:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الجمعة، يونيو 10، 2011

محطّات

هل سمعت باسم لويس "أو لوفيس" كورينث؟
كورينث رسّام ألماني تمتلئ لوحاته بمشاهد القوّة والعنف.
كان فنّانا تعبيريا يمزج الفنّ بالحياة. وكان يستمدّ أفكار لوحاته من الإغراء والحبّ والموت.
ومثل رمبراندت، كان كورينث مفتونا بتصوير الجسد وربطه بمشاهد اللحم والدماء التي تتّحد مع الصرخات والصدى تحت إيقاع ألوان قاتمة وضربات فرشاة متوتّرة.
وكان من عادته أن يرسم لنفسه بورتريها كلّ سنة، وكأنه من خلال تصويره لنفسه كان يرصد آثار الزمن وتلاشي جذوة الحياة.
كان كورينث يميل إلى رسم المشاهد الدموية والعنيفة. وغالبا ما كان يرسم نفسه كجزء من تلك المشاهد. وعندما رسم قصّة سالومي ويوحنّا المعمدان، اختار أن يعطي نفسه دور الجلاد، إذ يظهر في تلك اللوحة ممسكا بسيف يقطر دما.
في نهايات حياته، أصيب هذا الرسّام بالجلطة وشُلّ على أثرها جانب من جسده. وبعدها رسم لنفسه بورتريها على هيئة شمشون الأعمى، وفيه يبدو إنسانا مشوّها ويائسا وعاجزا.
هذه اللوحة هي إحدى أقوى لوحات لويس كورينث من الناحية التعبيرية، وهي صورته الأخيرة التي رسمها لنفسه قبل وفاته.

❉ ❉ ❉

ذات يوم قال لي شخص أعرفه: إغتنم فرصة معرفتك بهذا الشخص الذي يعمل معك كي تدعوه إلى الدين الإسلامي، وبذا يكثر سواد المسلمين وتقوى شوكتهم".
قلت: هذا الشخص له دين مختلف عن ديننا. وليس ممّا يعنيني أو يشغلني أن ادعوه إلى الإسلام. هذا آخر شيء يخطر ببالي. ولعلمك لم أتحدّث معه يوما عن موضوع الدين على الإطلاق. ما يهمّني هو انه إنسان محترم وعلى قدر من الأخلاق، كما أننا نتشارك في الإيمان بالقيم الإنسانية التي يؤمن بها جميع البشر. وهذا لوحده يكفي".
ثم استشهدت بقول احد حكماء الهند القدماء: لا تحكم على الآخرين من أديانهم. إذا استطعت أن تمدّ لهم يد العون فافعل. وإذا لم تستطع فكفّ شرّك عنهم. بارِك إخوتك في الإنسانية ودعهم يختاروا طريقهم بأنفسهم".
وبدا أن كلامي لم يعجب الرجل. فأشاح بوجهه ولم يعلّق بشيء.

❉ ❉ ❉

ترى لو انمحى أو زال هذا الفاصل بين العالم الافتراضي، أي الانترنت، والعالم الواقعي، ما الذي سيحدث؟
هل سيقتل الناس بعضهم بعضا ويصفّون حساباتهم عن طريق العنف كما تفعل شخصيّات الألعاب الاليكترونية؟
هناك الآن أشخاص يقضون الساعات الطوال في غرف الدردشة وفي الشبكات الاجتماعية ومنتديات الحوار الكثيرة على الانترنت. وشيئا فشيئا يتلاشى الحدّ الفاصل بين ما هو افتراضي وما هو واقعي.
وما يحدث في حوارات العالم الافتراضي من إذكاء لروح الكراهية والترويج للتعصّب والعنصرية يُشعر الإنسان بالخوف والقلق.
المشكلة أن بُنية العالم كما يحدّدها الواقع الافتراضي يضعها مهندسون وخبراء وليس مفكّرون أو فلاسفة أخلاقيّون. وهنا مكمن الخطر.

