:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


السبت، فبراير 14، 2009

من أحاديث زوربا

كانت السماء صافية تماما والنجوم تبدو كبيرة متدلية من السماء ككرات من نار، بينما بدا الليل مثل وحش اسود كبير يجثم على الشاطئ.
وازدحمت الكنيسة الدافئة بالقرويين. فوقف الرجال في المقدّمة أمام النساء، وعقد الجميع أيديهم فوق صدورهم. بينما اخذ الأب ستيفانوس، بقامته الطويلة وثوبه الموشّى بالذهب ووجهه الشاحب بعد صيام أربعين يوما، يروح ويغدو بخطى واسعة ويترنّم بأعلى صوته وبسرعة لكي يعود على عجل إلى بيته حيث تنتظره مائدة مثقلة بالحساء والشواء وسائر الأطعمة الشهيّة .
ولو لم تقل الكتب المقدّسة أن النور ولد في مثل هذه الليلة لما نشأت الأسطورة وملأت الدنيا، ولمرّ الحادث كأيّ ظاهرة طبيعية عادية دون أن يلهب الأخيلة.
لكن النور الذي ولد في صميم الشتاء أصبح طفلا والطفل أصبح إلها دانت له النفوس والأرواح عشرين قرنا.
كنت سعيدا وقلت لنفسي: هذه هي السعادة الحقيقية. أن يعيش الإنسان بلا مطامع ويعمل ويكدّ كأنّ له ألف مطمع. وأن يحبّ الناس ويعمل لخيرهم دون أن يكون في حاجة إليهم. وأن يأكل ويشرب ويشترك في أعياد الميلاد دون أن يتورّط في المتاعب أو يقع في الفخاخ. وأن يسير على الشاطئ والنجوم فوقه والبحر إلى يمينه والأرض إلى يساره. وأن يشعر بأن الحياة أنجزت معجزتها الكبرى فصارت قصّة من وحي الخيال.
ومرّت الأيام وحاولت أن اصطنع المرح رغم الحزن الذي كنت اشعر به في قرارة نفسي. فقد أزال أسبوع الأعياد الغابر عنّي كثيرا من الذكريات؛ ذكريات عن موسيقى بعيدة وأناس أحببتهم. وراعني صدق العبارة القديمة التي تقول إن قلب الإنسان حفرة مليئة بالدم، وأولئك الأحباب الذين ماتوا يلقون بأنفسهم على حافّة الحفرة وينهلون من الدم. وهكذا يعودون إلى الحياة، وكلما كان حبّك لهم عظيما زادت الكمية التي ينتهلونها من دمك.
وفي صباح أوّل يوم من العام الجديد فتحت عينيّ على زوربا وهو يدقّ رمّانة بباب الكوخ. وانشقت الرمّانة وتناثرت بذورها كحبّات الياقوت الصافي الأديم. وسقط بعضها على الفراش، فتناولت بضع حبّات وأكلتها وشعرت بانتعاش.
في صباح اليوم التالي رافقت زوربا إلى القرية ودار بيننا في الطريق حديث جرى عن العمل في المنجم. وفيما كنا نهبط منحدرا، ضرب زوربا بقدمه حجرا فتدحرج الحجر في المنحدر. ووقف زوربا مبهوتا وكأنه يرى هذا المنظر لأول مرّة في حياته. والتفت اليّ وقال: هل رأيت؟ إن الحياة تعود إلى الحجارة في المنحدرات. فلم اجبه، لكني شعرت بسرور وبهجة وقلت لنفسي: هكذا ينظر كبار الشعراء والمفكّرين إلى الأشياء كأنهم يرونها لأوّل مرّة. والواقع أنهم لا يرونها وإنما يخلقونها.
لقد كانت الدنيا في نظر زوربا كما كانت في نظر الإنسان الأول مجرّد مشهد كبير رائع. فالنجوم تتألق فوق رأسه وأمواج البحر تتكسّر تحت قدميه وهو يعيش مع الأرض والماء والحيوان والله دون أن يفسد عليه التفكير العقيم متعة الحياة.
إنني ما زلت أتذكّر أن الوقت كان ظهرا عندما كنا في احد متاحف برلين حيث كان صديقي يودّع لوحته العزيزة "المحارب" للرسّام رمبراندت. ونظر صديقي إلى تلك اللوحة متأمّلا المحارب الحاقد اليائس وقال: إذا ما تمكّنت من القيام في حياتي بعمل جدير بالرجال فسأكون مدينا به له.
كنا في صالة المتحف نقف قرب عامود وأمامنا تمثال من البرونز لفارسة عارية تمتطي حصانا برّيا متوحّشا. وحطّ عصفور على رأس التمثال والتفت صوبنا وهزّ ذيله وأطلق لحنا هازئا ثم طار في سبيله. وارتعدتُ وأنا انظر إلى صديقي وسألته: هل سمعت العصفور؟ خيّل إليّ انه قال لنا شيئا ثم طار في سبيله. وابتسم الصديق وأجابني بمثل من أمثالنا العامّة: انه عصفور. دعه يغني. دعه يتكلّم".
وأتذكّر كيف كانت هذه اللحظة عند طلوع الفجر على شاطئ كريت تعود إلى مخيّلتي مع ذلك المثل الحزين لتملأ عقلي بالمرارة.
ووضعت قليلا من التبغ في غليوني وأشعلته. إن كلّ شيء في هذا العالم له معان خفيّة. البَشَر، الحيوانات، الشجر، النجوم.. إنها تبدو كالرموز الهيروغليفية لمن بدأ في حلّ رموزها ليكتشف خفاياها. وبعد مرور السنين وبعد فوات الأوان تفهم معناها الحقيقي.
ورحت أتابع الدخان المتصاعد من الغليون. وكانت روحي تندمج بهذا الدخان وتتلاشى معه في حلقاته الزرقاء الدائرية. ومرّ وقت طويل كنت اشعر - دون العودة إلى المنطق وبيقين لا يوصف - بحقيقة هذا العالم وانبثاقه وزواله.
- نيكوس كازانتزاكيس، روائي يوناني

