:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


السبت، يناير 16، 2010

حِوار الثلج والنار

على ضوء شمعة واهنة، كان يجلس طفل صغير يحتضن كوب حليبه الساخن قبل النوم ويحاول في الوقت نفسه اتقاء وهج النار المنبعثة من المدفأة إلى جواره.
كلّ ما كان يسمعه كان عويل رياح الشتاء المتجمّدة وهي تبحث لها عن شقوق لتختبئ فيها.
ومع انه كان يستطيع مشاهدة تساقط حبّات الثلج عبر النافذة، فإن عينيه كانتا تفضّلان متابعة ألسنة اللهب وهي ترتفع إلى فوق لأنها تذكّره بصور وأخيلة من الحكايات التي كانت تقصّها عليه أمّه.
كلّنا نختزن في ذاكرتنا مثل هذه الصور عن ليالي الشتاء. لكنّها أصبحت نادرة هذه الأيام مع وجود التكنولوجيا الحديثة وتطوّر وسائل التدفئة وتوافر الأبواب والشبابيك التي تُغلق بإحكام لتوفّر أجواءً دافئة ومريحة داخل البيوت.
قبل أكثر من مائة عام كانت هذه الصور شائعة جدّا، خاصّة بالنسبة لطفل فنلندي مثل جان سيبيليوس. ومع ذلك فقد وجد فيها فائدة غريبة. الفصول في فنلندا واضحة المعالم جدّا. فالربيع، مثلا، يبدأ فجأة في اللحظة التي تتصدّع فيها الأرض ليسيل الجليد ولتأخذ الأرض بعدها شكلها الأوّل.
مثل هذه الأطوار المتغيّرة التي يمرّ بها الطقس تُعتبر مسألة مألوفة ما لم تمعن النظر جيّدا في التأثير الشعوري العميق للطبيعة. وهو ما كان يفعله سيبيليوس الذي طالما سجّل انطباعاته عن حالات الطبيعة في عدد لا يحصى من الملاحظات.
الطبيعة بالنسبة إليه كانت ترمز إلى تجدّد الحياة التي كان يحبّها والتي ظلّت حاضرة في كلّ نوتة وفي كلّ لحن كان يؤلّفه.

كانت الطبيعة تميّز موسيقى سيبيليوس حتى قبل ظهور موسيقاه الوطنية التي ألّفها كردّ فعل على تهديدات روسيا ضدّ بلده، وهي المقطوعات التي حوّلته في عيون الفنلنديين إلى بطل قومي.
في السنوات العشر الأولى من القرن التاسع عشر اخذ أسلوب سيبيليوس في التبلور، فتراجع تأثير كلّ من تشايكوفيتشايكوفسكي سكي وإدفارد غريغ على موسيقاه وأصبحت صوره الموسيقية انعكاسا لما كان يراه ويلاحظه من مظاهر تنوّع وثراء الطبيعة الفنلندية.
وأنت تسمع موسيقى جان سيبيليوس لا بدّ وأن تستحضر صورا للثلج والنار والضباب والغيم والبحيرات الساكنة في أمسيات اسكندينافيا الملفوفة بالصمت والبرد والظلام.
كونشيرتو الكمان يمكن اعتباره العمل الموسيقي الأشهر الذي كان علامة على نضج سيبيليوس الفنّي والموسيقي وانتقاله من الموسيقى القومية إلى موسيقى الطبيعة.
وقد أهدى الكونشيرتو إلى صديقه عازف الكمان فيلي بيرميستر الذي عزف الكمان المنفرد في أوّل حفل قُدّم فيه الكونشيرتو.
هذا الكونشيرتو هو الوحيد الذي ألفه سيبيليوس. ومع ذلك أصبح واحدا من أشهر الأعمال المؤلفة للكمان في العالم. في هذا العمل براعة وتفرّد وتجديد. ويكفي للتدليل على أهميّته وشهرته انه يتعيّن على كل عازف كمان يريد أن يثبت موهبته أن يتقن عزف هذا الكونشيرتو بما ينطوي عليه من صعوبة وتعقيد.
ويقال أحيانا انه يشبه في قيمته الموسيقية كونشيرتو الكمان لـ تشايكوفسكي.
وقد وُصف بأنه يتضمّن أنغاما عريضة كما يغلب على موسيقاه طابع الحزن والشجن، مع أن فيه أيضا لحظات إشراق وجذل.

