:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الخميس، مارس 27، 2014

أغاني البحر


على مرّ التاريخ، ازدهرت الحضارات على طول السواحل وعلى ضفاف الأنهار. مثال ذلك حضارات السومريين والمصريين واليونانيين والفايكنج والآشوريين وحضارة وادي السند وغيرها.
حيث يوجد ماء، توجد قوارب. وحيث توجد قوارب، هناك بحّارة وملاحون. وحيثما هنالك ملاح، هنالك أغنية. ثمّة شيء ما ساحر وغامض في أغاني البحّارة. إغراء الأصوات في المياه المفتوحة أو عبر الضباب البعيد مشوب بحزن مجهول يواكب حركة المدّ والجزر في النهر أو البحر.
أغاني البحّارة ظاهرة عالمية يمكن تتبّعها في مختلف الحضارات والمناطق الجغرافية في العالم. وعبر القرون والقارّات والثقافات، أسّس البحّارة، من خلال حبّهم المشترك للشعر والألحان والإيقاعات الحيّة، حركة عالمية في الموسيقى يمكن تسميتها بأغاني البحر.
وكانت أغاني البحر وما تزال تؤدّي غرضا مهمّا بإيقاعاتها وألوانها الحيوية، وهو الحفاظ على تزامن حركات البحّارة وإزالة السأم عنهم وتخفيف عبء الأعمال الثقيلة والمضنية التي ينجزونها.
وقد اكتسبت هذه الأغاني شعبية هائلة بسبب توليفاتها وألحانها وإيقاعاتها الجميلة التي، حتى وإن كانت بسيطة، إلا أنها ساحرة وعذبة وتمنح رجال البحر الطاقة والحيوية اللازمة للاستمرار في الرحلة.
وانتشرت هذه الأغاني في محيطات اسكوتلندا وبحار بريطانيا وعلى ضفاف الأنهار الكبيرة التي تنبع من جبال الهيمالايا وتفرغ مياهها في خليج البنغال. ومن أفريقيا، أرض الإيقاعات والطبول، حمل الأفارقة معهم في سفن الرقيق تقليد أغاني العمل ونقلوه إلى المستعمرات الجديدة.
من جهة أخرى، اشتهر في الموسيقى الكلاسيكية نوع من أغاني البحر يُسمّى الباركارول، وهي في الأصل أغان شعبية كان يترنّم بها بحّارة قوارب الغندول في فينيسيا.
ومن أشهر من كتبوا الباركارول كلّ من روسيني وفيردي ودونيزيتي وشوبيرت وماندلسون وتشايكوفسكي وشوبان.
غير أن الباركارول الأكثر شهرة وشعبية في العالم هو ذلك المنسوب لجاك اوفنباخ والذي ظهر في أهمّ عمل اوبرالي له بعنوان "حكايات هوفمان".