❉ ❉ ❉

يبدو أن لا نهاية لهذا الجدل الذي يُثار من وقت لآخر حول مسألة ما إذا كان الدين متوافقا مع العلم أم لا. والذي اعرفه أن الدين يقوم على الغيبيات، بينما العلم يعتمد على التجريب والمنطق. هذه حقيقة، لكنها لا تعني، بأيّ حال، التقليل من أهمّية الدين وأثره في المجتمعات قديما وحديثا.
الدين في حالات كثيرة لم يكن متوافقا مع العلم. لنتذكّر على سبيل المثال واقعة قيام الكنيسة البولندية منذ سنوات بإعادة دفن عالم الفلك البولندي المشهور نيكولاس كوبرنيكوس واعتباره بطلا. القساوسة فعلوا ذلك بعد مرور خمسمائة عام على اضطهاد هذا العالم من قبل الكنيسة الكاثوليكية التي كانت قد اتهمته بالزندقة وأمرت بدفنه في قبر مجهول.
كانت جريمة كوبرنيكوس وقتها هي قوله بدوران الأرض حول الشمس، وهي النظرية لتي شكّلت ثورة في العلم الحديث وفي طبيعة فهم الإنسان للكون. وكانت حجّة الكنيسة في ذلك الوقت أن الفلكيّ بنظريّته تلك أزال الأرض والبشر من مكانهما المركزيّ في الكون.
وقبل عشرين عاما فقط، أعاد الفاتيكان الاعتبار لـ غاليليو الذي سبق وأن حوكم أمام محاكم التفتيش لأنه بنى آراءه على نظريات كوبرنيكوس.
لقد احتاجت الكنيسة إلى كلّ هذا الزمن الطويل كي تعترف بخطئها وتكفّر عن ذنبها، فهل لمثل هذا الاعتراف من قيمة اليوم؟
عدم توافق الدين مع العلم ليس بالشيء الجديد. وإحدى نتائجه المفجعة هي أن الآلاف من البشر دفعوا ثمنا باهظا لهذا التناقض عندما قُتلوا أو اُحرقوا وهم أحياء بعد اتهامهم بالزندقة.

❉ ❉ ❉


يقول عازف الغيتار الاسباني الشهير اندريه سيغوفيا انه زار قصر الحمراء في غرناطة لأوّل مرة وعمره لا يتجاوز السنوات العشر. "في هذا المكان، فتحت عيني للمرّة الأولى على جمال الطبيعة والفنّ. كان الأمر بالنسبة لي أشبه ما بكون بدخول الجنّة".
سيغوفيا يلقب عادة بالأب الروحي للغيتار الكلاسيكي. في صباه تعلّم العزف للفلامنكو. وعندما أصبح مراهقا كان قد تعلّم عزف موسيقى باخ وغيره من كبار المؤلّفين الموسيقيين.
وظلّ سيغوفيا يعكف طوال حياته على تطوير تقنيات العزف على الغيتار. واستطاع في النهاية إخراج هذه الآلة من ردهات الاستقبال الصغيرة إلى فضاء حفلات الموسيقى الكبيرة.
وقبل أربعين عاما، أي عندما كان سيغوفيا في سنّ الخامسة والثمانين، عاد مرّة أخرى إلى غرناطة ليعزف موسيقى الفيلم الوثائقي "أغنية الغيتار" الذي يحكي عن سيرة حياته.
المقطع "فوق" يصوّر اندريه سيغوفيا وهو يعزف في قصر الحمراء مقطوعة كان يعتبرها إحدى مفضّلاته الموسيقية: استورياس لـ إسحاق ألبينيز.

