:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الجمعة، أغسطس 11، 2023

متلازمة ستندال


في عام 1817، سافر الكاتب الفرنسي ستندال إلى فلورنسا في إيطاليا. وكان الغرض من هذه الرحلة زيارة كنيسة سانتا كروتش، وهي كاتدرائية مهيبة تضمّ قبور ثلاثة من اهم الشخصيات التي لعبت دورا مهمّا في تاريخ الإنسانية: الفيلسوف ميكيافيللي، والنحّات ميكيل أنجيلو والفلكي غاليليو.
وقد أحدث هؤلاء الثلاثة تأثيرا قويّا على ستندال الشابّ وقتها، حيث ألهموه شكل ومضمون الروايات التي سيكتبها فيما بعد. ولهذا السبب بالذات، ساور الكاتب شعور قويّ وغريب عندما دخل الكنيسة واقترب من المدافن التي بداخلها. يقول في كتابه بعنوان "نابولي وفلورنسا: رحلة من ميلانو إلى ريجيو:"
كنت في حالة نشوة من فكرة أن أكون في فلورنسا، أي بالقرب من الرجال العظماء الذين رأيت قبورهم. وانغمرت في حال من التأمّل المتسامي ووصلت إلى النقطة التي تتصل فيها احاسيس المرء بالسماء. كان كلّ شيء يتحدّث بوضوح إلى روحي. ثم اعتراني خفقان في القلب وأحسست كما لو أن الحياة تتسرّب منّي ومشيت مترنّحاً أحاذر خطر السقوط ".
لم يكن ستندال الشخص الوحيد الذي عانى من هذه الاحاسيس المضطربة وهو بحضور قطع الفنّ والتحف والمنحوتات. ففي عام 2019، خصّصت جريدة نيويورك تايمز مقالاً كاملاً لسرد الحوادث والحالات الطبّية المماثلة التي أبلغت عنها المتاحف الكبرى في فلورنسا. ولم يكن ستندال أوّل من عبّر عن تجربته في كلمات. فقبل قرنين من ذلك التاريخ، وصف لونجينوس إحساسا مماثلا ناتجا عن تعرّضه للجمال والتسامي.
لكن ستندال هو الذي سيصبح اسمه في النهاية مرتبطا بهذه الحالة، حيث صاغ العلماء الإيطاليون ونقّاد الثقافة، الذين شعروا بالإطراء من وصف الكاتب الفرنسي لكنوزهم الوطنية، مصطلح متلازمة ستندال (Stendhal syndrome). وفي حين أن الفكرة المحيّرة القائلة بأن الفنّ أو الأشياء ذات القيمة الجمالية أو التاريخية الكبيرة يمكن أن تجعلنا مرضى جسدياً أو عقليّاً هي بالتأكيد فكرة جذّابة، إلا أن العلماء في الواقع ما زالوا غير متأكّدين من ماهيّة هذه المتلازمة، ناهيك عمّا إذا كانت موجودة فعلا أم لا.
وحتى يومنا هذا، أجريت العديد من الدراسات الأكثر شمولاً حول هذا الموضوع. ففي عام 1989، نشر مستشفى سانتا ماريا نوفا في فلورنسا تقريرا مكتوبا عن جميع حالات الطوارئ البالغ عددها 106 حالات والتي تم إحضارها بواسطة سيّارات الإسعاف من المتاحف والمعارض في جميع أنحاء المدينة. وتراوحت الأعراض المُبلّغ عنها بين الارتباك والدوخة إلى تبدّد الشخصية أو الغربة عن الواقع (depersonalization) الى خفقان القلب والهلوسة وفقدان الهويّة (loss of identity) ونوبات الهلع.
وسارع الباحثون الإيطاليون إلى تعميم "تفسيرهم الوطني" لمتلازمة ستندال إلى بقيّة العالم الأكاديمي. وأدرج مستشفى سانتا ماريا نوفا "الشخصية سريعة التأثّر" كعامل فاعل، إلى جانب ضغوط السفر ورؤية مدينة مثل فلورنسا "التي تؤرّقها أشباح العظماء والموت ومنظور التاريخ". وقد نُصح المرضى بمغادرة إيطاليا حتى تتمكّن أعينهم من "التكيّف مع مظاهر النقص الدنيوي".
