:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الخميس، أغسطس 04، 2005

العاطفة والخرافة مقابل العلم والعقلانية

هل انتقلت مجتمعاتنا، فعلا، من طور العشائرية والتقليدية إلى طور الحداثة والتمدّن؟
عندما نتمعّن في نسق الممارسات الاجتماعية وأنماط التفكير السائدة في مجتمعاتنا سرعان ما نجد أن الناس ما زالوا إلى درجة كبيرة مشدودين إلى الماضي وغير قادرين على مسايرة التغيّرات الجديدة التي يضج بها العالم من حولنا.
تأمّلوا هذا التقديس الغريب لأفكار وآراء شخص مثل بن تيمية الذي عاش قبل أكثر من سبعمائة عام. ومع ذلك ما يزال الناس في بلادنا يستنطقون كتبه وينقبون في فتاواه بحثا عن حلول لمشاكل وتعقيدات نواجهها ونحن في القرن الحادي والعشرين!
وحدنا نحن من بين كافة الأمم من نفتّش في الرمم وننبش قبور الأموات لاستنطاقهم وطلب العون منهم. وهذا بحدّ ذاته دليل على جهلنا وخيبتنا وبعدنا عن العقل. مع انه لو ُبعث بن تيمية هذه الأيام لاستلقى على ظهره من شدّة الضحك وهو يرى هيام البعض به وتقديسهم لتراثه مع ما فيه من تشدّد وغلو وتكفير..
في المجتمع الحديث لا نرى مثل هذا الهوس المرَضي بالماضي. فالناس قد يتمسّكون ببعض الأمور والمظاهر التقليدية لكنهم لا يصبحون عبيدا لها، كما تتوفر لديهم روح الاقتحام والجرأة التي تمكّنهم من التخلّص من الأشياء غير الضرورية التي تعيق مسيرة التحديث والتمدّن في المجتمع.
وقد تحدّث علماء الاجتماع مطوّلا عن سمات كلا النوعين من المجتمعات وعن آليات الانتقال من المجتمع التقليدي إلى المجتمع الحديث.
دوركايم، مثلا، اعتبر أنه في المجتمع التقليدي يقرّر نظام الحسب والنسب كلّ قواعد الممارسة الاجتماعية ويعدّ ذلك النظام أداة رئيسية لتحقيق السيطرة الاقتصادية والسياسية والقانونية.
وكثيرا ما ُيستدعى العامل الديني ويوظف من اجل تكريس سيطرة مجموعة اوليغاركية وتشريع استئثارها بالسلطة والنفوذ.
أما في المجتمع الحديث فإن علاقات الحسب والنسب لا قيمة لها داخل أوضاع الحياة الاجتماعية نظرا إلى أن تحرّكات الناس الجغرافية جعلت الروابط الاجتماعية مترهّلة، وبسبب احترام سيادة القانون وتطبيقه على الصغير والكبير وشيوع العدالة والمساواة بين أفراد المجتمع. والفرد يحصل على مكانته الاقتصادية والسياسية في المجتمع الحديث نتيجة عمله وجهوده المضنية وروح المبادرة العالية، ولا يتوقّف ذلك على المنشأ الطبيعي واعتبارات الحسب والنسب.
وفي المجتمعات التقليدية ينظر الأفراد إلى العالم من خلال رؤية عاطفية وخرافية وجبرية، ويعتقدون أن كل شيء خاضع لعامل الحتمية وأن الأشياء "مقدّر" لها أن تتطوّر على هذا النحو أو ذاك.
يحدث مثلا أن يقطع أحدهم إشارة المرور أو يتغيّب عن عمله بلا مبرّر أو يتعدّى على حقّ إنسان آخر، فلا يجد من يلقي عليه باللوم سوى الأقدار أو الزعم بأن الشيطان "لعنه الله!" وراء ما حدث، في محاولة لتبرئة الذات والبحث عن كبش فداء يحمّله وزر استهتاره وجهله.
وفي مقابل هذا، نجد أن أفراد المجتمعات الحديثة لا يعوّلون على الحتمية بل يسيرون إلى الأمام بشجاعة وتمتلئ نفوسهم وعقولهم بروح التجديد والابتكار وهم مستعدّون في كل وقت للتغلّب على الصعاب ولإظهار روح المخاطرة. كما يتبنّون أساليب عقلانية وتفسيرات علمية في تناولهم للظواهر والأحداث التي تنتظم شئون حياتهم.
والنتيجة التي نخلص إليها مما سبق هي أن مجتمعاتنا بشكل عام ما تزال مجتمعات تقليدية في الغالب ولم تقلع بعد من منطقة التغنّي بالماضي واستدعاء الأحساب والأنساب والنظر إلى العالم من خلال العاطفة والقدرية والخرافة.
وانتقال هذه المجتمعات إلى طور الحداثة والتمدّن رهن بإحداث تطوّر نوعي في المؤسّسات السياسية والاقتصادية والتربوية والاجتماعية.
وهذا لم يحدث في مجتمعاتنا للأسف حتى الآن. والأمر الأكثر مدعاة للتشاؤم هو أن مثل هذا التطوّر لن يحدث في وقت قريب، خاصّة بعد كلّ هذه القرون الطويلة من الاستبداد والجمود والميل المتزايد للتمسّك بأهداب الماضي "المشرق والتليد‍‍!" وتقديسه بطريقة مضحكة ومبالغ فيها.