الخميس، يونيو 09، 2011

تصميم المواقع وسيكولوجيا الألوان

منذ أيّام، سألني قارئ كريم عن مغزى اختياري لونا زهريا كخلفيّة للمدوّنة، على الرغم من أن الزهري لون أنثوي في الأساس، كما قال. والحقيقة أن ملاحظته صحيحة، ولكن جزئيا. فاللون الزهري يظلّ لونا مفضّلا عند الكثيرين، سواءً كانوا رجالا أو نساءً، لأنه يتميّز بهدوئه ورقّته كما انه يبعث على الراحة والاسترخاء.
والملاحظ أن هذا اللون هو عبارة عن مزيج من الأبيض والأحمر. وكلّما زدت من كمّية الأحمر فيه كلّما ازداد توهّجا وحيوية.
وقد قرأت أن السجون تستخدم طبقة من هذا اللون لتخفيف نزعة السجناء إلى العنف. والمواقع الإليكترونية الخاصّة بالمؤسّسات الأكاديمية تستخدم عادة ظلالا وسيطة من الزهري بسبب خصائصه المتعلّقة بالتفكير العقلي والانجاز.
وكنت قد لاحظت قبل ذلك أن الناس يركّزون على لون معيّن باعتباره موضة غالبة. لكن عندما انظر إلى بعض الألوان الرائجة، يساورني إحساس أنها لا تثير أيّ إعجاب أو حماس، بل كثيرا ما أرى فيها اختيارا شاذّا.
بعض علماء النفس يفسّرون هذه الظاهرة بالقول إن هناك بعض الألوان التي يصحّ اعتبارها مضادّة لمعايير الجمال السائدة. لكنها قد تأسر اهتمام الناس أكثر من تلك المعروفة بجاذبيّتها وشيوعها. إذن، المسألة سيكولوجية في الأساس. ولعلّ البعض منّا يتذكّر شغف الناس بالأخضر الليموني رغم انه قد لا يعجب الكثيرين. الشاهد هنا هو أن الناس عادة ما يختارون أشياء غير مألوفة على سبيل الرغبة في التغيير ومخالفة السائد. وتلك نزعة ظلّت سائدة في الفنّ منذ قرون.
في الأيّام الأخيرة، أصبحت اهتمّ بتعلّم أبجديات تصميم المواقع الاليكترونية وأسرار الألوان. واكتشفت أنني ادخل عالما مشوّقا ومثيرا.
وقد قرأت عن هذا الجانب الكثير، لا لكي أصبح مصمّما، بل على سبيل اكتساب بعض الفائدة والمعرفة وعلى أساس أن العلم بالشيء أفضل من الجهل به. واكتشفت أن تصميم المواقع مهمّة تتطلّب قدرا من الخبرة والذوق الرفيع، وأن اختيار لون لموقع اليكتروني هو من أصعب الأمور وأعقدها.
