:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الجمعة، أبريل 26، 2024

خواطر في الأدب والفن


  • من الأماكن المهمّة في حياة فنسنت فان غوخ زاوية دوّار مزدحم يُسمّى ساحة لامارتين يقع على الجانب الآخر من البوّابات الرومانية المؤدّية إلى آرل في جنوب فرنسا. وخلف ذلك المكان يجري نهر الرون، الذي رسم فان غوخ انعكاساته المتلألئة في إحدى الليالي التاريخية المرصّعة بالنجوم.
    وإلى الأمام شريط من المحلات التجارية المؤدّية الى حقول أزهار عبّاد الشمس الواسعة التي رسمها فان غوخ مرارا. هذا هو المكان الذي كان يقوم فيه ذات يوم البيت الأصفر لفان غوخ؛ أي المنزل البروفنسالي المشمس الذي كان موضوع لوحة زيتية له من عام 1889، حيث كان يأخذ فترة "راحة قسرية" على حدّ تعبيره. كانت تلك "غرفة نوم" ذات جدران بنفسجية شاحبة رسمها بالألوان الزيتية ثلاث مرّات في ذلك العام.
    المنزل الصغير كان يضمّ عددا من الأساطير، فهو المكان الذي دفع فيه أحد أشهر الفنّانين في العالم أساليب الرسم إلى ذروتها بأعماله المشهورة مثل "شرفة مقهى في الليل" و"عبّاد الشمس" وغيرهما. وكان هذا هو المكان الذي تحوّلت فيه حياة فان غوخ الشخصية إلى قصّة درامية ومأساوية. وهنا خاض فان غوخ معركة عنيفة مع صديقه بول غوغان قام أثناءها بقطع أذنه بشفرة حلاقة قبل أن يؤخذ الى مستشفى الأمراض النفسية.
    والحقيقة أن هناك العديد من معالم الحياة الفنّية لفان غوخ، بدءا من "مونس" مدينة المناجم البلجيكية، حيث طُرد الرسّام البالغ من العمر آنذاك 27 عاما من وظيفته كمبشّر يعمل بين عمّال مناجم الفحم المحليين. وقد قيل إنه سعى الى " تقويض كرامة الكهنوت" باختياره العيش في نفس الظروف المزرية التي يعيشها عمّال المناجم. ثم بدأ الرسم هناك.
    وهناك أيضا مونمارتر في باريس وآرل وسان ريمي في بروفانس. وفي النهاية هناك ضاحية أوفير سور واز الباريسية، حيث أنهي فان غوخ حياته في عامه السابع والثلاثين.
    ومن المدهش أنه بالنظر إلى شهرة فان غوخ وشعبيّته، فإن عددا من المعالم التاريخية التي واكبت حياته لم يحافَظ عليها أو تمّ إهمالها. ومع ذلك، فقد جُدّدت بعض المواقع بشكل رائع، مثل غرفة الرسّام في مصحّ سان ريمي دو بروفانس وغرفته في فندق أوفير سور واز حيث توفّي، وذلك لإحداث تأثير كبير على الزوّار المهتمّين بتاريخ حياة فان غوخ ومن اجل المجتمعات المحليّة التي تستفيد اقتصاديّا من هذا النوع من السياحة الثقافية الناعمة.
    والحقيقة أن هناك قدرا كبيرا من الاهتمام بلوحات فان غوخ في جميع أنحاء العالم. وهناك جمهور كبير يتردّد على المتاحف لرؤية أعماله. لكن بشكل عام، هناك أموال أقلّ لترميم تراث الرسّام والمحافظة عليه، وخاصّة مواقع التراث المحليّ التي يمكن العثور عليها في فرنسا وبلجيكا وهولندا.
    غالبا، في الأماكن التي عاش فيها فان غوخ، يوجد عدد من اللافتات التي تحتوي على صور أو كلمات له مستقاة من رسائله. وفي أماكن أخرى غامضة، كما في سان ريمي دو بروفانس مثلا، هناك لوحة تُظهر "حقل القمح الأخضر مع السرو" على جدار من الجصّ الأبيض لأحد المنازل الخاصّة.


  • "شطح المدينة" اسم رواية صغيرة عن عالم الرؤى والكشوفات. تأخّرت في قراءتها بسبب الظروف، وسرّني انني استطعت أخيرا. المؤلّف، الأديب الراحل جمال الغيطاني، ينقل القارئ إلى مدينة غامضة عمرها آلاف السنين.
    والمناسبة اجتماع لعدد من الأساتذة والزوّار الذين قدموا من أماكن مختلفة من العالم لإحياء احتفال. المدينة ليس لها اسم، متطوّرة وتاريخها ضارب في القدم، لكن الأمن فيها ناقص. نظرات الناس زجاجية وملامحهم متحجّرة وابتساماتهم مصطنعة وعواطفهم باردة.
    ربّما تكون المدينة الغامضة رمزا لغموض العالم. والشخصيات، وكلّها بلا أسماء، هي كناية عن اغتراب وضياع الانسان في هذا العصر وكون البشر مجرّد أرقام، أي بلا فردانية او هويّة.
    أيضا تقول الرواية بوجود عوالم موازية لعالمنا، وساكنوها غالبا هم الفلاسفة والشعراء الموتى، وأن التاريخ ما يزال يتحكّم في الحاضر، وأن ما نراه واقعا قد لا يكون كذلك في كثير من الاحيان.
    هذا الكتاب خفيف والسرد فيه ممتع والكثير من القصص والمعلومات التاريخية المتضمّنة مثيرة للاهتمام. وبإمكانك تجاوز بعض الصفحات دون أن تفقد خيط الأحداث أو يتأثّر استمتاعك بالقراءة.

  • يُحكى في قديم الزمان أنه كان هناك أسد يعيش في غابة مطريّة. وبينما كان نائما في أحد الأيام مرّ فأر صغير بشكل غير متوقّع وتحرّك فوق أنف الأسد على عجل. وأيقظ هذا الأسد الذي وضع كفّه الضخم بغضب على الفأر الصغير ليقتله.
    توسّل الفأر المسكين إلى الأسد أن يعفو عنه تلك المرّة فقط وسوف يردّ له الجميل في يوم من الأيّام. اندهش الأسد لسماعه كلام الفأر وتساءل كيف يمكن لمخلوق صغير كهذا أن يساعده. لكنه كان في مزاج جيّد فترك الفأر يرحل.
    وبعد أيّام قليلة، نصب أحد الصيّادين فخّا للأسد بينما كان يطارد فريسة في الغابة. ووجد الأسد صعوبة شديدة في تحرير نفسه من شبكة الصيّاد، فأخذ يزأر بصوت عالٍ ومتوجّع.
    وبينما كان الفأر يمرّ من تلك الناحية، سمع زئير الأسد فاتجه اليه ووجده يكافح بشدّة لتحرير نفسه من الفخّ. وبسرعة قضم الشبكة بأسنانه الحادّة حتى تمزّقت. وشيئا فشيئا أحدث فجوة كبيرة فيها، وسرعان ما تمكّن الأسد من تحرير نفسه من الفخّ.
    شكر الأسد الفأر الصغير على صنيعه، فذكّره الفأر بأنه إنما يردّ معروف الأسد عندما أنقذ حياته من قبل. وبعد ذلك، أصبح الأسد والفأر صديقين حميمين وعاشا بسعادة في الغابة.
    والعبرة المستفادة من هذه القصّة هي أن الرحمة تجني مكافأتها في الوقت المناسب، بغضّ النظر عن حجم ونوع المساعدة التي نقدّمها للآخرين. وكما قال الشاعر القديم: من يفعل الخير لا يعدم جوازيه".

  • Credits
    vangoghmuseum.nl/en

    الاثنين، أبريل 22، 2024

    رحلة في غابة العقل


    من أفضل الأفلام السينمائية التي تستحقّ المشاهدة فيلم راشومون "1950" للمخرج الياباني أكيرا كوروساوا (1910-1998). كان كوروساوا أحد أكثر المخرجين تأثيرا في تاريخ السينما وقدّم مساهمات كبيرة في تطوير السينما اليابانية والعالمية. ويمكن رؤية تأثيره في أعمال مخرجين كبار مثل سكورسيزي ولوكاس وكوبولا وغيرهم.
    امتدّت مسيرة كوروساوا المهنية لأكثر من خمسة عقود، أخرج خلالها وشارك في كتابة العديد من الأفلام الناجحة والتي نالت استحسان النقّاد والجمهور ونال عليها العديد من الجوائز المرموقة في المهرجانات السينمائية الدولية. وكان معروفا بقدرته على مزج عناصر القصص اليابانية التقليدية مع التقنيات الغربية، ما أدّى إلى ظهور أسلوب سينمائيّ فريد وقويّ ارتبط باسمه.
    "راشومون" يُعتبر بإجماع النقّاد من روائع السينما اليابانية والعالمية. وكان له تأثير كبير على تقنيات السرد القصصي والبنية السردية في السينما. عنوان الفيلم "راشومون" يشير إلى بوّابة في كيوتو باليابان، حيث تجري محاكمة ويقدّم الشهود رواياتهم المختلفة عن جريمة قتل.
    ومن خلال البناء السرديّ المبتكر، يثير الفيلم أسئلة فلسفية وسيكولوجية عميقة حول طبيعة الحقيقة والذاكرة وعدم موثوقية الإدراك وتعقيدات السلوك البشري. كما يتحدّى فكرة الواقع الموضوعي ويؤكّد على الطبيعة الذاتية والفردية لسرد القصص.
    تدور أحداث الفيلم في اليابان الإقطاعية، وتبدأ بالعثور على محارب ساموراي ميّتاً في بستان للخيزران. ثم يروي الشهود الأربعة على الجريمة إفاداتهم عمّا رأوه واحدا بعد الآخر. وبينما يسرد كلّ منهم قصّته المتعارضة مع قصص الآخرين، يتضح أن كلّ شهادة تبدو معقولة مع أنها مختلفة.
    وكوروساوا يستخدم الفيلم لإعطاء وزن متساوٍ لشهادة كلّ شخص، ويحوّل كلّ شاهد إلى راوٍ غير موثوق، من دون أيّ تلميحات حول من منهم يعطي الرواية الأكثر دقّة، وبذا لا يستطيع الجمهور معرفة الشخص الموثوق بشهادته ويُترك المتفرّج متشكّكا في قناعاته حول من أنهى حياة الساموراي.
    والبعض قد يجد هذا محبطاً لأن الفيلم يقلب التوقّعات ويرفض تقديم إجابة قاطعة أو مؤكّدة عمّا حدث. كما تفترض حبكة الفيلم ضمناً أنه عندما نتذكّر حدثا ما فإن تفسيرنا له يتأثّر بتجاربنا السابقة وتحيّزاتنا الداخلية.
    لكن أهمّ الأسئلة التي يثيرها "راشومون" هي: ما الحقيقة أصلا؟ وهل هناك حالات لا توجد فيها "حقيقة موضوعية"؟ وماذا يمكن أن تخبرنا إيّاه الروايات المختلفة لنفس الحدث؟ وكيف يمكننا اتخاذ قرارات جماعية عندما نعمل معا؟ هذه الأسئلة ليس لها إجابات محدّدة. وربّما تكون الفكرة الدائمة التي يطرحها الفيلم هي أن ترك مساحة للغموض تُعدّ قيمة مهمّة في حدّ ذاتها.
    بالإضافة إلى تجربته السردية المبتكرة، يتميّز "راشومون" أيضا بجمالياته البصرية المبهرة، إذ يساهم استخدام كوروساوا للضوء الطبيعي وحركات الكاميرا الديناميكية في إضفاء طابع دراميّ مكثّف على الأحداث.


    المعروف أن أثر هذا الفيلم قد امتدّ إلى ما هو أبعد من السينما، فاستُخدمت أداته السردية، أي تقديم وجهات نظر متعدّدة ومتباينة عن حدث ما، في الأدب والمسرح. ثم ما لبث أن ظهر مصطلح "تأثير راشومون"، الذي يصف ظاهرة التفسيرات المتناقضة لنفس الحدث وعدم موثوقية شهود العيان وقصور فهمنا للحقيقة والعدالة والذاكرة الإنسانية.
    بشكل عام، يمكن اعتبار فيلم راشومون رحلة في غابة العقل لتناوله موضوعات فلسفية عميقة واستكشافه لتعقيدات الطبيعة البشرية. كما يُعتبر عملا أساسيّا في تاريخ السينما، ليس لأنه يقدّم قصّة جذّابة ومثيرة للتفكير فحسب، وإنّما أيضا بسبب تركيبته البصرية المذهلة وسرده القويّ.
    وُلد أكيرا كوروساوا لعائلة من محاربي الساموراي، وكان لديه تقدير عميق للفنّ والثقافة اليابانية منذ شبابه. كما كان ميّالا للأدب والمسرح والفنون البصرية التي شكّلت خلفيّته الفنّية. وعُرف فيما بعد ببراعته في تصوير قصص من الحقبة الإقطاعية من تاريخ اليابان. لكنّه أيضا تعمّق في الموضوعات المعاصرة والحديثة واستكشف القضايا الاجتماعية والطبيعة البشرية وتأثير التحديث السريع على المجتمع الياباني.
    نهج كوروساوا في التعامل مع القضايا الاجتماعية وتأثير التحديث اتّسم بملاحظاته الدقيقة للسلوك البشري وقدرته على نسج روايات معقّدة. ومن خلال التفكير في المشهد الاجتماعي والثقافي المتغيّر في اليابان، التقط المعضلات والتوتّرات التي يواجهها الأفراد والمجتمع ككلّ خلال فترات التحوّل والتحديث.
    وكانت إحدى نقاط قوّة هذا المُخرج هي قدرته على خلق شخصيات غنيّة يمكن التماهي معها وتمثّل كفاح المواطنين العاديين. وكثيرا ما شَكّكت أفلامه في القيم التقليدية والأعراف المجتمعية لليابان. مثلا في فيلم "الساموراي السبعة"، تدور القصّة المحورية حول مجموعة من محاربي الساموراي الذين عُيّنوا لحماية قرية من خطر قطّاع الطرق. ويثير الفيلم تساؤلات حول أهمية ميثاق الشرف التقليدي الخاصّ بهؤلاء المحاربين.
    كما صوّر كوروساوا آثار الحرب العالمية الثانية والتحدّيات التي واجهها الشعب الياباني في فترة ما بعد الحرب. كانت اليابان وقتها مجتمعا منقسما على نفسه وفي حال من الفوضى وشيوع الفقر والجريمة وفقدان القيم التقليدية، بعد أن تركت آثار الحرب البلاد مدمّرة اجتماعيا واقتصاديا. وفي فيلم "عالي ومنخفض" يستكشف كوروساوا التناقض الصارخ بين الأثرياء والفقراء من خلال قضية اختطاف، ليعكس الفوارق الاجتماعية والاقتصادية في ذلك الوقت.
    وفي فيلم "إيكيرو"، يكتشف البطل، وهو شخص بيروقراطي، أنه مصاب بمرض عضال، ويتنقّل في النظام البيروقراطي، بينما يحاول العثور على هدف لحياته في سنوات عمره المتبقية. ويصوّر الفيلم الفوارق بين الطبقات الاجتماعية وتأثيرات عدم المساواة، بالإضافة الى التحدّيات التي يواجهها الأفراد المهمّشون في مجتمع ما بعد الحرب.
    وفي فيلم "عرش الدم" المقتبس من مسرحية "ماكبث"، ينقل كوروساوا مأساة شكسبير إلى اليابان الإقطاعية، مستكشفا التأثير المُفسد للسلطة والطموح في بيئة الساموراي التقليدية والصراعات بين القيم التقليدية والحديثة.
    ممّا يجدر ذكره أن فيلم "راشومون" تلقّى إشادة من النقّاد في اليابان وفي العالم، وفاز بجائزة الأسد الذهبي في مهرجان البندقية السينمائي عام 1951. كما مهّد نجاح الفيلم الطريق لأعمال كوروساوا والسينما اليابانية ككلّ للحصول على التقدير العالمي.


