:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الخميس، فبراير 22، 2018

ثيودوراكيس: زوربا اليونانيّ


ما أن يُذكر اسم جزيرة كريت حتى تلتمع في الذهن بعض الصور: أمواج بحر ايجة وهي تتكسّر على الشاطئ الرمليّ الأبيض، والرائحة العذبة لأشجار الزيتون مختلطةً بهواء البحر المالح، وصورة مجموعة من الرجال الملتحين المتشابكة أذرعهم حول أكتافهم وهم منهمكون في الرقص.
من السهل أن تتخيّل نوعية الموسيقى التي يرقص هؤلاء الرجال على إيقاعاتها. فهناك احتمال كبير بأنهم يرقصون على أنغام موسيقى زوربا التي تعزفها آلة البزق أو البوزوكي اليونانية.
كتب ميكيس ثيودوراكيس هذه الموسيقى لفيلم "زوربا اليونانيّ" عام 1964. وكان الفيلم حدثا مهمّا في منتصف الستّينات حيث حصل على ثلاث جوائز اوسكار وظلّ في المخيّلة الشعبية زمنا طويلا كرمز للثقافة اليونانية المعاصرة.
والفيلم يستند إلى رواية للكاتب الكريتيّ نيكوس كازانتزاكيس. وقد لعب دور البطولة في الفيلم الممثّل انطوني كوين الذي قام بدور اليكسيس زوربا، وهو شخص يونانيّ بسيط ومحبّ للحياة، يقابل في طريقه إلى كريت رجلا انجليزيّا متعلّما ومحافظا يُدعى "بازل" ويقوم بدوره الممثّل آلان بيتس.
بازل المنهمك في قراءة كتاب لبوذا كان قد ورث عن والده منجما للفحم في اليونان. وبعد لقائه بزوربا، يُعجب بهذا الأخير ويستأجره للإشراف على المنجم. ومع الأيّام تنشأ بين الاثنين صداقة وثيقة، مع أن زوربا يحترم تجارب الحياة أكثر من الشهادات والثقافة.
وزوربا يقول لبازل في احد أجزاء الفيلم: ما فائدة كلّ هذه الكتب اللعينة؟ أنت تفكّر كثيرا لأنك تقرأ وهذه مشكلة". ثم يحاول زوربا أن يشجّع صديقه الانجليزيّ على أن يخرج من شرنقته ويُقبِل على الحياة.
وعلى الرغم من روح زوربا المتفائلة، إلا أن صداقتهما تتعرّض لعدد من النكسات، إذ تموت امرأتان مقرّبتان من بازل ميتة رهيبة، ويصبح من الخطير جدّا استخدام المنجم رغم كلّ المحاولات المبذولة لإصلاحه.
ثم يقرّر بازل أن يعود نهائيا إلى انجلترا. وقبل أن يغادر يطلب من صديقه زوربا أن يعلّمه الرقص. وبرغم كلّ المآسي التي مرّ بها الاثنان، إلا أنهما يرقصان بجذل على الشاطئ ويستمتعان بوقتهما لمجرّد أن يعلما أنهما ما يزالان على قيد الحياة.

