:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الأربعاء، أبريل 01، 2009

غويا: نوم العقل

في كتابه "غويا"، يتناول الناقد روبرت هيوز اللوحات متعدّدة المواضيع والعصر المضطرب الذي عاش فيه رسّام القرن التاسع عشر الاسباني فرانشيسكو دي غويا.

Book Cover: Goya by Robert Hughes
في العام 1796م، وفي ذروة شعبيّته كمصوّر للملوك، سجّل غويا الأحداث التاريخية على طريقته الخاصّة، عندما أصدر سلسلة من ثمانين رسماً أسماها مجتمعة Caprichos أو النزوات.
وقال غويا انه اختار مواضيع تلك السلسلة من الحماقات والعيوب الكثيرة التي يمكن رصدها في أيّ مجتمع، من قبيل مظاهر التحيّز والتحامل والخداع وغيرها من الممارسات التي حولّها الجهل والعادات والمصالح الذاتية إلى أمور اعتيادية. غير أنها تلفت انتباه الفنان وتثير مخيّلته.
لكن غويا سارع إلى القول إن رسوم النزوات، الحارقة والمزعجة، لا تهدف إلى السخرية من أيّ شخص، لأنه يعلم أن تلك كانت جريمة يمكن آنذاك أن تكلفه الكثير.
في الكتاب، يسجّل هيوز الأثر العامّ للنزوات. فقد كانت ردّا تصويريا قاسيا على مظاهر النفاق الاجتماعي والسياسي والديني. فالزواج، كما صوّره غويا، كان شكلا من أشكال الدعارة. والكنيسة الكاثوليكية كان يحكمها الجشع. والكهنة ينادون بالعفّة والاعتدال في حين كانوا يتعقّبون الغلمان ويتخمون بطونهم باللحم والشراب. أما الرهبان المتظاهرون بالتقشّف والزهد فقد كانوا شرهين مثل أكلة لحوم البشر.
وكانت أكثر انتقادات غويا عنفا تلك التي وجهّها ضدّ محاكم التفتيش الاسبانية التي سخر منها بضراوة في عدّة لوحات.
وربّما كانت أشهر لوحات سلسلة النزوات هي تلك المسمّاة نوم العقل ينتج الوحوش . وفيها يظهر رجل نائم على طاولة بينما تطير الخفافيش والبوم حول رأسه. وخلفه على الأرض يجلس حيوان من نوع الوَشَق بهيئة يقظة ومتربّصةَ.
ودائما ما اقترنت الخفافيش، وغيرها من مخلوقات الليل التي تمصّ الدماء، بالشياطين. وزمن غويا، كما يقول هيوز، كان البوم رمزا للغباء والتفاهة وليس رمزا للحكمة أو العقل كما تنظر إليه بعض الثقافات اليوم. أما القدرة على الرؤية في الظلام واستشراف الحقيقة وتمييزها عن الخطأ فهي من خصائص الوَشَق الذي ُيرى جاثما متحفّزاَ عند قدمي الرجل.
وإذا كان يمكن اعتبار هذه اللوحة "بورتريه" شخصياً للفنان، فإن غويا في تلك السنّ، أي في الخمسين تقريبا، كان رجلا منهكا تطارده وتؤرّقه الشياطين، لكنها تمنحه في النهاية الوحي والإلهام. انه رجل يبحث عن الحكمة، لكنه يتلقى في الوقت نفسه سيلا عارما من التفاهات والشرور.
ومن المؤكّد أن هذه اللوحة تلخّص فهم هيوز لـ غويا. فهو عبقري استطاع عقله إنتاج شكوك وقلق وحشي واستهلكه مرض غامض ومرعب. لكنه عالج بعمق وعاطفة مشاكل بلده المستمرّة، من الفقر إلى القمع البربري والحروب المتعدّدة.
و"نوم العقل" كانت أوّل لوحة اقتناها هيوز لـ غويا. وقد اشتراها عندما كان ما يزال طالبا وعلق عليها في حينه بقوله: أدركت لشدّة ذهولي حجم المأساة التي كان يشعر بها هذا الرّجل والتي أودعها في هذه الورقة الصغيرة".