الأربعاء، فبراير 11، 2009

محطّات

أفرغ كأسك


قرأت بالأمس قصّة جميلة وذات مغزى عن حدود المعرفة وعن قابلية الإنسان لاستيعاب أفكار وتصوّرات جديدة.
تقول القصّة إن شابّا وصل إلى درجة من العلم بحيث تمكّن من قراءة معظم كتب المعرفة والحكمة القديمة، وزاد على ذلك بأن حصل على ارفع الشهادات الأكاديمية الحديثة.
وقد سمع الشابّ عن معلّم عظيم يسكن الجبال ويقصده الناس لطلب الحكمة والمعرفة بأحوال وأمور الدنيا.
وفي احد الأيّام قرّر الشابّ الذهاب إلى ذلك المعلّم في صومعته البعيدة كي يُجري معه نقاشا وليلتمس لنفسه منه بعض الحكمة. وعندما وصل إلى مكان المعلّم بدأ يحدّثه عن العلوم والمعارف والشهادات التي حصل عليها وعن الكتب التي قرأها في مسيرته لطلب العلم.
وبينما كان الشابّ منهمكا في الحديث عن نفسه وصل الشاي. وأخذ المعلّم يصبّ الشاي في كأس حتى فاض الكأس عن آخره. لكنّه استمرّ يسكب الشاي في الكأس إلى أن تدفّق على الطاولة ومن ثمّ على الأرض.
وهنا قطع الشابّ حديثه عن نفسه وقال منبّها المعلّم: لقد فاض الكأس عن آخره. ولا يمكنه أن يستوعب المزيد". فابتسم المعلم وقال: إنك تبدو مثل هذا الكأس تماما. كيف يمكنني أن أعلّمك الحكمة ما لم تفرغ كأسك أوّلا. إن عقلك مملوء بالكثير من الأفكار والتصوّرات المسبقة. ولن يكون بمقدوري أن أعلّمك شيئا جديدا ما دمت تشعر بأنك على إحاطة وعلم بكلّ شيء".
هذه القصّة على بساطتها تتضمّن عددا من الدروس المهمّة.
أوّلها أن تصوّراتنا وأفكارنا المسبقة عن الناس وعن أمور الحياة المختلفة قد تحجب عنا رؤية الحقيقة كما هي فعلا، فلا نعود نرى سوى ما نظنّ انه صواب رغم انه قد يكون خلاف ذلك.
والدرس الثاني أن الإنسان مهما أحسّ انه ملمّ وضليع بالكثير من الأمور، فإنه يجب أن يكون على قناعة بأنه ما يزال يجهل الكثير وأن ثمّة أشياءً كثيرة ومفيدة ممّا يمكن تعلّمها واكتسابها في الحياة.
الدرس الثالث هو ضرورة أن لا يركّز الإنسان في طلب المعرفة على علم أو تخصّص بذاته، بل يجب أن يُبقي عقله مفتوحا وأن تكون لديه القابلية والاستعداد دائما على تقبّل واكتساب الأفكار والخبرات والتجارب الجديدة.
أما الدرس الرابع والأخير فهو أن المعرفة التي تستند إلى نظريات ومعطيات فكرية مجرّدة لا تكفي، بل لا بدّ أيضا من تدريب العقل على التأمّل والحدس وحتى الشكّ سبيلا لاكتساب المعرفة والوصول إلى الحقيقة.

