:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


السبت، مارس 14، 2009

الإنترنت والإسلام

قد يكون العنوان أعلاه فضفاضا وواسعا بعض الشيء. وقد يلزم لتناوله بطريقة علمية ومنهجية تجزئته إلى مكوّنات وفروع ثانوية، وهي مهمّة قد لا تتوفّر لغير الباحثين والمتخصّصين في الإعلام ونحوه من العلوم ذات الصلة.
لكنّي أردت من وراء الموضوع أن أنتهز مناسبة مرور عشرين عاما على اختراع الانترنت كي أطرح سؤالا محدّدا يمكن صياغته على الشكل التالي:
الانترنت .. هل أفادت الإسلام أم أضرّت به؟
هذا السؤال كثيرا ما خطر بذهني كلّما قرأت خبرا أو تحليلا أو تعليقا في هذا الموقع أو ذاك يكون الإسلام عنصرا فيه.
وكلّنا يعرف أن الانترنت وضعت كلّ الأفكار والقيم والممارسات تحت مجهر التحليل والتقييم والنقد.
ولا شكّ أن لعنصر التفاعلية الذي تتّسم به الانترنت وتتفوّق به على ما عداها من أدوات الاتصال دورا كبيرا في دفع المتلقي، أيّا كان بلده أو دينه أو ثقافته، لأن يمحّص أفكاره ويعيد النظر في بعض المسلّمات والقناعات التي كان يؤمن بها قبل ظهور هذا الاختراع المدهش والعجيب.
وتصوّري الخاصّ، وقد أكون مخطئا، هو أن الانترنت أضرّت بالإسلام أكثر مما نفعته.
أضرّت به من حيث أنها أظهرت إلى العلن كم أن أتباعه منقسمون ومتحاربون ومتباغضون رغم أنهم يدينون بنفس الدين.
وأضرّت بالإسلام عندما روّجت ونشرت صورته باعتباره دينا يشجّع على الإرهاب والعنف وقطع الرؤوس واختطاف المدنيين واضطهاد المرأة.. إلى آخره.
قد يقول قائل وهو مصيب في كلامه: اللوم في هذه الحالة ليس على الانترنت لكونها مجرّد آلة تواصل محايدة. إنمّا اللوم يقع على بعض المسلمين الذين يشوّهون صورة الإسلام بجهلهم وأحيانا بإجرامهم ولا إنسانيتهم.
لكن الانترنت كشفت عن هذا كله ونشرته وروّجته على نطاق أوسع.
من الصعب، مثلا، محو الانطباع المدمّر الذي تركته مشاهد قطع الرؤوس بتلك القسوة والوحشية من نفوس حتى أكثر من كانوا يتعاطفون مع الإسلام ويتحدّثون عن ظلامات أتباعه.
والمؤسف أكثر أن تلك المشاهد ظهرت في عصر الانترنت حيث لا يمكن مسحها أو إخفاؤها عن الأعين، خاصّة أعين الباحثين في زوايا الشبكة ودهاليزها المظلمة عن كلّ ما يسيء إلى الإسلام ويلطّخ صورته.
هناك أيضا عامل آخر لا يقلّ أهمّية عما سبق. ويتمثّل في ظهور أشخاص من المسلمين أنفسهم ممّن يكتبون ويتحدّثون في العديد من مواقع الانترنت وفي منتديات النقاش، ومن بين هؤلاء مفكّرون وكتّاب وقادة رأي وشيوخ دين معروفون.
وبعض هؤلاء يتحدّثون بلا مبالاة أو تحرّز وبطريقة لا تسهم سوى في تكريس الصورة السائدة في ذهن الآخر عن الطبيعة الواحدية للإسلام، وميله لإخضاع أتباعه بالقوّة، وإشهار ثقافة الانتحار والموت، وإغلاقه باب التفكير الحرّ والمستقل، وتهميشه للمرأة، وعدم تسامحه مع تقاليد التعدّدية والتفكير النقدي، وإخفاقه في دفع أتباعه لأن يكونوا جزءا من هذا العالم الذي يؤمن بالتعدّدية وبالديمقراطية والمساواة وبالحرّيات الفردية والمدنية.. إلى آخره.
للأسف بفضل الانترنت أصبح الإسلام اليوم مقترنا في أذهان العالم بالذبح والإرهاب والحجاب ورجم الخاطئات وبتر الأطراف وجرائم الاغتصاب الجماعي وجرائم الشرف.
وكلّ هذه الممارسات تعزى إلى الإسلام وترتكب باسمه.
لهذه الأسباب وغيرها، أعتقد أن الانترنت أضرّت كثيرا بصورة الإسلام في العالم.
بل إنها أصبحت تؤثر على أفكار بعض المسلمين أنفسهم وتدفعهم إلى إثارة التساؤلات حول بعض الأفكار المرتبطة بالدين ومدى مرونته وقدرته على التوائم مع ظروف عالم يتغيّر ويتطوّر باستمرار.