"مأساوي، معذّب ومتناقض". هكذا يصف هيوز غويا. إنه ليس بالبطل الرومانسي الذي صوّره كتّاب سيرته الفرنسيون الذين أعجبوا به لدرجة أنهم ألزموا أنفسهم بجعله ثوريا وعدوّا للملكية وشهوانيا جامحا ومفطورا على مقاومة أيّ تدخّل يملي عليه أسلوبه الفني.
لكن الحقيقة، برأي هيوز، أبعد من ذلك. فقد تمتع غويا برعاية عدد من أفراد عائلة بوربون الملكية والارستقراطيين الذين كانوا يحيطونه ويقدّرونه. وقد عمل رسّاما للبلاط طوال تسع وثلاثين سنة. وكان يستمتع بقضاء عطله الأسبوعية في البيوتات الريفية راسماً صور الأثرياء ومتفاخرا أمام أصدقائه وعائلته بالأرباح التي كان يجنيها من وراء ذلك.
ومما لا شكّ فيه أن غويا كان يرغب دائما في أن ُيعترف به وأن يكبر اسمه ويشتهر. ويرسم هيوز صورة معقّدة للظروف السياسية والاجتماعية والثقافية التي عاش فيها غويا. ويورد تفاصيل عن عاصمة اسبانيا "القذرة والشرّيرة" التي يعيش فيها حوالي 150000 شخصا. كما يتحدّث عن بلاط الملك كارلوس الثالث راعي غويا الأوّل.
كان كارلوس رجلا كاثوليكيا حتى الهوس، وكان دقيقا وصاحب عادات غير قابلة للتغيير. كما كان شغوفا كثيرا بالصيد. وبورتريه غويا لـ كارلوس يظهره في ملابس الصيد المفضّلة.
ضمن هذه الثقافة الكاثوليكية الصارمة وأجواء محاكم التفتيش، ارتفع غويا إلى الصدارة. وكثيرا ما كان يكلّف في ذلك الوقت برسم بورتريهات لأعيان الناس أو تزيين أسقف وجدران الكنائس.
في عام 1792 غادر غويا مدريد فجأة وسافر باتجاه الجنوب باحثا عن مصادر لفنّه وساعياً وراء تنشيط مخيّلته الفنية. غير انه في تلك الأثناء سقط ضحيّة مرض غامض ومدمّر. كانت أعراض المرض شديدة ومنهكة. فقد كان يسمع طنينا مستمرّا في رأسه مع إحساس بالدوار والغثيان والإغماء وأحيانا فقدان القدرة على الإبصار. وأصبح الفنان أصمّ تماما وظلّ على هذه الحال بقيّة حياته. وقد قيل إن تلك كانت أعرض الشلل أو الزهري أو التهاب السحايا. لكن هيوز يرفض هذا كلّه. ويبدو انه مهتمّ بآثار المرض ونتائجه أكثر من اهتمامه بمعرفة كنهه أو أسبابه. أطبّاء غويا أنفسهم لم يتوصّلوا إلى تفسير لمرضه، ناهيك عن أن يقدّموا له علاجا؛ ما دفعه لأن يعاني ويتألّم أكثر.
لكن أشدّ ما كان يقلقه هو كم سيستمرّ المرض، وهل سيسوء أكثر فيدمّر حياته ويعزله عن علاقاته الاجتماعية، وهل سيؤدّي به إلى الجنون في النهاية ؟
كان الصمَم هو الكارثة الأسوأ التي أصابت غويا فحكمت عليه بالعزلة.
وقد مرّت شهور عديدة قبل أن يعود إلى الرسم. وعندما عاد، كان خوفه من العزلة واحتمال ازدياد حالته سوءا هما الفكرتان اللتان سيطرتا على أعماله، خاصّة لوحتيه المزعجتين مشهد في سجن Prison Scene وفناء مع المجانين Yard with Lunatics.
كان غويا قد وقع في قبضة كابوس الاكتئاب، فانعزل عن العالم وحُرم من التواصل الحميم مع الآخرين وتاه داخل نفسه. لكنه كان حريصا على أن ُيظهر أن الأمور لم تكن على تلك الدرجة من السوء، وأن لا شيء فادحا قد وقع، وأنه ما يزال باستطاعته أن يعمل كإنسان وفنّان.