    Credits
    akirakurosawa.info

    الجمعة، أبريل 19، 2024

    ماليفتش والتفوّقية


    في 19 ديسمبر 1915، افتُتح معرض للأعمال الفنّية الراديكالية في سانت بطرسبرغ في روسيا. وقد تجاوزت العديد من القطع المعروضة حدود الشكل والأسلوب. لكن إحداها كانت مثيرة للجدل بشكل خاص.
    كانت اللوحة معلّقة في زاوية الصالة، في مساحة كانت تُخصّص عادةً للأيقونات الدينية. وكان اسمها "المربّع الأسود" لكازيمير ماليفيتش. أحد الحضور سخر من بساطة اللوحة مدّعيا أنه "حتى الطفل يمكن أن يرسم مثلها!"
    وذهب آخر إلى أبعد من ذلك، فكتب يقول ان "المربّع الأسود" من شأنه أن "يقودنا جميعا إلى هلاكنا!". بساطة اللوحة الظاهرية تثير الحنق والارتباك. لكن نظرة فاحصة تكشف أن عمل ماليفيتش ليس فقط أكثر تعقيدا ممّا يبدو للوهلة الأولى، بل قد لا يكون حتى لوحة لمربّع أسود على الإطلاق.
    وعلى الرغم من اسمها، ستجد أن الشكل المركزي للوحة ليس أسود ولا مربّعا تماما. وأضلاعه ليست متوازية أو متساوية في الطول، كما أن الشكل لا يتموضعُ تماما على القماش.
    وبدلاً من ذلك، وضع ماليفيتش النموذج بعيدا عن التوازن قليلا، ما يعطيه مظهرا حركيّا. كما أن اللون الأبيض المحيط به يمنحه نوعية حيّة ومهتزّة. وقد كشف التحليل الفنّي أن ماليفيتش كان قد استخدم القماش قبل ذلك للوحتين أخريين.
    ولو نظرت الى اللوحة اليوم، ستلاحظ وجود تشقّقات كثيفة في الطلاء نتيجة للتقادم وعوامل الجفاف. وهذه التشقّقات تكشف عن أجزاء من اللون الأصفر المغبر والأحمر النابض بالحياة والزمرّدي الباهت. وكلّها تشير إلى المراحل المتعدّدة التي قطعها ماليفيتش قبل أن يصل إلى الشكل النهائي للوحة.
    وتتجلّى عمليّته الإبداعية في ضربات الفرشاة القويّة والمعروضة بفخر وهي تتحرّك في العديد من الاتجاهات. كما لوحظ أن خيوطا من الشَعر، بالإضافة الى بصمات ماليفيتش نفسه، متأصّلة في الطلاء، ما يُضفي ملمسا مجازيّا وحرفيّا إلى العمل.
    من نواحٍ عديدة، يمكن القول إن تاريخ ماليفيتش بأكمله جزء لا يتجزّأ من "المربّع الأسود". والمعروف أنه ولد في أوكرانيا لأبوين يتحدّثان البولندية، وعاش هناك حتى وفّر أخيرا ما يكفي من المال لتغطية تكاليف الرحلة إلى موسكو. وعند وصوله إليها في عام 1904، انهمك في تجريب جميع الأساليب الفنّية الطليعية في المدينة.
    وقد رسم بأسلوب الانطباعيين واستوعب ما بعد الانطباعية ومرّ بمرحلة المستقبلية ثم تأثّر بالتكعيبيين. وبحلول عام 1913، كان على وشك تحقيق اختراق. وكان يدرك أنه حتى أكثر الفنّانين تطوّراً كانوا لا يزالون يرسمون أشياء من الحياة اليومية فقط.


    كان ماليفيتش منجذبا بشكل لا يقاوَم إلى ما أسماه "الصحراء حيث لا شيء حقيقيّ سوى الشعور". وهكذا أصبح الشعور جوهر عمله. وكانت النتيجة "المربّع الأسود" وأسلوبا جديدا أسماه "التفوّقية أو السوبريماتيزم Suprematism"، حيث يصبح الشعور بالوحدة هو الأسمى.
    وسيتحقّق هذا من خلال ما أسماه باللاموضوعية Non-objectivity، وهي خروج متطرّف للغاية عن عالم الأشياء لدرجةِ تَجاوُز التجريد.
    بالنسبة للفنّان التفوّقي، الوسيلة المناسبة هي تلك التي توفّر التعبير الكامل عن الشعور النقيّ وتتجاهل الموضوع المقبول بحكم العادة. فالموضوع في حدّ ذاته لا معنى له بالنسبة للفنّان، وأفكار العقل الواعي لا قيمة لها. كما أن الظواهر المرئيّة للعالم الموضوعي لا يعوّل عليها في حدّ ذاتها؛ الشيء المهم هو الشعور.
    كان ماليفيتش يؤمن بأن التبسيط والتشويه اللذين ميّزا الفنّ التجريدي كانا في النهاية بلا معنى، نظرا لأنهما ما يزالان يركّزان على تصوير أشياء العالم الحقيقي. وبالنسبة له، فقط ما هو غير تمثيليّ أو تجسيديّ تماما هو الجديد حقّا.
    وكان يرى أن الفنّ ليست وظيفته خدمة الدولة والدين أو توضيح تاريخ الأخلاق. كما لا يجب أن يكون له أيّ علاقة بالموضوع في حدّ ذاته. وبرأيه يمكن أن يوجد الفنّ في حدّ ذاته، بدون "أشياء".
    ومن آرائه الأخرى أن كلّ شكل حقيقي هو عالَم مستقل. وأيّ سطح بلاستيكي يعدّ أكثر حيوية من الوجه الذي تحدّق منه عينان وابتسامة. والمربّع ليس شكلاً من أشكال اللاوعي، إنه طفل ملوكي حيّ، وهو الخطوة الأولى للإبداع الخالص في الفنّ.
    وبينما أثار هذا النهج المتطرّف قلق النقّاد، سار ماليفيتش فيه قدما ولم يتراجع. فأمضى العقد التالي في شرح أعماله التفوّقية في مقالات، وعلّم أفكاره لجيل جديد من الفنّانين.
    لكن بعد صعود ستالين إلى السلطة في عشرينيات القرن العشرين، اعتُبرت الأساليب الطليعية، مثل التفوّقية، غير منتجة او مفيدة للدولة الشيوعية. وفي نهاية المطاف، أصبح من الخطر إنتاج أيّ فنّ خارج "الواقعية الاشتراكية"، وهي أسلوب فنّي قسريّ يحتفل بالقادة السوفييت و"العمّال الأبطال".
    في عام 1930، ألقت السلطات السوفيتية القبض على ماليفيتش لنشره "أفكارا تخريبية!" وتحت الضغط الشديد، عاد إلى رسم الاشخاص، فرسم الفلاحين وهم يقفون كالروبوتات في الأماكن الكالحة والمُتربة. لكن حتى هذه اللوحات كانت ما تزال تحتفظ ببصيص من أفكاره السابقة.
    وتدريجيّا، فقد الشخوص في لوحاته أذرعهم ووجوههم، ثم تحلّلوا نهائيّا مع اكتمال سيطرة الميكنة على الريف. وخلال هذا الوقت، رسم ماليفيتش أيضا صورة لنفسه، وبدا أنه قد تخلّى عن التفوّقية تماما. لكن يده المفتوحة في الصورة أخذت شكلاً رباعيا، وفي الزاوية كان هناك مربّع أسود صغير!
    كان هذا رمزا لرجل عانى من الحروب والثورات، لكنّه لم يتوقّف أبدا عن محاولات خلق فنّ جديد؛ ملجأٍ للشعور النقيّ الذي يكمن وراء ثقل الأشياء ومعاناة عالمٍ منقسمٍ على نفسه.


    Credits
    kazimir-malevich.org

    الثلاثاء، أبريل 16، 2024

    نهاية رجل خطير


    كان قتل أرخميدس أحد أكبر الأخطاء التي ارتُكبت في تاريخ العلم. وكان هذا العالم اليونانيّ قد قُتل على يد جنديّ روماني عام 212 قبل الميلاد أثناء حصار الرومان لبلدة سيراكيوز في صقلّية، على الرغم من صدور أمر بعدم تعريضه للأذى.
    عُرف أرخميدس باختراعاته الكثيرة مثل الأشعّة الحرارية والمدفع البخاري ومفهوم الصغر اللانهائي وغير ذلك من النظريات الهندسية والرياضية. وربّما لو عاش عامين أو ثلاثة أخرى لكان على الأرجح قد اكتشف حساب التفاضل والتكامل، أي قبل نيوتن أو لايبنتز بألفي عام.
    الكلمات الأخيرة المنسوبة إلى أرخميدس قبيل مقتله كانت: أرجوك لا تخرّب دوائري!" كان يخاطب قاتله مشيراً إلى الرسم الرياضي الذي من المفترض أنه كان يدرسه.
    أرخميدس يُعتبر أعظم عالم رياضيات في العالم القديم، وأحد أعظم الرياضيين في جميع العصور. وقد نشأ ليصبح عالما متفرّدا بتوجيه من اثنين من أكبر علماء الرياضيات في زمانه. وعُرف عنه أيضا دوره الاستراتيجي في الحروب القديمة وتطوير التقنيات العسكرية.
    وإن كنت قد شاهدت شخصية كرتونية لرجل عجوز يركض عارياً في شوارع إحدى المدن، فمن المرجّح أن تكون تلك الصورة الكاريكاتورية لأرخميدس.
    وأصل القصّة أن الملك هيرون الثاني تحدّى أرخميدس أن يعرف ما إذا كان تاج الملك مصنوعا من الذهب الخالص أو مخلوطا بالفضّة. وكان على أرخميدس أن يكتشف نقاء التاج من عدمه دون أن يضطرّ الى صهره، ما قد يؤدّي الى الإضرار به.
    وكانت تلك المسألة تلحّ على ذهن ارخميدس في كلّ وقت. وأثناء استحمامه، اكتشف أن هناك علاقة مباشرة بين الماء المتدفّق من الحوض وجسمه المغمور. وفجأة قفز من حوض الاستحمام وأخذ يركض في الشوارع وهو يصرخ "يوريكا.. يوريكا" أو "وجدتها.. وجدتها". وتوصّل الى مبدأه القائل بأن أيّ جسم مغمور في سائل يندفع إلى أعلى بقوّة تساوي وزن السائل المزاح.
    ثم أجرى ارخميدس الاختبارات على تاج الملك، وبالفعل اتّضح أن الملك كان على حقّ، فقد خُلطت الفضّة بالذهب في التاج. ومنذ ذلك اليوم أصبحت عبارته الشهيرة "يوريكا" تُستخدم للتعبير عن الفرح الكبير بأيّ اكتشاف جديد أو مفاجئ.
    ويبدو أن العلم المفضّل عند أرخميدس لم يكن الهندسة بل الرياضيات. وربّما كان أحد أعظم إنجازاته في الرياضيات هو قياس الدائرة. وكانت قياساته لها دقيقة بشكل مثير للإعجاب.
    ومن المؤسف حقّا أن مثل هذا الرجل اللامع والعبقري انتهى نهاية مفجعة. فقد كان الرومان بقيادة الجنرال ماركوس مارسيلوس يحاصرون مدينة سيراكيوز لمدّة عامين عندما تمكّنوا أخيرا من فتح أسوار المدينة.
    وقيل إن مارسيلوس أمر بألا يَمسّ أحد أرخميدس وأنه سيكون ضيفه الشخصي. في ذلك اليوم، كان أرخميدس جالسا في منزله يحاول حلّ مسألة رياضية معقّدة عندما اندفع إلى داخل بيته جنديّ روماني فوجده يرسم دوائر على الأرض. وعندما أشهر الجندي سيفه في وجه العالِم قال له بهدوء: أرجوك قبل أن تقتلني، دعني أنتهي من دوائري". لكن الجنديّ لم يكترث بطلبه فهوى عليه بسيفه وقتله.
    كان الغزاة الرومان على ما يبدو يثأرون من أرخميدس لأنهم اعتبروه رجلا خطيرا لابتكاره سلاحا جديدا استُخدم في الحرب ضدّهم. فعندما أبحر الأسطول الروماني لقتال جيش الملك هيرون، طلب الأخير من أرخميدس ابتكار طريقة فعّالة لمواجهة أسطول العدوّ الأكثر عددا وعدّة. وقد دُمّر معظم الأسطول المهاجم بواسطة المرايا المقعّرة، أو شعاع أرخميدس الحراري، الذي عكَسَ ضوء الشمس على السفن ما أدّى الى احتراق معظمها.
    ويُعتقد أن أرخميدس ربّما استخدم مرايا كثيرة كعاكسات مكافئة. وقيل إنه عندما رأى جنود الجيش المهاجم ما حدث للسفن قالوا لملكهم: يجب أن نكفّ عن محاربة هذا الوحش الهندسي الذي تغلّب على مآثرنا بشعوذته الخارقة. لقد حوّل سفننا الى أكواب لغرف الماء من البحر!".
    ويقول بعض المؤرّخين أن المينويين Minoans سبق أن استخدموا مرايا مزدوجة لهذا الغرض، وربّما كان أرخميدس يعرف هذا أو سمع به من قبل.
    دُفن أرخميدس بالقرب من بوّابة سيراكيوز، ووُضعت على قبره كرة واسطوانة. وعلى الرغم من أنه لم يكن مشهورا كثيرا في زمانه، إلا أن مخطوطاته تُرجمت في العصور الوسطى الى لغات عديدة وجذبت اهتمام الكثيرين. وفي القرن التاسع عشر قال فولتير واصفا إيّاه: كان في رأس أرخميدس من الخيال أكثر بكثير ممّا كان في رأس هوميروس!"

    Credits
    archimedespalimpsest.org

    السبت، أبريل 13، 2024

    خواطر في الأدب والفن


  • لم أقرأ رواية ذئب البراري "أو ذئب السهوب" إلا متأخّرا نسبيّا. وقد وجدتها ممتعة وعميقة المعنى. كما أنها خفيفة وسهلة الفهم. ومن المزايا الأخرى التي قدّرتها في الرواية أنها لا تتضمّن شخصيات كثيرة تُربك القارئ وتشتّت تركيزه.
    بطل الرواية يسمّي نفسه ذئب البراري. وهو شخص مثقّف، منعزل، بلا علاقات تقريبا، ومتحفّظ في إظهار مشاعره، لا يؤمن بالكثير من افكار وقناعات مجتمعه ويساوره الحنين الى عصور سابقة.
    وهو في الرواية يتحدّث عن الكثير من رموز الحزن وضحايا سوء الفهم في هذا العالم، مثل نوفاليس ودستويفسكي وأتيلا وفاوست وموزارت وهاملت واوفيليا وغيرهم.
    كما يتحدّث بشغف عن ظواهر لا أشكّ انها تجذب اهتمام الكثيرين، من قبيل بعض الصور والأنغام والروائح التي تنقل الانسان الى عوالم مختلفة وتلحّ على ذهنه بين فترة وأخرى. وذئب البراري يصف عزلته بأنها "ساكنة سكون الفضاء البارد الذي تدور فيه النجوم في افلاكها".
    في هذه الرواية "علم نفس" كثير، ربّما أكثر ممّا ينبغي، مثل حديث الراوي عن ثنائية الانسان والذئب، وكيف يتغلّب الذئب على الانسان او العكس. وهو يُفرد لهذا صفحات كثيرة. وقد شعرت أن الإسهاب في هذا النوع من الحديث يبطّيء من وتيرة الرواية، أيّ رواية، لدرجة انه يمكن ان يصيب القارئ بالملل.
    من العبارات التي راقت لي والتي ترد على لسان البطل قوله: الانسان بَصَلة مكوّنة من مائة غلاف"، أو قوله في وصف موسيقى الجاز أن نصفها عابق بشذى العطور ونصفها الاخر همجيّ."
    ذئب البراري او السهوب رواية مختلفة. ولا بدّ وأن يجد الكثيرون في أنفسهم شيئا من شخصية البطل أو بعضا من سمات شخصيّته الغريبة. وللمؤلّف هيرمان هيسّه روايات أخرى أشهرها "سيدهارتا" و"ساعة بعد منتصف الليل" وغيرهما.

  • يرسم بعض الفنّانين بهدف إضافة مشهد ودراما إلى العالم، بينما يستخدم آخرون فنّهم لإضفاء نوع من الصمت. الرسّام الدنماركي وليام هامرشوي كان ينتمي للنوع الثاني.
    استثمر هامرشوي الكثير من المعنى في هدوء الغرف الفارغة التي كان يرسمها. ولوحاته تتكوّن من تصميمات داخلية نصف ضبابية تلفت انتباهنا إلى الفوائد البسيطة للوجود، حيث نتمكن من ملاحظة المزيد، وفي الوقت نفسه نجد ضجيجنا الداخليّ ونعمل على تهدئته.
    وصور الرسّام هي نقيض لصور السيلفي الحديثة. فبدلاً من أن تقول "انظر إليّ وما أفعله"، فإن هذه اللوحات ترفض ذلك الجزء من الطبيعة البشرية الذي يريد أن يهتمّ به الآخرون. وبدلاً من ذلك، فإنها تدعو الانسان للتأمّل والتواضع.
    لماذا نرغب في ان ننظر الى أريكة فارغة أو نافذة مضاءة بنور القمر؟ الإجابة التي تقدّمها هذه اللوحات ضمنا هي أن بعض اللقاءات الأكثر أهميّة هي تلك التي تحدث في لحظاتنا الأكثر حميمية وخصوصية.
    قال هامرشوي ذات مرّة: لطالما اعتقدت أن الغرف تحتوي على مثل هذا الجمال برغم خلوّها من أيّ أشخاص، بل ربّما وعلى وجه التحديد عندما لا يوجد بها أيّ أشخاص". لذلك فإن ما تراه في لوحات الفنّان هو رغبته في رؤية العالم كسلسلة من أوقات العزلة والتأمّل.
    ولد هامرشوي في كوبنهاغن بالدنمارك عام 1864، وقضى معظم حياته في المدينة التي ولد فيها. وقد تدرّب في الأكاديمية الملكية الدنماركية للفنون الجميلة، وتلقّى دروسا على يد الفنّان نيلز كيركغارد ابن عمّ الفيلسوف المعروف سورين كيركغارد.
    وقد أنجز هامرشوي العديد من لوحاته الأكثر شهرةً داخل منزله في كوبنهاغن، واختار أن تكون زوجته هي الجليسة التي تظهر في جميع لوحاته.