الخميس، يناير 14، 2010

افاتار بين الحقيقة والخيال


هناك الكثير مما قيل ويقال هذه الأيام عن فيلم افاتار ممّا يستحقّ المتابعة والاهتمام. وقد لفت انتباهي ردود الفعل الكثيرة والمتباينة حول الفيلم. الفاتيكان، مثلا، قال إن الفيلم عادي و"غير ضارّ". الصينيون مهتمّون بمعرفة طبيعة النباتات والأعشاب التي ظهرت في الفيلم. الأمريكيون يرون إن الفيلم يسيء إلى الجيش الأمريكي ويشوّه صورته. وهناك أيضا من رأى في الفيلم إشارات عنصرية بتركيزه على تفوّق الإنسان الأبيض الذي يلعب دور المنقذ والمخلّص.
لكن ما حكاية هذا الفيلم؟ وما سرّ شعبيّته الكبيرة التي تزداد كلّ يوم؟ ولماذا يستأثر بكلّ هذا الاهتمام الذي نراه ونلمسه هذه الأيّام؟!
للأسف لم أشاهد الفيلم بعد، لأنه ببساطة لا توجد عندنا سينما حتى إشعار آخر.
قد أتمكّن من مشاهدته مستقبلا، فأكتب عنه، له أو عليه.
لكنْ من واقع ما قرأته عنه عرفت، مثلا، انه فيلم فانتازي يستند إلى قصّة متخيّلة عن كوكب بعيد وناء يتعرّض لغزو سكّان الأرض الباحثين عن مصدر للطاقة بعد نفاد البترول من باطن الأرض.
وفي التفاصيل أن الفيلم كسر أرقاما قياسية عديدة. فهو أعلى الأفلام تكلفة وأسرع فيلم يصل إلى حاجز البليون دولار في شبّاك التذاكر في غضون أيّام من إطلاقه.
المقال التالي هو خلاصة لآراء ثلاثة من ابرز النقّاد السينمائيين الذين شاهدوا فيلم "افاتار" وسجّلوا بعض ملاحظاتهم وانطباعاتهم عنه.
"افاتار" ملحمة خيالية تجري أحداثها في المستقبل، أي بعد 150 عاما من الآن، على ظهر كوكب بعيد يقال له باندورا. في ذلك الوقت يكون البشر قد أهدروا كلّ موارد الأرض وجازفوا بالوصول إلى هذا الكوكب النائي الذي يقطنه شعب يسمّى "النافي" بحثا عن مصدر بديل للطاقة هو عبارة عن معدن ثمين يسمّى الانوبتينيوم.
في الفيلم نشاهد كبار القادة العسكريين المشرفين على عملية استغلال هذا المعدن بالإضافة إلى مجموعة من العلماء الذين يستخدمون كائنات مخلّقة وراثيا، أي أشخاصا من شعب "النافي" يخضعون لسيطرة البشر، وذلك بغرض إحلال السلام مع القبائل المعادية وإجراء تجارب على ذلك الكوكب الخارق.
يركّز الفيلم على احد العلماء، وهو جندي سابق في البحرية الأمريكية يدعى جيك سولي، الذي يجري اتصالا غير مسبوق مع شعب "النافي" ويصبح شخصا موثوقا به في مجتمعهم. وقد أوكلت للجندي مهمّة إقناع "النافي" بترك موطنهم قبل وصول البشر الذين سيأتون لاستخلاص المعدن الثمين من أرضهم.
لكن البشر الجشعين يفقدون صبرهم ويقرّرون هدم كوكب باندورا الجميل. ويتبع ذلك معركة ملحمية بين "النافي" وبين البشر المسلّحين بالتكنولوجيا العسكرية الفتّاكة. وفي النهاية يجد الجندي صعوبة كبيرة في أن يقرّر إلى أيّ من الطرفين يتعيّن عليه أن ينحاز. وبعد تفكير يقرّر في النهاية الانحياز إلى شعب الكوكب ويعمل مقاتلا في صفوفهم ضدّ غزو سكّان الأرض.
مخرج الفيلم هو جيمس كاميرون الذي سبق وأن أخرج فيلم تايتانك الذي يصنّف بأنه ثاني فيلم في العالم من حيث الإيرادات التي حقّقها.
وقد تمّ الإعلان عن "افاتار" لعدّة أشهر قبل أن يُطرح في الأسواق في ديسمبر الماضي. وهو من بطولة سام وورثنغتون وزو سالدانا وسيغورني ويفر.
حبكة هذا الفيلم عاطفية ومثيرة طوال الوقت. وهناك الطريقة المدهشة التي وُضعت فيها الطبيعة مقابل التكنولوجيا، والسكّان الأصليون مقابل الغزاة الغرباء، وقيم الجماعة مقابل الاستراتيجيات التجارية والعسكرية.
الثقافة والبيئة التي خلقهما كاميرون في كوكب باندورا هي أيضا مؤثّرة جدّا. فجميع المخلوقات والنباتات في الكوكب، وكذلك شعب "النافي" نفسه، يبدون جميعا في حالة انتماء وتناغم تامّ مع الطبيعة التي يعيشون ضمنها.
في إحدى لقطات الفيلم يقول بطله انه ليس متأكّدا أيّ حياة هي الحلم؛ حياته في طبيعته المتجسّدة أم حياته كإنسان؟ والحقيقة انك عندما تشاهد هذا الفيلم لا بدّ وأن يومض هذا السؤال في خلفية عقلك. ومع ذلك، فإن العنصر الأكثر إثارة للإعجاب في الفيلم والذي سبّب كلّ هذه الضجّة حوله هو عنصر الحركة.
فنظام الكمبيوتر الذي استخدم في توليد الحركة في الفيلم يقال انه احد أقوى خمسة كمبيوترات في العالم متخصّصة في مزج الحركة الحيّة مع الرسوم المتحرّكة باستخدام تقنيات فنّية متطوّرة للغاية. وهذا المزج بالذات هو الذي خلق كوكبا خارقا ورهيبا ومليئا بالألوان والحياة وقابلا للتصديق.
ومن الصعب أن تعرف ما إذا كنت تشاهد صورا رقمية أو حركة حيّة. وهذا بالضبط هو ما أراده المخرج وما حقّقه بنجاح.