هذا اللحن عندما تستمع إليه فإنه يصعب عليك أن تنتزعه من رأسك بسهولة. الأوبرا نفسها، أي حكايات هوفمان، تستكشف عدم وضوح العقل الواعي وذلك من خلال ذكريات المؤلّف عن ثلاث نساء. ومقطوعة أو أغنية الباركارول تظهر في الفصل الثالث من الأوبرا عندما تنتقل الأحداث إلى فينيسيا. والأغنية عبارة عن "دويتو" أو ثنائي تؤدّيه مغنّيتا أوبرا.
استخدم اوفنباخ الباركارول لإعطاء إحساس شرّير بالفعل الذي يتكرّر في ثنايا هذا الفصل. وهذا الشعور يُعزى إلى التناقض ما بين الحضور المادّي للصوت البشري والإحساس الأثيري للآلات الموسيقية والذي يخلق تأثيرا يشبه السراب. "شاهد على هذا الرابط أداء الثنائي آن هالينبيرغ وسابين دوفياي لهذه الأغنية".
من جهة أخرى، وُظّفت القطعة في العديد من الأفلام وأشهرها فيلم الحياة جميلة وفيلم وودي آلان بعنوان منتصف الليل في باريس.
المعروف أن أكثر ألحان الباركارول شهرة تعود للفترة الرومانسية. لكن هذا النوع من الموسيقى كان معروفا جيّدا قبل ذلك، أي في القرن الثامن عشر. وكان يُحتفى به من أصحاب الذائقة الرفيعة.
جاك أوفنباخ كان ملحّنا فرنسيا من أصول ألمانية. وكان له تأثير قويّ على الملحّنين الذين أتوا من بعده، وخاصّة يوهان شتراوس الابن وآرثر سوليفان. وقد أعيد الاعتبار لأعماله المعروفة خلال القرن العشرين. والعديد من أوبراته ما تزال تُعزف إلى اليوم، وخاصّة حكايات هوفمان.
كان أوفنباخ على علاقة بالإمبراطورية الفرنسية الثانية لنابليون الثالث. وقد منحه الأخير الجنسية الفرنسية ووسام جوقة الشرف. وبعد اندلاع الحرب الفرنسية البروسية عام 1870، وجد أوفنباخ نفسه منبوذا تقريبا بسبب علاقاته مع القصر ولكونه ألمانيّ المولد. ومع ذلك ظلّ يحقّق نجاحا في كلّ من فيينّا ولندن.
السنوات الأخيرة من حياته قضاها المؤلّف في وضع اللمسات الأخيرة على حكايات هوفمان. لكنّه توفّي قبل أن تُعرض على الجمهور. وقد أجريت عليها تعديلات في ما بعد على يد موسيقيين آخرين.
الجدير بالذكر أن لاوفنباخ لحنا آخر لا يقلّ شعبية كان قد ألّفه كجزء من الأوبرا المسمّاة "اورفيوس في العالم السفلي".

