:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الاثنين، يوليو 30، 2012

سنوات ليوناردو في ميلانو

طوال حياته المهنيّة، لم يرسم ليوناردو دافنشي سوى 20 لوحة، بقي منها إلى اليوم 14 لوحة فقط. كان بطيئا جدّا في عمله. فخلال الفترة التي رسم فيها الموناليزا، كان ميكيل أنجيلو قد أكمل تقريبا جميع رسوماته في سقف كنيسة سيستين.
كانت مدينة ميلانو هي المكان الذي طوّر فيه ليوناردو أفكاره كرسّام فيلسوف. وفيها تحوّلت ملاحظاته الدقيقة للطبيعة إلى وسيلة لاكتشاف قوانينها، ومن ثمّ استخدامها لإبراز العالم المادّي والميتافيزيقي.
وقد حظي ليوناردو في ميلانو برعاية أميرها لودوفيكو سفورزا، وهو سليل عائلة متنفّذة لعبت دورا مهمّا في تاريخ هذه المدينة. والمعروف أن الأمير والرسّام كانا متماثلين في السنّ، إذ ولدا في نفس السنة، أي 1452م.
كان لودوفيكو الابن الرابع لعائلته. وكانت آماله متركّزة على الثروة وليس السلطة. ولهذا السبب كان صعوده إلى الحكم مفاجئا وقبضته على ميلانو ضعيفة في بداية الأمر. كان لودوفيكو بحاجة ماسّة إلى ليوناردو دافنشي وإلى خبراته العملية ومهاراته الفنّية. وقد أشار ليوناردو نفسه إلى هذه الحقيقة في رسالة أعلن فيها عن نفسه كمصمّم لأدوات الحرب، التي يمكن تكييفها لتُستخدم في زمن السلم، في مجال العمارة وتصميم المباني وفي تسيير المياه من مكان إلى آخر.
في ذلك الوقت، كان الرسّام يكرّس كلّ وقته لدراسة التصميم وتجريب كلّ شيء كان قد تعلّمه عن المنظور الجوّي والضوء والظلّ. وكان يرى أن الفهم الحقيقيّ للأشكال الموجودة في أعمال الطبيعة هو السبيل الأمثل لفهم صانع هذه الأشياء.
وأثناء إقامته في ميلانو، رسم ليوناردو ثلاثا من أشهر لوحاته. الأولى هي بورتريه سيسيليا غاليراني "سيّدة مع إيرمين". والثانية امرأة بعقد جميل "أو لا بيل فيرونيير" التي يصوّر فيها لوكريشيا كريفالي عشيقة لودوفيكو. والثالثة، وهي غير معروفة كثيرا، بورتريه لموسيقيّ.
ويقال إن الفنّان رسم هذه اللوحات الصامتة، لكن الرائعة، لأعين الخبراء والمختصّين، لأنه وضع فيها عصارة تجاربه في أساليب التوليف والإفصاح عن المشاعر. ومن الواضح انه تجنّب عمدا استخدام الألوان الساطعة، لأنه كان يعتقد أن "كلّ من يرسم بلا ظلال لا يمكن أن يحقّق المجد الفنّي الذي لا تدركه سوى العقول الفطنة والنبيلة".
النظرات المباشرة للمرأة في لوحة لوكريشيا كريفالي توحي بالعلاقة بين الموضوع والمتلقّي وتضفي على المرأة بعدا شخصيا. وقد أشيع في بعض الأوقات أن من رسم اللوحة هو احد تلاميذ دافنشي. لكن نموذج الوجه والملامح يرجّح احتمال أن من رسم اللوحة هو ليوناردو نفسه. معرفة الرسّام بالضوء مكّنته من تصوير الملامح الدقيقة للمرأة من خلال هذه الصورة المدهشة ذات البعد الثلاثي التي يبدو التناغم فيها واضحا بين المعرفة العلمية والبراعة الفنّية.
وفي جميع هذه اللوحات الثلاث، فإن تحويرات الألوان والضوء، والتحوّلات غير المحسوسة في الأجساد والنماذج، والتعامل الحريص مع النسيج، كلّها أشكال وسمات اعتمد فيها الرسّام، كليّا تقريبا، على الملاحظة البحتة.
أثناء مكوثه في ميلانو، كان ليوناردو يبحث عن شكل جديد من الرسم. وأصبح يعتقد بأن الفنّ يمكن أن يبلغ درجة الكمال، وبأن الغاية من الرسم هي تصوير كلّ ما يُرى وما لا يُرى، من ملامح الوجه إلى المشاعر العابرة.
كان ذلك نوعا من الطموح الرفيع وغير العاديّ. وهو يفسّر، جزئيا، لماذا كان الرسّام غالبا يتوقّف عن رسم لوحة ما دون أن يكملها لينتقل لأخرى.
لوحات دافنشي في ميلانو كانت محاولات لأخذ رسم الوجه إلى ما هو ابعد من مجرّد تصوير الملامح. وجميع هذه الوجوه الثلاثة قريبة من تصوّرات ليوناردو المثالية عن النِسب والتناغم. كما أنها، وعلى نحو ما، مشرّبة بإحساس روحي لا تخطئه العين. "مترجم".

