:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الثلاثاء، ديسمبر 05، 2006

بقايـا صـور: 1 من 2

من أهم سمات تفكيرنا، أفرادا وجماعات، إيماننا الذي لا يتزعزع بالقدرية؛ أي أن قدر الإنسان سابق على مجيئه إلى هذه الدنيا وكلّ ما يحصل له في الحياة مكتوب ومقرّر سلفا.
وربّما لهذا السبب لا نجد للتخطيط أهميّة تذكر في حياتنا والكثير من أمورنا تمشي بالبركة ولسان حال كلّ منّا: "الله يختار اللي فيه خير"..
ولا بدّ وأن هذه الفكرة كانت ماثلة في ذهني وأنا أخطو أولى خطواتي نحو الجامعة.
قدّمت أوراقي إلى المسجّل الأكاديمي وقمت بتعبئة النموذج الخاص وكنت قد كتبت في خانة الاختيارات: "آداب – إعلام" قبل أن أدفع بالأوراق إلى الموظّف المسئول.
ألقى الرّجل نظرة متفحّصة على الشهادات والدرجات ثم قال: إسمع يا إبني، معدّلك عال ومن الظلم أن تدفن نفسك في قسم الإعلام، أنا أنصحك بأن تختار الإدارة وأنا متأكّد بأنها تناسبك.
قلت دون تردّد أو تفكير: خلاص اللي تشوفه حضرتك وعسى الله يختار اللي فيه خير..
في الجامعة، بدأت تجربة مختلفة لم أعهدها من قبل. في تلك الفترة بالذات تشكّلت الكثير من تصوّراتي وأفكاري عن الناس وعن الحياة عموما، وزاد اهتمامي بالقراءة والاطلاع خاصةً بعد أن تعرّفت على بعض الزملاء الذين كانوا يقضون جلّ وقتهم في المكتبة وبين الكتب.
ومثل الكثير من زملائي آنذاك كنت حريصا على ألا اسجن نفسي في دائرة المناهج والمحاضرات والتخصّص بل أن أحاول توسيع مجال اهتماماتي وتطوير قدراتي المعرفية بحسب الإمكان.
كان أوّل مدرّس ألتقيه في الجامعة أستاذ الثقافة الإسلامية.
والحقيقة أنني قبل بداية الدراسة أجهدت نفسي في تصوّر طبيعة منهج الثقافة الإسلامية، وكنت أتساءل ما إذا كانوا سيعيدون تدريسنا كتاب التوحيد الذي تشرّبناه حتى الثمالة خلال المرحلتين المتوسطة والثانوية دون أن نفهم منه شيئا.
بعد أن استقرّ بنا المقام داخل القاعة الكبيرة، دخل علينا المدرّس لأوّل مرّة، وكان شخصا ملتحيا طويل القامة يرتدي الثوب والغترة والعقال ويتكلّم بلهجة أهل الشام.
قال بعد أن ألقى السلام: أرجو بعد أن تنتهوا من المحاضرة أن تمرّوا على المكتبة الفلانية وأن تبتاعوا منها المذكّرة التي ألّفتها خصّيصا لهذه المادّة. ثم أضاف متصنّعا الحرص على جيوبنا: لا تدفعوا اكثر من أربعين ريالا للنسخة، وأريد أن ألفت أنظاركم إلى أن المذكّرة هي المنهج المقرّر عليكم في هذه المادّة، لذا رجاءً إنسوا الكتاب الأصلي وركّزوا على المذكرة.
ومنذ المحاضرة الأولى شنّ الأستاذ هجوما عنيفا على ما أسماها بالفرق الضّالة وكان من بينها الماسونية والقاديانية والشيوعية والاشتراكية. لكنه كان يخصّ الشيعة "أو الروافض كما كان يسمّيهم" من اثني عشرية وزيدية واسماعيلية وغيرهم بالنصيب الأوفر من الهجوم والتحقير.
ذهبنا إلى المكتبة واشترينا المذكّرة ووجدناها هي الأخرى مليئة بصيغ التكفير والاتهام والإساءة لكافّة الفرق والمذاهب الإسلامية تقريبا، والشيعة منها بشكل خاص.
وتوالت المحاضرات واحدةً بعد الأخرى ومعها كانت تتزايد وتيرة الاتهام والتبديع والتفسيق. وقد لاحظت تبرّم بعض الطلبة مما يحصل، خصوصا زملاءنا الشيعة الذين قادهم سوء حظّهم للتسجيل في شعبة ذلك الأستاذ دون أن يفطنوا إلى شغفه الشديد بخوض المعارك المذهبية واصطناع الخصوم.
