:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


السبت، مارس 16، 2013

محاكمة رسّام

يقال إن اسمه الأصلي باولو كالاريو أو باولو غابرييلي. لكنّ الاسم الذي أصبح معروفا به هو باولو فيرونيزي "نسبة إلى مدينة فيرونا الايطالية" التي ولد فيها عام 1528م.
نحن الآن في ربيع عام 1573، وفيرونيزي يعكف على رسم صورة ضخمة لتزيّن دير سان باولو جيوفاني في فينيسيا. بالنسبة إلى البعض، كانت فينيسيا في ذلك الوقت مدينة التجارة البحرية والإصلاح الكنسيّ المضادّ، وبالنسبة للبعض الآخر كانت عبارة عن مأخور كبير.
المهمّة التي أسندت إلى فيرونيزي كانت محدّدة سلفاً: رسم لوحة تصوّر العشاء الأخير للمسيح. وقيل للرسّام إن اللوحة يجب أن تبهج النفس وتروق للعين، تماما مثل لوحته الأخرى زواج في قانا المعلّقة في دير سان جورجيو ماجيوري.
في ذلك الوقت، كان فيرونيزي قد أصبح مشهورا. وكان بالإضافة إلى كلّ من تيشيان وتينتوريتو يمثّلون روّاد ما عُرف بعصر النهضة الشمالية. وهؤلاء الثلاثة كان لهم تأثير واسع على الرسّامين الذين أتوا في ما بعد، مثل روبنز وفيلاسكيز وديلاكروا وسيزان.
كان فيرونيزي معروفا باستخدامه الفخم للألوان وبواقعية رسوماته. وبعض النقّاد وصفوا أعماله بأنها حلوى غنيّة بالدسم ومهرجانات من الحرير والساتان، في إشارة إلى أسطحها الرائعة وثراء ألوانها الحيّة والأنيقة. بعد أن استقرّ الرسّام في فينيسيا عام 1553، أصبح الطلب على أعماله في ازدياد. لكن على الرغم من شهرته ونجاحه، فإن أفكاره المنفتحة وتحرّره الفكري وضعاه في نهاية المطاف في مأزق لا يُحسد عليه.
العشاء الأخير، عندما اُنجزت، كانت وليمة فاخرة من الألوان الحمراء والذهبية، مع أعمدة وأقواس وديكورات فخمة. واللوحة لا تُظهر فقط السيّد المسيح وتلاميذه الإثني عشر، ولكن أيضا مجموعة من الشخصيات الأخرى، من بينهم خدم وأقزام ومهرّجون وجنود وإضافات أخرى لا تراها عادة في اللوحات التي تصوّر هذا الموضوع. تفاصيل اللوحة كانت غريبة على السياق الديني للقصّة، وموضوعها بدا ذا طابع وثنيّ وفيه تمجيد لحبّ الحياة في فينيسيا القرن السادس عشر.
ومن الواضح أن فيرونيزي تبنّى رؤية متحرّرة وهو يرسم هذه الفكرة التي سبق وأن طُرقت كثيرا من قبل. لكن يبدو أن السلطات لم تقدّر إبداع الرسّام. فما أن سلّم العمل إلى الدير حتى استُدعي للمثول أمام إحدى محاكم التفتيش للردّ على اتّهام وُجّه إليه بالهرطقة.
في ذلك الوقت من القرن السادس عشر، كانت محاكم التفتيش في ذروة نشاطها في وسط وغرب أوربّا. لكن سلطة تلك المحاكم في فينيسيا كانت محدودة بقرار من مجلس الشيوخ. ومع ذلك، كان لديها القدرة على مضايقة وتهديد، بل وحتى تعذيب الأشخاص الذين تعتبرهم مذنبين.