❉ ❉ ❉

امرأة أمام كوخ


في هذه اللوحة الصغيرة لـ فنسنت فان غوخ بعنوان امرأة فلاحة تحفر أمام كوخها، يمكنك أن ترى عالما كبيرا ينفتح أمامك. المرأة الفلاحة التي لا نرى وجهها تنقل لنا ما قد تعجز عن نقله مجلدّات من الكتب.
هناك أشياء كثيرة في هذه اللوحة يمكن أن تقول لنا الكثير عن المرأة. هناك مثلا، حجم الكوخ وبساطته. إذ لا يوجد له مدخل ولا ممرّ يقود إليه ولا حديقة. وكلّ هذه التفاصيل تقول لنا بوضوح أن المرأة فقيرة جدّا.
الملابس التي ترتديها والوشاح الذي يغطّي رأسها تبدو رثّة ومهلهلة. وتقريبا لا يوجد لون في هذه البقعة. أي ليس هناك اثر للأزهار أو المصابيح أو الطوب. كلّ شيء حول هذا البيت يشي بالفقر وحياة الكفاف.
ومع ذلك فالمرأة هنا تتمتّع بإحساس بالكرامة. إذ رغم كونها فقيرة وغير متعلّمة على الأرجح، إلا أنها نظيفة وتقوم بمهمّة. إنها لا تجلس على كرسيّ مريح أمام شرفة. وهي تعلم بأن النهار قصير ولا بدّ أن تُنهي عملها قبل غروب الشمس.
في القرن التاسع عشر كانت الظلمة تخيّم على الأرياف والقرى الأوربية. فالمصابيح الكهربائية كما نعرفها اليوم لم تكن متوفّرة في ذلك الوقت. لذا كان يتعيّن على الناس أن ينجزوا أعمالهم في ضوء النهار الطبيعيّ. كان من الصعب أن تفعل شيئا أكثر من الكلام في الأمسيات عندما تعيش على نور شمعة.
بُنية البيت بسيطة. السقف منخفض وقريب من الأرض كي يوفّر الحماية للجدران والغرف الداخلية. الطقس بارد وأحيانا ممطر في مثل هذا المكان. والمباني يجب أن تُشيّد بطريقة تردع عناصر الطبيعة.
في اللوحة يوظّف فان غوخ الألوان السوداء والبنّية ليعبّر من خلالها عن الأماكن المظلّلة من البيت. هذا اللون القاتم يعطي قوّة ودعما للكوخ وللوحة بشكل عام.
فان غوخ كان من الرسّامين القلائل الذين عرفوا كيف يعملون مع اللون الأسود. وهذه اللوحة تقدّم برهانا إضافيا على هذا.
ضربات الفرشاة التي يتشكّل منها السقف والمباني المجاورة والأشجار التي خلفها تبدو سريعة وغنيّة بالطلاء. وعلى طول سقف البيت استخدم الرسّام ألوانا أرضية متنوّعة بالإضافة إلى بعض الأبيض لإبراز نسيج القشّ في السقف.
صحيح أن هذه اللوحة صغيرة نوعا ما. لكنّ فان غوخ استطاع أن يمنحنا من خلالها الكثير.