وكانت لوحاته عن مصارعة الثيران والموسيقيين المترحّلين مغمسّة بإحساس باليأس والمخاوف العميقة. وأحد أكثر أعماله شهرة في تلك الفترة كانت سلسلة رسوم النزوات.
ومع ذلك، ففي الثلاثين سنة الأخيرة من حياته كرسّام، لم يكن غويا مدفوعا بشياطينه ووحوشه الشخصيّين فحسب، بل بقناعته أيضا انه كان يصوغ اتجاهات جديدة في الفنّ من ناحية الشكل والمضمون.
وكان يقول: ليس هناك قواعد في الرسم. والاستبداد الذي يلزم الجميع بأن يعملوا كالعبيد ويدرسوا بنفس الطريقة أو يتّبعوا نفس الأسلوب هو عائق كبير أمام الفنّ والإبداع".
وقد مارس غويا طريقة عفوية في الأسلوب والرؤية جعلت أعماله طازجة ونابضة بالحياة والحداثة. ورسوماته تحتفي بالخربشات والتشويه والجمال الإيحائي للأشياء اللانهائية وفي طليعتها الصراع البدائي ما بين النور والعتمة الذي ينبثق منه الوعي بالأشكال والأشياء.
غير أن حداثة غويا، يقول هيوز، لا علاقة لها بالابتكار التقني بل بإثارته الشكوك والأسئلة واتخاذه موقفا لا مباليا من الحياة، مع تشكّكه الدائم في البُنى الرّسمية للمجتمع وعدم تقديره للسلطة سواءً كانت متجسّدة في الكنيسة أو الملكية أو الارستقراطية. وهناك أيضا ميله لئلا ينظر إلى أيّ شيء كأمر مسلّم به وبحثه عن موقف واعِ من الأفكار والمواضيع المختلفة.
وقد ضرب غويا كلّ الأعراف السائدة في زمانه كي يقدّم في لوحاته كلّ ما هو مثير وصادم: السرقة، الجريمة، الزنا، الاغتصاب بل وحتى أكل لحوم البشر.
وكان أكثر ما يكون تمرّدا عندما باشر تصوير الحرب. في الثاني من مايو والثالث من مايو وكوارث الحرب ، لم يكن غويا معنيا بتضمين تلك اللوحات ثيمات أو لافتات حماسية تمجّد البطولة وتفاخر بالوطنية، بل أرادها أن تكون ضوءا كاشفا يعرّي بعض مظاهر الهمجية والتوحّش التي تأتي بها الحروب.
يقول هيوز: الحرب تدمّر. هذه حقيقة لا يمكن اختزالها. لكنْ في عصر متخثّر ومُسْكِر بكلّ أنواع الوعود الزائفة عن نبل وفروسية الحرب، جلب غويا ما كان يحدث في حقول القتل في اسبانيا ووضعها في مقدّمة لوحاته. وقد وقعت عمليات القتل تلك بين عامي 1808 و 1814م، أي بعد أن تمكّن الآلاف من أفراد ميليشيات نابليون المدرّبين جيّدا من إنزال الهزيمة بجنود اسبانيا الجائعين الفقراء. وأكثر ما أدهش الفرنسيين أن جنود حرب العصابات الأسبان - ومن بينهم نساء – كانوا يقاتلون من اجل بلدهم وحياتهم. ورغم أن غويا لم يعبّر عن أي احتجاج ُيذكر عندما تمّ تعيين جوزيف بونابرت من قبل أخيه حاكما على اسبانيا، فإنه كان يعتقد أن الحرب ليس فيها منتصر، بل هي هزيمة وإذلال لكافّة الأطراف المتحاربة. وبعض لوحاته تصوّر مزارعين وفلاحين أسباناً وهم يمارسون نفس القدر من البربرية التي ارتكبها محتلّوهم الفرنسيون الذين كانوا لا يستنكفون عن قطع رؤوس أسراهم من الأسبان.
