:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


السبت، أبريل 07، 2018

تشايكوفسكي وحرب نابليون

بورودينو هو اسم لبلدة روسية جرت على أرضها المعركة الأكثر حسماً ودموية في حرب نابليون بونابرت على روسيا. ففي السابع من سبتمبر من عام 1812، هاجم الجيش الفرنسيّ هذه البلدة الواقعة غرب موسكو وتمكّن من قتل حوالي ستّين ألف جنديّ روسيّ في بضعة أيّام.
ثم انتظر الفرنسيون شهرا كاملا بانتظار أن يعلن الروس استسلامهم وتسليم العاصمة موسكو طوعا. لكن هذا لم يحدث. عندها زحف نابليون بجيشه على المدينة فاحتلّها بسهولة ودون مقاومة تُذكر.
لكن الفرنسيين وجدوا أنفسهم في مدينة مهجورة وأشبه ما تكون بمدن الأشباح. إذ كان معظم سكّانها قد هجروها، بينما قام الجيش الروسيّ بإحراق أجزاء كبيرة منها قبل انسحابه.
لذا لم يجد الفرنسيون فيها أيّ مؤن أو طعام يكفيهم لمواجهة فصل الشتاء القارس بعد أن نفذت مؤنهم. وفي النهاية قرّروا الانسحاب نهائياً من الأراضي الروسية.
وعندما وصل الجيش الفرنسيّ إلى حدود بولندا في طريق عودته، لم يكن قد بقي منه سوى عُشره تقريبا. وقد زعمت أجهزة دعاية نابليون أن السبب في هزيمة جيشهم يعود إلى شتاء روسيا الذي لا يرحم أو ما سُمّي وقتها بـ "الجنرال ثلج"، في حين كان السبب الحقيقيّ تخبّط القيادة وسوء التخطيط، ما أدّى إلى انهيار الروح المعنوية للجنود.
وبعد ثمانية وستّين عاما من تلك الأحداث، كتب المؤلّف الموسيقيّ الروسيّ بيتر تشايكوفسكي قطعة موسيقية بعنوان "مقدّمة 1812" خلّد فيها انتصار روسيا القيصرية على نابليون.
وقد ألّف تشايكوفسكي هذه القطعة بناءً على طلب معلّمه نيكولاي روبنشتاين الذي أرادها أن تكون موسيقى احتفالية يُسرّ بها الناس ويستمعون إليها في المناسبات المهمّة.
وقد أتمّ تشايكوفسكي كتابتها في ظرف ستّة أسابيع فقط. وأصبحت مشهورة جدّا وامتدّت شعبيّتها إلى خارج روسيا.
تبدأ "مقدّمة 1812" بلحن دينيّ روسيّ مألوف تتبعه أنغام ريفية وفولكلورية محلية تصوّر معاناة الروس على يد الغزاة الفرنسيين. ثم يصوّر المؤلّف انسحاب الجيش الفرنسيّ على وقع لحن روسيّ تتخلّله أصوات أجراس الكنائس. وفي هذا تذكير بما فعله رجال الدين وقتها عندما طلبوا من الناس الذهاب إلى دور العبادة للصلاة والدعاء إلى الربّ كي يتدخّل في الحرب إلى جانبهم.