اللون له تأثير كبير على الموقع ككلّ، رغم انه في النهاية ليس سوى عنصر واحد من عناصر أخرى متعدّدة تحكم عملية تصميم المواقع. واختيار اللون لا يخضع للمزاج أو الذوق الشخصي، بل تحدّده طبيعة الموقع واهتماماته والفئة التي يستهدفها. كما أن هناك عوامل سيكولوجية تحكم عملية اختيار الألوان التي توصل الرسالة الصحيحة عن الموقع.
الألوان والمواقع الالكترونية موضوع واسع جدّا. وهناك قاعدة تقول إن التصميم الجميل لا يمكن أن يعوّض عن المضمون السطحي. كما أن المضمون الثريّ لا يليق به تصميم ضعيف.
واختيار ألوان الخطوط والخلفيات أمر لا يقلّ أهمية. وهناك نصيحة ذهبية تقول: في كلّ الأحوال، تجنّب النصّ الأبيض على خلفية سوداء، إلا إذا كنت تريد إبعاد الزوّار عن موقعك.
وعلى ذكر اللون الأسود، لاحظت انه أصبح منتشرا بكثرة هذه الأيّام.
لعلّ السبب يكمن في خصائص هذا اللون الذي يعكس انفعالات متعدّدة ومتباينة. فهو مثلا يرمز إلى السلطة والحماية والغموض والموت والثروة والموضة والمكانة العالية. شركات السيّارات تستخدمه غالبا في مواقعها على الانترنت لأنه يوصل إحساسا بالتطوّر والرفاهية والأناقة.
شخصيا، أميل إلى اللون الأزرق. هو لون السماء والبحر. كما انه يرمز إلى الاستقرار والثقة والوفاء والحكمة والهدوء. وهو لون تفضّله الشركات الكبرى، خاصّة تلك التي تتعامل مع منتجات التكنولوجيا. شركات الطيران أيضا تميل إلى استخدامه في مواقعها لأنه يتماهى مع لون السماء. كما أن المواقع التي تُعنى بالقانون والسفر البحري تستخدم تدرّجات خفيفة منه. وفي الحقيقة يندر أن تجد شخصا لا يحبّ هذا اللون. لكن المشكلة انه انتشر كثيرا في السنوات الأخيرة لدرجة انه أصبح مملا بعض الشيء.
غير أن أهمّ ما تعلّمته في هذه التجربة هو أن أجمل الألوان، سواءً تعلّق الأمر بالملابس أو الديكور أو حتّى بتصميم المواقع الاليكترونية، هي تلك الألوان الموجودة في الطبيعة. بعض صور الطبيعة هي أبلغ من أيّ كلام يمكن أن يقال لوصفها. الغريب أننا لا نفطن إلى هذه الحقيقة بحكم أننا ألفنا النظر العابر والسريع إلى الأشياء. الآن صرت اقضي وقتا أطول في ملاحظة هذه الصور ومحاولة اكتشاف الجماليات المتعلّقة بمزج وتناغم الألوان فيها.
بعض مناظر الطبيعة هي بلا مبالغة عبارة عن تحف فنّية إذا ما تأمّلت ألوانها وتفاصيلها عن قرب. وهي تملأ الروح والعين معاً.