❉ ❉ ❉

استراحة موسيقية



❉ ❉ ❉

قدَح التايتان


هذه اللوحة هي مثال واضح على فانتازيا توماس كول الرومانسية. وهي صدى لأعمال الرسّام الأخرى في تلك الفترة، بديكورها الإيطاليّ ومحاولتها تصوير عظمة العصور القديمة وصيرورة الزمن والتأكيد على دور الطبيعة. وقد رُفضت اللوحة من قبل راعي كول في ذلك الوقت لومان ريد. ثم اشتراها لاحقا الفنّان جون فالكونر.
و"قدح التايتان" تتحدّى أيّ محاولة لتفسيرها. فالقدح الواسع والضخم يظهر وقد غطّت حوافّه النباتات والأنقاض الكلاسيكية بينما تطفو على سطحه الزجاجيّ قوارب شراعية. وقد رُبطت هذه التفاصيل بالأساطير الاسكندينافية واليونانية.
ثيوفيلوس سترونغفيلو وصف اللوحة بأنها عالم قائم بذاته وأنها ربّما تكون تجسيدا لعالم الإنسانية المصغّر في خضمّ الطبيعة الشاسعة.
فالكونر ربط الجذع الضخمة للقدح بجذع الشجرة التي ترمز للعالم في أساطير اسكندينافيا.
وهناك نظريات أخرى تربط الأشكال الفانتازية بلوحة اوليسيس يحتقر بوليفيموس لـ تيرنر وبالهندسة المعمارية الإيطالية والأشكال الجيولوجية، أو بالكأس الذهبية لإله الشمس هيليوس.
بدايات هذه المدرسة في الرسم، والتي يُعتبر كول مؤسّسها، تزامنت مع وصوله إلى نيويورك في العام 1825م. وقد قرّر أن يصبح رسّاما للمناظر الطبيعية بعد فترة من اشتغاله برسم البورتريهات.
ومنذ البداية، كان أسلوبه يتّسم بالأشكال الدرامية والتقنية القويّة، وهو ملمح يعكس تأثّره بالنظرية الجمالية للفنّانين الانجليز الذين كانوا يعبّرون عن كلّ ما هو سامٍ أو مخيف في الطبيعة.
بعد أن عاد كول إلى أميركا من جولة أوربّية، استمرّ يرسم الطبيعة من منظور إيطالي في هيئة رموز وصروح ضخمة، من قبيل سلسلة لوحاته بعنوان "مسار الإمبراطورية".
وبعد جولته الأوروبّية الثانية عام 1839، رسم لوحته "رحلة الحياة" واستمرّ في رسم مواضيع تغلب عليها المناظر الخلابة للطبيعة الأمريكية.
لكن حتى في تلك اللوحات، كان ميل كول واضحا لمزج صور الطبيعة بمعان تاريخية ودينية. وقد توفّي فجأة في نيويورك التي كان قد انتقل إليها عام 1836 مترسّما خُطى العديد من فنّاني مدرسة نهر هدسون.

Credits
vangoghgallery.com

الثلاثاء، فبراير 10، 2009

خواطر في الأدب والفنّ

استعادة


الليل منقذ. وكثيرا ما يفعل.
الليل يخفي بسحره الأخطار الكامنة والألم والهواجس العميقة.
النهار يأتي بمفاجئاته المخيفة، بالصراع والتهيّج وعدم الارتياح.
النهار يذكّرنا بالانضباط وبالسلوك الذي يتعارض عموما مع التفكير.
النهار يجعلنا خاضعين للرغبة والسلطة والطموح.
لكن الليل مسألة مختلفة. إنه يأتي من كوكب آخر، من عالم مختلف.
الليل يجلب الرياح والظلام وستارة بلا اسم.
الليل مختلف، لأنه ينقذنا من مزيد من الآلام والجراح.
الليل يعيدنا إلى حالتنا الأصلية.
يحمينا من المزيد من الأسئلة ويتركنا في سلام.
الليل سبب طبيعي لأن نحيا من بين أسباب كثيرة لأن نموت.
في الليل، نحن بعيدون عن الجموع، عن الأصدقاء، وعن التملّق بما فيه تملّقنا نحن.
وإذا كان الليل متملّقا أيضا، فهو متملّق أمين.
الليل لا يقدّر بثمن، لأنه يمنحنا المرآة التي نرى فيها أنفسنا وتكشف عن رغباتنا الدفينة التي هي أصدق أفكارنا.
الليل يمنحنا تلك الكآبة اللذيذة ويوفّر لنا ملاذا من الجنون المتسارع للنهار، من الوجوه الرطبة لضوء النهار.
الليل يسمح لنا بإغراق أنفسنا في مياه الأحلام العميقة وفي سيكولوجيا العقل الباطن.
الليل عادة لا يعطينا الطمأنينة الكاملة.
لكنه يحمل وعدا بالسلام، وإن كان زائفا أحيانا.