إن فكرة وجود كوكب طوباوي في بقعة بعيدة تقطنه مخلوقات ببشرة زرقاء هو الوضع المثالي الذي يتمنّى الناس وصانعو السينما أن يهربوا إليه.
لكنْ في عالم الخيال العلمي الذي يقدّمه فيلم "افاتار" فإن الخطّ الفاصل بين الخيال والحقيقة يكاد يتلاشى.
والواقع أن هناك الكثير من الناس الذين يتشوّقون للعيش في بيئة فانتازية كتلك التي يصوّرها الفيلم.
وفي الأيّام القليلة الماضية غمر الجمهور فضاء الانترنت بتعليقاتهم وبانطباعاتهم ومشاعرهم المختلطة عن الفيلم. بعض من شاهدوه قالوا أنهم أصبحوا يعانون من الاكتئاب والحزن لأنهم غير قادرين على زيارة كوكب باندورا!
وفي احد المنتديات الالكترونية كان هناك ألف تعليق تتحدّث جميعها عن أساليب علاج الاكتئاب الناتج عن الإحساس بعدم إمكانية العيش في باندورا.
وقد كتب احدهم يقول: عندما استيقظت هذا الصباح بعد مشاهدتي "افاتار" للمرّة الأولى أمس، بدا لي هذا العالم رماديا وكئيبا. إن عالمنا هذا هو، ببساطة، عبثي وبلا معنى. وما زلت لا أرى سببا يدفعني للقيام بنفس الأشياء التي اعتدت فعلها. إن هذا العالم الذي أعيش فيه هو عالم ميّت".
وبدا أن احد المعجبين بالفيلم كان أكثر تأثّرا به عندما كتب يقول: اعترف بأنني أفكّر الآن بالانتحار. وأظنّ بأنني إن فعلت فسأبعث من جديد في عالم شبيه بكوكب باندورا"!
كما دعا شخص آخر زملاءه إلى أن ينضمّوا إليه في تأسيس قبيلة حقيقية من شعب "النافي"!
يقول احد علماء النفس إن الحياة الافتراضية ليست واقعية بطبيعتها. ولا يمكن أن يكون الواقع بمثل الطوباوية والمثالية التي نشاهدها على الشاشة. وما نشاهده يجعل الحياة الواقعية تبدو أكثر نقصا وأقلّ كمالا".
الواقعية البصرية لهذا الفيلم يمكن أن تشير إلى أيّ مدى أصبح الناس متعلّقين به.
و"افاتار" يوظّف تقنيات الإبهار البصري بطريقة مذهلة ورائعة. وبعض المتفرّجين لا يمكن أن يصدّقوا ما تراه أعينهم على الشاشة الكبيرة.
ترى، هل يعبّر الناس عن طبيعة هروبية بإقبالهم على مشاهدة مثل هذا الفيلم الخيالي، وهل في هذا ما يشي بعجزهم عن التعامل مع العالم الواقعي من حولهم؟
إن ميزة الأفلام الفانتازية من نوعية "افاتار" أنها تبصّر الناس بحقيقة شخصيّاتهم التي قد تكون فيها جوانب مظلمة أو شرّيرة قد لا يتبيّنونها في عالم الواقع. كما أن هذه النوعية من الأفلام تربط الناس بالطبيعة والعالم البدائي والميتافيزيقيا وبأمور وأشياء دأب ما يسمّى بالمجتمع على قمعها وكبتها في دواخلهم لفترة طويلة.
"افاتار" وغيره من أفلام الخيال العلمي قد تشكّل منفذا يهرب من خلاله الناس من مشاكل وضغوطات الحياة الحديثة وما تحفل به من هموم اجتماعية ووظيفية واقتصادية وعائلية. كما أنها تمنح الناس الأمل في عصر مليء بالمنغّصات التي لا تورّث سوى اليأس والتشاؤم.
إن من الدروس المهمّة التي يقدّمها هذا الفيلم الجميل أن شعبا بسيطا مثل "النافي" يركب الحيوانات المتوحّشة ولا يملك من عدّة الحرب سوى الأسهم والرماح قادر على أن يهزم شرور التكنولوجيا وآلات الدمار. وإذن ثمّة أمل على هذه الأرض عندما يتحوّل الخيال إلى حقيقة.
"افاتار" فيلم مثير ومشوّق وممتع للحواسّ. ويبدو أن جيمس كاميرون، بفضل هذا الفيلم، في طريقه لأن يصبح مخرج أفضل وأضخم فيلم عرفه تاريخ السينما.
لكنْ هل "افاتار" فيلم خيالي فعلا؟
الواقع أن باندورا موجودة في كوكبنا الأرضيّ نفسه. هي موجودة في جنوب ووسط أمريكا وفي أفريقيا وفي غيرها من الأماكن. وشعب "النافي" هم السكّان الأصليون في تلك الأنحاء الذين يُهجّرون ويُشرّدون ويُقتلون لكي تُسرق مواردهم الطبيعية وخيرات أوطانهم.
"افاتار" ليس قصّة من نسج الخيال، بل إن مثلها يحدث واقعاً في غابات الأمطار الاستوائية في جبال بيرو وفي كولومبيا وفي البرازيل وهندوراس حيث تمارس الشركات العملاقة شتّى الأساليب في نهب النفط والمعادن والأرض وسرقة ثقافة الشعوب ومصادرة إرادتها وسيادتها على مصيرها ومستقبلها.