الاثنين، مارس 09، 2009

تحفة فان غوخ الحقيقية

لا بدّ وأنك تعرف على الأقلّ واحدة من هاتين اللوحتين.
الأولى، إلى اليمين، هي "ليلة مرصّعة بالنجوم" التي رسمها فان غوخ في العام 1889 عندما كان يقيم في مصحّة سان ريمي في باريس.
والكثيرون يعتبرون هذه اللوحة المزعجة تحفة فان غوخ الحقيقية. وهي بالتأكيد أفضل صورة معروفة له. وقد لا تبتعد كثيرا عن موناليزا دافنشي التي يقال إنها أشهر لوحة في العالم.
لكنْ بصراحة، هذه اللوحة، أي ليلة مرصّعة بالنجوم ، لا تروق لي كثيرا. وعندما مررتُ بجوارها في متحف الفنّ الحديث بـ نيويورك لم تثر في نفسي أيّ شعور بالإعجاب أو الانجذاب.
مع أن اللوحة كانت ملهمة لعشرات القصائد الشعرية والأغاني، لعلّ أشهرها أغنية فنسنت لـ دون ماكلين (يمكن سماعها بصوت دانا وينر هنا ).
وكنت افترض دائما أن لامبالاتي باللوحة لها علاقة بالمسائل الوجدانية والشعورية. إذ من عساه يهيم في حبّ لوحة تتضمّن قدرا كبيرا من التوتّرات والإغماءات!
اللوحة الثانية، إلى اليسار، إسمها أشجار السرو . وهي لوحة معروفة جدّا لأنها معروضة دائما في متحف المتروبوليتان في نيويورك. هذا على الرغم من أنها محاطة بالعديد من التحف الانطباعية وما بعد الانطباعية التي تجعل التغاضي عنها أمرا سهلا.
على الورق، اللوحتان متماثلتان. وفان غوخ كان قد رسمهما معا في سان ريمي في نفس الفترة. وكلاهما تحتويان على أشجار سرو. واللوحتان تكمّلان بعضهما بعضا. الأولى صورة ليلية. والثانية تظهر جانباً من طبيعة بروفانس في ذروة حرارة النهار.
ووجود اللوحتين معا جنبا إلى جنب يجعل المقارنة النوعية بينهما أمرا لا مفرّ منه.
وبالنسبة إليّ، فإن "أشجار السرو" هي التحفة الحقيقية. إنها قادرة بسهولة على إلحاق الهزيمة بـ "ليلة مرصّعة بالنجوم"، والإجهاز عليها بالضربة القاضية.
"أشجار السرو" تزأر، تضجّ بالحياة، وفقاعاتها تتطاير في الهواء لتلتحم بالغلاف الجوي. ويمكنك أن تشعر بالرياح والحرارة ولزوجة الصيف وبالجمال الغريب الذي يتداخل في كلّ عناصر وتفاصيل هذه اللوحة.
بالمقابل، فإن "ليلة مرصّعة بالنجوم" تبدو أكثر فأكثر مثل تجربة غريبة في الرسم البياني لا تقدّم نتيجة أو ثمرة.
وأشكال الارابيسك المترابطة فيها والأقمار التي تأخذ هيئة المناجل والإشعاع المبالغ فيه للنجوم في السماء، كلّها تبدو مثل لحن عالق بجنون.
هذه العناصر تمتصّ كلّ واقع اللوحة وتغطّي على المشهد الحميمي الكائن إلى أسفل، أي القرية الصغيرة بالليل.
وهذه ليست مشكلة لو أن فان غوخ كان إنسانا حالما مثل كلّ الفتيات المراهقات اللاتي يحتفظن في غُرَفهن بنسخ من هذه اللوحة.
لكنه لم يكن كذلك. ربّما كان إنسانا معذّبا. لكن كلّ ما هو عظيم في فنّ فان غوخ يعزو عظمته إلى ارتباطه المباشر بالواقع.
وهذا ما يجعل منه فنانا مختلفا ومتفوّقا على "غوغان" الذي كان نادرا ما يسمح للواقع بأن يتدخّل في أحلامه النرجسية.
بإمكانك أن تقول إن فان غوخ رسم "ليلة مرصّعة بالنجوم" من الذاكرة والخيال في أشدّ لحظات ضعفه الإنساني. واللوحة تبدو أقرب ما يكون لرسم كاريكاتيري يصوّر نزوة ما. طبعاً، تاريخ الفنّ والملمح الثنائي الأبعاد في اللوحة يعطيان تفسيرا. فقد كان فان غوخ متأثرا كثيراً بالأسلوب الياباني في طباعة واستنساخ الرسوم البيانية. وكان منتمياً إلى جيل من الرسّامين الذين بدءوا يرون الصور من منظور تجريبي: أي عبارة عن ترتيبات مسطّحة للون والشكل على دعائم ثنائية الأبعاد.
كان فان غوخ يصف أشجار السرو بأنها رشّ للون الأسود في طبيعة مشمسة. لكنه واحد من أكثر ألوان "الأسْوَد" إثارة للاهتمام. بل انه أصعب الألوان التي تأتي عادة بنتائج دقيقة لا يمكن تخيّلها.
وهذا بنظري يدحض النظرية القائلة بأن استخدام فان غوخ لألوان مكثّفة وزائدة كان أمرا عارضا وغير مقصود نتيجة اشتداد المرض النفسي عليه.
و"أشجار السرو" بتناغمها المثير وبالدقّة والمهارة الهائلة التي ُرسمت بها توفّر دليلا آخر واضحا على بطلان تلك الفرضية.