❉ ❉ ❉

❉ ❉ ❉

فتاتان مع أزهار دُفلى


هذه اللوحة مختلفة تماما عن سائر لوحات غوستاف كليمت. فهي تبدو واقعية في مقابل الطابع الرمزيّ الذي يغلب على أعمال هذا الرسّام.
اللوحة مرسومة في الهواء الطلق ولم تتحوّل بعد إلى ذلك الأرابيسك البديع الموشّى بالزينة الثمينة كما في أعمال الرسّام الناضجة.
رسم كليمت فتاتان مع أزهار دُفلى وهو دون الثلاثين. ومع ذلك يبرهن فيها على إتقانه وبراعته في الرسم.
خلال تلك السنوات، كان كليمت يركّز اهتمامه على الفنّ الانجليزيّ من العصر الفيكتوريّ، وخاصّة فنّ ما قبل الرافائيليين.
كانت هذه هي اللحظة التي تجاوز فيها كليمت الحدود الضيّقة للرسم من حيث كونه إعادة بناء للتاريخ أو واقعية فوتوغرافية. ومن هنا بدأ مسار الزخرفة الأسلوبية الذي سيقوده في غضون سنوات قليلة إلى الشعرية الكاملة للرمزية.
في هذه اللوحة تبرز إلى الواجهة ثلاثة عناصر رئيسية: الألوان الكهرمانية والزهرية الدافئة، وحساسية الصور والرموز، والتوازن.
النقوش الذهبية على غطاء رأس الفتاة إلى اليمين تُصدر بريقا وتعطي انطباعا ثلاثيّ الأبعاد. نسيج الحجر والقماش والزهور والبشرة يبدو واقعيّا جدّا.
"فتاتان مع أزهار دُفلى" لوحة مكثّفة عاطفياً. وأوّل ما يلفت الانتباه فيها هو غطاء الشعر اللامع الذي ترتديه الفتاة الأطول ذات الفستان الأسود. هناك شيء ما متطوّر وحسّاس في ملابسها وفي طريقة وقوفها وفي اهتمامها بالزهور. ويبدو أنها تحاول أن تشرح للفتاة الأصغر ذات الشعر الأحمر شيئا له علاقة بتفاصيل الأزهار، ربّما شكلها وجمالها.
مزيج الألوان الذي استخدمه الرسّام في هذه اللوحة مذهل. الألوان الدافئة للبشرة والجدران والشعر تصاحبها ألوان سوداء وخضراء داكنة وحمراء.
استخدام كليمت للون الذهبيّ يضفي تأثيرا شعوريا. البقع الذهبية تعطي للوحة طابعا واقعيا لدرجة أن الناظر يكاد يلمس نسيج الملابس بيده. النسيج الدافئ لعامود الحجر الكهرمانيّ والجدار في الخلفية تكمّله الألوان الحمراء والوردية على الشجرة والأزهار.
هذه اللوحة تتضمّن إحساسا "طبيعيّا وحقيقيّا". وهي تذكّر الناظر بصورة فوتوغرافية من حيث أنها تمسك بلحظة في الزمن وتترك للمتلقّي مهمّة السؤال عن القصّة التي ترويها اللوحة.
الجدار الظاهر وراء الفتاتين يبدو في حالة سيولة. اليدان والذراعان وفروع الشجرة، بل وحتى الأشياء الجامدة في اللوحة تبدو كلّها مفعمة بالحياة وبالحركة.
لوحة جميلة بالفعل. وكليمت يحاول التعبير من خلالها عن حساسية وجمال وتألّق الأنثى. وأغلب الظنّ أن اللوحة تحكي عن قصّة ما. لكنها متروكة لخيال الناظر الذي يتعيّن عليه أن يكتشفها ويتبيّنها.
هذه اللوحة تشبه إلى حدّ كبير الرسوم التوضيحية التي تزيّن القصص القصيرة للأطفال بالنظر إلى أنها تتحدّث إلى الناظر مباشرة.
وهي لا تشبه أعمال كليمت التي رسمها في وقت لاحق من حيث كونها أكثر واقعية وأقلّ سيولة. ومع ذلك، ومثلما هو الحال في جميع أعماله الأخرى، يبدو كليمت متمكّنا في أسلوب استخدامه للألوان بطريقة مبتكرة وبارعة.