Credits
collider.com

الأربعاء، يناير 13، 2010

أشعار دنيوية

عندما تسمع هذه الموسيقى قد تظنّها نشيدا وطنيا أو "مارشاً" عسكريا يخلّد انتصارا في حرب ما أو معركة. مقدّمتها القويّة، بإيقاعها الصاخب والمجلجل، تشدّ انتباه السامع وتثير استجابته منذ اللحظة الأولى.
لكن النصّ الشعري الذي تستند إليه "كارمينا بورانا" يقول شيئا آخر. فهذا العمل السيمفوني الكورالي المشهور ألّفه كارل اورف اعتمادا على نصّ شعري كلاسيكي يعود إلى القرن الثالث عشر الميلادي عُثر عليه في احد الأديرة القديمة في ألمانيا.
والغريب أن الشعر يتناول مسائل دنيوية، إذ يتحدّث عن القدَر والحظّ وعن متع الحياة والمسرّات الأرضية من حبّ وشراب ورقص وخلافه.
غير أن القصائد تتضمّن أيضا تساؤلات وجودية تشكّك في جدوى الحياة وتصوّر الإنسان كريشة تعصف بها رياح القدَر.
طبيعة هذه القصائد تشير إلى أن رهبان القرون الوسطى كانوا هم أيضا يتساءلون عن معنى الحياة كما نتساءل نحن اليوم وتؤرّقهم نفس الأسئلة والمشاغل التي يطرحها إنسان العصر الحديث.
ويصحّ أن يقال إن كارمينا بورانا مزيج من كلّ شيء. فمن حيث بُنيتها الموسيقية، تحتوي على إنشاد ديني ورقص ودراما ومسرح. كما أن فيها موسيقى مستوحاة من التراث الألماني. ولا تخلو بعض مقاطعها من رومانسية واضحة ومزج بين المشاعر الوثنية والحديثة.
كارمينا بورانا موسيقى تنتمي للقرن العشرين. لكنّها الّفت لكي تعيش طويلا. ويقال أحيانا أنها تقدّم دليلا آخر على أن الموسيقى الكلاسيكية ليست دائما موسيقى جادّة أو مملّة. وكثيرا ما تُعزف من اجل تعويد الأجيال الشابّة على تقبّل الموسيقى الكلاسيكية التي تتسم عادة بالجدّية والرصانة.