نظرة كازانتزاكيس المتوسّطية إلى العالم كانت مصدر افتتان وإلهام للمجتمعات الغربية التي تعبت من المنطق ووفرة الأشياء وأُعجبت بزوربا البطل الجريء والعفويّ الذي رفض الأعراف الراسخة واحتضن عواطفه وأفكاره الخاصّة.
والرواية بأكملها هي عبارة عن أسطورة عن العقل والجسد. فالبطل بيتس يمثّل ابوللو الذي يجسّد روح النظام والعقلانية، بينما يمثّل زوربا دايونيسيس الذي يجسّد روح إرادة العيش بتلقائية ومتعة.
وقد أصبحت صورة زوربا وهو يعلّم بازل الرقص على شاطئ كريت ترمز لليونانيين كشعب عاطفيّ وتلقائيّ ومحبّ للحياة. والموسيقى التي يرقص عليها الاثنان والتي ألّفها ثيودوراكيس أصبحت تجسّد اليونان الحديثة. وأحد الأسباب المهمّة لاقترانها باليونان يمكن عزوه إلى حقيقة أن فيلم زوربا صُوّر بممثّلين من مواطني اليونان وقبرص، باستثناء أبطال الفيلم الثلاثة، أي انطوني كوين وآلان بيتس وليلى كيدروفا.
وثيودوراكيس نفسه لم يكن معروفا من قبل كمؤلّف لموسيقى الأفلام. فقد بدأ حياته المهنية في الخمسينات بكتابة الموسيقى الكلاسيكية في باريس وذلك قبل أن يعود إلى وطنه الأمّ اليونان ويمزج مؤلّفاته بالموسيقى التراثية لوطنه.
وكان لتبنّي ثيودوراكيس للموسيقى الشعبية اليونانية دوافع سياسية، إذ كان قد أسّس مؤتمر الشباب الديمقراطيّ اليساريّ عام 1936، ثم انتُخب عضوا في البرلمان اليونانيّ، وفي نفس تلك السنة شاهد الناس فيلم زوربا الذي وضع موسيقاه.
لكن بعد ذلك بفترة قصيرة، قامت الحكومة اليمينية بحظر موسيقاه، وقضى سنوات أواخر الستينات في السجن، قبل أن يُنفى إلى بباريس. وفي عام 1974، تمكّن من العودة إلى اليونان، وهو اليوم يُعتبر أعظم موسيقيّ حيّ في البلاد.
وعلى الرغم من كثرة مؤلّفات ثيودوراكيس السيمفونية والأوبرالية، إلا أن موسيقى زوربا ظلّت هي تحفته الأولى بلا منازع. وقد تصدّرت قوائم الموسيقى في العالم أكثر من مرّة وظلّت تُعزف باستمرار في العديد من الحفلات والفعاليات الموسيقية حول العالم.

