:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الأربعاء، يوليو 25، 2012

كوكوشكا: صورة الفنّان

صورة الرسّام في أذهان الناس لا تخلو من رومانسية. فهو عبقريّ ومبدع وعاطفي وغريب الأطوار وغير مستقرّ نفسيّا ولا أحد يقدّره إلا بعد أن يموت.
النموذج العصري، والسائد هذه الأيّام، للفنّان هو ذلك التاجر الذكيّ الذي يدعم موهبته الفنّية بالعلاقات الشخصيّة وبالدعاية والبهرجة. ولا يحتاج الإنسان لأن يسمّي أشخاصا من هذه الفئة لأنهم كثيرون. لكنّ المثالين الأقرب إلى الذهن هما آندي وارهول وتوماس كينكيد.
النموذج الأوّل عن الفنّان يمكن أن نسمّيه متلازمة فان غوخ. وأفضل من يمثّل هذا النموذج الرسّام اوسكار كوكوشكا المولود في النمسا عام 1886م. كان كوكوشكا ذا شخصية مزاجية وعنيفة. وقد انجذب إلى مجموعة من فنّاني بدايات القرن العشرين الذين أصبحوا يُعرفون باسم التعبيريين النمساويين. وكان من بين هؤلاء ماكس بيكمان وأوتو ديكس، بالإضافة إلى النرويجي ادفارد مونك والروسي فاسيلي كاندينسكي. طبعا لم يكن كلّ هؤلاء من النوع الذهاني والمتقلّب. لكن في كلّ واحد منهم، كان هناك قدر من عدم الاستقرار العاطفيّ الذي طبع حياتهم وامتدّ ليشمل أعمالهم.
كان اوسكار كوكوشكا متأثّرا كثيرا بزميله ومواطنه غوستاف كليمت. وبورتريهاته ومناظره الطبيعية تُظهر حرّية في استخدام الألوان وحيوية في الأسلوب لم يكن يجرؤ عليهما سوى القليلين في زمانه.
شغل كوكوشكا وظيفة ثابتة لبعض الوقت عندما عمل مدرّسا في أكاديمية الفنون المشهورة في دريسدن بعد الحرب العالمية الأولى. وكانت تلك إحدى الفترات المستقرّة القليلة في حياته بعد أن شُفي من علاقة حبّ غريبة ربطته مع آلما شيندلر أرملة المؤلّف الموسيقيّ الألمانيّ غوستاف ماهلر.
ولوحته بعنوان عروس الريح هي شهادة رومانسية من الدوّامات والعواصف على مدى انغماس الرسّام في حبّ تلك المرأة. غير أن شيندلر المشهورة بجمالها الفتّاك هجرته بعد أن عاشت معه ثلاث سنوات وفضّلت عليه رجلا آخر. وكان ردّ فعله أن كلّف صانع دمى في ميونيخ بتفصيل دمية لها بالحجم الطبيعي. كانت الدمية تشبه المرأة تماما، وكانت تتضمّن أدقّ تفاصيلها الحميمة. وأصبح كوكوشكا يحمل الدمية معه أينما ذهب كدليل على المعاناة التي كان يتحمّلها نتيجة حبّه لها وإعراضها عنه.
تقول آلما ماهلر في يوميّاتها واصفة علاقتها الغريبة بـ كوكوشكا: المشاعر التي كانت تنتاب اوسكار كانت من النوع الذي لا يمكن التنبّؤ به. كان يحبّ بشغف وبلا شروط، مثل وثنيّ يصلّي لنجمة بعيدة. كانت علاقتنا معركة حبّ. ولم أذق أبدا قبل ذلك كلّ هذا القدر من الجنّة ومن الجحيم". وقد عانت المرأة كثيرا من غيرته المفرطة، ولم يكن يتحمّل أصدقاءها ومعارفها. بل كان يغار حتى من زوجها الميّت. "موسيقاه تهدّ كياني وتمزّق جسدي وروحي"!
عندما علمت آلما بأنها أصبحت حاملا من كوكوشكا، قرّرت على الفور إسقاط الجنين. وفي المستشفى، قام بأخذ قطعة من ملابسها المبلّلة بالدم وعاد بها معه إلى البيت. كان يقول: هذا هو طفلي الوحيد، وسيظلّ كذلك". وكان من عادته أن يحمل معه تلك القطعة من لباسها أينما ذهب. ولم يتغلّب أبدا على ألمه من فقدان طفلهما المشترك، بل وجعله موضوعا للعديد من لوحاته.
وفي ما بعد، فعل كلّ ما في وسعه لإقناعها بالزواج منه. لكنها كانت تبتعد عنه أكثر فأكثر. وفي عيد ميلادها السبعين، بعث إليها برسالة يصفها فيها بالمخلوق المتوحّش. ثمّ بلغها الخبر بأن إصابة خطيرة لحقت به أثناء قتاله على الجبهة الروسية. فذهبت إلى بيته وأخذت الرسائل التي كانت قد كتبتها إليه وكذلك بعض رسوماته لها. وطلب منها احد أصدقائهما المشتركين أن تزوره على فراش المرض. غير أنها كانت قد وضعته وراء ظهرها ونسيته تماما.
لكن قُدّر لـ اوسكار كوكوشكا أن يُشفى من إصابته. وقد هاجر بعد ذلك إلى باريس ثم لندن فـ نيويورك، وأخيرا استقرّ في سويسرا بعد الحرب العالمية الثانية. أما الدمية التي كان قد صنعها لـ آلما فقد ظلّ يحتفظ بها سنوات طويلة إلى أن قام بإتلافها أثناء نوبة غضب ليلية.
قضى اوسكار كوكوشكا آخر سنواته في سويسرا. كان يشعر بالكثير من الحزن والمرارة لأنه وجد نفسه غريبا ومنسيّا مثل هامش صغير في كتاب تاريخ الفنّ. وقد أسهمت فردانيّته في أن أصبح معزولا عن حركات الحداثة في القرن العشرين. والغريب أن سيرة حياته خلت من احد العناصر المألوفة في متلازمة فان غوخ. فقد عاش حياة طويلة نسبيّا. وتوفّي في مونترو في فبراير من عام 1980 عن 94 عاما.

