر يتدفّق كالنهر، لكن ظلمته تكمن في رؤيته للزمن كـ دورة، وهو ما يتشاركه مع جويس. ويشير تعبير "ملجأ إعادة التدوير" في رواية جويس إلى اعتقاد الفيلسوف جيوڤاني ڤيكو بأن البشرية تصعد عبر مراحل ثم تتراجع، وتدور من جديد. وكيفر يجد التاريخ الحديث مخفيّا في نصّ جويس الذي يبدو غير سياسي. وأحد الاقتباسات التي دوّنها يُظهر أن الكاتب الكبير كان ملِمّا بما كان يحدث في ألمانيا في ذلك الوقت.
الكتب، بوصفها صورة لضميرنا الجمعي الإنساني الهشّ، تتجلّى في كلّ مكان في أعمال كيفر الفنّية. هناك كتب محروقة وكتب بأجنحة تحلّق. وهناك كومة من الكتب مصبوبة من البرونز وتزحف عليها ثعابين. يقول ستيفن ديدالوس، الأنا الأدبية لجيمس جويس في روايته "صورة الفنّان في شبابه": التاريخ كابوس أحاول الاستيقاظ منه". ج. جونز
Credits
archive.org
theguardian.com
archive.org
theguardian.com