  • عندما تسكب روحك وتهدر وقتك في نصّ ولا يقرؤه أحد، فقد يدفعك هذا لأن تشعر بالألم. والأمر يشبه أن تجرّد من جزء من هويّتك ككاتب وتبدأ في تقريع نفسك وتعنيفها. وربّما يجعلك هذا تتساءل عمّا إذا كنت قد خُلقت للكتابة حقّا، أو ما إذا كنت تحلم كثيرا أو تضيّع وقتك فيما لا طائل من ورائه.
    الشكوك التي طالما راودتك عن انعدام موهبتك واعتدتَ أن تبعدها تعود مجدّدا لتستقرّ على كتفيك وتهمس في أذنك نادبةً سوء حظك ولتخبرك أنها كانت على حقّ وأنك كنت مخطئا.
    لكن قد لا تكون هذه هي المشكلة. فإذا لم يجد أحد نصوصك جمهورا يقرؤه، فليس بالضرورة لأنه سّيء، بل قد تكون هناك أسباب أخرى خارجة عن إرادتك.
    هناك العديد من الكتّاب ممّن يربطون قيمة نصوصهم بعدد القراءات التي تحصدها تلك النصوص. ويشبه الأمر ربط كمّية المال بقيمة الشخص الذي يملكه، في حين أن المال لا يحدّد قيمة الانسان وعدد القراءات لا يحدّد قيمة النصّ.
    وواقع الحال أنك يجب أن تعتزّ بنصوصك المنعزلة، أي تلك التي لم تُقرأ بما فيه الكفاية. قد لا تكون جيّدة بما يكفي أو ربّما تكون بحاجة إلى جمهور من نوع ما يقدّرها ويستشعر ما فيها من تفرّد وجمال.
  • هذه القصّة المعبّرة ترد في العديد من الثقافات، مع بعض الاختلاف في التفاصيل.
    يُحكى أن أهل قرية شربوا من ماء نهر فأصيبوا بالجنون. فقط شخصان امتنعا عن الشرب من النهر، لذا استمرّا عاقلين.
    غير أن أهل القرية أصبحوا ينظرون إليهما نظرة دهشة وشفقة ظنّاً منهم انهما أصيبا بالجنون. ولكي يُبعد الرجلان شبهة الجنون عن نفسيهما، لم يجدا خلاصا سوى بالشرب من ماء النهر، فأصبحا مجنونَين!

  • Credits
    bruun-rasmussen.dk

    الأربعاء، أبريل 10، 2024

    الحصان الجَموح


    في عام 1862، رأى فتى هنديّ أحمر يُدعى "تاسونك" فيما يرى النائم منظرا لبحيرة صغيرة ساكنة. ومن زرقتها الهادئة انبثق حصان مع فارسه صعودا ثم خرجا عبر سطح البحيرة الى الأرض. كان الفارس نحيفا ذا شعر منسدل، بينما رُبط خلف أذنه اليسرى حجرٌ بنّي مُحمرّ ورُسمت علامة البرق على أحد جانبي وجهه. وعلى صدره العاري كان هناك وشم لقطرات برَد زرقاء.
    وبينما الفارس وحصانه يركضان، ظهرت خلفهما غمامة داكنة متدحرجة أخذت ترتفع شيئا فشيئا الى أعلى. ومن السحابة دوّت قعقعة رعد عميقة ووميض برق. كان الحصان قويّاً وسريعاً، وكانت ألوانه تتغيّر من الأحمر الى الأصفر الى الأسود الى الأبيض والأزرق.
    وفجأة دوّى رصاص وتطايرت سهام في الهواء، وانحرف بعضها باتجاه الحصان والفارس، ومرّت قريبا منهما لكن لم تلمسهما. وعلى مقربة منهما طار صقر ذو ذيل أحمر وأطلق صرخة في الفضاء. ونهض رجال من كلّ مكان وأمسكوا بالفارس ثم سحبوه إلى الأسفل من الخلف. وانتهى الحلم.
    روى الصبيّ الحلم لوالده وربّما لآخرين. ومنذ ذلك اليوم أصبح يلقّب بالحصان الجموح. ابن عمّه الملقّب "الأيل الأسود" وصف الحلم فيما بعد بقوله:
    رأى الحصان الجموح حلما ذهب به إلى عالم لا يوجد فيه سوى الأرواح، أرواح كلّ الأشياء. وهذا هو العالم الحقيقي الذي يقف خلف هذا العالم، وكلّ ما نراه هنا هو مجرّد ظلّ لذاك. كان يمتطي حصانه في ذلك العالم. وبدا أن كلّ شيء هناك يطفو: الأشجار والعشب والحجارة وكلّ شيء. كان حصانه يرقص كأنه مصنوع من الظلّ. ولم يكن الحصان مجنونا أو جامحا، ولكن كان في الحلم يرقص في كلّ مكان بهذه الطريقة الغريبة.
    كان ذلك الحلم هو الذي منحه قوّته العظيمة، لأنه عندما كان يشتبك في قتال، كان عليه فقط أن يفكّر في ذلك العالم الموازي ليكون فيه مرّة أخرى، وليتمكّن من تجاوز أيّ خطر دون أن يلحق به أذى".
    كان الحصان الجموح (1840 – 1877) محاربا من قبائل السيو The Sioux الهندية وزعيم فرقة من المقاتلين. ويعتبر من بين أعظم المدافعين عن أراضي السيو ضدّ قوات الحكومة الأمريكية في القرن التاسع عشر. كما أنه أحد أشهر شخصيات الهنود الحمر الأمريكيين في التاريخ ومن بين أبطال السيو الأكثر تكريما.
    وقد كرّس الحصان الجموح نفسه لمعارضة الجيش الأمريكي في وقت مبكّر من حياته، خاصّة بعد مذبحة غراتن والمذبحة التي تلتها في معسكر ليتل ثندر عام 1855 على يد العقيد ويليام هارني. وواصل مقاومته على مدى السنوات الإحدى عشرة التالية وحارب في العديد من المعارك، أشهرها معركة جسر نهر بليت وحرب السحابة الحمراء ومعركة البرعم الوردي وغيرها.
    في أغسطس 1854، دخلت بقرة كانت قد خرجت من قطار عربة للمورمون إلى معسكر الزعيم الهندي "الدبّ المنتصر". ولأن الإمدادات الغذائية التي وعدت بها حكومة الولايات المتحدة لم تصل فقد جاع الناس وذبحوا البقرة وأكلوا لحمها.
    وأبلغ حزب المورمون عن أن البقرة فُقدت وأن من سرقها كانوا من قبائل السيو. فاتصل الملازم هيو فليمنغ بالزعيم الدبّ المنتصر وطلب منه تسليم الشخص الذي سرق البقرة. فعرض عليه الدبّ تعويضا، لكن العرض رُفض.
    ثم قاد الملازم جون غراتن مجموعة من الجند إلى معسكر السيو للقبض على الرجل الذي زعموا أنه سرق البقرة. وقد رفض الدبّ المنتصر تسليمه فتصاعد الموقف وأصيب الدبّ بالرصاص ما أدّى الى مقتله. وردّ رجال السيو بقيادة الحصان الجموح بإطلاق النار، ما أسفر عن مقتل جميع الجنود البالغ عددهم 31 جنديّا.
    وبعد ذلك قام الجيش الأمريكي بقيادة العقيد هارني بالانتقام، حيث ذُبح المئات من الهنود. وقد عثر الحصان الجموح على الجثث المذبوحة في معسكر ليتل ثندر حيث أنقذ هناك امرأة كانت الناجية الوحيدة. ويقال أن حربه مع الغزاة الأوربيّين قد بدأت فعليّا في معركة غراتن التي كانت بداية لحرب السيو الأولى (1854-1856)، وقيل إن الحصان الجموح كان كلّما دخل معركة رسم على خدّه شرر برق مثل الذي رآه في حلمه وهو صغير.


    وعندما اكتُشف الذهب في مونتانا عام 1863، تقاطرت على المنطقة فرق من عمّال المناجم والمستوطنين. وأرسلت حكومة الولايات المتحدة العقيد كارينغتون لبناء حصون هناك، فأعلن الحصان الجموح وقادة آخرون الحرب. ثم شنّوا هجمات على العمّال الذين كانوا يجمعون التبن والخشب للحصون.
    واستمرّ الحصان الجموح وقادة الحرب الآخرون من الهنود في ضرب التفاصيل المدنية والمسافرين والبؤر الاستيطانية واستولوا على أعداد من الخيول والماشية وتسبّبوا في وقوع إصابات كبيرة.
    وفي ديسمبر 1866، هاجم الحصان الجموح مجموعة من الحطّابين، وخرج الكابتن فيترمان لقتاله، فقام الحصان باستدراجه وجنوده إلى واد حيث نصبوا لهم كمينا، ما أسفر عن مقتل جميع الجنود البالغ عددهم 81 جنديا فيما أصبح يُعرف فيما بعد باسم مذبحة فيترمان.
    وفي عام 1874، اكتُشف الذهب في بلاك هيلز، وهو موقع مقدّس عند قبائل السيو. وبدأ وصول المستوطنين الى هناك بأعداد كبيرة في انتهاك واضح لمعاهدة فورت لارامي لعام 1851 التي اعترفت بمطالبات السكّان الأصليين بأراضي أجدادهم واعتبرتها "أراضي هندية خالصة". وأدّى إخلال حكومة الولايات المتحدة ببنود تلك المعاهدة الى إشعال فتيل حرب السيو العظمى في الفترة من 1876 الى 1877.
    وردّ الجيش الأمريكي بسرعة، ما أدّى إلى تشتيت قبائل شايان وأراباهو والسيو الهندية وحلفائهم. وهرب بعض قادتهم إلى كندا، بينما قاد الحصان الجموح شعبه بعيدا عن قوّات المستعمرين الاوربيين.
    وعلى الرغم من أن الحصان الجموح لم يُهزم في معركة وولف ماونتن في 8 يناير 1877، إلا أنه انسحب من الميدان ولم يقاتل مرّة أخرى. وبعد أن قامت حكومة الولايات المتحدة بذبح الجاموس بشكل جماعي، وهو مصدر الغذاء الرئيسي لهنود السهول، اضطرّوا إلى الاعتماد على الإمدادات التي يقدّمها المقاولون المدنيون، رغم انها كانت متاحة فقط في المحميات التي أنشأتها الحكومة. لكن الحصان الجموح رفض الخضوع لحياة المحميات.
    كان الحصان يتجوّل مع شعبه، وكثيرا ما كان يتضوّر جوعا طوال الأشهر الأولى من عام 1877. وفي مايو 1877، وصل مع فرقته إلى فورت روبنسون في نبراسكا للتفاوض على شروط الاستسلام.
    لكن أمرا كان قد صدر باعتقاله، وأثناء مقاومته للحرّاس في فورت روبنسون تعرّض للطعن بحربة في ظهره سدّدها حارس. وكان الجرح نافذا فتوفّي في تلك الليلة من سبتمبر عام 1877 عن عمر لا يتجاوز الـ 37 عاما.
    وأخذ والداه وأقاربه جثّته ودفنوها في مكان لم يُكشف عنه. وكتب صحفي معلّقا على مقتله: هكذا مات أحد أقدر وأصدق الهنود الأمريكيين. كانت حياته مثالية وسجلّه نظيفا. اذ لم يشارك أبدا في أيّ من المذابح العديدة التي وقعت، وكان قائدا عمليا في كلّ معركة مفتوحة. ويستحقّ الشرف مثل أيّ شخص تنفّس هواء الله في هذه المساحات الواسعة".
    وفيما بعد، وعلى إثر استيلاء الاوربيين على المزيد من أراضي الهنود بقوّة السلاح، هرب العديد من أفراد قبائل السيو المتناثرين إلى إقليم داكوتا أو إلى كندا. أما من بقي منهم في مانكاتو مينيسوتا فقد أصدر الرئيس أبراهام لنكولن قرارا بشنقهم في أكبر عملية إعدام جماعي في التاريخ الأمريكي.
    وبعد فترة ليست بالقصيرة، استخدم الجيش الأمريكي المدفعية لإطلاق النار على عدد من الرجال والنساء والأطفال الهنود الذين كانوا يحاولون الفرار من المذبحة. وقُتل أكثر من 250 شخصا، بما فيهم الزعيم المسمّى بالقدم الكبيرة. وانتهت بذلك حرب استمرّت حوالي 40 عاما خاضها أفراد قبائل السيو للاحتفاظ بأراضيهم وطريقة حياتهم.
    وقد أجبرت الحكومة القبائل على إرسال أبنائهم إلى مدارس داخلية. وأُخذ الأطفال من عائلاتهم واُلبسوا ملابس أمريكية واُعطوا أسماء إنغليزية وقُصّت شعورهم ومُنعوا من التحدّث بلغاتهم او ممارسة دياناتهم أو إحياء احتفالاتهم.
    كانت تلك المدارس مكتظّة ومرافقها الصحيّة سيّئة، ما أدّى الى انتشار الأمراض المعدية، فهرب الطلاب منها او ماتوا. وفي عام 1934، شجّعت الحكومة الهنود على كتابة دساتير قبلية وسنّ قوانين لإدارة شؤونهم بأنفسهم.
    مرّت سنوات على مقتل الحصان الجموح ازداد خلالها ذيوع سمعته كزعيم شجاع ومقاتل من أجل حرّية شعبه. وفي عام 1982، أصدر مكتب البريد الأمريكي طابعا تكريما له. لكن حكومة الولايات المتحدة لم تعالج بعد القضايا التي ناضل من أجلها هو وغيره من قادة الهنود الحمر. ومع ذلك، فإن اسم الحصان الجموح لا يزال يلهم أولئك الذين يواصلون معركته الى يومنا هذا.

    Credits
    legendsofamerica.com

    الأحد، أبريل 07، 2024

    شاعر الطبيعة


    نتوق أحيانا إلى ما لا نستطيع بلوغه؛ إلى ما هو جميل ومثالي وبعيد المنال. في الشتاء، مثلا، قد تتطلّع الى أن تجد المتعة في مشهد خريفي ليس هذا أوانه. ومع ذلك ربّما لا يأتي الخريف بأكثر مما تمنحنا إيّاه هذه اللوحة "الى فوق"، والتي يصوّر فيها الرسّام الروسي إيساك ليڤيتان نهرا تصطفّ على جانبيه بعض الأشجار في أعماق الريف الروسي.
    كان ليڤيتان (1860 - 1900) يُضفي على رسوماته للطبيعة أمزجة متنوّعة مع مسحة روحانية تصبح انعكاسا للظرف الانساني. وبعض صوره الأخيرة التي رسمها قبيل وفاته كانت تنبض بالضوء، مع غيوم داكنة في السماء. كما كانت مشبعة بالتجارب والمشاعر الإنسانية الذاتية من حزن وسلام ومرح وابتهاج وما إلى ذلك.
    وكان أيضا يصوّر الكثير من المشاعر في اعماله متبنّيا نوعا من الواقعية القاسية الممزوجة بشيء من روح الشعر الواهب للحياة. ولهذا يصبح وجود البشر في المنظر غير ضروريّ بل وحتى زائدا عن الحاجة.
    التنظيم الذهني الجيّد والشكّ والضعف والمزاج الكئيب الذي تعكسه بعض صوره يعكس قدرة ليڤيتان الرائعة على النفاذ الى عمق الطبيعة الروسية السرّية والناعمة ممّا لم يستطع فعله رسّام آخر قبله أو بعده.
    ومناظر القرى الفقيرة مع طبيعتها القاسية، لكن الجميلة، التي نراها كثيرا في لوحاته سبق أن تغنّى بها شاعر روسي عاش في القرن التاسع عشر ويُدعى تيوتشيف، الذي كان أحد الشعراء المفضّلين لدى ليڤيتان. ومما يُنقل عن هذا الشاعر قوله: المكان الذي ولدت فيه كان اللون الغالب فيه هو الرمادي، ودروبه المتعرّجة تذكّر بعواء العواصف الثلجية".
    أحد معاصري ليڤيتان كان الرسّام ليونيد باسترناك الذي يقول: في روسيا لا يوجد منظر طبيعيّ لا يستحقّ أن تسجّله فرشاة رسّام". وكان يصف مناطق شمال روسيا "بالشمال العظيم الكئيب". لكن ليڤيتان نفسه لم يكن يعتبر الطبيعة الروسية متجهّمة ولا فقيرة.
    وقد سافر إلى خارج روسيا ثلاث مرّات، حيث رأى طبيعة أكثر حيوية في فرنسا وإيطاليا، وأكثر وقارا في جبال سويسرا. لكن تلك المناظر لم تحرّك مشاعره، بل ظلّ غير مبالٍ ومرهقا وملولا. وكتب رسالة حزينة يقول فيها: أستطيع أن أتخيّل جمال روسيا الآن بعد أن فاضت الأنهار وعادت الحياة الى مجراها. لا يوجد بلد أفضل من روسيا! فقط هناك يمكن أن يوجد منظر طبيعيّ حقيقيّ".


