:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الأربعاء، أكتوبر 26، 2011

سَفَر عبر الزمن


لو قُدّر لك أن تسافر عبر الزمن إلى الوراء، فأين ستكون وجهتك؟
ادوارد غيبون مؤلّف كتاب انحدار وسقوط الإمبراطورية الرومانية اختار القرن الثاني الميلادي كزمن مفضّل وتمنّى لو انه عاش في تلك الحقبة بالذات.
السبب، بحسب غيبون، أن الجنس البشري شهد وقتها أزهى فترات السلام والسعادة والرخاء.
لكن كيف كانت ملامح تلك الحقبة؟
تعاقب على حكم روما آنذاك خمسة أباطرة هم نيرفا، تراجان، هادريان، انطونيوس بايوس وماركوس اوريليوس. وجلبت فترات حكمهم مستوى غير مسبوق من السلام والاستقرار في معظم أرجاء أوروبّا الغربية.
لكن أيّ مكان وزمان ستختاره أنت؟ السؤال يحتاج إلى تفكير أكثر. مثلا، الشخص الذي يكره الألم يفضّل العمليات تحت التخدير ويتمنّى ألا يموت بسبب مرض الجدري. لذا فإنه حتما سيختار أن يعيش في وقتنا الحاضر.
وعندما يتعلّق الأمر بالتكنولوجيا، فإن الحاضر يتفوّق على الماضي دون شكّ. والمسألة لها علاقة بنمط الحياة والأفكار والأخلاق والأشياء التي تمتدّ وتنكمش كحركة المدّ والجزر.
اليوم، ومن خلال جواز سفر وتذكرة، تستطيع أن تسافر لتعيش حياة مريحة في وقت ومكان ما من اختيارك. المهتمّون بالثقافة سيحجزون مقعدا إلى عالم شكسبير في العام 1599 أو إلى هارلم أو إلى عشرينات القرن الماضي. والذين يقدّسون الأبطال سيصطفّون لمشاهدة ميكيل أنجيلو وهو يحمل الإزميل في عام 1501، أو جنكيز خان وهو خارج إلى المعركة في عام 1206 م. الأبيقوريون، الأكثر تعقّلا من بين المسافرين عبر الزمن، سوف يتبعون خطى غيبون إلى روما أو يوقّتون ولادتهم مع نداء الحروب العالمية أو نشأة الإمبراطورية الأمريكية.
السلام والاستقرار جيّدان للغاية. ولكن العديد من القفزات العملاقة التي حقّقتها البشرية حدثت في أوقات الحرب. الديمقراطية وحرّية النقاش بلغا أوجهما في أثينا خلال القرن الخامس قبل الميلاد، أي في الوقت الذي كانت فيه الحرب البيلوبونيسية تستعر في الخارج.
البعض قد يتحمّلون رؤية بشاعة الحروب الدينية في القرن السادس عشر لكي يروا انبثاق عصر الإصلاح، أو حرب الثلاثين عاما ليشهدوا بزوغ فجر التنوير.
وهناك من قد يقول: لقد حرّرنا العبيد ومكنّا المرأة وهززنا عروش الطغاة وأسقطناهم. وينبغي أن نعيش بعدها سعداء دائما. لكننا لسنا سعداء.
من المغري أن تتمسّك بما يمكن أن تشاهده: سقراط يتناقش مع أفلاطون في أثينا. ومعاصرهما كونفوشيوس يسافر متجوّلا في أرجاء الصين. ويوليوس قيصر يتصارع في روما مع شيشيرون عام خمسين قبل الميلاد. ولكن هذا سيكون مجرّد وقت للسياحة. من الصعب أن نجد لمعانا يضاهي لمعان الإمبراطورية البيزنطية في أوج صعودها. غير أن قوّة الكنيسة كانت أعظم بكثير.
الفرسان الذين كانوا يمتطون ظهور الخيل في أوربّا العصور الوسطى أطلقوا حدود الإمبراطورية. ومن بين جميع دول عصر النهضة تقف فيتشينزا في القرن السادس عشر متميّزة وبارزة. في هذا المكان قد يوفّر لك "بالاديو" فيللا ويمنحك فرصة رؤية بعض الفنّانين الفينيسيين الذين تمتلئ متاحفنا هذه الأيام بأعمالهم.