كان سلاح الروس بسيطا جدّا، بينما الفرنسيون كانوا يفوقونهم عددا وعُدّة. والموسيقى تصوّر "التدخّل الإلهيّ" في الحرب على هيئة رياح قويّة وثلوج لم يسبق لها مثيل. وقد نقل تشايكوفسكي هذه الأجواء في موسيقاه. كما صوّر جنود نابليون وهم يحاولون الفرار، وقيام الروس بأسر الكثيرين منهم.
والموسيقى تصوّر أيضا إطلاق الناس الرصاص في الهواء ابتهاجا بالنصر وقَرْع أجراس الكنائس تعبيرا عن الشكر لله على نعمة النصر واندحار العدوّ.
الغريب انه رغم الشعبية الكاسحة التي حقّقتها هذه الموسيقى في روسيا وخارجها، إلا أن تشايكوفسكي وصفها بأنها "صاخبة وبلا قيمة فنّية". كما صرّح بأنه لم يحبّها أبدا وأنه كتبها على عجل وعن غير رغبة منه.
ومع ذلك، جعلته هذه الموسيقى شخصا ثريّا وأصبحت احد أكثر الأعمال الموسيقية عزفاً وتسجيلا. وبسبب رواجها وانتشارها الواسع، أصبح الكثير من أجزائها مألوفة كثيرا.
في عام 1891، زار تشايكوفسكي الولايات المتّحدة وعزَف هذه الموسيقى هناك وكان هو الذي قاد الاوركسترا. ومنذ ذلك الوقت، أصبحت "مقدّمة 1812" تُعزف كلّ سنة كجزء من احتفال الأمريكيين بيوم استقلال بلدهم.
وهناك الكثير من الأمريكيين ممّن يعتقدون بأن هذه الموسيقى ترمز أيضا لانتصارهم على الاستعمار البريطانيّ الذي يصادف نفس تلك السنة، أي 1812.
قيل ذات مرّة أن المنتصر الوحيد في حرب عام 1812 كان تشايكوفسكي. والمعنى واضح، فالفرنسيون لحقت بهم هزيمة مذلّة، والروس كانت الحرب وبالا عليهم بأكلافها البشرية والمادية الباهظة. أما تشايكوفسكي فقد جلبت له موسيقاه التي صوّر فيها تلك الحرب الشهرة والمال.
لكن مع ازدياد شعبية هذه الموسيقى، تعاظم شعور تشايكوفسكي بخيبة الأمل وتكرّست قناعته بأن الناس لم يفهموا فنّه كما كان يريد. وقد تعلّم أن الناس يهتمّون بالمشاهد الفخمة والاستعراضية أكثر من اهتمامهم بالتعبير النغميّ الذي كان يركّز عليه ويعكسه في سيمفونياته.
والمفارقة أن "مقدمة 1812"، التي أُلّفت في الأساس للاحتفال بانتصار عسكريّ، أصبحت في الثقافة الحديثة تُعزف في عروض الاكروبات والسيرك والألعاب النارية ومسابقات التزلّج على الجليد وغيرها.