Credits
metoperafamily.org
fgo.org

الاثنين، مارس 24، 2014

لقاء بين امرأة وطائر 2 من 2

عالَم ليدا تسكنه الأساطير والآلهة التي تهبط إلى الأرض. لكن العالم الذي تلد فيه أطفالها "أو على الأصح تبيضهم كما تذكر القصّة!" محكوم بالسياسة والسلطة، وليس بالآلهة. وحرب طروادة هي التي مهّدت الطريق لصعود الإمبراطورية الرومانية، وبعد ذلك بزمن طويل، لصعود أوروبّا الحديثة.
والسطران العاشر والحادي عشر من قصيدة ييتس يتضمّنان أهمّ إشارة مباشرة فيها إلى التاريخ اليونانيّ. وهما يصفان إحراق طروادة وما تلاه من قتل لأغاممنون القائد اليونانيّ الأقوى في تلك الحرب. أي أن القصيدة تزعم أن ولادة هيلين أميرة طروادة أدّت إلى كلّ تلك الأحداث المأساوية.
وضمن نفس هذا السياق الأسطوريّ التاريخيّ، فإن فعل الاغتصاب ستكون له نتائج مدمّرة وبعيدة المدى. وهذان الحدثان، أي موت اغاممنون وتدمير طروادة، تحقّقا بسبب الاغتصاب. وفي نفس هذا السياق فإن أطفال ليدا الأربعة من البجعة مسئولون عن الموت والدمار الذي حدث بعد ذلك. أي أن ييتس يساوي هنا بين الفعل المدمّر لاغتصاب الجسد وبين تدمير طروادة.
وإذا قرأت هذه القصيدة بتمعّن فستستنتج أيضا أن أجساد النساء الثلاث، أي ليدا وهيلين وكلايتمنيسترا، كانت هي السبب الأساس في إشاعة الموت والصراع والجريمة انطلاقا من تصرّفاتهن واختياراتهن.
كان وليام ييتس ميّالا لالتقاط لحظات مهمّة من التاريخ. وكانت لديه نظرية كاملة ومعقّدة لتفسير الأحداث. كان، مثلا، يعتقد أن التاريخ يشبه دوّامة أو إعصارا وأنه يتحرّك وفق دورات مختلفة ومتعاقبة. وبناءً على هذه النظرية، فإن قصّة ليدا والبجعة تجري في نقطة تحوّل نموذجية بين اثنتين من هذه الدورات أو اللحظات المحورية في التاريخ: بين العالم القديم الذي سبق حرب طروادة، والعالم الحديث الذي جاء بعدها.
والواقع أن العديد من قصائد ييتس المشهورة الأخرى، مثل "المجيء الثاني" و"عيد الفصح 1916"، تصف هي أيضا نقاط التحوّل هذه في التاريخ.
غير أن ييتس يذكّرنا أيضا، من خلال القصيدة، بأن كلّ شيء، وبطريقة ما، مرتبط بسلسلة كونية من الأسباب والنتائج، وأن أيّ شيء يحدث لا يمكن فصله عن شبكة متكاملة ومترابطة وذات مغزى من الأحداث والوقائع المتّصلة.
لكن ما الذي يمكن أن يكون قد دفع ييتس لتأليف هذه القصيدة؟ ثمّة من يرى بأن الشاعر إنّما كان يعكس في قصيدته تصرّفات بعض النساء اللاتي كان يعرفهنّ في ذلك الوقت. وهناك احتمال انه كان يناقش في القصيدة نتائج تصرّفاته هو.
وهناك رأي آخر يقول إن ييتس كتب القصيدة استجابة للظروف السياسية السائدة آنذاك. وربّما أرادها أن تكون رمزا لسقوط وفساد بلده ايرلندا بموازاة سقوط طروادة. ويمكن أن تكون القصيدة انعكاسا لإحباط ييتس من انهيار ايرلندا التي كان يرى أن ثقافتها تعرّضت لاغتصاب مجازيّ من قبل الانجليز.
نُشرت قصيدة "ليدا والبجعة" لأوّل مرّة عام 1928 ضمن ديوان البرج، الذي يعتبره النقّاد احد أشهر وأهمّ الأعمال الأدبية في القرن العشرين. وقد ظهر الديوان بعد خمس سنوات من نيل ييتس جائزة نوبل للأدب عام 1923. ويبدو أن الشاعر ادّخر أفضل أعماله لنهايات حياته، بدليل أن هذا الديوان يتضمّن قصائد أخرى مشهورة مثل إبحار إلى القسطنطينية و"وسط أطفال المدارس".