Credits
klimt.com

الاثنين، فبراير 09، 2009

موسيقى التضاريس

شاهدت منذ أيّام على شاشة إحدى القنوات الأجنبية برنامجا تسجيليا. وفي الواقع لا أدري ما إذا كان هذا الوصف دقيقا أم لا.
لكن إجمالا، كان البرنامج أو الفيلم يعرض لقطات متتابعة وطويلة نسبيا لطبيعة ذات تضاريس متنوّعة، من صحارى شاسعة وجبال شاهقة وبحيرات وأنهار جليدية وخلافه.
كان واضحا أن تلك اللقطات من صنع مصوّر بارع وفنّان مبدع.
ولم يكن هناك تعليق أو كلام. فقط صور متتابعة يرافق كلا منها موسيقى تناسب المشهد وتخلق في نفس المشاهد انطباعا ما.
الأمر المثير للاهتمام أن الموسيقى التصويرية المستخدمة لم تكن تحتوي سوى على عدد قليل جدّا من الآلات الموسيقية. ومن ثمّ، كان يتخلّلها العديد من الفراغات والوقفات الصامتة. غير انه ذلك النوع من الصمت الذي تتشكّل ضمنه الرموز والمعاني والظلال. ذلك الصمت الذي "لا يقول شيئا ولا يترك شيئا لا يقال"، على حدّ تعبير الفيلسوف الصيني لاو تسو.
كان ثمّة صور لرياح وغيوم ومطر وأشجار وبحيرات وغابات. وأخرى لأراض جافّة ونباتات قاسية وصحارى جرداء ومتّسعة تشعر وأنت تراها أنها منسوجة من الزمن وأنه يلزمك عصورا بأكملها حتى تعبرها وتجتازها.

الموسيقى نفسها تعمّق هذا الإحساس وتضعك في قلب المشهد، وتوقظ فيك روح المشاركة والتوحّد مع عالم الطبيعة بل ومع الكون على إطلاقه.
وأنت ترى لقطة لنهر متجمّد أو بحيرة باردة، فإن الموسيقى تكثّف إحساسك بشاعرية المكان. فأنت تشعر بالبرد، تلمسه، وتتجوّل في أرجاء المكان كمن يباشر القيام برحلة روحية تزدحم بالتنبؤات والتأمّلات والرؤى.
وفي بعض الأحيان تنقلك الموسيقى إلى أفق خافت، لكنه واضح بما يكفي لكي يثير في نفسك شعورا باستباق الحدث أو استكناه طبيعة المشهد الذي سيأتي تالياً.
وهناك أيضا هذا الإحساس بتعاقب الفصول وصيرورة الزمن والتنوّع الايكولوجي، بما تتيحه هذه العناصر من إمكانات لنحت معان وصور وانفعالات جديدة ومتباينة.
منذ القدم كانت التضاريس وشكل الأرض عنصر إلهام للكثير من الشعراء والأدباء والفلاسفة.
وهناك من الموسيقيين الكلاسيكيين من ألّفوا سيمفونيات وأعمالا موسيقية تحاول نقل الإحساس بروح المكان وشخصيّته ومزاجه. ومن هؤلاء برامز وبيتهوفن مثلا.
كما يمكن أن نلمس شيئا من هذا في أعمال بعض الموسيقيين المعاصرين مثل فانغيليس اليوناني وجان ميشيل جار الفرنسي وكيتارو الياباني وجون باري الأمريكي.
وأغلب الظن أن احد المصادر المهمّة في شيوع مثل هذا النوع من الموسيقى ورواجه هو الفلسفات والأديان الشرقية القديمة التي تحتفي بالطبيعة وتركّز على العلاقة ما بين الإنسان والكون، على اعتبار أن ذلك من شانه أن يعزّز شعور الإنسان بالسلام الداخلي ويقوّي الأواصر الروحية ما بين الإنسان وغيره من العناصر والكائنات.