Credits
rebeatmag.com

الأحد، فبراير 18، 2018

أبو نواس الصينيّ


لو سألت أيّ صينيّ عن أعظم سلالة في تاريخ الصين فسيجيبك غالبا أنها سلالة تانغ. والسبب هو أن فترة حكمهم (618-907) اتّسمت بالتنوّع الثقافيّ والانفتاح على الحضارات الأخرى. كما أنهم نجحوا في إقامة أقوى إمبراطورية واقتصاد في العالم آنذاك.
كانت تلك السلالة تتألّف من ستّ عائلات حكمت عشر ممالك. وكانت عاصمة ملكهم "شيان" أكثر مدينة مأهولة في العالم في ذلك الوقت.
وقد تقبّل ملوك التانغ الأفكار الأجنبية، بما فيها الفنون والآداب، وكذلك الأديان كالبوذية التي انتشرت في زمنهم إلى بلدان آسيا. وتحت حكمهم ازدهرت الثقافة الصينية نفسها وعاش الشعر الصينيّ أزهى فتراته.
وفي عصر التانغ، وبالتحديد قبل 1300 عام، أي في بدايات القرن الثامن الميلاديّ، ولد أشهر شاعرين في تاريخ الصين، هما لي باي ودو فو. وأهميّة هذين الشاعرين في الصين تشبه أهميّة شكسبير عند الانجليز وبوشكين عند الروس.
ورغم أن اللغة تغيّرت منذ ذلك الحين، إلا أن قراءة قصائدهما ما تزال متيّسرة بالنسبة للصينيين اليوم، كما أن أفكارهما عن الصداقة والحبّ والطبيعة وفساد الحكّام ما تزال ذات صلة بالعالم الحديث.
ولي باي هو الشاعر الأكثر شهرة. وأشعاره مصاغة بجمل مختزلة، وهي عموما تتحدّث عن العزلة وعن الحنين للوطن. والكثير من حياته منعكس في قصائده، كالأماكن التي زارها، والأصدقاء الذين ودّعهم ورحلوا إلى أماكن بعيدة وربّما لن يعودوا، بالإضافة إلى تخيّلاته الحالمة وأوصافه للأحداث والطبيعة.
وشعر لي باي يشبه إلى حدّ كبير شعر أبي نواس في الشعر العربيّ من حيث تمجيده واحتفائه الكبير بالشراب، واستخدامه للخيال، والتطرّف في بعض صوره، وقدرته على مزج كلّ هذا لينتج شعرا خالدا يصعب تقليده. ومثل أبي نواس أيضا، لا احد كتب عن النبيذ في الشعر الصينيّ أكثر من لي باي. وكثيرا ما يصوّر الشاعر في الرسم وهو يحدّق في قاع كأسه النبيذيّ انتظارا للإلهام.
والسُّكْر الذي يعبّر عنه في شعره ينسجم مع المبدأ الطاويّ الذي يدعو إلى تحدّي وكسر الأعراف الاجتماعية. والطاوية نفسها تنظر إلى السُّكْر كجزء من "الطاو" أو الطريق. وحتى الشخصيات الخالدة في الطاوية كثيرا ما تُصوّر وهي في حالة سُكْر. والطاوية ترى أن النبيذ في النهاية هو من نتاج الطبيعة. وهو لا يعني فقدان الوعي، بل هو وسيلة لإبعاد المرء عن المشاعر التي تُثقِل على عقله.
يقول لي باي في قصيدة بعنوان "الصحو من السُّكْر في يوم ربيعيّ": الحياة في هذا العالم ليست أكثر من حلم كبير. لذا لن أهدر حياتي بتحميلها أيّة أعباء أو اهتمامات. أسكر طوال اليوم وأستلقي بلا حراك عند الرّواق أمام بابي. وعندما أصحو، انظر إلى أشجار الحديقة وألمح طائرا يغرّد بين الأزهار وأسائل نفسي: هل كان اليوم ممطرا أم صحواً؟".
لكن الشاعر في مقطع آخر يقرّ بأن النبيذ ليس حلا ناجعا لكافّة المشاكل. يقول: تعود الأحزان ثانية رغم أننا نغرقها بالنبيذ. ولأن العالم لا يمكن أن يجيب على جميع تساؤلاتنا، سأحلّ شعري غدا وأنزل إلى قارب صيدي الصغير".
ولـ لي باي أيضا قصائد أخرى تتضمّن أفكارا وتأمّلات عامّة. يقول مثلا: تسألني لماذا اتّخذت لنفسي بيتا في غابة جبلية، وأبتسم وأنا صامت. وحتى روحي تظلّ صامتة لأنها تعيش في عالم آخر لا يملكه احد، حيث الأشجار مزهرة دائما والماء لا يكفّ عن الجريان".