كان ييتس في الستّينات من عمره عندما كتب هذه القصيدة. وكان أيضا وقتها عضوا في مجلس الشيوخ الايرلندي. وإذا كنت من هواة سماع الآراء الحدّية والمطلقة، فقد يهمّك أن تعرف أن ناقدا كبيرا واحدا على الأقلّ وصف القصيدة بأنها أعظم قصيدة في القرن العشرين.
لكن لماذا نهتمّ بييتس وهو يعيد رواية هذه القصّة الغريبة والشاطحة؟ بداية يمكن القول أن من الجرأة أن يحاول احد إعادة تمثيل شيء عنيف ومشين مثل الاغتصاب من خلال عدسات الفنّ.
غير أن الأسئلة الأهمّ التي تدعونا هذه القصّة لنتأمّلها هي: ما الذي يمكن للأدب والفنّ أن يتحدّثا عنه؟ وهل هناك مواضيع يجب أن يتجنّب الفنّ تناولها تماما؟ وهل كان يتعيّن على ييتس أن يخفّف من لغته لكي نفهم أن ما تصفه القصيدة هو أمر بغيض وغير أخلاقيّ بالمرّة؟ وهل كون هذه الأسطورة قديمة يجعل اغتصاب ليدا أمرا أكثر قبولا لدى المتلقّي المعاصر؟ هذه هي بعض الأسئلة الكبيرة الجديرة بالتأمّل.
من الواضح أن ييتس كان على علم بالتصويرات الفنّية العديدة للقصّة من قبل فنّانين مثل ميكيل انجيلو وليوناردو دافنشي. وقد صوّر هذان البجعة بطريقة تحاكي الواقع تقريبا، في حين أنها غالبا ما كانت تُصوّر على درجة من الضخامة كي تتفوّق على ليدا.
قصّة ليدا والبجعة كانت تحظى بشعبية كبيرة للغاية في فنّي عصري النهضة والباروك. وفي القرن السادس عشر على وجه الخصوص، كانت شعبيّة الموضوع تعود إلى حقيقة انه كان من المقبول وقتذاك أن تُرسم امرأة في فعل جنسيّ مع بجعة أكثر من أن تُرسم مع رجل.
وبعض المعالجات الفنّية التي تناولت الأسطورة قلّلت من كمّية العنف فيها. بل إن بعضها تشير ضمناً إلى أن ليدا تعرّضت لإغواء زيوس ولم يغتصبها.
في لوحة الرسّام الفرنسي فرانسوا بوشير عن القصّة، تظهر البجعة وكأنها طائر أليف أكثر من كونها إلها يهمّ باغتصاب امرأة. ورغم أن القصّة الأصلية لا تتضمّن أيّة إشارة إلى امرأة ثانية، إلا أن الرسّام أضاف إلى المشهد امرأة أخرى تنافس ليدا في جمالها، مع هرم من اللحم المكشوف والثياب المرفّهة والنفيسة.
قصيدة الشاعر ييتس يمكن اعتبارها، من ناحية أخرى، نموذجا لما يُعرف بـ "تأثير الفراشة"، أي كيف أن تصرّفا واحدا يمكن أن يولّد سلسلة من الآثار والنتائج التي يمكن أن تظهر على مدى عقود أو قرون من الزمن. في هذه الحالة، يحوّل زيوس نفسه إلى بجعة، ويُحبِل ليدا بالقوّة، ثم تولد هيلين التي خيضت حرب طروادة من اجلها أو بسببها.
لكن رُبّ ضارّة نافعة كما يقال. فمِن غير هيلين ما كانت لتقع حرب طروادة، وبالتالي لم تكن لتوجد إلياذة. وعدم وجود إلياذة يعني خسارة أهمّ وأشهر عمل أدبيّ من العصور الكلاسيكية.