الأحد، فبراير 08، 2009

أجواء روسيّة

أوّل مرّة سمعت فيها موسيقى موديست موسوريسكي "ليلة على الجبل الأجرد" كانت منذ سنوات في احد برامج الدراما أو لعله كان برنامجا وثائقيا.
والحقيقة أن هذه القطعة بالذات ليست من تلك النوعية من الموسيقى التي يتمنّى الإنسان أن يسمعها في كلّ حين. فهي موسيقى متوتّرة، مظلمة بل وعنيفة إلى حدّ ما. لكنها مشهورة جدّا، وقد عرفها الناس أكثر بعد أن وظفت في الفيلم المشهور اوديسّا الفضاء.
والمقطوعة تذكّرنا أجواؤها إلى حدّ كبير بالموسيقى المسماة طيران الفالكيري لـ ريتشارد فاغنر، وبموسيقى ريتشارد شتراوس هكذا تحدّث زرادشت Thus Spoke Zarathustra المستوحاة من عنوان رواية لـ فريدريك نيتشه.
موسوريسكي استلهم هو الآخر معزوفته من قصّة قصيرة للكاتب الروسي غوغول يمزج فيها بين حكايات الجان والقوى الغريبة بأسلوب فلسفي وتأمّلي. وتزدحم القصّة بمشاهد الغربان والساحرات والأرواح والأشباح والليل والظلام وأجراس الكنائس. إلى آخره.
والانطباع الذي تثيره هذه الموسيقى في النفس هو مزيج من الخوف والترقّب. وما يكثف هذا الإحساس في نفس السامع بدايتها الدراماتيكية الصاخبة التي تصوّر لحظة وصول الآلهة السوداء إلى الجبل الأجرد. ثم تتنامى وتيرة الموسيقى شيئا فشيئا مثيرة في السامع إحساسا بأن كلّ شيء يسير إلى نهايته الحتمية، أي إلى حيث التضحية والخلاص وانتصار الخير على الشر.
وليس من المستغرب أن يجد مخرجو الأفلام السينمائية بغيتهم في هذه المقطوعة. فقد تم توظيفها مرارا في العديد من الأفلام مثل سلسلة هالووين وفيلم ديزني المشهور "فانتازيا".
وما تزال "ليلة على الجبل الأجرد" إلى اليوم من المقطوعات الكلاسيكية المفضّلة والتي تعزف بانتظام. وهي مصنّفة ضمن ما اصطلح على تسميته بالأدب الاوركسترالي، أي الموسيقى الكلاسيكية المستوحاة من أعمال أدبية ومسرحية.
أما موسوريسكي نفسه فيعتبر واحدا من أفضل المؤلفين الكلاسيكيين في روسيا. وكثيرا ما يُقرن اسمه بأسماء مثل بروكوفييف وشوستاكوفيتش وآرام خاتشاتوريان ورحمانينوف وسترافينسكي وغيرهم من الموسيقيّين الروس المجدّدين.
وهناك من يشبّه إيقاعات موسيقاه وغناها اللوني والنغمي بالشخصية الروسية نفسها.
ومن أشهر أعماله الأخرى "صُوَر في معرض"، وهي عبارة عن سلسلة من المعزوفات الموسيقية التي تصف لوحات فنّية بأسلوب يتداخل فيه اللون والنغم بطريقة جميلة ومبتكرة. وقد استوحى موسوريسكي فكرة الموسيقى بعد أن شاهد مجموعة رسوم واسكتشات لصديقه الرسّام والمهندس فيكتور هارتمان.
موسيقى الصور سهلة، بسيطة وقريبة من النفس، إذ تترك للسامع حرّية أن يكوّن الانطباع الذي يريد عن أجواء ومزاج كلّ صورة.
بينما "الجبل الأجرد" موسيقى معقّدة وصعبة. قد تسمعها دون أن تحبّها أو ترتاح لها كثيرا. لكن لا جدال في أنها تتسم بحيويّتها الكبيرة وبشحنة الدراما المكثفة فيها.
الموسيقى الروسية الكلاسيكية، بشكل عام، معروفة بثرائها وعمقها وتنوّعها الكبير من حيث الشكل والمضمون. والذي يريد أن يكتشف روسيا أو يعرف شيئا عن شعوبها وثقافاتها المختلفة لا بدّ له أن يستمع إلى تشايكوفسكي وريمسكي كورساكوف. فموسيقاهما يمكن اعتبارها تمثيلا حيّا وحقيقيا للروح الروسية بما تتضمّنه، أي الموسيقى، من خصائص ومن تنوّع في الثيمات والأفكار، من قومية وملحمية ودينية وعاطفية وتأمّلية وفانتازية.. وخلافه.