وقوله أيضا: كلّ شيء يذهب إلى الأبد، الأحداث، البشر، كلّ شيء إلى زوال مثل أمواج اليانغتسي التي يبتلعها البحر". وقوله: تلاشت الطيور من السماء، وجفّت آخر غيمة. نجلس معا، الجبل وأنا، وفي النهاية أرحل أنا ويبقى الجبل".
كان لي باي شاعرا ماجنا. وأحد الأسباب التي تفسّر شعبيّته الكبيرة هو عربدته التي كان يمازجها شيء من المرح الصاخب.
وكلّ فرد في الصين ومنذ سنّ الطفولة يجب أن يتعلّم شيئا من أشعاره. وحتى الصينيين الذين يعيشون في الغرب يحرصون على تعليم أطفالهم بعض أشعاره، ومن ضمنها قصيدته المشهورة عن القمر.
والقمر في الصين يكتسب معنى خاصّا. إذ عندما يكون مكتملا فإنه يرمز إلى اجتماع شمل العائلة. والفكرة هي أن الإنسان يرى نفس القمر مع عائلته أو أقاربه، رغم أنهم قد يكونون في أماكن متباعدة جغرافيّا. لذا فإن قصيدة لي باي هذه تلامس وترا حسّاسا في نفوس الصينيين. كما أن القمر يرمز للشعر والأحلام.
والغريب أن القمر يلعب دورا مهمّا في موت الشاعر نفسه. إذ تقول القصّة أن لي باي غرق في مياه احد الأنهار عندما سقط من قاربه وهو يحاول احتضان صورة القمر المنعكسة فوق الماء. ربّما كان ثملا في تلك اللحظة، وعلى الأرجح كان هذا هو حاله معظم الوقت.
البورتريه المرسوم لـ لي باي يصوّره مرتديا لباسا طويلا ابيض بينما يرفع كأس النبيذ باتجاه القمر. وبطبيعة الحال، وكما سلفت الإشارة، لم يكن للسُّكْر دلالات سلبية بالنسبة لشاعر من القرن الثامن الميلاديّ، بل كان هو الطريق للإلهام المقدّس. ولي باي وزميله دو فو كانا يشربان بشراهة، رغم أن حياة كلّ منهما كانت مختلفة كثيرا عن حياة الآخر.
فـ لي باي كان نجما كبيرا تحفّ به آيات التبجيل والتكريم أينما ذهب لأنه عبقريّ. أما دو فو فكان منتهى طموحه أن يحصل على وظيفة في الحكومة، لكنه فشل ولم يظفر بمنصب جيّد.
ثم وقع تمرّد في الصين قاده جنرال يُدعى "آن لوشان" وأعقبته ثمان سنوات من الحرب الأهلية. فهرب دو فو من شيان عاصمة الإمبراطورية، ثم اعتُقل، ثم تاه بعد ذلك وأصبح يتنقّل كلاجئ ومنفيّ إلى أن اغتيل قائد التمرّد على يد ابنه. وبعدها أصبح بإمكان كلّ شخص أن يعود إلى بيته.
وقد تمكّن دو فو من الحصول على وظيفة حكومية، لكن هذه الحال لم تدم طويلا. إذ يبدو انه فعل شيئا ما اغضب الإمبراطور، أو ربّما كان قد تحدّث بجرأة عن موضوع محظور أو كتب أشعارا تنتقد النظام. لذا تمّ طرده من وظيفته. وهو في إحدى قصائده يعلن أن مهمّته هي تحريض الناس وأنه عازم على فعل ذلك إلى أن يغيّبه الموت.
وفي نهاية حياته، أصبح دو فو إنسانا معدما، لدرجة أن احد أطفاله مات بسبب الجوع. وهو في إحدى قصائده المشهورة عن الظلم في العالم، يتحدّث عن عاصفة هوجاء تهبّ على كوخ تقطنه عائلة فقيرة فتقتلع سقفه وينهمر المطر بغزارة على رؤوس الأطفال بداخله. ثم يحلم الشاعر لو انه يمتلك بيتا صلبا كالجبال يضمّ آلاف الغرف ليؤوي فيه كلّ المشرّدين في العالم، ويقرّر انه سيكون سعيدا لو مات من البرد بعد ذلك في كوخه البسيط والمتواضع.
والصينيون يتحدّثون كثيرا عن هذه القصيدة. وهم يستخدمونها مع شيء من التحريف لوصف فساد المسئولين البيروقراطيين الذين يهتمّون بأنفسهم وعائلاتهم وينسون بقيّة الشعب. ورغم أن معظم الصينيين لا يتوفّر لهم من الوقت ما يكفي لقراءة الشعر هذه الأيّام، إلا أنهم يتذكّرون لي باي ودو فو ويرون في أشعارهما انعكاسا لبعض تفاصيل واقعهم اليوم.

Credits
chinese-poems.com