أشهر ما في كارمينا بورانا هو افتتاحيّتها المسمّاة "او فورتشونا" أو "يا ربّة القدَر". وفورتشونا هي إلهة القدَر عند الإغريق والرومان القدماء.
في الافتتاحية ذات التأثير الشعوري الهائل، يمزج كارل اورف بين المأساة الإغريقية الكلاسيكية وموسيقى الباروك الايطالية. فخامة الافتتاحية تشير إلى أن الاوركسترا الموظّفة في عزفها ضخمة (أكثر من 500 عازف ومغنّ وراقص من الرجال والنساء). كما أن مزيج الأنغام فيها غريب يغلب عليه قرع الطبول بطريقة تعطي إحساسا بقدر من الوحشية والبدائية.
ظهرت كارمينا بورانا لأوّل مرّة في ثلاثينات القرن الماضي. وقد ألّفها كارل اورف للسوبرانو والتينور والاوركسترا. وتتكّون من خمس وعشرين حركة تتوزّع على ثلاثة أجزاء.
وقد عُزفت لأوّل مرّة في ألمانيا. غير أنها لم تكتسب الشعبية والشهرة إلا بعد أن قُدّمت في لندن ونيويورك بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.
في ما بعد، عُزفت الموسيقى في جميع أنحاء العالم تقريبا. الأسلوب الدراماتيكي الذي يميّز الافتتاحية يذكّر بموسيقى سترافينسكي الذي يقال إن اورف كان معجبا به كثيرا وكان يعتبره أستاذه.
اورف نفسه قبل تأليفه كارمينا بورانا كان موسيقيا متواضعا ومغمورا. وقد كتب في بداياته أعمالا موسيقية تعتمد على مسرحيات اسخيليوس وسوفوكليس. كما تأثّر بأسلوب ريتشارد شتراوس وشوينبيرغ. لكن كارمينا بورانا جعلت منه ملحّنا كبيرا واسما موسيقيا مشهورا.
ويقال أن اورف كان كاثوليكيا متديّنا. لكن ليس من الواضح ما إذا كان قد حصل على موافقة الكنيسة في تحويل الأشعار إلى عمل سيمفوني.
أمّا الاسم نفسه، أي كارمينا بورانا، فيعني باللاتينية "قصائد دنيوية". وهو من ابتكار يوهانز شميلر الذي عُهد إليه بتنقيح تلك الأشعار ومراجعتها بعد اكتشافها.
بعض النقاد تحدّثوا مطولا عن الجوانب التاريخية والجمالية في هذه الأوبرا السيمفونية والتي أسهمت في انتشارها وشعبيّتها الكاسحة.
الجدير بالذكر أن افتتاحية كارمينا بورانا جرى تطويعها في أشكال غنائية مختلفة. وقد استخدمت في العديد من الأفلام السينمائية والمناسبات الرياضية. كما ظهرت في الكثير من الإعلانات والدعايات التجارية لبعض المنتجات والماركات العالمية.

الاثنين، يناير 11، 2010

ديلاكروا ومصرع كليوباترا

تعتبر كليوباترا إحدى الشخصيّات التاريخية المهمّة التي تناولها الأدب والفنّ.
كانت مشهورة بقسوتها ضدّ خصومها وبدهائها وبجاذبيّتها وسحرها.
مصرع كليوباترا بالسم كان دائما موضوعا مفضّلا للكثير من الرسّامين مثل الكسندر كابانيل وآرثر رينالد وجان اندريه ريكسن.
المقال المترجم التالي يتناول رؤية الرسّام الفرنسي اوجين ديلاكروا لشخصية كليوباترا وواقعة موتها الغامض.