وفي يوليو من عام 1573، وقع فيرونيزي في مرمى نيران تلك المحاكم. وإحدى النقاط الإشكالية في القضيّة كانت الشخصيّات التي تظهر في اللوحة. وقد أقرّ الرسّام بأن مساحة اللوحة الواسعة اضطرّته لإضافة أكثر من ثلاثين شخصيّة لملء الفراغات وتزيين المشهد.
وقد سأل المحقّقون فيرونيزي ما إذا كان يشعر أن من المناسب أن تتضمّن العشاء الأخير "صوراً لمهرّجين وجنود ألمان في حالة سُكر وأقزام وغير ذلك من الأمور السخيفة". وأضافوا أن الفنّانين الألمان "الزنادقة" غالبا ما يضيفون مثل تلك الشخصيات إلى لوحاتهم الدينية على سبيل السخرية من الكنيسة الكاثوليكية. كما شعر المحقّقون بالإهانة الشديدة للغياب الملحوظ لشخصية مريم المجدلية عن اللوحة مقابل الحضور الواضح لكلب يجلس في مقدّمة الصورة مباشرة.
كان من حُسن حظّ فيرونيزي أن محاكم التفتيش في فينيسيا لم يكن لها نفس الأسنان الحادّة التي كانت لمثيلاتها في أجزاء أخرى من أوروبّا لأنه، وهو يستمع إلى قائمة التهم الموجّهة ضدّه، لم يقدّم سوى مبرّرات ضعيفة وغير مقنعة. فقد ادّعى انه أضاف الشخصيّات كـ "حِلية" لتعبئة الفراغ، وأن الخدم والمهرّجين يُفترض أنهم موجودون في غرفة منفصلة عن غرفة المسيح وحواريّيه.
وأخيرا دافع عن نفسه مشيرا إلى أن ميكيل أنجيلو رسم المسيح ومريم العذراء والقدّيس بطرس وغيرهم من الشخصيات الدينية الأخرى وهم عراة في الكنيسة البابوية في روما. ثمّ توسّل من المحقّقين الرأفة قائلا: نحن الرسّامين نستخدم نفس الرخصة تماما كالشعراء والمجانين، ولم أكن أظنّ أنني كنت ارتكب خطئاً".
بعد انتهاء استجوابه أمام المحكمة، اُمر فيرونيزي بأن يبادر إلى "تصحيح" اللوحة في غضون ثلاثة أشهر، وذلك بأن يرسم المجدلية مكان الكلب وأن يزيل صورة "الألمان المخمورين" عن اللوحة تماما. وبعد هذين الشرطين أطلق سراحه وتنفّس الصعداء.
أخبار محاكمة فيرونيزي جعلت اللوحة أكثر شعبيّة من أيّ وقت مضى. ورغم انه كان يجلس أمام المحقّقين وديعا ومرتعبا، إلا انه بعد الإفراج عنه اتخذ موقفا متحدّيا وحازما في التعامل مع حكمهم. فقد ترك الكلب والأقزام والألمان السكارى في أماكنهم في اللوحة، تماما مثلما كان قد رسمهم. التغيير الوحيد الذي أحدثه هو انه بدّل اسم اللوحة من العشاء الأخير إلى وليمة في بيت ليفي. وقد ظلّت اللوحة في غرفة الطعام بالدير إلى أن أمر نابليون بأن تُنقل إلى مكان آخر. واليوم يمكن رؤية اللوحة باسمها الأخير في متحف غاليريا ديل أكاديميا في فينيسيا.