    كان من عادة الفنّانين الرمزيين أن يرسموا حالة الطبيعة في المساء أو الليل. وكانوا يعتقدون أنه عند الغسق أو في ضوء القمر يبدو العالم غامضا وشبحيّا ومبهما. وبدوره اكتشف ليڤيتان أن في حبّه القويّ للطبيعة الروسية الصاخبة والمتواضعة في آن شيئا ما روحانيّا أو مقدّسا وأن فيها الكثير من الشعر المتسامي.
    في بعض مناظره المسائية، تبدو الألوان صامتة والخطوط العريضة مهزوزة وغير واضحة في ضوء القمر الناعم. أما السماء فتظهر بلون أزرق وردي، مع سحابة مزرقّة تحجب جزءا من ضوء القمر وضبابٍ خفيف منتشر على الأرض ومجسَّد بطريقة رائعة وبارعة.
    في عام 1887، ذهب إيساك ليڤيتان إلى منطقة نهر الفولغا. رحلته الأولى الى هناك لم تُثر إعجابه كثيرا. وقد كتب إلى صديقه الكاتب المسرحيّ أنطون تشيكوف يقول: رأيت شجيرات وجبالا شديدة الانحدار. كنت أتوقّع أن يثير مرأى نهر الفولغا في نفسي انطباعات فنّية قويّة، ولكن كلّ ما رأيته كان سماءً رمادية ورياحا قويّة".
    وسرعان ما عاد الرسّام إلى موسكو ليرسم لوحته "المساء على نهر الفولغا". وبعد مرور عام، عاد إلى منطقة الفولغا مرّة أخرى، ولكن هذه المرّة مع فنّانة تُدعى صوفيا. واستقرّا في بلدة صغيرة ذات جمال خلاب على ضفّة النهر. وهناك رسم العديد من اللوحات مثل "الفناء المتهدّم" و "الخريف" و"البنفسج الليلي" وغيرها.
    قضى ليڤيتان العام الأخير من حياته في منزل الكاتب أنطون تشيكوف في شبه جزيرة القرم. وتوفّي في أغسطس من عام 1900 وهو في سنّ الأربعين بعد أن عانى من مرض عضال.
    كانت أعماله الأخيرة تمتلئ بالضوء بشكل متزايد وتعكس هدوء وجمال الطبيعة في قرى روسيا النائية. وقد عُرف الرسّام بحبّه الشديد لأزهار الليلك. ويقال إنه عندما توفّي تفتّحت أزهار الليلك مرّتين في ذلك العام، وبدا الأمر اشبه ما يكون بالأعجوبة.

    Credits
    russianartgallery.org

    الجمعة، أبريل 05، 2024

    الأرض الوسطى


    إختار جون توكين ان تجري احداث ثلاثيّته "سيّد الخواتم" فيما أسماه بالأرض الوسطى Middle Earth التي تقع بين قارّتين ويحيط بها بحر ونهر. واختار الكاتب هذه الارض المتخيّلة لأنها تختلف عن أرض البشر كما يفهمها علماء الآثار والجيولوجيا والتاريخ المعاصرون.
    إذ يسكنها جنس يشبهون البشر من حيث أنهم يمرضون ويموتون. ويشارك هؤلاء في العيش في الأرض الوسطى أقوام يقال لهم الهوبيت والاوركس المعروفين بعنفهم، وكذلك مخلوقات من التنانين والنسور والسحالي الضخمة، وبعض قبائل الجان.
    والجان الذين ابتكرهم توكين في ثلاثيّته ليسوا بالجان المؤذين أو الحاقدين الذين نجدهم في الحكايات الشعبية. إنهم بشر، أو بالأحرى ما كان عليه البشر لو لم يُطرد آدم وحوّاء من الجنّة، فهم خالدون وشباب إلى الأبد ولا يصابون بالأمراض مطلقا. لكنهم ما يزالون عرضة للغباء.
    وثلاثية توكين تدور أحداثها في عالم الأرض الوسطى الخيالي، حيث تعيش مئات الأنواع المختلفة معا. والرواية نفسها قطعة من الخيال، وهناك العديد من أوجه التشابه بين الأرض الوسطى وعالمنا، ما يثير التساؤل عمّا إذا كان هذان الكونان مرتبطين بالفعل ببعضهما البعض بطريقة ما.
    قدّم توكين الأرض الوسطى لأوّل مرّة في روايته الهوبيت، وهي أقصر بكثير من سيّد الخواتم وتدور أحداثها قبل 60 عاما من أحداث الرواية الاخيرة. وتقدّم القصّة مناطق مثل ميركوود وريفنديل وجبال الضباب، وكلّها لها سمات مشابهة لبعض المناطق التي يمكن أن نجدها في عالمنا.
    فـ "ذا شاير" أو المقاطعة، مثلا، تحاكي أصداء الريف الإنغليزي، و"روهان" تشبه طبيعة الدول الاسكندنافية، و"نومينور" مستوحاة من امبراطوريات التاريخ القديمة. وقد لا يكون هذا من قبيل الصدفة.
    الاغريق أيضا عرفوا الأرض الوسطى وتخيّلوها في مكان فوق عالم العمالقة وأسفل عالم الآلهة. وربّما يكون التأثير اليوناني الوحيد في ثلاثيّة توكين هو "نومينور"، وهو اسم المنطقة التي يبدو مصيرها تكرارا لأسطورة أتلانتس. ومن الواضح أن رعونة وفجور وانعدام أخلاقية آلهة الاغريق والأبطال والشخصيات اليونانية الرومانية لم تكن تروق لتوكين ذي الروحانية العميقة.
    طوال فترة عمله ككاتب، نشر توكين عدّة رسائل كتبها حول مواضيع مختلفة، وكشف في بعضها أن الأرض الوسطى لا علاقة لها بالعالم الذي نعيش فيه، بل هي مصطلح مشتقّ من اللفظ الإنغليزي "ميدل إيردي" للإشارة إلى الأرض نفسها، ولكن في مرحلة سابقة وقديمة جدّا من تاريخ الكوكب.


    ويقول أيضا أن من المفترض أن احداث الرواية تقع في فترة من العالم القديم الفعلي لهذا الكوكب. وربّما كان يقصد أن أحداث الرواية تدور بالفعل على الأرض، ولكن قبل فترة طويلة جدّا من ظهور أيّ سجلات تاريخية، أي في وقت كانت فيه العفاريت والعمالقة تتعايش جنبا الى جنب مع البشر الأوائل، بحسب تصوّره الفانتازي.
    ومن خلال التأكيد على أن الأرض الوسطى هي في الواقع مجرّد أرض، جعل توكين سلسلته الخيالية أكثر ارتباطا وأقرب إلى كوكبنا، ما أدّى إلى إزالة المسافة بين عالمين ووضع الجمهور مباشرة في قلب هذه القصّة الخيالية.
    وواضح أن هناك سببا وراء رغبة توكين في جعل المناظر الطبيعية في الأرض الوسطى مألوفة جدّا من خلال كتابته عن الجبال العظيمة والوديان العميقة والمحيطات الواسعة، وذلك لأنها في الأساس بعض عناصر كوكب الأرض. وعلى الرغم من أن العالم قد تغيّر بشكل جذري منذ أيّامه الأولى، إلا أن التكوين العام للكوكب ظلّ متشابها إلى حدّ ما، لذلك من المنطقي أن يكون في الأرض الوسطى بعض تلك السمات نفسها.
    والأرض الوسطى مليئة بآثار العصور السابقة وعظمتها المفقودة منذ زمن طويل. وطوال حياته، كان يساور توكين كابوس متكرّر يتمثل في حدوث موجة بحرية هائلة تجرف كلّ شيء بعيدا. وكثيرا ما يذكر أتلانتس في رسائله. وفي الثلاثية، تكتسح مقاطعة نومينور موجة تسونامي مدمّرة كانتقام من الآلهة.
    كان للأرض الوسطى أساطيرها وقصصها عند العديد من الأمم السالفة أيضا. وورد ما يشبهها في بعض أعمال الأدب مثل رواية بيوولف "أو المستذئب" وغيرها من الحكايات البطولية الإنغليزية القديمة وفي العديد من أساطير الآلهة والأبطال القدماء والحكايات الشعبية، وخاصّة تلك الخاصّة بالفتيان العاديين الذين يقومون بمهام بطولية، وفي الحكايات الرومانسية واساطير الملك آرثر وغيرها.
    ربّما لا تتضمّن ثلاثية توكين أيّ صور رمزية او مجازية. لكنها بالتأكيد تعبّر عن قلق الكاتب بشأن عالمنا، بشأن فقدان براءة الريف وتلاشى الأساطير وتحوّلها الى مادّة. وإذا كنت تهتم بالنظر الى ما تحت السطح وتفحص توصيفات الكاتب للشرّ أو السلطة فستكتشف أن التعقيد الأخلاقي في هذا العمل أعمق بكثير من العبارات المبتذلة مثل أن الخير يهزم الشرّ أو أن السلطة تفسد الناس وما الى ذلك.
    عند تصوير ثلاثية سيّد الخواتم، قرّر المخرج بيتر جاكسون استخدام المناظر الطبيعية الخلابة في نيوزيلندا في غالبية عملية التصوير. ونيوزيلندا كما هو معروف بلد مليء بالخضرة الشاسعة والمسطّحات المائية الجميلة التي تتناسب تماما مع الأوصاف التي قدّمها توكين في رواياته عن الأرض الوسطى.

    Credits
    tolkiensociety.org

    الاثنين، أبريل 01، 2024

    مانغو ماو


    قصّة ماو تسي تونغ مع ثمار المانغو كثيرا ما يأتي ذكرها عند الحديث عن الزعيم الشيوعي الصيني ومؤسّس جمهورية الصين الشعبية. ومع ذلك من المهم ملاحظة أن صحّة هذه القصّة ما تزال موضع نقاش وهناك نسخ مختلفة منها.
    لكن النسخة الأكثر شيوعا تقول انه خلال الثورة الثقافية في الصين، تلقّى ماو هديّة من الفلبّين عبارة عن ثمار مانغو. في ذلك الوقت، كانت المانغو تعتبر فاكهة نادرة وغريبة في الصين. وكما تذكر القصّة، قرّر ماو مشاركة المانغو مع مجموعة من الأطفال، بدلاً من الاستمتاع بها لوحده.
    وقيل إن ماو سأل الأطفال ما إذا كانوا قد رأوا المانغو من قبل، وعندما أجابوا بالنفي، أخذ قضمة من الفاكهة ووصف لهم طعمها وملمسها بشكل دقيق. ثم قام بتوزيع المانغو عليهم، ما أتاح لكل طفل شمّها ولمسها، ولكن دون أكلها، لأن ماو أراد منهم تجربة الفاكهة باستخدام حواسّهم فقط.
    وغالبا ما تُفسّر هذه القصّة على أنها رمز للمساواة التي كان يتبّناها ماو ورغبته في تقاسم ثمار التقدّم مع عامّة الناس. واستُخدمت أيضا لتوضيح جاذبية ماو الشعبوية وجهوده للتواصل مع الجماهير خلال فترة الاضطرابات السياسية التي شهدتها الصين آنذاك.
    لكن تظلّ هذه القصّة مجرّد حكاية تُروى، كما أن دقّتها التاريخية موضع جدل. ويزعم البعض أنها ربّما تكون ملفّقة أو مبالغا فيها لأغراض دعائية، بينما يقول آخرون أنها تعكس أسلوب قيادة ماو وصورته لدى الشعب. وكما هو الحال مع العديد من الحكايات التاريخية، من المهم التعامل معها بشكل نقدي والنظر الى الآراء والتفسيرات المختلفة.
    كانت حياة ماو تسي تونغ وقيادته مليئة بالعديد من القصص والحكايات، والتي أصبح بعضها معروفا. ومن أهمّها ما عُرف بـ "المسيرة الطويلة"، وهي واحدة من أشهر الأحداث المرتبطة بماو. اذ قام جيشه الأحمر عام 1934 برحلة شاقّة لأكثر من ستّة الاف ميل هربا من حصار القوّات القومية. وقد أصبحت المسيرة الطويلة رمزا لعزيمة وتصميم الحزب الشيوعي وعزّزت مكانة ماو كزعيم رئيسي.
    وهناك أيضا "حملة المائة زهرة" التي اُطلقت عام 1956، وقال ماو إن الغاية منها تشجيع المثقّفين والمواطنين على التعبير عن آرائهم علانيةً وانتقاد الحزب الشيوعي. ومع ذلك، فإن فترة الانفتاح النسبي تلك لم تدم طويلاً، حيث بدأ ماو لاحقا حركة مناهضة لليمين، وقمع أولئك الذين تحدّثوا علنا ضدّ الحزب، ما أدّى إلى انتشار الاضطهاد والرقابة على نطاق واسع.
    أيضا هناك ما عُرف بـ "القفزة الكبرى إلى الأمام"، وكانت إحدى سياسات ماو الأكثر طموحاً وإثارةً للجدل. وقد بدأت القفزة عام 1958 وكان الهدف منها تحويل الصين بسرعة إلى قوّة صناعية وزراعية من خلال المزارع الجماعية وأفران الصُلب.
    ومع ذلك، أدّت هذه السياسات إلى انتشار المجاعة وتدمير الاقتصاد، ما أدّى إلى وفاة الملايين من الناس. وكانت "القفزة العظيمة إلى الأمام"، التي شهدتها الصين في الفترة من 1958 إلى 1962، ذات عواقب كبيرة وطويلة المدى أثّرت بشكل عميق على المجتمع الصيني، وأدّت إلى معاناة إنسانية هائلة وانتكاسات اقتصادية وتداعيات سياسية. وقيل إنها تشكّل أحد أكثر الفصول ظلاماً في تاريخ الصين، ولا تزال آثارها تلقي بظلالها على البلاد حتى يومنا هذا.
    وأدّى فشل "القفزة" إلى فقدان مصداقية ماو تسي تونغ وسياساته. كما قوّضت الكارثة الاقتصادية والإنسانية موقفه داخل الحزب وأثارت انتقادات داخلية ضدّه. ونتج عن هذا في النهاية اشتداد الصراع على السلطة داخل الحزب وإطلاق الثورة الثقافية.
    بدأ ماو الثورة الثقافية عام 1966، وكانت فترة اضطرابات سياسية واجتماعية. وخلالها قام بتعبئة شباب الحرس الأحمر لتطهير العناصر "المعادية للثورة" والانخراط في النضال الأيديولوجي. وأدّت الحركة إلى انتشار العنف وتدمير التراث الثقافي وتعطيل التعليم والمؤسّسات.
    قصّة المانغو مع ماو ليست سوى قصّة ثانوية وربّما هامشية وسط عقد من التاريخ المؤلم المدفون. وحتى اليوم ظلّت مناقشة الثورة الثقافية بمثابة "التابو" في جميع أنحاء الصين.
    وعلى الرغم من أن بعض الحرس الأحمر السابقين حاولوا تحدّي هذه السياسة من خلال التفكير العلني والاعتذار عن أفعالهم، الا انهم ما زالوا يتجنّبون الإساءة إلى ماو تسي تونغ شخصيّا.
    ونظراً للمشهد السياسي الحالي في الصين، فإن الوقت وحده هو الذي سيحدّد متى سيناقَش هذا التاريخ بشكل مفتوح وحرّ.