Credits
aterriblebeautyisborn.com
sparknotes.com
theoi.com

الأحد، مارس 23، 2014

لقاء بين امرأة وطائر 1 من 2

عندما تتأمّل بعض الحكايات التي كان الأوّلون يتداولونها في ما بينهم لتفسير كيف يعمل العالم، فستحصل على كثير من الأشياء الغريبة: كلاب بثلاثة رؤوس، بشر على هيئة تيوس، رجال ونساء برؤوس بشر وأجساد خيول وبغال، ومخلوقات لها وجوه مشوّهة وبعين واحدة. وهذا فقط ليس سوى غيض من فيض، كما يقال.
الإغريق، بشكل خاصّ، كان عندهم الكثير من هذه القصص الجامحة، وأكثرها يحكي عن آلهة تتصرّف بطريقة رديئة ومتهوّرة.
من أشهر هذه القصص قصّة "ليدا والبجعة" التي ذكرها هوميروس في ملحمة الإلياذة. وليدا في الأسطورة هي امرأة حقيقية من لحم ودم. أمّا البجعة فليست من نوع البجع الذي اعتدت أن تراه وأن تداعبه في الحدائق والبحيرات، كما أن لا علاقة لها بتلك البجعات البريئة التي صوّرها تشايكوفسكي وسان سونس في موسيقاهما. هذه البجعة هبطت إلى الأرض من جبل الأوليمب ولديها مهمّة تريد انجازها. والبجعة ليست في حقيقة الأمر سوى زيوس كبير آلهة الإغريق وهو في حالة تنكّر. أمّا لماذا يتنكّر، فهذا ما سنعرفه بعد قليل.
أسطورة ليدا والبجعة صُوّرت بكيفيّات أدبية وفنّية وفلسفية متعدّدة. وإحدى أشهر المعالجات الفنّية المعروفة لهذه القصّة هي قصيدة الشاعر الانجليزي وليام بتلر ييتس بنفس العنوان.
ولكن قبل أن ندخل إلى أجواء قصيدة ييتس، لا بدّ أوّلا من الحديث قليلا عن هذه الأسطورة. ودونما حاجة للدخول في التفاصيل، يكفي أن نعرف أن ليدا كانت فتاة من اليونان القديمة اغتصبها زيوس زعيم الآلهة بعد أن تخفّى بهيئة بجعة جميلة. ونتيجة لذلك، وضعت ليدا طفلة هي هيلين، وابنة أخرى هي كلايتمنيسترا. كما وضعت توأما من المحاربين الأشدّاء هما كاستور وبولوكس.
هيلين أصبحت في زمن تالٍ أجمل امرأة في اليونان القديمة. وقد طلب يدها العديد من الأمراء للزواج. وفي النهاية تزوّجت من مينيلوس، ملك سبارتا، الذي كان أكثر الخاطبين وجاهة وثراءً. وقد أنجبا في ما بعد طفلة. غير أن زواجهما تعرّض للضرر عندما وقع باريس، وهو أمير من طروادة، في هوى هيلين.
ولأن مينيلوس كان غائبا عن القصر حينها، فقد اختطف باريس هيلين "تشير رواية أخرى إلى أنها ذهبت معه بإرادتها" وهربا معا إلى طروادة، الأمر الذي أدّى إلى اشتعال حرب طروادة التي دامت عشر سنوات. وكما هو معروف، كانت تلك الحرب هي الحدث الأساسيّ والكبير في إلياذة هوميروس.
عندما كتب الشاعر وليام ييتس هذه القصيدة عام 1928، كان معظم القرّاء وقتها على علم بقصّة ليدا والبجعة. وكان من المفيد أن ييتس أعطى قصيدته هذا العنوان، أي ليدا والبجعة. وربّما لولا العنوان لما عرفنا عن ماذا يتحدّث الشاعر، ولكنّا ظننّا انه كتب قصيدة ايروتيكية تجري أحداثها في حديقة للطيور مثلا.
العنوان أيضا، أي ليدا والبجعة، يثير مجموعة من الارتباطات من تاريخ الفنّ الغربيّ. فقصّة ليدا مثيرة بحيث لم يستطع الفنّانون مقاومة إغراء تصويرها، سواءً كان ذلك رسما أو نحتا. وكان التحدّي الذي واجههم هو التعامل مع القصّة من منظور جديد. وهذا هو نفس التحدّي الذي واجه الشاعر ييتس أيضا.
في القصيدة، لا نرى سوى لمحات سريعة من هذا الطائر الذي يشبه البجعة. ومن الواضح انه يتحرّك بسرعة كبيرة، وعقله مركّز على شيء واحد.
المكان الذي تجري فيه القصّة/القصيدة مقتطع ومشوّه. ونحن نرى العالم كما لو انه اصطدم للتوّ بجسم ضخم. ويُفترض أن نتخيّل أن ليدا قبل الحادثة كانت تتجوّل في منظر من الطبيعة الخلابة، حديقة أو غابة مثلا. لكنّنا لا نرى مثل هذا المنظر الهادئ، بل سلسلة من الصور التي تذكّرنا بفيلم الطيور لألفريد هيتشكوك.