Credits
en.wikipedia.org

الأحد، مارس 10، 2013

الجَمال في الثقافة العربية

في كتابها بعنوان الجمال في الثقافة العربية، تقدّم دوريس بيرنز أبو سيف أستاذة الدراسات الشرقية والأفريقية والعمارة الإسلامية دراسة بانورامية عن مفاهيم الجمال في الثقافة العربية الكلاسيكية وما بعد الكلاسيكية في القرن الخامس عشر. وتستند المؤلّفة في دراستها عن الموضوع إلى نصوص عربية شتّى من الفلسفة واللاهوت والتصوّف والشعر والنقد الأدبي، فضلا عن مصادر تاريخية مختلفة وحكايات من ألف ليلة وليلة.
تشير المؤلّفة في مقدّمة الكتاب إلى أن الفكر العربي الإسلاميّ اهتمّ بوضع قواعد للجمال مستقلّة عن المعايير الأخلاقية أو الدينية. وكان يُنظر إلى العمل الفنّي، من شعر وخطّ وموسيقى ومعمار وفنون زخرفية، بمعزل عن الارتباطات الدينية والغيبية. ومع ذلك كان للجمال مكان بارز في الفكر الدينيّ. كما أن التقاليد العربية الإسلامية تنظر إلى جمال الكون، كما يؤكّد على ذلك القرآن الكريم، وإلى الإعجاز الأدبيّ للنصّ القرآني نفسه، كدليل دامغ على القدرة الإلهية.
وتحت تأثير الفكر اليوناني، تعامل الفلاسفة والمتصوّفة وعلماء الدين المسلمون مع العلاقة بين الجمال والحبّ بوصفها العامل الأساس في حركة الكون، كما أن التراث الصوفي ظلّ يركّز على الشغف بجمال الإله كما يتجلّى في صورة الإنسان.
وتؤكّد المؤلّفة انه على الرغم من أن الجمال، في العالم العربي في فترة ما قبل الحداثة، كان مادّة للاستمتاع والتذوّق في كلّ مكان تقريبا، إلا أن الإسلام يخلو من نظرية عامّة عن علم الجمال أو نظرية منهجية للفنون. لكنّ غياب نظرية متكاملة عن الجمال في الثقافة العربية لم يمنع تشكّل الوعي بالصلة ما بين الجمال والفنّ، وما بين الجمال من أجل المتعة والجمال المعنوي.
الكاتبة استعانت في دراستها بمجموعة واسعة من المصادر، مثل القرآن والنصوص القانونية والدينية والصوفية والسير الذاتية والنقد الأدبي والمؤلّفات العلمية والجغرافية والفلسفية. وقد ساقت لهذا الغرض مجموعة متنوّعة من الأمثلة على مفاهيم الجمال في الثقافة العربية والإسلامية الكلاسيكية، مثل استخدام الاستعارات والرموز الحسّية المثيرة في أعمال الشعراء الصوفيين، لإظهار أن العمل الفنّي لم يكن دائما مرتبطا بالغيبيّ والإلهيّ.
تقول الكاتبة بأن دافعها من وراء تأليف الكتاب هو إدراكها بأن هناك فرقا أساسيّا بين الفكر الأوروبّي القروسطي والمنهج الإسلامي الفلسفي حول موضوع الجمال. ففي الثقافة الإسلامية، لم يكن الموقف من الجمال مرتبطا بالمعايير الدينية، وهذا أمر يتناقض بحدّة مع وجهة النظر العامّة عن الجمال في أوروبّا العصور الوسطى.
وتضيف انه خلافا لما حدث في الغرب المسيحيّ، فإن المسلمين لم ينظروا نظرة نوستالجية للثقافة اليونانية باعتبارها العصر الذهبي والامتداد الطبيعي للحاضر، وإنما سعوا إلى أن يتعلّموا منها ويمزجوها بمعارفهم الخاصّة. وتستشهد بالحديث المشهور "إن الله جميل يحبّ الجمال" باعتباره دليلا على أن المسلمين كانوا ينظرون إلى المعرفة باعتبارها أمرا أساسيا لإدراك كنه الخالق.
كما تستشهد بكلام للإمام الغزاليّ عن الجانب الجماليّ للأشياء عندما قال: مثلما أن الحصان الجميل يجمع بين كلّ ما هو مميّز من جمال المظهر وتناسق الألوان والحركة الجميلة وأصالة المنشأ، فإن جمال كلّ كائن يكمن في كمال سماته الخاصّة".