Credits
classicfm.com

الأحد، أبريل 01، 2018

الاستبداد والفنّ


لماذا يحبّ بعض الطّغاة الشعر والموسيقى والرسم والسينما، مع أن هذه الفنون تقترن برهافة الحسّ وسموّ المشاعر وتتناقض مع حالة الاستبداد وعقلية القمع والسلطة المطلقة؟
كان كيم ال سونغ، الزعيم السابق لكوريا الشمالية، يحبّ السينما كثيرا. وقد كلّف صنّاع السينما في بلاده بإنتاج عدد من الأفلام الوثائقية عن شخصه وعن حياته. وهو يُصوَّر فيها جميعا كزعيم نصف إله، عظيم وخالد.
كان كيم يلقَّب بوالد الشعب وشمس الأمّة. وقد كتب العديد من المسرحيات ومن قصائد الشعر التي لا تخلو من رقّة وعذوبة. وكان يتقرّب من الفنّانين لأنه كان يرى في ذلك تكريسا لسلطته، مع انه كان دائم الانتقاد "للفنّانين الذين يُنتجون أعمالا منحلّة"، على حدّ وصفه.
ومع ذلك ففي عهد كيم، الشاعر والمسرحيّ، مات ثلاثة ملايين كوري بسبب الحروب والمجاعات.
هتلر أيضا كان يحبّ الرسم، بل ورسم لوحات في بعض الأحيان. لكنه أحبّ السينما أكثر. وكان هو النجم في فيلم دعائيّ اُختير له اسم معبّر هو "انتصار الإرادة". ولطالما عبّر الزعيم النازيّ عن إعجابه بالقوّة السحرية للكلمة المنطوقة ووظّف ذلك في خطبه وبياناته.
ومع ذلك فقد قتل هتلر، العاشق للرسم والسينما، حوالي اثنين وأربعين مليون إنسان في الحرب العالمية الثانية، معظمهم من المدنيين.
في مطلع القرن العشرين، ظهر في ايطاليا مجموعة من الشعراء الذين اسموا أنفسهم بالشعراء المستقبليين. كان هؤلاء يؤمنون بالأفكار القومية المتطرّفة، وكان شعارهم: دعوا الأدب يزدهر بخراب العالم!". وكان زعيمهم يُدعى فيليبو مارتينيتي الذي كان يعشق الحرب. وقد وصفها مرّة بأنها "الدواء الناجع الوحيد لهذا العالم".
وكان ملهم هؤلاء هو الشاعر غابرييل دانونزينو الذي يقال انه كان الشخص الذي ألهمت أفكاره موسوليني الاستيلاء على السلطة في ايطاليا.
وبعد أن أصبح موسوليني زعيما على ايطاليا، كان من عادته أن يترك عددا من دواوين الشعر مفتوحة على سطح مكتبه كي يراها زوّاره من الضيوف الأجانب فيقدّروا ثقافته الواسعة وسعة اطلاعه.
لكن رغم ذلك، فقد تسبّب موسوليني المولع بالشعر في مقتل حوالي نصف مليون إنسان في الحرب العالمية الثانية وفي غزواته الخارجية.
ستالين أيضا كان عاشقا كبيرا للسينما، وقد تابع عن كثب مراحل إنتاج فيلم "ايفان الرهيب"، ربّما لأنه كان يرى في نفسه بعض سمات بطل الفيلم.
كان ستالين أيضا يكتب الشعر بلغته الأمّ، أي الجورجية، وباسم مستعار. لكن شعره كان يتّسم بالتقليد والصور المبالغ فيها وبكثرة الكليشيهات.
الغريب أن ستالين المحبّ للشعر تسبّب في مقتل حوالي سبعة ملايين إنسان أثناء تولّيه السلطة.
في الصين، لاحظ ماو تسي تونغ أن أباطرة البلاد القدامى لم يتركوا تراثا أدبيا معتبرا، وقال: إن الرجال العظماء فقط هم من ينظرون إلى هذا العهد"، يقصد عهده هو.
وقد كتب ماو شعرا كلاسيكيا قريبا من روح التراث الذي كان يمقته ويحتقره. كان يكتب بالأسلوب القديم، ولطالما وُصفت أشعاره بأنها نخبوية ومنقرضة. كانت تزدحم باللغة الفخمة وبالصور المستهلكة، مثل حديثه عن "الشمس الغاربة الحمراء بلون الدم" و"التلال الزرقاء كأمواج البحر".
وفي إحدى قصائده، يتغنّى ماو بنساء الصين اللاتي يعشقن المعارك ولا يكترثن بملابس الحرير". وفي قصيدة أخرى كتبها قبيل انطلاق الثورة الثقافية، يتنبّأ ماو بالعاصفة القادمة: انظروا! العالم يوشك أن ينقلب رأسا على عقب".
ومع ذلك، استحقّ ماو الشاعر لقب اكبر قاتل جماعيّ في التاريخ. فخلال أربع سنوات فقط من حكمه، تسبّب في مقتل خمسة وأربعين مليون فلاح صينيّ.
رادوفان كاراجيتش، احد كبار مجرمي الحرب في يوغوسلافيا السابقة والمعروف بجزّار البوسنة، كان هو أيضا يقرض الشعر. ولم يتخلَّ عن تلك الهواية الرقيقة حتى في ذروة حرب الإبادة التي قادها ضدّ المسلمين والكروات.
في برنامج وثائقيّ بُثّ مؤخّرا، يظهر كاراجيتش في لقطة قديمة مع شاعر روسيّ يُدعى ليمونوف. وكاراجيتش يتلو قصيدة على مسمع الأخير يتنبأ فيها بالعنف القادم. وعلى وقع القصيدة، يقوم ليمونوف بإطلاق وابل من الرصاص باتجاه أسفل الوادي الواقع تحتهما.
وفي أثناء الحرب البوسنية، كان كاراجيتش يتفاخر بصدق نبوءته تلك التي وردت في إحدى قصائده بعنوان "سراييفو" والتي يقول في نهايتها: ترى ما الذي يخبّؤه لنا المعدن الأسود في المرآب؟!".
المعروف أن كاراجيتش، عالم النفس المحبّ للشعر، قتل حوالي ثمانية آلاف مسلم خلال حصار سريبرينتسا عام 1995.
لكن أقدم نموذج للديكتاتور المحبّ للفنون كان الإمبراطور الرومانيّ نيرون. المؤرّخون يذكرون أن روما تعذّبت من شعره بقدر ما تعذّبت من طغيانه. وبحسب من أرّخوا لحياته، كان نيرون مثالا في عنفه ودمويّته.
وعلى الرغم من قلّة طموحاته العسكرية، إلا أن أفعاله الانتقامية كانت مدويّة. والصورة الشائعة عنه هي صورة طاغية متبلّد الإحساس يعزف القيثارة ويتلو شعرا بينما عاصمة ملكه تحترق وتتحوّل إلى رماد.
خلال رحلة له إلى اليونان، شارك نيرون في مسابقة للشعر وفي سباق للعربات، وعاد من رحلته تلك محمّلا بالعديد من الجوائز. ويقال انه خطّط لانتحاره مسبقا وتدرّب كثيرا على ذلك قبل أن يكتب جملته الشعرية الأخيرة: أيّ فنّان سيموت معي"؟!
كان عهد نيرون مرتبطا بالطغيان والبذخ. وقد قتل الكثيرين بمن فيهم أمّه وزوجته، كما أمر بإحراق مسيحيّي روما وهم أحياء بعد أن حمّلهم المسئولية عن حريق المدينة.

Credits
huffingtonpost.com