الثلاثاء، يونيو 07، 2011

العملاق النائم


لا يمكن أن نتخيّل القوة الإعجازية للدماغ إلا عندما نفكّر في طبيعة الوظائف الهائلة والمعقّدة التي يقوم بها. أحيانا يشبّه البعض الدماغ بالكمبيوتر، من ناحية تخزين المعلومات ومن ثم استعادتها وإنشاء ارتباطات وعلاقات بين خصائص الأشياء وعناصرها المختلفة بمثل ما يفعل معالج الكمبيوتر.
يقول العلماء إن الدماغ يكون في حالة نوم، ما لم يُطلب منه انجاز وظيفة ما، كقراءة جريدة أو حلّ مشكلة أو التعرّف على شخص. وهو يمثّل اثنين بالمائة من كتلة الجسم. كما أن الإنسان لا يستغلّ في العادة سوى واحد بالمائة من إمكانيات الدماغ.
وظيفة التذكّر في حدّ ذاتها هي عبارة عن بناء بالغ التعقيد. تخيّل مثلا وجه إنسان قابلته مؤخّرا. الدماغ يستعيد اسم ذلك الشخص وصفاته وملامحه ونبرات صوته من أماكن مختلفة منه "أي من الدماغ"، قبل أن يعيد بناء صورة ذهنية متكاملة عن ذلك الشخص.
الإنسان الذي فقد ذاكرته، مثلا، نتيجة حادث أو مرض يتعيّن عليه أن يتعلّم كلّ الأشياء القديمة من جديد؛ كيف يتكلّم وكيف يأكل وكيف يرتدي ملابسه، وباختصار كلّ الأمور التي كان يقوم بها من قبل. لكن الدماغ، وبطريقة ما تزال تحيّر العلماء، يمكن أن يستعيد دون سابق إنذار بعض الخبرات والتجارب التي اكتسبها الإنسان في طفولته.
قرأت ذات مرّة قصّة غريبة عن أستاذ جامعي أمريكي من أصل ألماني. كان هذا الرجل قد جاء إلى أمريكا في بداية ثلاثينات القرن الماضي وهو في سنّ الثامنة بصحبة والديه وإخوته الثلاثة الذين فرّوا من النازية. في أمريكا بدأت العائلة حياة جديدة وتسنّى للابن، وكذا الحال مع بقيّة إخوته، أن يواصل دراسته في المدارس ثمّ في الجامعات الأمريكية. وتدرّج في مراحل التعليم المختلفة إلى أن حصل على درجة الدكتوراة وأصبح أستاذا للأدب الانجليزي في الجامعة.
وذات يوم، وقبل أسابيع من احتفاله بعيد ميلاده الستّين، أصيب الرجل فجأة بجلطة في الدماغ. وتبيّن للأطباء في ما بعد أن الإصابة التي لحقت بدماغه كانت قويّة جدّا لدرجة أنه فقد ذاكرته تماما. لقد نسي كلّ الأشخاص والأسماء والأماكن والأحداث التي مرّت في حياته. وبعد أشهر من العلاج استعاد قدرته على الكلام. لكنّه نسي الانجليزية تماما وأصبح يتحدّث الألمانية التي كان آخر عهده بها عندما كان طفلا في الثامنة.
الأطبّاء احتاروا في تفسير ما حدث. بعضهم تحدّث عن تغيّرات كيميائية في الدماغ نتج عنها تدمير بعض الخلايا وإحياء بعض الخلايا القديمة ضمن ما يُعرف بالذاكرة طويلة الأمد المسئولة عن تخزين المعلومات والتجارب منذ سنوات الوعي الأولى.
العلماء إلى اليوم لا يفهمون تماما كيف يتذكّر الدماغ، وما الذي يحدث بالضبط أثناء عملية التذكّر، وكيف ينظّم الدماغ الذكريات والتجارب، وأين تُخزّن، وكيف يتمّ استعادتها.
قبل سنوات، نشرت بعض الصحف الروسية قصّة شابّ روسي كان قد تعرّض لحادث سيارة مروّع أصيب على إثره برضوض وكسور متعدّدة كان أخطرها في منطقة الرأس والدماغ. ودخل الشابّ في حالة غيبوبة دامت أشهرا. وبعد أن أفاق خضع لفترة علاج وتأهيل طويلة. ثم غادر المستشفى حاملا معه بعض آثار ذلك الحادث البدنية والنفسية. غير أن أغرب تجربة عاشها بعد الحادث هو انه أصبح لا ينام إطلاقا، أي أن رغبته في النوم ليلا أو نهارا اختفت وأصبح اليوم عنده نهارا متّصلا. وقال الشابّ انه لم يعد يشعر بحاجة إلى النوم وأنه لا يعاني من أيّ إحساس بالتعب والإرهاق نتيجة لذلك، وأن ما يزعجه حقّا هو حالة الملل والاكتئاب التي أصبح يعاني منها جرّاء بقائه متيقّظاً على مدار ساعات اليوم.
ما الذي حدث بالضبط؟
الأطبّاء اختلفوا أيضا في إيجاد تفسير علمي قاطع للقصّة. بعضهم تحدّث عن تأثّر خلايا الدماغ المسئولة عن الإحساس بالزمن. وبعضهم رجّح احتمال تعرّض سيكولوجيا الدماغ إلى تعديل نتيجة تهتّك بعض الخلايا العصبية.
لكنّهم اجمعوا على أن الحادثة توفّر دليلا آخر على قوّة الدماغ وغموض الكيفية التي يعمل بها.