لوحة ديلاكروا "كليوباترا والفلاح" ليست فقط لوحة جميلة ومشرقة لملكة مصر القديمة، لكنّها أيضا رسالة قويّة عن جدلية العلاقة بين الحبّ والسلطة.
أوّل ما يجذب الانتباه في اللوحة هو كليوباترا نفسها. هذه الصورة لها مختلفة كثيرا عن صورتها النمطية كامرأة سمراء، كما يقدّمها الفنّ الحديث.
في لوحة ديلاكروا تبدو كليوباترا في هيئة شاحبة. غير أنها ترتدي ملابس ملوكية جدّا مع الكثير من الحليّ والمجوهرات على معصميها وعنقها ورأسها، بالإضافة إلى فستان من الحرير بلون وردي.
كليوباترا في اللوحة تثير الانتباه بسبب التعابير التي على وجهها في المقام الأوّل. إنها تحدّق في الأفعى كما لو أنها في حالة نشوة.
الفلاح، إلى اليسار، يبدو أكثر قتامة من كليوباترا. لحيته سوداء كثّة وغير مشذّبة. وهو يلبس رداءً من جلد النمر يلفّه حول نفسه. وتحت الرداء سلّة من الفاكهة. يداه تبدوان متغضّنتين، ربّما بسبب المجهود العضلي الذي يبذله بحكم مهنته.
سلّة الفاكهة تحت جلد النمر تحتوي على حبّات من التين الأحمر. وعلى التين أفعى.
المُزارع يبدو معتدّا بنفسه إلى حدّ ما. لكن لا تبدو ملامحه جادّة كثيرا.
في اللوحة ثمّة تركيز خاصّ على الجانب الأيسر، على اعتبار انه لا توجد تفاصيل كثيرة في الجانب الأيمن، بالإضافة إلى حقيقة أن كليوباترا تحدّق في ذلك الجانب بالذات، أي الأيسر.
درَس ديلاكروا الأدب الانجليزي، وخاصّة مسرحيات شكسبير. في مسرحية "انتوني وكليوباترا"، بعد أن يُقتَل مارك انتوني تحاول كليوباترا قتل نفسها مفضّلة الموت على الوقوع أسيرة بيد اوغستوس قيصر. هذا هو المشهد الذي بنى عليه ديلاكروا لوحته.
من الواضح أن كليوباترا في حالة كرب. لكن، لماذا تستثير الأفعى كلّ هذا الإحساس بالخطر والموت المحدق؟
لآلاف السنين، استخدمت الأفاعي كرمز للموت. وفي بعض المعتقدات القديمة فإن المعنى الرمزي للأفعى أتى من خاصّية تغييرها لجلدها، ما جعلها رمزا قويّا للانبعاث والولادة الثانية.
في سياق مشهد شكسبير، تعلن كليوباترا أنها تفضّل الموت على الأسر. وهذا يثبت أنها كانت قد تحرّرت من خوفها من الموت وقبلته عندما رأت الأفعى.
وفي المسرحية، كما في الرواية التاريخية، فإن كليوباترا تقتل نفسها عن طريق لدغة أفعى.
كانت الأفاعي دائما رمزا تاريخيا للشرّ. وأفضل مثال على ذلك الأفعى التي أقنعت حوّاء بأكل التفّاحة في جنّات عدن. وفي ثنايا القصّة القديمة أوجه شبه مع المضمون الرمزي للوحة ديلاكروا.
في المسيحية، ترمز أشجار التين لمحبّة الله للبشر. صحيح أن كليوباترا لم تكن مسيحية. لكن اللوحة رُسمت في فرنسا منتصف القرن التاسع عشر، وهي بلد مسيحي. لكنْ لأن ديلاكروا كان يعرف طبيعة الجمهور الذي يتوجّه إليه، فقد تعمّد تضمين اللوحة رموزا مسيحية. وقد يكون أراد أن يقول شيئا ما عن سعي الحاكم وراء السلطة. فقد كانت كليوباترا تعرف أن حكمها كملكة على مصر في حكم المنتهي. وقد يكون هذا هو السبب الأساسي في أنها قرّرت أن تموت.
وملابسها الباذخة ومجوهراتها الفارهة لا تبدو منسجمة مع تعابير وجهها المحبطة.