واعترضت الأوراق البحثية التي صدرت في ما بعد على فكرة المستشفى بأن المتلازمة مرتبطة بمكان معيّن. وبالتالي لم يكن الفنّ الإيطالي هو الفنّ الوحيد القادر على إثارة ردود فعل نفسية - جسدية. ففي فرنسا عانى مارسيل بروست من نوبات ربو مستمرّة أثناء كتابة روايته "البحث عن الزمن الضائع". وفي روسيا انصبّ تركيز فيدور دوستويفسكي ذات مرّة على لوحة دينية لدرجة أن زوجته كانت تخشى عليه أن ينزلق إلى نوبة صرع.
ولا ترتبط متلازمة ستندال بعصر النهضة الإيطالي فحسب. فالطريقة - التي تربط بها بعض المصادر الأوّلية ما شعر به العديد من الحجّاج القدامى عندما وصلوا إلى وجهاتهم الروحية - تشبه بشكل مخيف ما تضمّنه تقرير المستشفى. فمدينة القدس مثلا تعالج العديد من الأشخاص الذين يعانون من مشاكل طبّية لا يمكن تفسيرها، وهؤلاء يشار الى حالتهم باسم "متلازمة القدس".
وعرّف مقال نُشر عام 2017 في مجلّة "علم النفس والعلوم المعرفية" المتلازمة بأنها "حالة نفسية نادرة تتّسم بنوبات من الدوار أو الذعر أو الجنون الموقّت بسبب رؤية شخص ما لأعمال فنّية أو تاريخية." ثم يبدأ المقال في سرد التفسيرات - المختلفة جذريا ولكن القابلة للتطبيق - لمتلازمة ستندال والتي قُدّمت على مدار العقود الماضية.

وأحد هذه التفسيرات هو أن الأعراض المنسوبة إلى المتلازمة هي في الواقع نتيجة للإرهاق الجسدي. إذ يتطلّب عبور متحف أو أكثر في اليوم كمّيات كبيرة من الطاقة، خاصّةً عندما يكون الشخص مرهقا أصلا أو يعاني من مرض ما. وبالنظر إلى أن معظم الأشخاص الذين دخلوا إلى غرف الطوارئ في فلورنسا كانوا من السيّاح الذين تزدحم جداولهم بالزيارات الكثيرة، فإن هذه النظرية تبدو معقولة تماما.
ويعتقد البعض أن متلازمة ستندال لها علاقة أقلّ بجودة الفن وأكثر بظروف الزائر الذي عادةً ما يكون سائحا وقد سافر لمسافة بعيدة وعلى نطاق واسع لرؤية مكان أو شخص أو عمل فنّي ما.
مؤلّفا كتاب "جغرافيا السياحة والاستجمام" يذكران أن السفر كثيرا ما يضع الأفراد المستقرّين عقليّا في حالة ذهنية أكثر ضعفا وقابلية للتأثّر، ما يجعلهم عرضة للانفجارات الشعورية. ويعتقد الباحثون أن السفر يمكن أن يؤدّي في كثير من الأحيان إلى الانزعاج النفسي والضيق، خاصّة عندما يبحث المرء عن المعرفة والوعي الذاتي والعواطف. ونتيجة لذلك، يعاني العديد من المسافرين من عدم الراحة النفسية وغالبا ما يلتمسون رعاية طبّية.
ومهما كانت مصداقية مثل هذه التفسيرات العاديّة، لا يزال هناك شيء لا يقاوَم حول فكرة أن شيئا ما يمكن أن يكون جميلا لدرجة أن إدراكه يسبّب لنا الألم والاضطراب. وقد فسرّ بروست ودوستويفسكي حالتهما الطبّية على أنها نتاج سلبي لقدرتهما على مراقبة الواقع بتفاصيل أكثر وبكثافة أكبر من أولئك المحيطين بهما، وهي نفس القدرة التي مكّنتهما من كتابة رواياتهما.