    Credits
    ames.cam.ac.uk

    الجمعة، مارس 29، 2024

    خواطر في الأدب والفن


  • الشاعر الاسباني رافائيل البيرتي معظم أشعاره مستوحاة من الرسم. وقصائد أحد دواوينه تتضمّن إشارات عديدة إلى الرسّامين الذين كان قد رأى أعمالهم في متحف برادو في مدريد في صباه.
    وبالنسبة له، فإن الأصفر هو أكثر لون محمّل بالرموز. وهو يراه كرمز للسعادة، لكنه أيضا رمز للفقر والمرض والمعاناة والذبول. كما أن الأصفر يقترن عنده دائما بالخريف. وفي سياق حديثه عن هذا اللون، يشير إلى لوحة "المظلّة" لدي غويا كأفضل مثال لاستخدام اللون الأصفر.
    وفي العديد من قصائده، يتحدّث البيرتي عن الحورية الخضراء الصغيرة. ويرجّح انه استلهم هذه الصورة الشعرية من الحوريات اللاتي سبق أن رآهنّ في العديد من لوحات الرسّام الهولندي بيتر بول روبنز في مدريد.
    وفي قصيدة بعنوان "ليوناردو"، يتحدّث البيرتي حصرا عن اللون الأزرق، فيقرنه بدافنشي، لكنه أيضا يذكره مقرونا بآخرين مثل بوسان وفيلاسكيز وغويا. ويشير إلى أن مثله الأعلى في توظيف الأزرق هو بيكاسو.
    في حديثه عن الأزرق، يشير الشاعر إلى لوحة بيكاسو بعنوان "المأساة" باعتبارها النموذج الأكمل لاستخدام الأزرق في الفن. كما يذكر لوحة فرا انجيليكو "البشارة" ولوحة "مولد فينوس" لبوتيتشيللي باعتبارهما مثالين آخرين رائعين لاستخدام الألوان الزرقاء.
    يذكر البيرتي أيضا أن اللون الأرجواني يستثير لديه شعورا بالحزن والمعاناة. وهو يتحدّث عنه مقرونا بلوحات الرسّام الاسباني إل غريكو. أما الزهري الناعم فهو عنده رمز للحسّية، وهو يذكره عند الحديث عن أعمال الرسّام الفرنسي رينوار.

  • عندما قال ويليام فوكنر "الماضي لا يموت، إنه ليس حتى ماضيا"، كان يعبّر عن فكرة مفادها أن أحداث الماضي وتأثيراته تستمرّ في تشكيل الحاضر والمستقبل وتؤثّر عليهما. ويعكس هذا الاقتباس إيمان فوكنر بالأهميّة الدائمة للتاريخ والطرق التي يستمرّ بها صداه في العالم المعاصر.
    فهو يشير إلى أن الماضي ليس مجرّد مجموعة من الأحداث التي انتهت، بل هو قوّة مستمرّة في ممارسة تأثيرها على الحاضر. وهذا يجسّد فهم الكاتب العميق للعلاقة المعقّدة بين التاريخ والحاضر.
    كان فوكنر كاتبا أمريكيا معروفا برواياته وقصصه القصيرة التي تدور أحداثها في منطقة خيالية تدعى يوكناباتاوفا. وأحد مواضيعه المتكرّرة في رواياته هي فكرة أن الماضي ليس شيئا يمكن تجاهله أو نسيانه بسهولة.
    كان يعتقد أن الأحداث التاريخية والموروثات الثقافية والتجارب الشخصية لها تأثير عميق على الأفراد والمجتمعات حتى بعد فترة طويلة من وقوعها. والاقتباس يشير إلى أن الماضي ليس كيانا ثابتا وبعيدا، بل هو قوّة حيّة ودائمة الحضور ومستمرّة في تشكيل الحاضر وربّما المستقبل.
    وكثيرا ما استكشف فوكنر هذا المفهوم في أعماله من خلال الخوض في التواريخ المعقّدة لشخصيّاته وتفاعلاتهم مع القوى الاجتماعية والسياسية والثقافية في عصرهم. وقد درس مطوّلا الآثار المتبقيّة من زمن العبودية والحرب الأهلية والتحيّزات والانقسامات العميقة الجذور التي استمرّت في الجنوب الأمريكي. وكثيرا ما صوّرت كتاباته الطرق التي أثّر بها ثقل التاريخ على حياة شخصياته وعلى علاقاتهم البينية، ما أدّى في الغالب إلى دورات من العنف وصدامات وصراعات شخصية.
    ويمكن تفسير عبارة "الماضي لا يموت، إنه ليس حتى ماضيا" على أنها تذكير بأن المظالم التاريخية والصراعات التي لم تُحل والقضايا المجتمعية العميقة الغور لا تزال تتردّد أصداؤها في الوقت الحاضر. وفوكنر يرى أنه من أجل فهم ومعالجة التحدّيات المعاصرة، يجب على المرء أن يواجه ويصارع حمولة التاريخ المعقّدة. كما أن الكاتب من خلال هذا الاقتباس يشجّع الأفراد والمجتمعات على التعامل بشكل نقدي مع ماضيهم والاعتراف بتأثيره الدائم، وأن يعملوا من أجل مستقبل أكثر عدالة وإنصافا.


  • لعب مفهوم الروح دورا مهمّا في تشكيل الأفكار اليونانية القديمة حول الحياة الآخرة والغرض من الحياة والسلوك الأخلاقي. وكانت لديهم مجموعة متنوّعة من المعتقدات فيما يتعلّق بمفهوم النفس وخلودها. وقدّمت المدارس الفلسفية والدينية المختلفة داخل الثقافة اليونانية وجهات نظر متباينة حول طبيعة الروح ووجودها بعد الموت.
    يرى هوميروس في الإلياذة والأوديسّا، مثلا، أن الروح قوّة حياة أو مبدأ متحرّك يترك الجسد عند الموت وينحدر إلى عالم الجحيم. والروح عنده ليست خالدة بنفس معنى الآلهة.
    ووفقا للمعتقدات الأورفية المرتبط بالشخصية الأسطورية "أورفيوس" فإن الروح إلهية وخالدة بطبيعتها وتخضع لدورة التناسخ.
    ورأى فيثاغورس وأتباعه أن النفس خالدة وتخضع لسلسلة من التناسخات. وكان ينظر إلى الروح على أنها كيان متميّز ويمكن أن يوجد بشكل منفصل عن الجسد ويحتفظ بذكريات الحياة الماضية.
    أما أفلاطون فكان يؤمن برؤية ثنائية للروح ويرى بأنها خالدة وموجودة قبل الولادة في عالم من الأشكال الأبدية. والجسد برأيه يعتبر وعاءً مؤقّتا للروح، بينما الموت تحرير للنفس وعودة إلى طبيعتها الحقيقية.
    أما الرواقيون، مثل إبكتيتوس وماركوس أوريليوس وغيرهما، فقد نظروا إلى الروح كقوّة حيوية مرتبطة بالإله. لكنهم لم يؤكّدوا بالضرورة على خلودها. وكانوا يؤمنون بالعيش الفاضل وبضرورة قبول الموت كجزء طبيعي من الوجود.

  • Credits
    wordswithoutborders.org

    الثلاثاء، مارس 26، 2024

    الضيف الغريب


    بعد سنوات قليلة من ولادتي، التقى والدي شخصا غريبا وصل مؤخّرا إلى بلدتنا الصغيرة. ومنذ البداية، انبهر الوالد بتلك الشخصية الساحرة، ثم دعاه للعيش معنا في بيتنا. وقبل الغريب الدعوة، ومنذ ذلك الحين وهو يعيش معنا.
    وعندما كبرت قليلا، لم أسأل قطّ عن مكانه في عائلتنا. لكن بعقلي الصغير أدركت أن له مكانة خاصّة جدّا. كان والداي مربيّين فاضلين: أمّي علّمتني ما هو الخير وما هو الشرّ، وعلّمني والدي الطاعة. لكن الشخص الغريب كان راوياً بارعا للقصص. كان يُبقينا لساعات منبهرين بقصص المغامرات والألغاز والطرائف التي كان يسردها علينا.
    وكانت لديه دائما إجابات على كلّ شيء نريد معرفته في التاريخ أو العلوم أو السياسة وغيرها. وكان يعرف كلّ شيء من الماضي والحاضر ويمكنه حتى التنبّؤ بالمستقبل! وقد اصطحب عائلتنا الى أوّل مباراة كرة قدم نحضرها. وكان يجعلنا نضحك ثم لا يلبث أن يُبكينا.
    ولم يتوقّف الغريب عن الحديث وعرض الصور، لكن والديّ لم يكونا مهتمّين. في بعض الأحيان، كانت والدتي تستيقظ مبكّرا وبهدوء. وبينما كنّا نستمع إلى ما يقوله، كانت لوحدها تذهب إلى المطبخ لتنعم بالسلام والهدوء.
    كان والدي يدير منزلنا بقناعات أخلاقية معيّنة، لكن ذلك الضيف الغريب لم يشعر قطّ بأنه ملزم باحترامها. الشتائم والكلمات النابية، على سبيل المثال، لم يكن مسموحاً بدخولهما الى منزلنا لا من جانبنا ولا من أصدقائنا أو أيّ شخص يزورنا.
    ومع ذلك، فإن زائرنا الذي طالت مدّة اقامته في بيتنا كان أحيانا يستخدم وبسلاسة لغة غير لائقة. وكانت بعض ألفاظه تخدش أذني أحيانا وتجعل والدي يرتبك ويحمرّ وجه والدتي خجلا.
    لم يأذن لنا والدي أبدا بشرب الكحول. لكن الغريب كان يشجّعنا على تجربته وتناوله. وقد جعل السغائر والسيغار والغليون تبدو في أعيننا طيّبة وغير ضارّة. وكان يتحدّث بحرّية وربّما أكثر من اللازم عن الأمور الحميمة. وكانت تعليقاته في بعض الأحيان صارخة، وأحيانا موحية، وفي كثير من الأحيان مخزية!
    أعلم الآن أن مفاهيمي عن العلاقات الاجتماعية وعن العالم أيضا تأثّرت بشدّة خلال طفولتي ومراهقتي بسبب صحبتي لذلك الغريب. وقد تعرّض للانتقاد مرارا، لكنّه لم يهتم أبدا بقيم والدي وقناعاته، ورغم ذلك بقي في منزلنا.
    ومرّ أكثر من خمسين عاما منذ قدوم ذلك الغريب إلى عائلتنا. ومنذ ذلك الحين تغيّر كثيرا. لكنّه لم يعد رائعا كما كان في البداية. ولو دخلت اليوم إلى عرين والدي لوجدته، أي والدي، جالسا في زاويته ينتظر من يحدّثه أو يستمع إلى أحاديثه أو يخصّص بعضا من وقته لمرافقته وإخراجه من وحدته.
    والان ربّما تتساءل عن اسم ذلك الضيف الغريب. إنه التلفزيون! والآن صار له زوجة اسمها الحاسوب وابن اسمه لعبة الفيديو وآخر اسمه الجوّال وابنة اسمها انترنت. وكلّهم اخترقوا منزلنا وأكملوا تفكيك عائلتنا، وأصبح الجوّال في جيوبنا، ونحمل معه الإنترنت. وبسبب كلّ ذلك، أنا اليوم غريب وتائه ومشتّت الذهن بسبب الأهوال التي رأيتها.

    Credits
    rosarygraphics.com

    السبت، مارس 23، 2024

    لوحات ضائعة


    هناك العديد من اللوحات الفنّية التي فُقدت واختفت تماما لسبب أو لآخر، ما أدّى الى إثارة التكهّنات حول غيابها الغامض. وفقدان تلك اللوحات يمثّل فراغا كبيرا في السجّل التاريخي الفنّي وخسارة للتراث الثقافيّ للإنسانية.
    وما تزال تُبذل جهود حثيثة من قبل مؤرّخي الفنّ وجامعيه والمؤسّسات الفنّية العالمية لتحديد أماكن هذه الروائع المفقودة واستعادتها بسبب أهميّتها، ولأن إعادة اكتشافها لن يؤدّي فقط إلى إثراء فهمنا لتاريخ الفنّ بل سيعيد أيضا هذه الأعمال التي لا تُقدّر بثمن إلى دائرة الاهتمام والتقدير العام.
  • ومن بين اهمّ تلك اللوحات الضائعة معركة أنغياري The Battle of Anghiari لليوناردو دا فينشي. وقد رسم الفنّان هذه الجدارية لتزيّن قصر فيكيو في فلورنسا بإيطاليا. وانتظر الناس انجاز اللوحة بفارغ الصبر ليحظوا برؤية تقنيات ليوناردو المبتكرة فيها، مثل استخدامه للضوء وتركيزه على التقاط الحركة الديناميكية وغير ذلك.
    لكن لسوء الحظّ لم تكتمل الجدارية أبدا وما يزال المكان الذي كان مقرّرا ان توضع فيه في القصر الإيطالي فارغا. وبعض مؤرّخي الفنّ يعتقدون بأنها قد تكون مخبّأة تحت أكداس من اللوحات الأخرى في احدى قاعات القصر الواسعة.
  • وهناك أيضا لوحة الحفلة الموسيقية The Concert لفيرمير. وقد رسم الفنّان الهولنديّ هذه التحفة في حوالي منتصف القرن السابع عشر، وتُصوّر مجموعة من الموسيقيين في غرفة أو صالة في بيت.
    وقد سُرقت اللوحة عام 1990 من متحف إيزابيلا ستيوارت غاردنر في بوسطن بالولايات المتحدة، بالإضافة إلى عديد من الأعمال الفنّية الأخرى القيّمة من بينها لوحة رمبراندت المشهورة عاصفة على بحر الجليل The Storm on the Sea of Galilee. وعلى الرغم من التحقيقات التي جرت والمكافآت التي بُذلت لاستعادتها، إلا أن هذه اللوحات ما تزال مفقودة ومكان وجودها ما يزال لغزا الى اليوم.
  • وهناك أيضا لوحة أزهار الخشخاش Poppy Flowers لفنسنت فان جوخ التي سُرقت من متحف محمّد محمود خليل في القاهرة بمصر عام 2010. ولم تُستردّ هذه اللوحة أبدا. وتُقدّر قيمتها بملايين الدولارات ويُعتقد أن سرقتها كانت جزءا من عملية أوسع استهدفت عددا أكبر من الأعمال الفنّية.
  • وهناك أيضا بورتريه أديل بلوك باور Portrait of Adele Bloch-Bauer لغوستاف كليمت. رسم الفنّان النمساوي هذه اللوحة الأيقونية عام 1907 واكتسبت شهرة عالمية بسبب أنماط أوراق الذهب المعقّدة والألوان الغامضة فيها. وخلال الحرب العالمية الثانية صادر النازيّون اللوحة وأصبحت موضوعا لمعركة استرداد طويلة. وفي النهاية أعيدت إلى ورثة المرأة ثم بيعت إلى أحد هواة جمع التحف الفنّية عام 2006.
  • أيضا هناك لوحة حمامة مع بازلاء خضراء Le Pigeon aux Petits Pois لبابلو بيكاسو. وقد رسم بيكاسو هذه التحفة الفنّية التكعيبية عام 1911. لكن في عام 2010 سُرقت اللوحة ليلا مع لوحات أخرى من متحف الفنّ الحديث في باريس على يد لصّ ملثّم تسلّل الى المتحف بعد أن أزال الزجاج من النافذة، بينما كان جهاز استشعار الحركة والإنذار معطّلين. ولم تُكتشف السرقة إلا في صباح اليوم التالي. وقد تتبّعت الشرطة الجاني وتبيّن انه صاحب سجلّ إجرامي حافل.
    وزعم انه ألقى باللوحة وبأعمال أخرى لماتيس وليجيه ومودلياني في الزبالة. وحُكم عليه بالسجن ثمان سنوات، وأُمر هو وشركاؤه بدفع غرامة مالية قدرها 104 ملايين يورو. وعلى الرغم من التحقيقات المكثّفة، لم تستردّ لوحة بيكاسو حتى اليوم.
  • وأخيرا بورتريه لشابّ Portrait of a Young Man لرافائيل. ويُعتقد أن هذا البورتريه هو صورة للفنّان الإيطالي نفسه. وقد اختفى منذ الحرب العالمية الثانية. وكان جزءا من مجموعة متحف تشارتوريسكي في كراكوف ببولندا. لكن نهبه النازيون أثناء الاحتلال ولا يزال مكان وجوده مجهولاً الى اليوم.
    في فيلم "رجال الآثار" من بطولة الممثّل جورج كلوني من عام 2014، تظهر اللوحة بشكل بارز في مخبأ كبير للأعمال الفنّية المسروقة والمخزّنة في كهف أو منجم مجهول وقد أشعلت فيها القوّات الألمانية النار.


