:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الخميس، نوفمبر 10، 2011

ألف لوحة ولوحة


"ألف لوحة ولوحة يجب أن تراها قبل أن تموت" هو عنوان الكتاب الذي أحضرته معي بعد زيارتي الأخيرة إلى لندن. الكتاب يقع في حوالي ألف صفحة. وكلّ صفحة مخصّصة للوحة، مع شرح موجز عن الرسّام والعصر الذي عاش فيه.
المؤلّف ستيفن فارذينغ يعمل أستاذا في جامعة الفنون في لندن. كما انه في الوقت نفسه رسّام. وقد ساعده في اختيار اللوحات وكتابة الشروحات مجموعة من تسعين كاتبا، بينهم أساتذة في الفنّ وموسيقيّون ومصمّمو مواقع اليكترونية.
اللوحات المختارة تغطّي الفترة من عام 1420 قبل الميلاد وحتى العام 2006م. وتضمّ نماذج من الفنّ الفرعوني والإسلامي وفنّ عصر النهضة وصولا إلى فنّ القرن العشرين. وقد روعي في اختيار هذه الأعمال أن تكون ممثّلة لمختلف التيّارات والمدارس الفنّية في الرسم.
ويحوي الكتاب أعمالا لفنّانين مشهورين مثل دافنشي وبيكاسو والبريخت ديورر وكلود مونيه وهيرونيموس بوش وكاندينسكي ورافائيل ودي غويا وميكيل أنجيلو وغوستاف كليمت وروبنز وغيرهم.
والملاحظ أن المؤلّف لم يقدّم لكتابه بشرح عن بدايات الرسم. كما أن الكتاب لا يتطرّق إلى ماهيّة الرسم ولا إلى وظيفته.
والملاحظة الأخرى تتعلّق بالعنوان. فالإشارة إلى الموت في عنوان كتاب يتحدّث عن الفنّ لم تكن موفّقة. لكن ربّما استوحى المؤلف العنوان من اسم كتاب شهير ورائج للكاتبة باتريشيا شولتز بعنوان "ألف مكان يجب أن تراها قبل أن تموت".
المقال المترجم التالي يلقي المزيد من الضوء على مضمون هذا الكتاب. وهو خلاصة لآراء مجموعة من الكتّاب ونقّاد الفن.