الأحد، يونيو 05، 2011

أناقة متكلّفة


إذا صحّ أن لكلّ رسّام علامة أو سمة تميّزه عن سائر الفنّانين، فإن العلامة الفارقة للرسّام الايطالي انيولو برونزينو هي اهتمامه الكبير بإبراز جمال وأناقة أيدي الأشخاص الذين يرسمهم. جمال الأيدي ودقّة الأصابع في لوحات هذا الرسّام هي ممّا يسترعي الانتباه والملاحظة. هذا الملمح الجمالي الخاصّ لن تراه في أعمال فيرمير ولا رافائيل ولا حتى دافنشي، برغم معرفة هؤلاء الأكيدة بالتشريح وبراعتهم في تصوير تفاصيل الجسد الإنساني في لوحاتهم.
تأمّل مثلا لوحة برونزينو التي فوق. المرأة التي تصوّرها اللوحة هي شاعرة ايطالية مشهورة عاشت في ذلك العصر واسمها لورا باتيفيري. كانت شخصية عامّة ومحترمة بسبب تديّنها وثقافتها. كما كانت صديقة للرسّام وكان يجمعهما معا حبّ الأدب والشعر. برونزينو نفسه كان شاعرا وقد اشتهر بمزاوجته بين السوناتات التي يقتفي فيها آثار بترارك وبين القوافي الهزلية التي كانت سائدة في ذلك العصر.
تعابير المرأة في اللوحة تبدو باردة، وقد تعكس قدرا من اللامبالاة والانفصال عن ما حولها. لكنّ نظراتها تشي بالثقة والاعتداد بالنفس. ربّما كان السبب هو انتماؤها لواحدة من اعرق الأسر في فلورنسا. باتيفيري تبدو في اللوحة وهي تمسك بكتاب يضمّ أشعار بترارك، بينما تشيح بوجهها بعيدا عن الناظر. أنفها المدبّب وعنقها الطويل ونظراتها القويّة تذكّرنا بالهيئة التي يظهر عليها الشاعر دانتي في الرسم.
شخصيّة هذه المرأة أكثر غموضا ممّا يشي به مظهرها الخارجي. فقد كانت في زمانها تجسيدا للجمال النبيل والطهراني.
الكثير من التفاصيل في هذا البورتريه تجذب العين وتسترعي الاهتمام: الخمار الناعم المنسدل على رأس المرأة وصدرها، السلسلة الذهبية، الكتاب..
لكن ما يلفت الانتباه أكثر من غيره في الصورة هو الطريقة الأنيقة التي رسم بها برونزينو تقاطيع يدي المرأة وأصابعها التي تمسك بالكتاب.


الطابع التمثالي للوحة هو ملمح آخر يميّز معظم أعمال برونزينو الأخرى بالنظر إلى عشقه لفنّ النحت وإيمانه بوجود علاقة وثيقة وقديمة بين الشعر والنحت والرسم. ثم هناك أيضا حقيقة أن برونزينو كان معاصرا لأهمّ نحّاتَين في زمانه وهما ميكيل انجيلو ولوكا مارتيني.
هاجس برونزينو الدائم كان رسم الأيدي والأصابع بطريقة مفرطة في الأناقة والجمال. وكان يتعمّد اختيار ألوان داكنة للخلفية ويتحكّم في نسب الضوء والظل كي يبرز جمال الأطراف وأناقتها. وهو لم يشذّ عن طريقته هذه حتى وهو يرسم لوحة للشاعر دانتي ولعدد آخر من أصدقائه الشعراء والرسّامين والنحّاتين.
لكن لماذا كان برونزينو يفعل هذا؟ قد يكون السبب هو انه كان شاعرا. والشاعر أحيانا يميل إلى تأكيد جمال الأشياء ويرى ما لا يراه غيره. لكن هناك سببا آخر لا يقلّ أهمية. فـ برونزينو كان منتميا لمدرسة في الفنّ عُرفت باسم الماناريزم. وكان أتباعها من الرسّامين والنحّاتين يميلون إلى المبالغة في تطويل الأشكال وتصوير الأطراف بطريقة لا تخلو من الأناقة المتكلّفة والجمال المبالغ فيه. كان هؤلاء، وفي طليعتهم برونزينو، متأثّرين بالواقعية الصارمة وبالتفاصيل الدقيقة التي كانت تطبع أعمال ميكيل انجيلو ودافنشي ورافائيل.
وقد أصبحت أعمال برونزينو محطّ أنظار النخب الارستقراطية في فلورنسا. كما اختارته عائلة ميديتشي الحاكمة رسّاما للبلاط.
بعض النقّاد اليوم يعتبرون بورتريه لورا باتيفيري من بين أفضل البورتريهات النسائية التي رُسمت في كافّة العصور. وفيه يبرهن برونزينو على ميله للغموض وعلى تدريبه العالي وبراعته الفنّية التي يترجمها من خلال نسيج الملابس ولمعان الألوان.