لقد ورث العرب عن الإغريق الفكرة التي تقول إن التناسب هو أساس الجمال. وكان هذا صحيحا لاسيّما في الفنون، مثل فنّ الخطّ والموسيقى. ولكنه كان أيضا منطبقا على كلّ ما له علاقة بجمال الجسم البشري.
علم النفس أيضا لعب دورا هامّا في التنظير للجمال، وهو ما لاحظه بوضوح الجرجاني، الناقد المشهور، عندما قال: عندما يظهر شيء ما من حيث لا يُتوقّع ظهوره أو من مصدر غير مصدره الطبيعيّ، فإن روح الإنسان تهفو إليه وتحسّ تجاهه بولع أعمق".
وتقدّم الكاتبة أمثلة من كتاب الأغاني عن ما تسمّيه بالعامل العاطفيّ في تصوّرات الجمال، من قبيل قصّة الرحّالة العربي الذي سمع صوتا يشدو بأغنية عربية في القسطنطينية. وقد سأل الرحّالة نفسه ما إذا كانت متعته في سماع تلك الأغنية نابعة من الغناء نفسه أم من حقيقة أنه كان يسمع الأغنية خارج سياقها الطبيعيّ.
في الكتاب أيضا فصل مخصّص للحديث عن الحيوانات في الأدب العربيّ. وتسرد المؤلّفة ما لا يقلّ عن 80 نوعا من الحيوانات التي وردت في قصائد الشعراء من زمن الجاهلية. كما تشير إلى كتاب الحيوان للجاحظ الذي يتضمّن سبعة مجلّدات مخصّصة لوصف كلّ نوع من الحيوانات التي يرى فيها الكاتب جوانب من شخصية الإنسان. كما تتوقّف عند قول أبي حيّان التوحيدي: كلّ ما هو جيّد جميل، لكن ليس كلّ ما هو جميل جيّدا".
في الفصل المخصّص للحديث عن الحبّ، تذكّرنا المؤلّفة بالفارق الأساسيّ بين المسيحية والإسلام حول هذا الموضوع. ففي حين أن المسيحية توصي بالعزوبة أو الامتناع عن الزواج، فإن الإسلام فضّل الزواج والعلاقة الجنسية في إطار قانوني. وقبول الجنس كجانب صحّي من الحياة هو فرق حاسم بين الفكر الدينيّ عند العرب والمسيحيين. وربّما لهذا السبب انعكست هذه الرؤية في اختلاف تصوّرات كلّ من الجانبين عن طبيعة الجنّة.
وفي سياق حديثها عن الموسيقى، تقتبس الكاتبة كلاما لمؤلّفين عرب مثل المسعودي والفارابي، ولإخوان الصفا، مشيرة إلى أنه في العالم العربي المعاصر يُعتبر المؤدّي أكثر أهمّية من الملحّن، وتورد أم كلثوم كحالة نموذجية لهذه القاعدة.
وفي فصل آخر من الكتاب، تشير المؤلّفة إلى أن عمالقة الشعر العربي كالمتنبّي وأبي نواس والمعرّي لم يكونوا بأيّ حال متمرّدين على قيم المجتمع كما يظنّ البعض، لأن الشعراء في ذروة صعود الحضارة العربية كانوا يعملون في إطار القواعد الليبرالية لمجتمع كان يحترم الفنون الدنيوية ويعطي المبدعين مطلق الحرّية في التعبير عن مشاعرهم. ولم يكن باستطاعة الأصوليين أن يمنعوا ممارسة هذه الفنون، بل كان لموقفهم المعادي للإبداع اثر معاكس. وتذكّر المؤلّفة بمقامات الحريري التي كانت في زمانها أفضل الكتب مبيعا، على الرغم من أن بطلها كان شخصا مشكوكا في أخلاقه.
ثم تسوق الكاتبة ملاحظة مهمّة، وهي انه باستثناء الشعر الجاهلي الذي كان يتمحور حول الحياة في الصحراء، فإن فنّ العرب كان في المقام الأوّل فنّا حضريا، كما أن الإسلام نفسه يرى أن الإنسان لا يمكن أن يعيش وينمو إلا داخل مجتمع منظّم. ولهذا السبب، كان ابن خلدون، الذي يوصف بأنه آخر المفكّرين العرب العظماء في عصور ما قبل الحداثة، يؤكّد على الارتباط الوثيق بين الأنشطة الثقافية ومحيطها السياسيّ والاجتماعي.
كتاب الجمال في الثقافة العربية وُضع أساسا باللغة الألمانية. وأهميّته تكمن في انه يتناول جانبا مهمّا من ثقافة ما تزال مجهولة إلى حدّ كبير لدى شريحة واسعة من القرّاء الغربيين.