ولو جاز لي أن أضيف اسمين آخرين لاخترت ميخائيل غلينكا مؤلّف روسلان ولودميلا، وهي القصّة الروسية المناظرة لـ روميو وجولييت، وألكسندر بورودين صاحب الأوبرا المشهورة "الأمير ايغور".
وبورودين لا يبتعد كثيرا في موسيقاه عن نكهة وطبيعة موسيقى تشايكوفسكي وكورساكوف.
والذي يستمع إلى الأمير إيغور سيدرك أننا إزاء عمل ملحمي، لكنه لا يخلو من عناصر خفيفة، من قبيل القصص الإنسانية والمواقف العاطفية. وقد ألف بورودين الأوبرا في وقت كانت المشاعر الوطنية للروس في أوج اشتعالها وتأجّجها. وعُزفت لأوّل مرّة في ذكرى اعتلاء ألكسندر الثاني عرش روسيا.
في أوبرا الأمير ايغور يقدّم بورودين صورة غير نمطية عن المغول. إذ لطالما عُرف عن ذلك الشعب ميله للحروب ولحياة الغزو. والانطباع السائد عن تلك القبائل التي استوطنت أواسط آسيا منذ أقدم الأزمنة هو أنهم كانوا من المحاربين القساة والمتعطّشين للدماء الذين ما أن يحلّوا بأرض حتى يروّعوا أهلها وينشروا فيها الدمار والخراب.
لكن أوبرا الأمير ايغور تقدّم المغول بهيئة شعب محبّ للحياة ومولع بالرقص والغناء ومعاقرة الخمر والنساء.
والأوبرا تتمحور حول حادثة غزو القبائل المغولية لجنوب روسيا مع ما رافقها من نجاح قائد المغول في اسر الأمير الروسي إيغور وابنه. وفي ثنايا القصّة مشهد يصوّر الخان المغولي وهو يقدّم لأسراه ضروبا باذخة من التسلية والترفيه على هيئة أغان ورقص وفتيات مغريات من العبيد.
وأشهر أجزاء هذه الأوبرا هو تلك المعزوفة المسمّاة رقصات تتارية والتي تصوّر رقص نساء المغول في قالب إيقاعي يبدأ بطيئا ثم يتصاعد تدريجيا ويغلب عليه استخدام الآلات الوترية والنفخية. وأجمل ما في هذا اللحن هو أصوات الكورال التي تؤدّي غناءً تذكّريا شجيّا يلامس القلب ويثير شعورا بالجمال والتسامي وينقل السامع إلى آفاق وذرى بعيدة.
هذا الجزء أيضا ينطوي على غنائية رائعة، بألوانه الباذخة وابتكاراته الهارمونية الأخّاذة.
ولهذا السبب حققت هذه القطعة نجاحا هائلا بدليل كثيرة تسجيلاتها وتنوّع توزيعاتها وحرص اكبر الفرق الاوركسترالية في العالم على إدراجها وعزفها ضمن برامجها الموسيقية.
وقد أكسبت هذه المعزوفة ألكسندر بورودين شهرة واسعة ووضعته في طليعة أفضل موسيقيّي روسيا في القرن التاسع عشر.
هذا على الرغم من أنه كان يعتبر التأليف الموسيقي مجرّد هواية لإزجاء الفراغ وللتعبير عن النفس والمشاعر. وكان يكرّس جلّ وقته لمهنته الأصلية ككيميائي وأستاذ في كلية الطب.
ومن بين أعماله الموسيقية الأخرى التي يجدر التنويه بها الرباعية الوترية ومعزوفته الأخرى بعنوان "في سهوب آسيا الوسطى" التي أرادها أن تكون تذكيرا بماضي روسيا البعيد عندما كانت حدودها الشاسعة محصّنة ومنيعة بما يكفي لصدّ هجمات الغزاة والمغامرين.

هامش:
موديست موسوريسكي: ليلة على الجبل الأجرد
ريتشارد فاغنر: طيران الفالكيري
ريتشارد شتراوس: هكذا تحدّث زرادشت
موديست موسوريسكي: صور في معرض
ميخائيل غلينكا: روسلان ولودميلا
الكسندر بورودين: رقصات تتارية، في سهوب آسيا الوسطى، الرباعية الوترية