الأحد، يوليو 29، 2012

جماليّات الطبيعة

في الاوديسّا، يأخذنا هوميروس إلى أماكن متعدّدة من الطبيعة ويستكشف معانيها الرمزية، ويتناول القيم الحضرية للبطل والشخصيّات الأخرى، ويُخضعها للعديد من الاختبارات. كما يشرح لنا العلاقة بين الآلهة والبشر، وبين الحاضر والماضي، ويقدّم رؤى عن هذه الحياة وعمّا بعدها.
وما يلفت الانتباه بشكل خاصّ هو حديث هوميروس عن البرّية والدلالات الرمزية التي تحملها. البرّية في الأوديسّا مكان غير حضريّ، وبالتالي يفتقر إلى كلّ صفات العمران. في البرّية، ليس من السهل أن تثق بأحد. قد يفترسك احد أكلة لحوم البشر، وقد تتحوّل إلى حيوان، أو قد تغويك غولة، أو تُسحق عظامك على الصخور.
البرّية مكان مختلف وخطير. ولكنّها أيضا، وهذا هو أحد الجوانب المثيرة للاهتمام، جميلة ومغرية. وإذا كان بوليفيموس غاشماً وبهيميّا، فإن الطبيعة التي يعيش فيها هي أشبه ما تكون بالجنّة، مع طعام وفير بحيث لا يحتاج المرء للعمل أو بذل الجهد. أغاني السيرينات مدمّرة، لكنها جميلة. والبرّية أيضا تؤوي سيرسي إلهة التحوّلات السحرية. والذي يذكّرنا بهذا هو العبارة الأكثر شهرة في الأوديسّا: بحر الظلام النبيذي". مثل النبيذ، فإن البحر (والبرّية) غامضان ومظلمان ويحملان معهما الكثير من الأخطار. لكن، وكالنبيذ أيضا، فإن البرّية مُسكرة، وحتى ساحرة. ويمكن أيضا أن تكون منحة لبني البشر. والمرء لا يمكنه أن يفكّر في النبيذ دون أن يتذكّر طبيعته المتناقضة.
في العهد القديم، ثمّة إشارات عن عدد من البراري. لكن الغرض من ذكرها هو امتحان ديانة العبرانيين وليس أكثر. إذ لا توصل هذه النصوص أيّ إحساس بأن للبرّية جمالا وفتنة، بل هي مجرّد ارض قاسية ومجدبة.
البرّية أيضا لها حضور قويّ في الأدب والفنّ. فهي موجودة في الروايات التي تتحدّث عن مخاطر البحار المضطربة والبراري النائية "مثل رواية موبي ديك لـ هيرمان ميلفيل". وهي موجودة أيضا في أساطير الشمال الأوربّي وفي مغامرات الرحالة والمستكشفين القدماء. ومن بين المفكّرين والفلاسفة الذين تحدّثوا عن البرّية مطوّلا كلّ من جيل دولوز وغريغوري وايتهيد.
في كتابه حواسّ الطيور، يتناول العالم تيم بيركهيد جانبا آخر من جماليات الطبيعة، متمثّلا في بعض الظواهر الغريبة التي رصدها من عالم الطيور. يتحدّث، مثلا، عن طائر يقال له الروبين "أو أبو الحنّاء بالعربية" وكيف انه يستطيع سماع الدود وهو يتحرّك تحت الأرض. ثم يتحدّث عن الكيوي، وهو طائر أعمى تقريبا. ومع ذلك يستطيع هذا الطائر شمّ الدود من مسافات بعيدة.