القصيدة تبدأ بداية قويّة: ضربة مفاجئة وجناحان عظيمان". الضربة المفاجئة ليست شاهدا فقط على العنف، وإنّما أيضا على الارتجال وانعدام التخطيط من قبل زيوس الذي ارتكب تصرّفا مرعبا وظالما عندما حوّل نفسه إلى مخلوق جميل، ولكن غير سويّ، في محاولته الظفر بامرأة جميلة.
والقصيدة تبدأ بصورة للبجعة وهي تهبط على ليدا. جناحاها الكبيران هما أوّل شيء يصفه الشاعر. وهي تمسك ليدا بمنقارها وتضغط على صدرها. والأسطر الثمانية الأولى تتناول الانطباعات الحسّية التي تشعر بها ليدا، مثل صوت اندفاع أجنحة البجعة وساقيها المتعثّرين وشعورها بأن البجعة تمسك بها من مؤخّرة رقبتها، ثم إحساسها بقدمي البجعة وهما يتقدّمان باتجاه فخذيها.
ثم ينتقل مكان القصيدة إلى المستقبل. ومن مسافة بعيدة، نرى الأسوار المهدّمة لمدينة طروادة بعد أن نُهبت وأحرقت، بينما يتصاعد من المدينة عمود من الدخان الكثيف يتوسّطه وهج برتقاليّ اللون.
بعد ذلك تتحرّك القصيدة إلى بقعة أخرى من المدينة، فنرى البطل اغاممنون وهو ملقى صريعا على أرضية منزله بعد أن قتلته زوجته كلايتمنيسترا بالتعاون مع الرجل الذي اتخذته عشيقا لها خلال سنوات الحرب. "للتذكير: كلايتمنيسترا هي الابنة الثانية التي أنجبتها ليدا بعد اغتصابها".
الأسطر الأخيرة من القصيدة تعيدنا إلى المكان الحالي لليدا، وبالتحديد في الوقت الذي تنفث فيها البجعة قطرات من منقارها.
المتكلّم في قصيدة "ليدا والبجعة" يشبه احد أولئك المراسلين الذين يغطّون أخبار الكوارث الطبيعية على التلفزيون. لكنّه لا يتدخّل للمساعدة. وهو يقدّم شرحا مفصّلا لمحنة ليدا، في حين يبدو كما لو انه يحوم حولها من جميع الزوايا.
ومن الواضح أن المتكلّم يروي قصّة كان يعرف مسبقا نهايتها. وهو أشبه ما يكون بشخص قفز إلى داخل آلة للزمن كي يشاهد نقطة تحوّل بالغة الأهميّة في التاريخ، أي الحمل بهيلين أميرة طروادة. وحتى عندما تكمل البجعة الفعل الجنسي، فإن عقل المتكلّم يذهب سريعا إلى المستقبل كي يتأمّل معناه.
قصيدة ليدا والبجعة هي في جوهرها تصوير للقاء جنسيّ عنيف بين امرأة وطائر. وإذا كنت تجد نفسك متعاطفا مع وجهة نظر اليونانيين القدماء، فقد تعتقد أن اللقاء عبارة عن تجربة إلهية وغامضة. أما إن قاربت القصيدة من منظور أكثر حداثة، فقد تشعر بالرعب. والقصيدة تتجاوب مع وجهتي النظر هاتين معا.
القارئ الحديث قد يجد لغة القصيدة مزعجة لصراحتها وجرأتها. هذا على الرغم من أن القصص التي تحكي عن الجنس مع الحيوانات كانت شائعة في المجتمعات الكلاسيكية مثل اليونان القديمة. وقصّة ليدا والبجعة كانت معروفة جيّدا وقتها.
لغة ييتس تصوّر البجعة على أنها عنيفة وغير مكترثة، ولكنها أيضا غامضة ومغرية. والشاعر يقدّم صورة للحظة الجنس، مشيرا إلى مشهد لا يخلو من الرقّة. وهو يلمّح إلى أن ليدا قد تكون تصرّفت بإرادتها وليس بسبب قوّة قاهرة، وكأنه يوحي بأنها ربّما كانت راضية عمّا جرى. كما انه يصف ثدييها المرتعشين بأنهما عاجزان أو بلا حول ولا قوّة، ما يعني انه لم يكن لها خيار في ما حدث لها، أو أن هذا حدث بسبب غلبة شهوتها.
النقطة التي يثيرها ييتس هنا هي انه لو كانت ليدا تعلم مسبقا عن الدمار الذي ينتظر شعب طروادة بسبب إغواء زيوس لها، فإنها عندئذ تصبح ضالعة مع زيوس في ذلك الإثم.