  • Credits
    suite101.com

    الأربعاء، مارس 20، 2024

    أعشاب الأوديسّا


    أوديسّا هوميروس هي أحد أقدم أعمال الأدب الغربيّ، وتروي مغامرات البطل الاغريقي أوديسيوس خلال رحلته التي استغرقت عشر سنوات عائدا الى أرض الوطن من حرب طروادة.
    وعلى الرغم من أن بعض أجزاء الملحمة قد تكون مبنية على أحداث حقيقية، الا ان المواجهات مع الوحوش الغريبة والعمالقة المرعبين والسحرة الأقوياء تُعتبر من قبيل الخيال الجامح.
    ولكن هل يمكن أن يكون في هذه الأساطير أكثر ممّا يبدو للعين للوهلة الأولى؟
    دعونا نلقِ نظرة على قصّة مشهورة من هذه القصيدة الملحمية.
    أثناء رحلتهم الطويلة، يجد أوديسيوس وطاقمه من البحّارة أنفسهم في جزيرة "إيا" الغامضة. وبينما هم يتضوّرون من الجوع والارهاق، يعثر بعض الرجال على منزل فخم، حيث ترحّب بهم امرأة مذهلة وتدعوهم لتناول وليمة فاخرة في بيتها.
    وبطبيعة الحال، تبيّن أن كلّ هذا جيّد لدرجة أنه من الصعب تصديقه. فالمرأة، في الواقع، ليست سوى الساحرة الشرّيرة سيرسي. وبمجرّد أن يأكل الجنود حتى الشبع على مائدتها، تقوم بتحويلهم جميعا إلى حيوانات بهزّة واحدة من عصاها.
    ومن حسن الحظّ أن أحد الرجال تمكّن من الهرب، ليجد أوديسيوس ويخبره بمحنة بحّارته. لكن بينما يندفع أوديسيوس لإنقاذ رجاله، يلتقي بالإله الرسول هرمِس، الذي ينصحه أوّلاً بتناول عشبة سحرية، فينفّذ أوديسيوس هذه النصيحة. وعندما يواجه سيرسي أخيرا، لا يعود لتعاويذها أيّ تأثير عليه، وتسمح له بأن يهزمها وينقذ بحّارته.
    بطبيعة الحال، قصّة السحر هذه والتحوّلات الحيوانية المرافقة لها نُفيت لعدّة قرون واعتُبرت محض خيال. لكن في السنوات الأخيرة، تواترت الاخبار عن أعشاب وأدوية أثارت اهتمام العلماء، ما دفع البعض إلى الظنّ بأنه ربّما كانت الأساطير عبارة عن تعبيرات خيالية عن تجارب حقيقية.
    النسخ الأقدم من نصّ هوميروس تفترض أن سيرسي خلطت أدوية ضارّة في الطعام بحيث أن البحّارة بعد أن تناولوها قد يكونون نسوا تماما موطنهم الأصلي.
    وتَصادفَ أن أحد النباتات التي تنمو في منطقة البحر المتوسّط هي عشبة بريئة تُعرف باسم عشبة جيمسون، والتي تشمل آثارها فقدان الذاكرة الواضح. والعشبة مليئة بالمركّبات التي تعطّل الناقل العصبيّ الحيوي المسمّى أسيتيلكولين.
    ومثل هذا الاضطراب يمكن أن يسبّب هلوسة وسلوكيات غريبة وصعوبة عامّة في التمييز بين الخيال والواقع، أي الأعراض التي قد تدفع متعاطييها إلى الاعتقاد أنهم تحوّلوا إلى حيوانات، وهو أيضا ما يوحي بأن سيرسي لم تكن ساحرة، بل كيميائية تعرف كيفية استخدام النباتات المحليّة لتحقيق تأثير كبير.
    لكن عشبة جيمسون ليست سوى نصف القصّة. وعلى عكس الكثير من التفاصيل الواردة في الأوديسّا، فإن النصّ الخاص بالعشبة التي قدّمها هيرمس لأوديسيوس مفصّل ومحدّد بشكل غير عاديّ. إذ يورد ذلك النصّ أنه يمكن العثور عليها في وادٍ في غابة، وأن جذرها اسود وزهرتها بيضاء مثل الحليب. لكن ولقرون عديدة تمّ نفي وجود مثل هذه النبتة.
    غير أنه في عام 1951، اكتشف عالم صيدلة روسي يُدعى ميخائيل ماشكوفسكي أن القرويين في جبال الأورال استخدموا نباتا ذا زهرة بيضاء حليبية وجذر أسود لمعالجة الأطفال المصابين بالشلل.
    وتبيّن ان النبات، المسمّى قطرة الثلج، يحتوي على مركب يسمى الغالانتامين، وهو يمنع تعطيل الناقل العصبي أسيتيلكولين، ما يجعله فعّالا في علاج، ليس فقط شلل الأطفال، ولكن أمراض أخرى مثل مرض الزهايمر.
    في المؤتمر العالمي الثاني عشر لطبّ الأعصاب، أشار طبيبان لأوّل مرّة أن زهرة قطرة الثلج كانت في الواقع النبات الذي أعطاه هيرمس لأوديسيوس. وعلى الرغم من عدم وجود أدلّة مباشرة على أن الناس في زمن هوميروس يمكن ان يكونوا قد عرفوا عن آثاره المضادّة للهلوسة، الا ان هناك مقطعا لكاتب القرن الرابع اليوناني ثيوفراستوس يذكر فيه أن هذه النبتة كانت تُستخدم كترياق مضادّ للسموم.
    فهل هذا يعني أن أوديسيوس وسيرسي وشخصيّات أخرى في الأوديسّا كانوا حقيقيين؟ الجواب: ليس بالضرورة. لكن هذا يشير إلى أن القصص القديمة قد تحتوي على المزيد من الحقائق وبأكثر ممّا كنّا نعتقد سابقا. وكلّما تعلّمنا المزيد عن العالم من حولنا، قد نكتشف بعضا من هذه المعارف مخبّأة داخل أساطير وخرافات العصور الخوالي.

    Credits
    cambridge.org

    الأحد، مارس 17، 2024

    كولومبوس في الأرض الغريبة


    في 11 أكتوبر 1492، كان كولومبوس وبحّارته مع سفنهم الثلاث يقتربون من جزر البهاما عندما رأوا عن بعد أرضا غريبة. ويقال إن اوّل من رآها كان بحّارا يُدعى رودريغو دي تريانا.
    وقيل أيضا أن كولومبوس رأى في تلك الليلة شيئا يشبه ضوء شمعة تضيء وتخبو. ويبدو أن ذلك كان مؤشّرا على وجود أرض قريبة. وكان على كولومبوس أن يتأكّد من ذلك، فطلب من رجاله أن يتهيّئوا للمفاجأة عارضاً مكافأة لأوّل بحّار يكتشف الأرض. وأمر السفن بالتوقّف والانتظار ريثما يظهر ضوء النهار.
    وفي اليوم التالي تأكّدوا أنهم هبطوا في مكان ما من جزر البهاما. وبعد أن وصلوا رأوا أشجارا شديدة الخضرة وفواكه مختلفة الأشكال والأنواع.
    أما كولومبوس فقد جثا على ركبتيه شكراً لله على أن وصلوا الى تلك الأرض بأمان. ثم غرس فيها علَماً إسبانيّا، بينما كان افراد من شعب التاينو، أي السكّان الأصليين لمنطقة الكاريبي الذين عاشوا هناك لأكثر من ألف عام، يراقبون ما يحدث من وراء الأشجار الكثيفة.
    وفي اليوم التالي تجمّع السكّان الأصليون على الشاطئ وقدّموا للإسبان الطعام والشراب والقطن وسلعا أخرى كهدايا، بينما قدّم لهم الإسبان هدايا من القبّعات الحمراء والخرز الملوّن.
    وحتى ذلك الوقت لم يسبق لشعب التاينو أن رأوا رجالا ذوي بشرة بيضاء، فظنّوا أنهم آلهة! وأمضى كولومبوس الشهرين التاليين باحثا هو ورجاله عن الذهب. وقد كتب كولومبوس الى ملك اسبانيا يقول واصفاً الطريقة التي عاملهم بها شعب التاينو:
    لقد تاجروا معنا وأعطونا كلّ ما لديهم بحسن نيّة. كانوا مهتمّين كثيرا بإرضائنا. إنهم لطفاء للغاية ولا يعرفون الشرّ. كما أنهم لا يقتلون أو يسرقون. وربّما يعتقد صاحب الجلالة أنه لا يمكن أن يوجد شعب أفضل منهم في العالم كلّه. وهم يحبّون جيرانهم كما يحبّون أنفسهم."
    وقد أطلق كولومبوس على التاينو إسم "الهنود"، وهي إشارة توسّعت لتشمل جميع الشعوب الأصلية في نصف الكرة الغربي.
    في ديسمبر من عام 1492، وبينما كان كولومبوس ورجاله يبحرون شرقي كوبا، اقتربت سفنهم من ثاني أكبر جزيرة في البحر الكاريبي، وقد أسموها "لاسبانيولا" تيمّنا بإسبانيا.
    وعندما كان كولومبوس على وشك العودة إلى إسبانيا بعد انتهاء رحلته الاولى، جنحت سفينته "سانتا ماريّا" عن مسارها ثم غرقت. وطلب زعيم التاينو من شعبه مساعدة الإسبان واسترداد كلّ شيء قابل للإنقاذ.
    ثم نشأت مشكلة عندما تبيّن ان السفينتين الأخريين لن تتّسعا لجميع البحّارة الاسبان الذين رافقوا كولومبوس. لذا بُني حصن باستخدام الخشب الذي استُنقذ من السفينة الجانحة. وترك كولومبوس 39 من رجاله في ذلك الحصن الذي اسماه "نافيداد" وطلب منهم أن يبقوا هناك الى أن يعود وباقي البحّارة من اسبانيا.
    وقد أخذ كولومبوس معه إلى اسبانيا بعض السكّان الأصليين وأطعمة ونباتات وطيوراً كي يراها الملك والملكة. ومن اجل أن يبدأ رحلته الثانية، أُعطي أسطولا من سبع عشرة سفينة وبعض الجند. وعند وصولهم إلى حصن "نافيداد"، وجدوا الحصن محترقا وجميع الرجال الـ 39 الذين تركوهم هناك مقتولين.
    ويبدو أن البحّارة الذين تُركوا في الحصن أساؤوا التصرّف فاغتصبوا بعض نساء التاينو وسرقوا كلّ ما وقعت عليه عيونهم من متعلّقاتهم وأشيائهم. وكان أحد زعماء القبيلة قد تدارس الموقف مع زعماء آخرين، ثم اتفقوا على أن الآلهة ما كانت لترضى أبدا عن الطريقة التي تصرّف بها الإسبان. وقرّروا أن على الإسبان أن يدفعوا ثمن فعلتهم، فقضوا عليهم جميعا لقطع شرّهم وعلى اعتبار أنهم صاروا يمثّلون تهديدا لشعبهم.


    وعندما رأى كولومبوس ما حدث لرجاله، تعهّد بالبحث عن زعيم القبيلة والانتقام منه جزاء ما فعل. ثم اقام أماكن أكثر تحصينا. وفي يناير عام 1493، أسّس مدينة أسماها "ليزابيلا" تيمّنا باسم ملكة اسبانيا.
    وبعد ذلك قُبض على عدد من افراد شعب التاينو وأخذوا كعبيد، بينما اُجبر بعضهم على العمل في مناجم الذهب. وكلّ من رفض قُتل. أما الافراد الأصغر سنّا فقد طُلب منهم دفع جزية من الذهب كلّ ثلاثة أشهر. وكلّ من يفشل في الوفاء بذلك الشرط تُقطع ذراعه ويُترك لينزف حتى الموت.
    أما نساء القبيلة فقد وُهبوا للإسبان ليفعلوا بهنّ ما شاءوا. ونتيجة لذلك أصبحت الحقول لا تجد من يهتمّ بها ولم تعد تنتج ما يكفي من الغذاء للتاينو وللاسبان. وصار الجميع يعانون من الجوع ونفاد الامدادات. ثم لم يلبث كولومبوس أن قبض، عن طريق الخدعة، على أحد زعماء القبيلة الهاربين فوُضع على متن سفينة وأُرسل إلى إسبانيا ولم يُسمع عنه شيء بعد ذلك.
    العديد من أفراد شعب التاينو كانوا يتضوّرون جوعا حتى الموت، بينما مات آخرون من الأشغال الشاقّة، وأقدم الكثيرون منهم على الانتحار. وبعد عام 1496، انخفض عددهم بنحو 70%، ثم اجتاحت الأوبئة الجزيرة وتعرّض بقيّة التاينو للضرب والتعذيب والاغتصاب والاستعباد والقتل. وقد ألهمت هذه الممارسات القاسية العديد من الثورات التي قاموا بها ضدّ الإسبان، وكان بعضها ناجحا والبعض الآخر لم يُكتب لها النجاح.
    وبعد عام 1496، أقدم بعض الإسبان على التمرّد، هذه المرّة ضدّ كولومبوس وإخوته. ولم يلبث ملك وملكة اسبانيا أن أرسلا محقّقا ملكيّا لتهدئة الأمر. وقد أُدين كولومبوس وإخوته بارتكاب العديد من الجرائم ضدّ السكّان الأصليين وبعض الإسبان. وقُبض عليه وعلى إخوته ووُضعوا على متن سفينة أخذتهم إلى إسبانيا.
    وفيما بعد سمحت له السلطات الاسبانية برحلة أخرى عبر المحيط. لكنه مُنع من زيارة لاسبانيولا. واستمرّ في استكشاف منطقة الكاريبي لمدّة عامين قبل أن يعود إلى إسبانيا للمرّة الأخيرة حيث توفّي.
    أما بالنسبة لأفراد شعب التاينو الذين رفضوا العمل لدى الإسبان فقد فرّوا إلى التلال وحكموا في منطقة جبلية وأمّروا عليهم امرأة تُدعى "أناكاونا" أو الزهرة الذهبية.
    كانت "أناكاونا" زوجة الزعيم الذي قاد الهجوم على الحصن الاسباني قبل ذلك بسنوات. وقد طلب الحاكم الإسباني نيكولاس دي أوفاندو لقاءً معها من أجل كسر شوكة المقاومة، فوافقت بحسن نيّة. وخلال الاجتماع الذي حضره ثمانون من زعماء التاينو القبليين، دبّر الاسبان مكيدة إذ أحرقوا المكان كلّه وأُحرق كلّ من حضره من التاينو وهم أحياء.
    ثم اعتقل الاسبان زعيمتهم واتُّهموها بالتآمر على اسبانيا ومقاومة الاحتلال وحُكم عليها بالإعدام. لكن الإسبان عرضوا عليها العفو إن هي وافقت على أن تمنح نفسها لإسباني. وقد اختارت المرأة الإعدام وفضّلته على خيانة وطنها، فأُعدمت شنقاً عن عمر يناهز التاسعة والعشرين، ولم تلبث ان تحوّلت إلى اسطورة.
    وكان زعيم آخر من زعماء التاينو حاكما على منطقة أخرى، وقد قاوم الإسبان فترة من الزمن الى أن عانى من نفس مصير "أناكاونا". وأسّس عدد آخر من التاينو مجتمعا في الجبال وبدءوا وأتباعهم من هناك حرب عصابات ضدّ الاسبان استمرّت حتى عام 1533. ولمّا لم يتمكّن الإسبان من السيطرة على التمرّد، وقّع ملك إسبانيا شارل الخامس على معاهدة تمنح من بقوا على قيد الحياة من التاينو حقوق الحرّية والتملّك.
    لكن بحلول ذلك الوقت، كان عددهم يتناقص بسرعة بسبب الأمراض والاوبئة الأوروبّية. وفي نهاية ذلك القرن أُعلن رسميّا عن انقراض شعب التاينو. لكن بقيت قصص بطولاته ومقاومته للاحتلال الاسباني يتردّد صداها عبر أجيال عديدة من شعوب الكاريبي.