وقريبا منها، تأتي أمستردام في عصرها الذهبي، أي في القرن السابع عشر. ولكن هذا يقتصر على أمور الثقافة والفنّ. ونحن بحاجة إلى شيء ما أوسع وأكبر.
النظام الفرنسي القديم جذّاب بما يكفي لأن يغضّ المرء الطرف عن مساوئ الملكيات المطلقة. تاليران، السياسي الداهية الذي نشأ في ظلّ ذلك النظام ونجا من تقلّباته قال: إن أيّ شخص لم يعش في القرن الثامن عشر، أي قبل الثورة، لن يعرف حلاوة العيش".
جزء من التحدّي هو أننا لا نبحث فقط عن لحظة كاريزماتية واحدة. كما أن الأماكن توجد في الزمن أيضا.
ماذا رأى القدماء؟ ماذا يخبّئ القدر للأطفال؟ إننا نبحث عن نقطة تحوّل؛ عن مكان عاش أثناء التغيّرات وما تزال آثاره باقية معنا إلى اليوم.
هذا يقودنا إلى لندن في تسعينات القرن السابع عشر، وبالتحديد بعد الثورة المجيدة التي دفعت جيمس الثاني للتنازل عن العرش بعد الانقلاب الذي قاده ضدّه الأمير وليام أوف أورانج.
لندن تلك كان تعيش حكاية ثريّة كثراء إمكانياتها. أهلها القدامى ربّما كانوا قد صافحوا يد شكسبير. كما نجوا من حربين أهليّتين. وأحفادهم سيموتون في عاصمة لإمبراطورية عالمية. حولهم كان يتشكّل عالم جديد كليّا. في بيت قهوة جوناثان، يمكنك أن ترى ولادة البورصة. التأمين أيضا كان يشهد ولادته الأولى على يد "لويدز". وبنك انجلترا الجديد كان يضع حجر الأساس للاقتصاد الوطني.
البرلمان الانجليزي بدأ للتوّ تقليدا جديدا في الحكم وسيدوم لقرون. في المكتبات حول ويستمنستر هول، يمكنك ابتياع كتاب "برينسيبيا" أو المبادئ لـ اسحاق نيوتن من المطبعة مباشرة، بالإضافة إلى نصوص تتحدّث للمرّة الأولى عن العرض والطلب وقيمة النقد.
لندن كانت تعيش ازدهارا غير مسبوق في ذلك الوقت: الحدائق الواسعة، انتشار الطعام الفرنسي، حياة المقاهي الليلية. وقتها أيضا أشرق عصر الذكاء: أديسون وستيل وغيرهما. ستراند مليء بالمحلات التجارية الفاخرة. السير في جميع أنحاء المدينة أصبح يستغرق وقتا أطول. سامويل جونسون قال ذات مرّة: عندما يملّ الإنسان من لندن فإنه يملّ من الحياة نفسها".
كان هناك العديد من الأمور الجديدة التي تحدث في لندن: التسامح، حرّية الصحافة، البرلمان، النزعة الاستهلاكية، والاختراقات العلمية والاقتصادية التي ما يزال ملايين الناس يستفيدون منها اليوم بعد مرور أكثر من ثلاثمائة عام.
في بيوت القهوة، يتحدّث الناس عن الرياضيات الجديدة لحساب الاحتمالات. هذا هو جوهر فكرة التأمين. الهوس بالقمار كان يستهوي الأرستقراطيين في جميع أنحاء المدينة ويفسدهم.
الناس يدركون أن المستقبل لن يكون كالماضي. وهذا هو ما يجذب الكثيرين إلى لندن في تسعينات القرن السابع عشر، على الرغم من الباروكات والأطبّاء الدجّالين والرائحة الكريهة لدخان الفحم.
من هناك، بدأ العالم الحديث وتشكّلت معالمه الأولى. "مترجم".