وفي أحد الأيّام ولم يكن قد مضى على بدء الفصل الدراسي أكثر من أسبوع، وبينما كان الأستاذ منهمكا كما هي عادته في "فضح الروافض وتبيان خطرهم الأكيد على الأمّة" كما كان يردّد، إذ بطالب يقف في منتصف القاعة مقاطعا الأستاذ بحدّة ومتّهما إيّاه بإثارة الفتنة والكراهية ثم قال: ألا تتّقي الله يا دكتور، أليس حريّا بك أن تحرص على مراعاة واحترام مشاعر بعض طلبتك في هذه القاعة ممن كفّرتهم وشهّرت بهم بطريقتك في الكلام وبمضمون مذكّرتك التي أجبرتنا على شرائها لتعلّمنا كيف نكره بعضنا وكيف يكفّر بعضنا الآخر، هل هذه هي الثقافة وهل هذا من الإسلام في شئ؟
كان الدكتور المحاضر يحاول جهده إسكات الشاب أو على الأقل تهدئته، ولكن هيهات.
لم يسكت إلا بعد أن أيقن أنه قال كلّ ما عنده. في تلك الأثناء ساد المكان هرج ومرج جرّاء ما حدث ولم تهدأ القاعة إلا بعد أن خرج الأستاذ منها حاملا معه حقيبته وكتبه ومذكّراته.
ولم يكن ذلك الطالب الذي اعترض على المدرّس وتصدّى له وأفحمه سوى شابّ من أهالي القصيم، وهو أمر أثار دهشة الكثيرين منا ممّن كانوا يحملون تصوّرات معيّنة عن تلك المنطقة وأهلها.
حدثت هذه القصّة قبل اكثر من عشر سنوات. وعندما كنت أقرأ وأسمع ما قيل أو كتب مؤخّرا عن دور ما لجماعة الإخوان في تغذية التطرّف والإرهاب في بلدنا، تذكّرت ذلك المدرّس ومرّت بخاطري قصص أخرى لا مجال هنا لسردها ولكن يمكن وضعها في ذات السياق. إلا أنني مع ذلك ما أزال أعتقد أن التطرّف عندنا هو منتج محلي صرف وليس ظاهرة غريبة وفدت إلينا من الخارج. ويظهر أنه بولغ كثيرا في الحديث عن امتداد خارجي للعنف عندنا وذلك لاسباب إعلامية مفهومة ولها ما يبرّرها إلى حدّ ما.
وقد تساءلت وقتها عن السبب الذي دفع أستاذنا الفلسطيني الأصل لأن يركب موجة التكفير والكراهية بعد أن خبر هو نفسه الظلم وتجرّع مرارة التحامل والأذى والنفي. ثم هل ُيعقل ألا يكون الاستاذ على علم بأن ما يقوله وما يروّج له يصبّ في النهاية في مصلحة اسرائيل التي تسعى إلى تقسيم المنطقة طائفيا ومذهبيا لكي ينشغل العرب عن مخطّطاتها ويغرقوا في صراعات داخلية لا تنتهي؟
وأذكر أن زميلا آخر قال معلقا على ما حدث: هذا الرجل لا يمكن أن يكون إيجابيا في ظلّ ظروف قد يكون وضعها له غيره، وهو في الحقيقة لا يختلف عن أيّ شخص يسلّم عقله للغير كي يفكّروا له.
ومنذ بضعة أسابيع كنت جالسا بالبيت أشاهد بالصّدفة قناة إقرأ الفضائية عندما أطلّ من الشاشة وجه بدا وكأنّني أعرفه أو سبق لي رؤيته من قبل. ولم تمرّ لحظات حتى عرفت الرجل. وتأكّد صدق حدسي عندما ظهر اسمه أسفل الشاشة. كان هو نفسه أستاذ مادّة الثقافة الإسلامية العتيد الذي كان مولعا بإثارة المعارك المذهبية والمفاضلة بين الملل والنحل المختلفة.
كان هذه المرّة يرتدي مشلحا من النوع النفيس ويداعب بين أصابعه حبّات مسبحة أنيقة الألوان وكانت لحيته قد طالت كثيرا وكساها الشيب بالكامل. لكنّ صوته الجهوري وملامحه الصارمة ظلا على حالهما.
وتساءلت إن كان الأستاذ ما يزال على عهدنا به بعد كلّ هذه السنوات أم تراه ناله بعض ما نال غيره من بركات 11 سبتمبر فرقّقت طباعه وخفّفت من غلواء أفكاره وقناعاته القاطعة..
بالتأكيد لم تغب عن بالي صورة الرجل كعالم دين وأستاذ جامعي، ومع ذلك فقد استضافه مذيع القناة باعتباره محلّلا للأحداث وخبيرا بالشأن السياسي. وتلك إحدى مشاكل الفضائيات العربية التي لا تعترف بالتخصّص ولا تستضيف عادةً سوى من يتّفقون مع أفكارها ويتبنّون مواقفها.
لكن تلك قصّة أخرى..