المحلّلان النفسيان فرويد ويونغ كتبا عن تجربتهما مع متلازمة ستيندال، فوصف الأوّل مشاعر شديدة من الاغتراب عن الواقع عند زيارته للأكروبوليس في أثينا باليونان. كما أبلغ يونغ عن شلل شديد وشبه غياب عن الوعي عندما وقف امام لوحة موت المسيح لهانز هولبين في بازل بسويسرا.
وكان فرويد قد عرّف عن مفهومه لما يسمّيه بـ "الغرابةuncanny " في مقال نشره عام 1919، حيث وصفه بأنه تجربة للسياقات والأفكار التي تبدو في نفس الوقت غير مألوفة وخارج حدود الفهم، ما يخلق شعورا بالاضطراب.
ومؤخّرا أصيب زائر لمتحف أوفيتزي في فلورنسا بنوبة قلبية أثناء تأمّله لوحة بوتيتشيللي "مولد فينوس". وقد تعافى الرجل في المستشفى واعتُبر مرضه أحدث حالة واضحة لمتلازمة ستندال. وقيل من باب الدعابة أن بوتيتشيللي ربّما أراد أن تكون لوحته تعويذة سحرية. وقيل أيضا أن تمثال ديفيد لميكيل أنجيلو، وهو عمل فلورنسي آخر مهم، قد ألقى عيناً شرّيرة على المدينة منذ أن نُصب فيها في أوائل القرن الخامس عشر.
ويذهب الناقد جوناثان جونز إلى أن وجود عدد كبير من قطع الفنّ العظيم في فلورنسا هو الذي يسبّب مثل هذه المشكلة. فمركز المدينة التاريخي مضغوط في منطقة صغيرة محشوّة بالتماثيل والنوافير واللوحات الجدارية والقباب والأبواب المنحوتة. بل وحتى مستشفى سانتا ماريا نوفا الذي يعالج السيّاح من المتلازمة، والذي يعود تاريخه إلى القرن الخامس عشر، كان ليوناردو دافنشي يقوم بتشريح الجثث بداخله. وبالنسبة لمحبّي الفن، فإن متعة الوصول إلى مكان يجمع الكثير من قطع الفنّ المشهورة يشبه مقابلة كلّ أبطالك في وقت ومكان واحد. وربّما تضيف الطوابير الطويلة ضغطا إضافيا على أعصاب الزائرين.
وحتى يومنا هذا، بحسب جونز، يقال ان لوحةً "إعجازية" تصوّر قصّة البشارة قد رُسمت "بمساعدة من الملائكة" وكُشف عنها للمتعبّدين في احدى كنائس المدينة. الرسّام ساندرو بوتيتشيللي توفي عام 1510، لكن فنّه ما يزال يفتن بعض الناس بعد مرور أكثر من 500 عام على رحيله. في ذلك الوقت وفي هذا المكان كانت هناك كوكبة فريدة من العباقرة: بوتيتشيللي وليوناردو وميكيل أنجيلو وآخرون. وقد عاش هؤلاء في وقت واحد وتركوا وهجاً ما يزال بإمكانك الشعور به على الرغم من المرشدين السياحيين والمقاهي باهظة الثمن. وإذا لم تشعر بالدوار في فلورنسا، فأنت لم تكن هناك حقّا.
من الناحية النظرية، من المنطقي أن يكون الشخص الذي يقدّر الفنّ معجبا بموناليزا ليوناردو دافنشي، على سبيل المثال، أكثر من شخص لا يعرف شيئا عن الرسم. ومع ذلك، هناك حاجة إلى مزيد من البحث لمعرفة كيفية عمل هذه الاستجابات داخل أدمغتنا. وحتى ذلك الحين، فإن كلّ ما يمكننا قوله بيقين نسبيّ هو أن الأفراد ذوي الخلفيات الكلاسيكية أو الدينية أكثر عرضة للإصابة بمتلازمة ستندال عند زيارتهم فلورنسا.

Credits
medicalnewstoday.com
theguardian.com