ويتحدّث المؤلّف عن طائر الفلامينغو الذي يُعتبر من أجمل الطيور على الأرض. وهو معروف بألوانه الزاهية التي يغلب عليها الزهريّ. جاذبية الفلامينغو تتبدّى في أجمل حالاتها عندما يطير في أسراب كثيرة. وهو يهاجر لمسافات طويلة، إذ يمكنه أن يقطع أكثر من مائتي ميل في ليلة واحدة. وبإمكان الفلامينغو أيضا أن يحسّ بالمطر المتساقط على بعد مئات الكيلومترات، حيث الأرض المبلّلة التي تصلح للتكاثر. وللفلامينغو قدرة غريبة على التكيّف مع أكثر حالات البيئة تطرّفا. فهو يعيش قرب البراكين، لكن يمكن رؤيته وسط البحيرات الجليدية أيضا. الفلامينغو يمكن أن يعيش في بيئته الطبيعية حوالي ثلاثين عاما، وفي الأسر لخمسين عاما أو أكثر.
الجبال أيضا لها جماليّاتها الخاصّة والمتفرّدة التي تجعل منها مصدر سحر وفتنة بمناظرها الجليلة وهوائها العليل. ساكنو الجبال هم عادةً، ولسبب غير معروف تماما، أكثر ودّا وحميمية ودفئا من سكّان الحواضر. لكن الحياة في الجبال معروفة بقسوتها، لذا يعتمد قاطنوها على بعضهم البعض طلبا للحماية والأمان. وبسبب بعد الجبال عن العمران، فإنك لا تستطيع العيش فيها دون أن تحتاج لمساعدة الآخرين. الإحساس بالجماعة هو ما يميّز سكّان الجبال أكثر من غيرهم. هذا الشعور الجماعي هو الذي يساعدهم على قهر ظروف العزلة والشتاء الطويل والتعامل مع المحاصيل التي لا تدوم طويلا.
مكان أهل الجبال في العالم وفي التاريخ جعلهم يُظهرون أفضل ما في الطبيعة الإنسانية من صفات وخصال. الجبال مصدر إلهام، ليس بسبب جمالها المذهل فحسب، وإنما أيضا لأن سكّانها يتميّزون بالعاطفة والدفء الإنساني. والأشخاص الذين يتوقون إلى استكشاف غموض الكون والطاقات الكامنة فيه لديهم هذا الشغف بالجبال. في الجبال تحسّ بالعالم الأزلي والخالد وتصبح جزءا منه. تشعر بالسكون والرياح وتتنفّس الهواء العذب وترى فيها سماءً أوسع ونجوما أكثر.
في كثير من الأحيان، نتحدّث عن الطبيعة وكأنها خير مطلق. لكنها، مثل كلّ شيء آخر في هذه الحياة، لها وجه مختلف. فالبراكين والزلازل والأعاصير التي تقتل البشر وتدمّر الممتلكات هي أيضا جزء من عالم الطبيعة. وهناك أيضا الفيروسات والبكتيريا القاتلة والسلوكيات المرتبطة بتغيّر الطقس وتعاقب الفصول.
الفكرة الشائعة بين الناس هي أن خالق الطبيعة هو إله خيّر ورحيم. وبناءً عليه، يُفترض أن تكون الطبيعة أفضل العوالم قاطبة. غير أن الواقع يقول شيئا آخر مختلفا. فالطبيعة يمكن أن تقتل وأن تعذّب وتبطش وتدمّر. كما أن الحيوانات يفترس بعضها بعضا والطيور الجارحة تهجم على أعشاش الطيور الصغيرة لتلتهم صغارها. الطبيعة ليست خيرا محضا وليست شرّا خالصا بنفس الوقت. وفي كلّ الأحوال، يمكن أن تمنحنا الطبيعة أفضل ما لديها إذا ما تعاملنا معها بوعي وبصيرة.