قد يكون من السهل على شخص ما أن يضع قائمة بلوحاته العشر المفضّلة من تاريخ الفنّ. لكن كيف يمكن لشخص واحد أن يتعاون مع عشرات الكتّاب الآخرين لتأليف كتاب شامل يتضمّن أهمّ وأشهر ألف لوحة في تاريخ الرسم؟
الشيء المحيّر في هذا الكتاب هو انه خفيف جدّا رغم حجمه. وقارئه المستهدف هو بالتأكيد شخص ما يشبه المرأة التي تظهر على غلافه. وهي تبدو واقفة بينما تعطينا ظهرها وقد ارتدت ثوبا أسود أنيقا وغير مبهرج.
في وقت ما من منتصف القرن التاسع عشر، حدثت انعطافة في تاريخ الرسم. فقد توقّف الرسّامون عن فعل ما كانوا يفعلونه من قبل، وبدءوا يطرحون أسئلة تتناول ماهيّة الرسم وغاياته.
وكان هذا مؤشّرا على التحوّلات الهائلة التي مهّدت لدخول العصر الحديث. كان التغيير الأكبر يتمثّل في تخلّي الرسّامين عن تمثيل الأشياء بطريقة واقعية وإهمالهم للمسائل المتعلّقة بالمنظور.
لكن، لسبب ما، كان الناس ما يزالون يشعرون بالرغبة في الرسم. ولا احد يدري لماذا. ربّما كان السبب هو محاولة الإبقاء على تقليد قديم على أمل أن يعيد إنتاج نفسه في عالم جديد.
وأيّا ما كان الأمر، فإن الرسم تمكّن فعلا من إعادة تصنيع نفسه. واندفع الرسّامون إلى القرن العشرين بأفكار وأدوات جديدة. وبدأ بعضهم يتحدّث عن الرسم من داخل لوحاتهم.
لوحة ماليفيتش المشهورة "ابيض على ابيض" يمكن أخذها كمثال. واللوحة هي عبارة عن مربّع ابيض مرسوم بطريقة مائلة على خلفية من اللون الزهري الخفيف. ويمكن اعتبار اللوحة دراسة في الشكل واللون.
هذه اللوحة لن تعثر لها على اثر في كتاب "ألف لوحة ولوحة يجب أن تراها قبل أن تموت". وستجد عوضا عنها لوحة ماليفيتش الأخرى "الدائرة السوداء" والتي تحاول، هي أيضا، إيصال نفس الفكرة تقريبا.
غير أن لوحة الدائرة السوداء تظهر في إحدى صفحات هذا الكتاب بمواجهة بورتريه الكونتيسة آنا دي نوي للفنّان الاسباني إغناثيو ثولواغا.
من المؤكّد أن لوحة ثولواغا قويّة، وإن بطريقة مختلفة. تتمنّى لو انك عرفت هذه الكونتيسة عن قرب. تتأمّل في ملامح وجهها وتتخيّل كما لو أنها تقول: أحضر لي كأسا من النبيذ أيها الأحمق! النصّ تحت صورة الكونتيسة يتحدّث عن ألوان أغطية السرير الداكنة التي تحاكي لون شعر المرأة الفاحم وفستانها.
وإذا ما حوّلت نظرك إلى الصفحة اليسرى من الكتاب، ستجد بضعة أسطر عن ماليفيتش تشير إلى أن الرسّام اختار للوحته توليفاً تجريديا بالكامل.
الفرق بين هاتين اللوحتين كبير جدّا. السواد النقيّ في لوحة ماليفيتش يهدّد بمحو كل العناصر التمثيلية في لوحة الكونتيسة. هنا تقف الألوان الثريّة للباس التقليدي والمظاهر الأندلسية في مواجهة العالم الصامت للتجريد.
ومن بين الأعمال العظيمة التي يتوقّع القارئ أن يجدها في هذا الكتاب رسومات ميكيل انجيلو في سقف كنيسة سيستينا، والغجرية النائمة لـ هنري روسو، والصرخة لـ إدوارد مونك، وظهيرة يوم احد لـ جورج سورا.
لكن هناك مفاجآت أخرى ولوحات غامضة لا يبدو أنها جديرة بأن تُدرج في الكتاب، مثل في الصباح الباكر لـ موريتز لودفيغ فون شوند وأغنية من بعيد لـ فرديناند هولدر.
في هذا الكتاب أيضا، ثمّة لوحات يُفترض أن لا تستطيع رؤيتها قبل الموت لسبب بسيط، هو أنها موجودة ضمن مجموعات فنّية خاصّة.
على أن أفضل ما في الكتاب هو مجموعة اللوحات المختارة. وبطبيعة الحال لن تجد نفسك متّفقا مع جميع الاختيارات. لكنها تغطّي مجموعة كبيرة من الأساليب والتيّارات الفنّية والفترات الزمنية والرسّامين.
من بين الأعمال المختارة لوحة رحلة المجوس إلى بيت لحم للفنّان الايطالي بينوتسو غوتسولي. هذا لوحة غريبة بالفعل. لكنّ منتصف القرن الخامس عشر، أي زمن رسم اللوحة، كان فترة غريبة. ومن الصعب جدّا فهم المشهد الفكري في أوروبّا من بدايات العصور الوسطى وحتى بداية عصر النهضة. كانت هناك قواعد مختلفة. الله كان ما يزال موجودا. وكانت الحياة تُفسّر من خلال شبكة معقّدة من الرموز والاستعارات التي لا يمكننا فهمها اليوم. لكن يمكن للمرء على الأقلّ أن يقدّر ثراء اللون وجمال التصميم في هذه اللوحة. فهي تنقل المتلقّي عبر فضاء حالم. والنصّ المكتوب تحتها يقول: التوليف يبدو غير محسوم. كما أن المنظور غير مقنع". وهذا استنتاج صحيح. فاللوحة عبارة عن محاولة تجريبية في أسلوب تناول التوليف والمنظور.
الربع الأوّل من الكتاب تهيمن عليه الايقونات واللوحات الدينية من ايطاليا. والربع الأخير منه تغلب عليه لوحات فنّاني الحداثة مثل غوردون بينيت وداميان هيرست، بالإضافة إلى فنّان الشوارع البريطاني المشهور بانكسي.
من المعلومات الغريبة التي يوردها الكتاب عن الموناليزا هي أن اللوحة لم تكتسب اسمها المعروف اليوم إلا بعد حوالي نصف قرن من رسمها، عندما كشف المؤرّخ الايطالي جورجيو فاساري هويّة المرأة زاعما أن اسمها الأصلي ليزا جيرارديني.
من أوجه النقص في هذا الكتاب انه لا يتحدّث عن الأسباب التي تجعل من لوحة ما مهمّة وتستحقّ أن تراها. لكنّ المؤلّف يقول في المقدّمة إن كلّ عمل في هذا الكتاب لا يمكن أن يرقى إلى المستوى الممتاز الذي تتبوّأه لوحة مثل لاس مينيناس لـ فيلاسكيز. غير انه يؤكّد لنا أن كلّ لوحة اختيرت، إما لأنها مهمّة أو لأنها مثيرة للاهتمام، أو للأمرين معا. لكن متى تكون اللوحة مهمّة أو مثيرة للاهتمام؟ المؤلّف لا يكلّف نفسه عناء طرح مثل هذا السؤال رغم أهمّيته. كما انه لا يقدّم شرحا مقنعا وكافيا عن سبب اختيار هذه اللوحات بالذات، وكأنه ينصح القارئ بأن يتوقّف عن الكلام وينشغل فقط بالنظر. أي أن هذا الكتاب في النهاية إنما يعرض الصور أو اللوحات، لكنّه لا يتحدّث عنها.