كليوباترا تدرك أنها على وشك أن تُجرّد من كلّ رفاهية وهيلمان الملك. وهي ترى أن الأفعى السامّة هي التي ستحقّق لها أمنيتها الأخيرة القاتلة.
بالنسبة لـ انتوني، كانت كليوباترا تستحقّ أن يضحّي من اجلها بسمعته وبكلّ ما يملكه. وقد غامر بمصلحة بلده وباسمه وكبريائه من اجل أن يظفر بحبّها.
وهو كان قد وقع للتوّ بيد القيصر ثم لم يلبث أن قُتل، بينما تجلس هي بانتظار مصير لا يقلّ إذلالا.
وكان الرومان قد خطّطوا لأن يعرضوا كليوباترا في شوارعهم في محاولة لتدمير مكانتها والاستخفاف بأصلها الملوكي.
في اللوحة ظلام مخيّم مصدره الألوان البنّية والسوداء القاتمة. وفي طريقة اتكاء كليوباترا على ذراعها الأيمن وتحديقها الغريب في الأفعى دعوة للناظر لأن يكتشف الواقع الذي يكمن وراء هذا الإحساس المفاجئ بالمصيبة والموت.
ملامح وجه الفلاح تشبه ملامح المهرّج. كما أن سمات شخصيّته منمّقة بوضوح. هو يحاول أن يجلب الراحة لملكته، وهذا واضح في طريقة وقوفه وابتسامته.
الشكل الذاوي للأفعى يبدو الشيء الوحيد الذي يتحرّك في هذه اللوحة. وقد تكون، أي الأفعى، أهمّ عناصرها الواقعية.
من الواضح أن تعابير كليوباترا متأثّرة بمنظر الأفعى. ومع ذلك، فإن ابتسامة الفلاح تخلق الانطباع بأنه يعرض ما في السلّة على الملكة بطيب خاطر. وبالرغم من هذا العرض الغريب وغير المألوف، فإن الملكة لا تُظهر أيّ إحساس بالخوف أو الصدمة.
في مسرحية شكسبير، بمجرّد أن يقنع الفلاح كليوباترا بالأخطار الممكنة للأفعى تأمره هي بالخروج من غرفتها. غير انه يبادرها بقوله: احترسي! لا يجب الوثوق بأفعى. كما لا ينبغي أن توضع سوى في عهدة شخص حكيم".
الخيوط الخفيّة التي خبّأها ديلاكروا في التفاصيل الشائكة والدقيقة للوحة لا تقود الناظر إلى مصدر وسرّ معاناة كليوباترا فحسب، وإنما أيضا إلى الجمال والغموض اللذين يكمنان خلف تصرّفاتها.
وترجمة ديلاكروا لمسرحية شكسبير تحتوي على مستوى من العبقرية يتضح من خلال الأسلوب وغنى الألوان وسطوعها وحركة الفرشاة المهتزّة والتوليف المضطرب الذي يسهم في تكثيف توتّر جوّ اللوحة.
رُسمت هذه اللوحة عام 1838، أي بعد عشرين عاما مما عُرف بالمائة يوم الأخيرة لـ نابليون.
وهناك احتمال أن كليوباترا في اللوحة تمثّل سعي الزعيم الفرنسي وراء السلطة وفشله المحتوم.
ومن المثير للاهتمام أيضا أن نعرف أن ديلاكروا رسم اللوحة خلال حكم لويس فيليب الذي أطيح به في العام 1848م.
وبناءً عليه، قد يكون الرسّام أراد للوحة أن تكون رمزا لفشل الملكية الحتمي. فالفلاح يقف بالقرب من كليوباترا ويبدو في حال أفضل من حالها لجهة مقدرته في الحفاظ على حياته.
الطبقات الشعورية في اللوحة تقدّم مثالا رائعا على طبيعة اللوحات الرومانتيكية. وكليوباترا مرسومة بطريقة فريدة. وإذا لم يُقدّر لك أن تنظر باهتمام وتفحّص إلى اللوحة فقد لا ترى الأفعى الملتصقة بثمار التين. كما أن المزج بين الجمال الواقعي والدلالة الرمزية في اللوحة يجعل منها إحدى أهمّ اللوحات في تاريخ الفنّ.