اللوحات الثمانون التي تؤلف سلسلة كوارث الحرب تصوّر بلا هوادة مشاهد العنف والجثث المتعفّنة والأطفال الميتّمين والطيور التي تفترس جثثا ما تزال نصف حيّة. قسوة، ألم، حزن، وتشاؤم لا حدّ له يرقى لأن يسمّى شكسبيريا. إحدى اللوحات اختار لها اسما ذا مغزى: Nada أو لا شيء. الشاهد هنا هو أن كلّ شيء قد تمّ بلا غاية أو هدف. ومن منظور غويا المظلم، فإن أعداد القتلى التي لا تحصى والتعاسة والاغتصاب والنهب وتقطيع أوصال اسبانيا، كلها أمور تنمّ عن فقدان الإحساس بالهويّة الإنسانية وتؤشّر إلى ما يمكن أن يحدث عندما يقزّم العنف البشر ويحوّلهم إلى مجرّد وحوش.
ثمّ جاءت هزيمة نابليون واستعادة فرناندو السابع لعرش اسبانيا لتؤكّد صحّة نظرة غويا المتشائمة بالنسبة لمستقبل بلده. ورغم انه استعاد وظيفته كرسّام للبلاط، فإن بعض لوحاته كانت تظهر بوضوح نفوره من الملكية القمعية. وأدّى ميل فرناندو للارتياب والانتقام من أعدائه الحقيقيين والمتوهّمين إلى جعل الحياة لا تطاق بالنسبة إلى غويا.
وفي عام 1824 طلب السماح له بالإبحار جنوبا باتجاه فرنسا حيث وجد له أخيرا منفى اختياريا في مدينة بوردو.
كان وقتها أصمّ، مريضا ولا يعرف شيئا من الفرنسية. لكنه كان ما يزال ذا بصيرة مبدعة. هناك، عاد من جديد إلى رسم البورتريه وكرّر بعض المواضيع الاسبانية في لوحاته. لكن صحّته المتآكلة قوّضت كلّ ما تبقى عنده من حماس. إذ سرعان ما اكتشف الأطباء في جسمه ورما ضخما. وفي بداية السنة التالية، عانى من جلطة شلّت نصف جسده. وفي السادس من ابريل عام 1886م مات غويا وإلى جوار سريره عدد قليل جدّا من أصدقائه.
روبرت هيوز كتب هذه السيرة عن غويا بحماس يتجاوز شغفه المعتاد بالفنّ.
يقول: لقد كتبت عن الفنون البصرية لأكثر من أربعة عقود. ولا أتصوّر أن بوسع أيّ كاتب أو ناقد أن يتجنّب الكتابة عن أعمال غويا وتأثيرها". لكن غويا موضوع مراوغ وعنيد. وقد اضطرّ هيوز لصرف النظر عن مشروع الكتابة عن الفنّان لسنوات عديدة. غير أن الفكرة انتعشت مجدّدا في ذهنه بعد أن تعرّض لحادث سير نجا منه بالكاد وظلّ في حالة غيبوبة لمدة خمسة أسابيع، كما خضع لأكثر من عشر عمليات جراحية وأكثر من ثلاث سنوات من العلاج المتواصل.
وأثناء مرضه كان يزوره غويا في أحلامه. وكان يتراءى له من وقت لآخر في نومه. وتواترت شكوكه بأن ظهور غويا الغامض والمحيّر في ذلك الظرف هو الذي حافظ على صلابة جسده وسهّل التئام عظامه.
"لكي أعرف معنى تلك الأحلام والهواجس الغريبة، تمنّيت أن اقبض على غويا في كتابتي. غير انه بدلا من ذلك قام بسجني!
لقد اكتشف هيوز أن معاناته أنتجت تعاطفا مع موضوعه الذي طالما راوغه واستعصى عليه من قبل. وقد يكون الأمر، يقول هيوز، أن الكاتب الذي لا يعرف الخوف واليأس والألم لا يمكن أن يفهم غويا على الوجه الأكمل.
ومن الواضح انه كتب كتابه بكثير من الإتقان والبراعة اللذين تتميّز بهما كتاباته عادة.
بالنسبة إلى روبرت هيوز، فإن غويا إنسان ذو روح متوحّشة، وفنّان صاحب أصالة مذهلة، واسباني منعزل عن ثقافته لكنه متورّط فيها. ولطالما صدَمَه المزاج المرعب لعصره بقدر ما شكّل له مصدر تميّز وإلهام.
- مترجم بتصرّف