الأحد، يوليو 22، 2012

ووترهاوس و أوفيليا

أوفيليا هي إحدى الشخصيّات الرئيسية في مسرحية هاملت لـ شكسبير. في بداية المسرحية، تظهر اوفيليا كعذراء بريئة تمشي في الطبيعة وتغنّي للأزهار. لكنّ والدها يقرّر أن يوظّف جمالها للتلاعب بـ هاملت، فتقع في حبّه. ثمّ تعرف في نهاية المطاف أن هاملت قتل والدها بعنف، فتمرّ بمعاناة رهيبة نتيجة تشتّت عواطفها واضطراب أفكارها ما بين حبّها لـ هاملت وهجره إيّاها وحزنها على والدها. ونتيجة لعجزها عن التعامل مع الموقف، تقع أوفيليا ضحيّة حالة جنون حقيقيّ وتقرّر الانتحار غرقا.
شكسبير يكثّف الطبيعة المأساوية لشخصيّة اوفيليا، خاصّة بعد أن حوّلها الصراع بين الرجال إلى ضحيّة، وذلك بجعلها تموت خارج الكواليس. ثم تتلاشى أوفيليا ببساطة، كقطرة في ماء وترحل بعيدا مثل بتلات الزهور.
رسم أوفيليا العديد من الفنّانين واستخدموها بكثرة كرمز لهشاشة النساء وللفرص الضائعة. الرسّامون ما قبل الرافائيليين وجدوا في قصّتها موضوعا لا يقاوم للوحاتهم. المشهد التراجيدي العظيم في شخصيّتها ورمزية العذراء الشابّة الغارقة في الجنون أضافت إلى الصورة مزيدا من القوّة والجاذبية. وحتّى في وقتنا الحاضر، ما تزال صورة أوفيليا تلهم خيال الفنّانين والأدباء والشعراء.
الفنّان جون وليام ووترهاوس رسم ثلاث لوحات لـ أوفيليا، وكلّ واحدة منها تصوّر المرأة في مرحلة مختلفة أثناء الفترة التي سبقت وفاتها.
في لوحة من عام 1889 "الثانية إلى اسفل"، يرسم ووترهاوس اوفيليا وهي مستلقية في مرج وشاردة التفكير، بينما تمسك شعرها بيدٍ وبالأخرى باقة من شقائق النعمان. عيناها تنظران إلى الخارج في انشغال منوّم تقريبا. تمثيل الطبيعة الخلابة في هذه اللوحة تمّ بطريقة حسّاسة ومذهلة. العشب وبتلات الزهور مفصّلة بعناية، وتخلق خلفية خضراء وخصبة. ليس مستغربا هذا الهوس الذي يبديه ووترهاوس في الاهتمام بالتفاصيل. وقد احتفظ بهذه اللوحة في محترفه زمنا، ثمّ عاود العمل عليها مرّات ومرّات على مدى سنوات.