    Credits
    history.com

    الثلاثاء، مارس 12، 2024

    المحارب والتنّين


    كلّ عام وأنتم بخير. ورمضان كريم.
    في فيلم "فارس الظلام The Dark Knight" يرد هذا الاقتباس: إما أن تموت بطلاً أو تعيش طويلاً بما يكفي لترى نفسك وقد أصبحت الشرّير". وهذا الكلام ربّما يعكس فكرة مؤدّاها أن السلطة والنفوذ يمكن أن يغيّرا الشخص بمرور الوقت الى أن ينتهي به الأمر في أسفل طريق مظلم. وكثيرا ما يُستخدم هذا المفهوم لاستكشاف تعقيدات الأخلاق وعواقب أفعال وتصرّفات الفرد.
    وهناك مثال على هذا وهو حادثة غرق السفينة الشهيرة تايتانك الذي أودى بحياة الآلاف في ذلك اليوم المشؤوم. وكانت شجاعة المهندسين والقبطان والأمن وغيرهم ممّن كانوا في السفينة مضرب المثل لأنهم ضحّوا بحياتهم وتركوا النساء والأطفال يأخذون قوارب النجاة.
    وكان على متن تلك السفينة أيضا بروس إيزماي، صاحب شركة "وايت ستار لاين" التي صنعت التايتانك. وتردّدت شائعات عن هروبه من السفينة متنكّراً في ملابس امرأة. لكنه في الواقع لم يهرب ولم يتنكّر بزيّ امرأة ابدا، لكنه غادر السفينة في قارب النجاة الأخير. ومع هذا وُصف في جميع أنحاء العالم على أنه جبان القرن العشرين!
    ويقول عدد قليل من شهود العيان انه بقي في السفينة ورافق النساء والأطفال إلى قوارب النجاة ثم غادر في آخر قارب للنجاة خوفا على حياته. وربّما لو بقي في التايتانك وضحّى بنفسه لدخل التاريخ كبطل. لكنه لم يفعل. والآن يتذكّره الناس فقط على أنه جبان وهارب وشرّير. لذا "إمّا أن تموت بطلاً أو تعيش طويلاً بما يكفي لترى نفسك وقد أصبحت الشرّير!"
    وبما أن الشيء بالشيء يُذكر، يُحكى أن تنّينا كان يُرهب احدى القرى لسنوات. كان يأتي ليلاً ويُحدث فوضى ثم يطير مبتعدا بعد أن يأخذ معه فتاة صغيرة في كلّ مرّة. ثم أتى محارب شجاع وعرض على أهل القرية أن يذهب لقتل التنّين في مخبأه وإعادة الفتيات الصغيرات.
    ويغامر المحارب الشجاع بالذهاب إلى البريّة للعثور على التنّين، ليكتشف وجود عدد لا يُحصى من التنانين هناك. لكنه أصبح ماهرا في قتالها بسبب اتباعه أساليب وحشية ومدمّرة. وكان يطوّر أساليبه ويتعلّم كيف يصبح شرّيرا حتى يتمكّن من البقاء على قيد الحياة ويستمرّ في مهمّته.
    وأخيرًا، يتوصّل الفارس إلى مخبأ التنّين ويدمّره في معركة ملحمية ودموية خلّفت على جسده ندوبا كثيرة. ويعيد المحارب الشجاع الفتيات الصغيرات إلى القرية ويعيّن على الفور سلطانا ويمجدّه الشعب.
    ثم يقوم ببناء جدار حول القرية لمنع التنانين من دخولها، ويضع جميع الفتيات الصغيرات في برج حراسة حيث يمكن حمايتهنّ من هجمات تلك الوحوش. ويأمر بفرض حظر تجوّل وينشر الحرّاس ليتأكّدوا من عدم تجاوز الناس للجدران الآمنة أو الخروج ليلاً لئلا يفتك بهم تنّين.
    ولم يمضِ وقت طويل حتى شعر القرويون بأنهم في سجن وبدءوا في التعبير عن امتعاضهم. وهنا يذكّرهم المحارب الشجاع بالفظائع التي سبّبها لهم التنّين وكيف أن هذه الإجراءات الاحترازية هي من أجل سلامتهم.
    لكن القرويين يستاؤون أكثر فأكثر من المحارب ويتمرّدون على ما يجري. غير أن المحارب الخبير يعبّر لهم مرّة أخرى عن أسفه ويبلغهم أنه يتصرّف فقط لمصلحتهم. بالنسبة لهم كان المحارب قد تحوّل من بطل منقذ الى طاغية شرّير!
    وفي نهاية المطاف، يظهر محارب شابّ شجاع من داخل البلدة المسوّرة ويذهب لمقاتلة السلطان المستبدّ قاتل التنّين، فيهزمه ويخرج منتصرا ومصابا بالندوب. لكنّه يقرّر أن يضع قواعد لفرضها على أهل البلدة لكي يتجنّبوا أخطاء الماضي.
    إنه الموت والولادة المتكرّرة بلا نهاية التي يمرّ بها أيّ مجتمع، يُهزم الأعداء القدامى ويظهر أعداء جدد. والمحاربون الشجعان الذين يموتون أبطالا أثناء القتال ينجون من المستقبل المؤلم الذي يصبحون فيه أشرارا.


    Credits
    shmoop.com

    الأربعاء، مارس 06، 2024

    قصّة البايسون


    حدث هذا في عام 1861. كان "الدبّ المنفرد" يقود "ريشة النسر" في أوّل عملية صيد للأخير على الإطلاق. وتوقّف الأوّل قليلا ليخبر الثاني بالقواعد: بمجرّد أن ترى قطيع البايسون "أو الجاموس"، يجب أن تنتظر حتى يشير لك شخص أكبر منك سنّا. وعندما يحين الوقت، لا تقتل إلا ما يستطيع حصانك حمله".
    كان "الدبّ المنفرد" و"ريشة النسر" ينتميان الى عشيرة الكيوا التي كانت واحدة من عدّة قبائل من سكّان أمريكا الأصليين الذين عاشوا في السهول الكبرى.
    بحلول منتصف القرن الثامن عشر الميلادي، كانت العديد من قبائل السهول تستخدم الخيول لاصطياد البايسون المتوفّر بكثرة في تلك المنطقة. وكان الهنود يعيشون على لحم هذا الحيوان الذي يُعتبر أكبر الثدييات البرّية في أمريكا الشمالية. كانوا يحوّلون مخابئه الصيفية إلى مساكن وجلوده الى معاطف وأغطية تحميهم من برد الشتاء. كما استخدموا عظامه وقرونه كأدوات وأوتاره كخيوط.
    لكن في العقود التالية، سيُذبح الملايين من البايسون وبالتالي سيُهدّد بقاء مجتمعات السهول وثقافتها بشكل متعمّد.
    فبعد الحرب الأهلية الأمريكية، بدأ آلاف المستوطنين الأوربّيين باحتلال السهول، وحرصوا على استغلال مواردها الطبيعية. وخلال ستّينيات القرن التاسع عشر، تصدّت أمم السهول للجيش الأمريكي. وعبّر قائد يُدعى ويليام شيرمان عن استيائه من هزائم الجيش. وكانت تكتيكاته العسكرية القاسية قد ساعدت قبل ذلك في إنهاء الحرب الأهلية الأمريكية.
    وفي عام 1869، عُيّن هذا العسكريّ قائداً عامّاً للجيش الأمريكي. والآن، أصبح تركيزه منصبّا على ما أسماه "المشكلة الهندية". كان مسؤولو الحكومة الأمريكية مصمّمين على إجبار السكّان الأصليين على الرحيل إلى مناطق محدّدة أطلقوا عليها اسم "المحميّات". وبهذه الطريقة يمكنهم السيطرة عليهم بينما يستفيد المستوطنون والشركات من أراضيهم.
    وتعهّد شيرمان بالبقاء خارج مناطق الغرب "الى أن يُقتل الهنود جميعا أو يُنقلوا إلى بلد يمكن مراقبتهم فيه" كما قال.
    وفي الوقت نفسه، طلب تزويده بجلود من النوع الذي يُستخدم في صناعة الأحزمة. ولتلبية الطلب، قام الصيّادون الأمريكيون المسلّحون بالبنادق بقتل قطعان البايسون في جميع أنحاء السهول.
    وأدرك شيرمان ومسؤولون عسكريّون آخرون أنهم يستطيعون تحقيق هدفهم دون أن يخسروا شيئا، من خلال السماح لهذا النوع من النشاط بالعمل دون رادع. وكانت فكرتهم أنه إذا استنزف الصيّادون البايسون، فإن السكّان الأصليين في السهول الذين يعتمدون عليه في غذائهم سيواجهون المجاعة الى أن يخضعوا ويستسلموا.
    وقال عقيد أمريكي لملازم بريطاني زائر: اقتل كلّ جاموس يمكنك قتله، فكلّ جاموس ميّت هو هنديّ مهاجر". ورفض الجيش الأمريكي تطبيق المعاهدات التي تحظر دخول الصيّادين الى أراضي القبائل الهندية، بل إنه في بعض الأحيان وفّر للصيّادين الحماية والذخيرة.
    كان العديد من صائدي الجلود يقتلون 50 بايسون يوميّا. وخلال شهرين من عام 1876، قتل صيّاد واحد ستّة آلاف رأس، وأدّى إطلاقه النار باستمرار من بندقيّته إلى إصابته بالصمم في إحدى أذنيه. وكانت بعض الحيوانات التي تُطلق عليها النار تتحامل على نفسها وتهرب بتثاقل الى أن تموت بعيدا.
    وفي العادة كان الصيّادون يأخذون جلود البايسون وألسنتها فقط ويتركون اللحم ليتعفّن.
    وبعض الجزّارين من عديمي الخبرة كانوا يُتلفون الجلود أثناء سلخها. وكانت جثث البايسون المتبقيّة تُمزّق إربا من قبل حيوانات أخرى. ولهذا السبب بدأ الصيّادون في مزج لحم البايسون بالسمّ حتى يتمكّنوا أيضا من قتل الذئاب التي تأتي لتتغذّى على لحمها ومن ثم يأخذون جلودها هي أيضا.
    واحتجّ السكّان الأصليون على تلك الممارسات، وحاولت الجماعات المدافعة عن حقوق الإنسان والحيوان التدخّل بعد أن لاحظت انخفاض أعداد البايسون. وفي عام 1874 صادق الكونغرس على تشريع يجعل صيد البايسون غير قانوني في الأراضي الفيدرالية. لكن الرئيس الأمريكي وقتها استخدم حقّ النقض لتعطيله.
    وفي النهاية، نجحت الإستراتيجية الدنيئة، إذ واجهت العديد من قبائل السهول المجاعة وأُجبرت على اللجوء إلى المحميّات.
    وبحلول عام 1900، كان يوجد أقلّ من ألف رأس فقط من البايسون، مقارنة بعشرات الملايين منه في السهول الكبرى قبل ذلك بمائة عام. واستشعارا للخطر أنشأ بعض المواطنين الأمريكيين الأثرياء محميّات خاصّة للبايسون، ما ساعد في إنقاذه. وكانت تلك المحميّات بمثابة مناطق جذب سياحي.
    واعتبارا من عام 2021، ارتفع عدد البايسون إلى حوالي نصف مليون رأس. وتعيش الغالبية العظمى منها في مزارع خاصّة. وفي السنوات الأخيرة، أعادت قبائل السهول إدخال حوالي عشرين ألفا منها إلى أراضيها. وكان الهدف شفاء هذه الحيوانات المسكينة واستعادة العلاقة القديمة بينها وبين الانسان التي تدمّرت بعد الهجوم عليها بشكل صارخ أثناء تلك المذبحة المروّعة.


    Credits
    nature.org

    الأربعاء، فبراير 28، 2024

    أدب السهوب


    في اتّساع السهوب، حيث تهمس الرياح بالألحان القديمة، تتجوّل روح البدو في آسيا الوسطى بحرّية.
    *عبد الله قهور، أديب أوزبكي

    تُعتبر الطبيعة من المواضيع المتكرّرة في أدب وشعر آسيا الوسطى، وهي فكرة تعكس العلاقة العميقة بين طبيعة المنطقة ومشاعر شعوبها.
    وآسيا الوسطى بلاد متنوّعة التضاريس. فهي موطن لسلاسل الجبال المهيبة مثل تيان شان والبامير وألاي. وغالبا ما يصوّر الأدب هناك الجبال كمصدر للإلهام الروحي وتذكير بعدم ثبات الحياة. ويثير الجمال الوعر للجبال شعوراً بالحنين والصفاء والشوق.
    وتتمتّع آسيا الوسطى بتاريخ بدويّ غني، وكثيرا ما تصوّر الأعمال الأدبية نمط الحياة البدويّ بحبّ وحنين. ويثير اتساع الطبيعة والاعتماد على إيقاعاتها إحساسا بالبساطة والحريّة والشوق إلى عصر مضى.
    وكتّاب آسيا الوسطى يستكشفون في أعمالهم الفصول المتغيّرة وطبيعة الحياة العابرة. ويحتفلون بجمال أزهار الربيع ودفء الصيف وكآبة الخريف وقسوة الشتاء. وتعمل هذه الدورات الموسمية بمثابة استعارات لمرور الوقت وعدم ثبات الوجود الإنساني.
    كما يتعمّق أدب تلك البلاد في التأمّل الروحي المستوحى من التصوّف الإسلامي والمعتقدات التقليدية. ويستكشف الشعراء والكتّاب الرحلة الداخلية ويسعون إلى التنوير الروحي ويجدون العزاء في جمال الطبيعة وفي قوّتها المتسامية.
    لكن أكثر ما يميّز أدب آسيا الوسطى عموما هو الحضور القويّ لفكرة السهوب بمراعيها الواسعة وآفاقها التي لا نهاية لها، فتُصوّر على أنها رمز للحريّة والجمال. والكتّاب يعبّرون عن ارتباطهم العميق بالسهوب وإحساس الرهبة الذي تلهمه، مستحضرين ضخامتها واتساعها وجمال أراضيها العشبية الشاسعة وأهميّتها من الناحية الثقافية.
    وغالبا ما تُصوّر السهوب على أنها رمز للحريّة والفضاء المفتوح. كما تثير إحساسا بالتحرّر والهروب من قيود الحياة المستقرّة. ويصوّر الكتّاب السهوب كمكان يمكن للمرء أن يتجوّل فيه بحريّة وينغمس في بساطة الطبيعة دون أن تثقل كاهله الأعراف المجتمعية أو نحوها من القيود.
    وكثيرا ما يؤكّد أدب آسيا الوسطى على الارتباط العميق بين البدو والعالم الطبيعي في السهوب. ويصف الكتّاب التعايش المتناغم بين البشر والحيوانات والبيئة، وتصبح السهوب مصدرا للإلهام بالإضافة الى أنها توفّر العزاء وتنمّي رابطا روحيّة عميقة.
    وترتبط السهوب ارتباطا وثيقا بأسلوب الحياة البدويّ لقبائل آسيا الوسطى وتقاليدهم. ويجسّد الأدب حياة البدو كعلاقة تكافلية مع السهوب، حيث يتحرّك الناس مع قطعانهم متتبّعين إيقاع الطبيعة. كما يستكشف التحدّيات والأفراح والأحزان ومرونة الوجود البدويّ.
    وغالبا ما يستخدم كتاب آسيا الوسطى صورا حيّة لالتقاط عظمة السهوب وجمالها المذهل، فيصفون الآفاق الشاسعة والمراعي التي لا نهاية لها والبحيرات المتلألئة والسموات المثيرة. والسهوب تستدعي إحساسا بالجلال وتملأ شخصيّات الروايات والقرّاء بالدهشة والتبجيل.
    كما أن السهوب تذكّر بالطبيعة الموقّتة للحياة وعدم ثبات الوجود البشري، كما تعكسه مناظرها الطبيعية المتغيّرة باستمرار والتحوّلات الموسمية ودورات الولادة والموت. وغالبا ما يستخدم الكتّاب السهوب كخلفية للتأمّل في قصر الحياة ومرور الوقت وأهميّة احتضان اللحظة الحالية.
    وتلعب منطقة السهوب دوراً محورياً في تشكيل الهويّة الثقافية لمجتمعات آسيا الوسطى. ويعكس الأدب التقاليد والعادات والقيم العميقة الجذور المرتبطة بالسهوب. ويستكشف أهميّة الحفاظ على التراث الثقافي والتحديّات التي تواجهها المجتمعات البدوية في عالم سريع التغيرّ.
    لقد ألهمت السهوب عددا لا يُحصى من الشعراء والكتّاب والفنّانين عبر التاريخ، لأن اتساعها وصفاءها يحفّزان الإبداع والتأمّل. وكثيرا ما يحتفل الأدب في آسيا الوسطى بالسهوب باعتبارها منبعا للإلهام، حيث تتدفّق الأفكار وتجد الروح الإنسانية فيها العزاء والتجديد.
    ومن خلال تناول موضوع السهوب، يمسك أدب آسيا الوسطى بجوهر التراث البدوي في المنطقة وارتباطه الوثيق بالطبيعة والتأثير العميق للسهوب على حياة ومخيّلة شعوبها.
    وهناك الكثير من الاعمال في أدب آسيا الوسطى التي تستكشف موضوع السهوب وتقدّم نظرة معمّقة لتراث تلك المنطقة وجمال أراضيها العشبية. ومن أشهر تلك الاعمال:


  • رواية اليوم بأكثر من مائة عام The Day Lasts More Than a Hundred Years للكاتب القرغيزي جنغيز آيتماتوف. وتتناول هذه الرواية قصّة شيخ كازاخي وتجاربه في السهوب، مع عناصر من الواقعية السحرية. ويعكس الكاتب في روايته الهويّة الثقافية لآسيا الوسطى والعلاقة التكافلية بين السهوب وشعوبها.
  • رواية السهوب الصامتة The Silent Steppe للكاتب الكازاخي محمد شيخمتوف. وتصّور هذه الرواية حياة عائلة كازاخية في السهوب خلال الحقبة السوفيتية. وتقدّم صورة حيّة لأسلوب الحياة البدوي والتحدّيات التي تواجهها الشخصيات وحبّها العميق للسهوب.
  • رواية الأيّام الخوالي Days Gone By للكاتب الاوزبكي عبد الله قادري. وتتعمّق هذه الرواية في تاريخ وثقافة آسيا الوسطى، بما في ذلك السهوب. وبينما تركّز الرواية أساسا على الحياة المستقرّة في مدينة بخارى، فإنها تتطرّق أيضا إلى التقاليد البدوية وتأثير السهوب على هويّة المنطقة.
  • رواية مائة عام في السهوب A Hundred Years on the Steppe للكاتب الكازاخي بايانجالي عليمجانوف. وتقدّم هذه الرواية رؤية بانورامية لآسيا الوسطى، بما في ذلك السهوب. كما تصوّر التراث البدوي للمنطقة والترابط بين سكّانها ومناظرها الطبيعية ودور السهوب في تشكيل حياة الناس وهويّتهم الثقافية.
  • رواية أرض الآباء The Land of the Fathers للكاتب القرغيزي تولوموش أوكييف. وتستكشف التقاليد البدوية لشعب قيرغيزستان، بما في ذلك ارتباطهم بالسهوب، من خلال قصّة شابّ ينطلق في رحلة عبر سهوب قيرغيزستان متأمّلا جذوره وثقافته والأهميّة الروحيّة للأرض.
  • رواية البحيرة الميّتة The Dead Lake للكاتب الكازاخي ثابت ماداليف. وتستكشف الرواية مناظر السهوب وتأثيرها على حياة الشخصيات من خلال تتبّع قصّة شاب يعمل في بحيرة مالحة ومقفرة في السهوب. وتسلّط الرواية الضوء على العزلة والمصاعب والجمال الصارخ للبيئة.
  • مجموعة قصص لحن السهوب The Steppe's Melody للكاتب الطاجيكي سوينشو قابيل. وهي عبارة عن قصص قصيرة تتناول حياة الشعب الطاجيكي الذي يعيش في السهوب. وتعكس القصص جمال السهوب وتحديّاتها وثرائها الثقافي بالإضافة الى مواضيع مثل الهويّة والتقاليد والارتباط الإنسانيّ بالطبيعة.
  • رواية السفينة البيضاء The White Ship للكاتب الآذاري جنكيز عبد اللاييف. وتأخذ هذه الرواية القرّاء في رحلة عبر سهوب آسيا الوسطى وتستكشف التقاليد البدوية والصراع بين أساليب الحياة القديمة والجديدة. كما تتناول مواضيع أخرى كالحفاظ على الثقافة ونموّ الفرد والرابطة بين البشر والطبيعة.
  • رواية الدليل الأزرق The Blue Guide للكاتب الكازاخي توركول أيتماتوف. وتدور أحداث هذه الرواية في السهوب الكازاخستانية، وتحكي قصّة شابّ ينطلق في رحلة للبحث عن جذوره واكتشاف هويّته الثقافية. والكاتب يستكشف العلاقة بين بطل الرواية والسهوب مركّزا على القوّة التحويلية للطبيعة وأهميّة الحفاظ على التراث الثقافي.
  • رواية جميلة Jamila للكاتب القرغيزي جنغيز آيتماتوف. وتدور أحداث هذه الرواية خلال الحرب العالمية الثانية وتحكي قصّة امرأة كازاخية شابّة تُدعى جميلة وعلاقتها الغرامية مع جنديّ جريح. والسهوب تُستخدم كخلفية لهذه العلاقة، مع تركيز على مرونة وشجاعة الشخصيات وسط حقائق الحرب القاسية.
  • رواية البدو The Nomads للكاتب الآذاري قربان سعيد. وتتبع الرواية حياة عائلة قيرغيزية تعيش في السهوب، وتلتقط جمال وتحدّيات وجودهم البسيط. كما تصوّر العلاقة العميقة بين الشخصيات ومحيطها الطبيعي وتقدّم لمحة عن تقاليد وعادات المنطقة.

  • Credits
    voicesoncentralasia.org

    السبت، فبراير 24، 2024

    محطّات


  • يُحكى ان شخصا أهدى نسرين صغيرين إلى أحد الملوك القدماء. كانت سلالة النسرين نادرة، ولم يسبق للملك أن رأى من قبل نسورا بمثل روعتهما. وكان الملك سعيدا جدّا بالهديّة، وقرّر تعيين أحد ذوي الخبرة لرعاية النسرين وتدريبهما. وبعد مرور بعض الوقت، رأى الملك أنهما كبرا وأصبحا أكثر جمالا. وقال للرجل الموكل برعايتهما انه يريد رؤيتهما وهما يطيران.
    حاول المدرّب ان يؤشّر للنسرين بأن يطيرا في السماء تنفيذا لأمر الملك. وبدأ كلاهما يرفرفان بجناحيهما بمجرّد أن رأيا الإشارة. ولكن بينما كان أحدهما يرقى بثقة نحو السماء، طار الآخر لبضع ثوان ثم عاد إلى فرع الشجرة الذي كان يجلس عليه قبل أن يطير.
    بعد أن رأى الملك هذا شعر بأن هناك شيئا غريبا، وأصبح لديه فضول لمعرفة سبب السلوك المتناقض للنسرين. وسأل المدرّب عن السرّ في أنه بينما يطير نسر واحد بشكل جيّد فإن الآخر يبدو متردّدا في طيرانه. فأجاب: كانت هناك مشكلة منذ البداية مع النسر المتردّد، اذ يبدو غير راغب في ترك ذلك الغصن.
    بالنسبة للملك فإن كلا النسرين كانا رائعين. وكان يريد بشدّة أن يرى النسر الآخر يحلّق هو الآخر عاليا في السماء.
    وفي اليوم التالي أعلن الملك في جميع أنحاء البلاد أن الشخص الذي يتمكّن من جعل النسر الآخر يطير عاليا سيكافأ بجائزة كبيرة. وبعد الإعلان أتت اعداد كبيرة من أهل العلم والخبرة وحاولوا توظيف معارفهم لجعل النسر يطير. لكن لم ينجح أحد في تلك المهمّة. وحتى بعد مرور بضعة أسابيع لم يكن هناك تحسّن في وضع النسر. كان يطير لمسافة قصيرة وبعد ذلك يعود إلى فرع الشجرة.
    فقد الملك الأمل في تغيير سلوك النسر وكاد أن ييأس. ثم في أحد الأيام حدث شيء غريب. فقد رأى الملك ان كلا النسرين أصبحا يحلّقان معا عاليا في السماء. ولم يصدّق عينيه، فاتصل على الفور بمدرّبهما ليسأله عن الأمر. فأبلغ الملك بان النسر تخلّى عن تردّده وأصبح يطير بسهولة مع رفيقه.
    وأضاف: لقد نجح شخص واحد في جعل النسر الثاني يطير". فطلب منه الملك إحضار ذلك الشخص الذي حقّق هذا الإنجاز العظيم. وفي اليوم التالي حضر الرجل أمام الملك الذي كان ينتظره بفارغ الصبر ومعه الجائزة الموعودة.
    وخلال الحديث عرف الملك ان الرجل مزارع بسيط. ثم أهداه صندوقا من الذهب مكافأة له على ما فعل. وقال له: انا سعيد كثيرا بما حقّقته، فقط أخبرني ماذا فعلت بالتحديد وكيف فعلت ما عجز عنه كبار العلماء والخبراء؟
    فقال الفلاح: يا مولاي أنا مجرّد مزارع بسيط وليس لديّ معرفة ولا خبرة العلماء. أنا فقط قطعت فرع الشجرة الذي اعتاد النسر الجلوس عليه! وبما أنه لم يعد هناك فرع، لم يكن لدى النسر خيار آخر سوى أن يطير. وقد فعلت هذا بشكل جيّد للغاية".
    النسران في هذه الحكاية تمثّلنا نحن البشر. فكلّ واحد منّا لديه إمكانيات لا يعرفها، مثل ذلك الطائر المهيب. لكن في بعض الأحيان نكون مثل النسر المتعلّق دوما بفرع شجرة مريح.
    المزارع البسيط الذي جعل النسر يطير عاليا يمثّل قوّة التغيير والخروج من منطقة الراحة. وهو لم يكن يملك علما ولا معرفة او خبرة ولا أدوات. وكلّ ما فعله هو قطع ذلك الغصن أو الفرع.
    في حياتنا يمكن أن يرمز الغصن الى مناطق الراحة لدينا، أي تلك الأماكن المألوفة والآمنة التي نميل إلى البقاء فيها وعدم تركها لأننا اعتدناها. لكن النموّ الحقيقي يشبه تحليق النسر في الأعالي، وهو ما يحدث عندما نجرؤ على المغامرة الى ابعد ممّا هو مريح.
    لذا فإن الدرس هنا واضح. فإذا كنت ترغب في الوصول إلى ذرى جديدة، فقد تحتاج إلى قطع بعض الفروع في حياتك. قد تكون هذه الفروع عاداتك القديمة أو شكّك في امكانياتك أو حتى الخوف. والأمر كلّه يتعلّق باتخاذ تلك الخطوة الجريئة مثلما فعل الفلاح، أي إزالة كلّ ما يعيق تحرّكك للأمام.
    فقط تذكّر عندما تترك الفروع التي تقيّدك، فإن السماء ستنفتح امامك بإمكانيات لا نهاية لها وستحقّق أشياء عظيمة مثل ذلك النسر الذي حلّق بشكل رائع في السماء. وهو تذكير بأنه في بعض الأحيان فإن أبسط الاعمال يمكن أن تؤدّي إلى تحوّلات كبيرة ولا تخطر على البال.


  • كان دوستويفسكي معروفا في المقام الأوّل برواياته وأعماله الفلسفية، وليس بنقاشاته للأعمال الفنيّة. ومع ذلك فقد ذكر بعض اللوحات في كتاباته. وتوفّر أوصافه لتلك اللوحات نظرة معمّقة عن أسلوبه الأدبيّ وطبيعة المواضيع التي تناولها.
    ومن المهم أن نلاحظ أن مناقشات دوستويفسكي للوحات غالبا ما تكون جزءا لا يتجزّأ من سياقات سردية أوسع، وهو يذكرها كعناصر رمزية أو موضوعية وليست دراسات نقدية في الفن. ومع ذلك، فإن هذه الاشارات تثبت اهتمامه باستخدام الفنّ البصري لاستكشاف موضوعات نفسية وأخلاقية معقّدة في أعماله الأدبية ولتعميق مواضيع الإيمان والأخلاق والظرف الإنساني.
    طبعا كان دوستويفسكي مسيحيّا متديّنا كما هو معروف، لذا من الطبيعيّ ان تكون اللوحات التي ذكرها في كتاباته ذات طبيعة دينية. ولو عاش حتى مطلع القرن العشرين ورأى اعمال الفنّ الحديث لربّما أدرج بعضها في أعماله.
    وفيما يلي بعض الأمثلة للّوحات التي وظّفها دوستويفسكي في رواياته:
    *مقتل مارات لجاك لوي ديفيد: في رواية "الأبله"، يزور بطل الرواية الأمير ميشكين معرضا فنيّا ويرى فيه هذه اللوحة الشهيرة. ودوستويفسكي يستخدم اللوحة لتوضيح عاطفة ميشكين العميقة وتعاطفه مع معاناة الإنسان.
    *قيامة ليعازر لرمبرانت: في رواية "الأبله" يصف دوستويفسكي لوحة تصوّر الشخصية الدينية "ليعازر أو لازاروس" وهو يقوم من بين الأموات. في الرواية تناقَش اللوحة خلال اجتماع في منزل إيبانتشين وتثير جدلاً فلسفيا ولاهوتيا بين الشخصيات.
    *العائلة المقدّسة لرافائيل: في "الأبله" يشير دوستويفسكي إلى هذه اللوحة خلال محادثة بين شخصية ناستاسيا فيليبوفنا والأمير ميشكين. وتصبح اللوحة نقطة محورية لنقاشهما حول الجمال والفنّ وطبيعة الخير والشرّ.
    *الحكم الأخير لهانز ميملينغ: يذكر دوستويفسكي هذه اللوحة في روايته "الإخوة كارامازوف". ويتحدّث عن اللوحة كاستعارة للمعضلات الأخلاقية والوجودية التي تواجهها شخصيات الرواية ولتعكس مواضيع مثل الذنب والفداء والحكم الإلهي.
    *الناسك لميخائيل نيستيروف: على الرغم من أن هذه اللوحة لم تُذكر بالاسم، إلا أن دوستويفسكي يشير في روايته "الإخوة كارامازوف" إلى لوحة تحمل نفس سماتها. وتصوّر اللوحة شخصية حكيمة ونبيلة تمثّل ناسكا أو مرشدا روحيّا يتحوّل الى رمز للبصيرة الأخلاقية وموجّه للشخصيات.
    *حلم القدّيس يوحنّا لهانز ميملينغ: في " الإخوة كارامازوف"، يشير فيودور كارامازوف إلى هذه اللوحة وهو في حالة سكر ويناقش معتقداته المشوّهة وفهمه المنحرف للدين.
    *شفاء المشلول لجان بابتيست غروز: يشير دوستويفسكي إلى هذه اللوحة في مشهد يتحدّث فيه إيفان كارامازوف مع شقيقه أليوشا، واصفا اللوحة بأنها صورة للرحمة الإنسانية واللطف ويقارنها بالواقع القاسي للعالم.
    *النزول من على الصليب لروهير فان دير وايدن: يشير دوستويفسكي بإيجاز إلى هذه اللوحة في روايته "الجريمة والعقاب". حيث يتأمّل بطل الرواية راسكولنيكوف اللوحة أثناء زيارته لحانة. وتصويرها لمعاناة المسيح وتضحيته يتردّد صداه مع ذنبه وبحثه عن الفداء.
    *مادونا سيستينا لرافائيل: يرد ذكر هذه اللوحة الشهيرة في رواية "المراهق". بطل الرواية أركادي دولغوروكي يزور معرضا فنيّا ويرى اللوحة هناك. المشهد يعكس التأثير العاطفي للعمل الفنّي على أركادي ويجسّد مثاليّته الشبابية وشوقه للجمال.
    *مادونا ديل ساكو لأندريا ديل سارتو: في رواية "الإخوة كارامازوف"، يتحدّث إيفان كارامازوف عن هذه اللوحة خلال محادثة مع شقيقه أليوشا، فيصفها بأنها تصوير لمعاناة ويأس الإنسانية وللثيوديسيا "أو العدالة الإلهية".
    *العشاء الأخير لليوناردو دافنشي: على الرغم من عدم ذكر اللوحة بالاسم، إلا أن هناك إشارات إليها في "الإخوة كارامازوف". والرواية تتضمّن مناقشات وتأمّلات حول واقعة العشاء الأخير باعتبارها تمثيلاً رمزيّا للخيانة والشعور بالذنب والفداء.
    تلك مجرّد أمثلة عن اللوحات التي أشار اليها دوستويفسكي في رواياته واستخدمها لاستكشاف بعض الموضوعات الفلسفية والأخلاقية والروحية ولإضفاء عمق ورمزية إلى أعماله الأدبية.
    وغالبا ما كان الكاتب يستخدم اللوحات الفنّية كرموز أو تمثيلات مجازية لمفاهيم مجردّة. ومن خلال الإشارة إلى أعمال فنّية محدّدة، فإنه يضفي عليها معنى أعمق ويدعو القرّاء إلى تفسير رمزيّتها لاستكشاف تعقيدات الإيمان والأخلاق والتجربة الإنسانية.
    واللوحات تعمل أيضا كمحفّز للنقاشات الأخلاقية والفلسفية بين شخصيات الكاتب. إذ تنخرط الشخصيات في مناقشات وأحاديث حول معنى الأعمال الفنّية وآثارها، وتُستخدم كنقطة انطلاق لاستكشاف أسئلة عميقة حول طبيعة الخير والشرّ ووجود الله.
    وأوصاف دوستويفسكي للصور الفنيّة تثير استجابات عاطفية ونفسية قويّة لدى شخصيّاته وقرّائه على حدٍّ سواء. ويؤدّي تأمّل الأعمال الفنّية إلى تحفيز التأمّل الذاتي ولحظات التجلّي لدى الشخصيّات، ما يسمح لهم بمواجهة صراعاتهم الداخلية وشكوكهم ورغباتهم.

  • Credits
    dostoevsky.org