لوحة ووترهاوس الثانية لـ اوفيليا ظهرت في العام 1894م. وفيها تبدو المرأة جالسة وسط بركة من أزهار الزنبق في اللحظات الأخيرة قبل وفاتها. ملابسها الفخمة تتباين مع الطبيعة المحيطة. ومرّة أخرى، وضع الرسّام الأزهار على حجرها وفي شعرها في محاولة لربطها بمحيطها الطبيعيّ. اوفيليا تحدّق في المياه المظلمة للبحيرة، بينما يظهر جانب من وجهها الهادئ في نظرة جانبية. في هذه اللوحة، يبدو الموضوع بعيد المنال. وعلى الأرجح، لم ينجح الرسّام في أن يصوّر بدقّة امرأة قرّرت أن تأخذ حياتها وتنتحر.
تصوير ووترهاوس الثالث والأخير لـ أوفيليا "اللوحة الأولى فوق" كان في عام 1910، وهو الأكثر دراماتيكية. وكما في اللوحتين الأخريين، تظهر هنا أيضا مزيّنة بالورود وبشعر طويل ومائل إلى الحمرة. لكن اوفيليا هذه تختلف كلّيا عن سابقتيها. فالرسّام يصوّرها أكثر نضجا وأنوثة. كما أنها ترتدي ثوبا أزرق قرمزيا بدلا من الثوب الأبيض العذري. اوفيليا تقف في مقدّمة اللوحة وتحتلّ معظم الصورة بينما تحدّق في الناظر. نظراتها الحادّة وخدّاها المشوبان بحمرة يعبّران عن حالة اليأس التي تتملّكها. يدها تستريح على الشجرة لكي توازن نفسها قبل أن تخطو في الماء. وهناك شخصان يظهران في الخلفية. إنهما ينظران، لكن لا يبدو أنهما يدركان أن المرأة ماضية إلى مصيرها.
جون وليام ووترهاوس كان احد الفنّانين النادرين الذين أصبحوا يتمتّعون بالشعبية والثراء أثناء حياتهم. وكان لأسلوبه تأثير كبير على العديد من الرسّامين ما قبل الرافائيليين مثل فرانك ديكسي وجيمس دريبر. وبشكل عام، لا يُعرف سوى القليل جدّا عن حياته الخاصّة. لكن يقال انه كان شخصا خجولا ومتحفّظا نوعا ما. وقد نجح الرسّام في تطوير أسلوبه الخاصّ في الرسم والذي كان مزيجا من الكلاسيكية والرومانسية.
كان ووترهاوس مشهورا، ليس فقط بتوليفاته ومهاراته الفنّية العالية، وإنّما أيضا بموهبته في التقاط الكثافة الدرامية لموضوعاته. كان يحبّ أن يرسم شخصيات نسائية منكوبة، وكان غالبا يستخدم زوجته كموديل. "مترجم".