Credits
vangoghmuseum.nl/en

الأحد، مارس 08، 2009

ما وراء الأقنعة

لم يكن فرويد مجرّد عالم أحدث ثورة كبرى في مجال دراسة النفس البشرية، بل إن أهميّته تكمن في أنه كان عالما موسوعيّا متعدّد المواهب والاهتمامات.
ولطالما شدّتني نظرياته عن اللاشعور والأحلام والرغبات الباطنية بقدر ما فتنت بأسلوبه الساحر وكتاباته المشوّقة والعميقة عن الشخصيات التاريخية وعن الفن وعلم الجمال وتاريخ الأديان وعلم الإنسان.. إلى آخره.
إن فرويد لا يتحدّث كعالم نفس فقط، بل كمؤرّخ وعالم اجتماع وفنان وشاعر وإنسان يملك رؤية واسعة وخيالا خصبا.
ومن الصدف الجميلة أنني وجدت أن ثلاثة من أهمّ كتبه هي "علم نفس الجماهير" و"إبليس في التحليل النفسي" و"الهذيان والأحلام في الفن" مترجمة إلى اللغة العربية بأسلوب راق ومبسّط وسلس يناسب الشخص المتخصّص كما يناسب الإنسان العاديّ على حدّ سواء.
والمترجم الذي تصدّى لهذه المهمّة العسيرة هو المفكّر والأكاديمي العربي جورج طرابيشي الذي ما من شكّ في أن ترجمته لأعمال فرويد تلك تمثل إضافة نوعية ومهمّة للمكتبة العربية.
وكنت قد قرأت قبل ذلك جانبا من آراء فرويد وانطباعاته عن الفنّ وعن مشاكل الإبداع بشكل عام.
صحيح أن الكثير من الآراء التي قال بها أصبحت متقادمة، وبعض نظرياته التي تبنّاها نقضها آخرون ممّن أتوا بعده.
لكن تظلّ لكتاباته نكهة خاصّة بالنظر إلى جرأتها واقتحاميّتها وإثارتها للأفكار والتساؤلات.
لقد كتب فرويد كثيرا عن النفس البشرية وعن الوعي واللاوعي، كما ناقش مطوّلا سيطرة الرغبات الباطنية وتأثيرها على أفكارنا وتصرّفاتنا.
غير انه أيضا ناقش العديد من المسائل والقضايا المتعلقة بالفنّ والإبداع. وبعض آرائه في هذا الجانب لا تخلو من طرافة. فقد كان فرويد يرى أن الفنان مخلوق محبط جنسيا، وأن اشتغاله بالفنّ يعكس رغبته في أن يعلو بالغريزة الجنسية إلى مستوى أكثر تساميا ونبلا. كما ذهب إلى أن الإبداع هو في الأساس تعبير عن الصراعات النفسية، وهي في الغالب جنسية، التي تضطرم في أعماق المبدع ولم تنحسم بعد.
وكان فرويد يعتقد أن العمل الفني ما هو إلا عرض أو مظهر للمرض النفسي وأن الفنان أو المبدع ليس سوى إنسان مريض. وقد فسّر بعض الباحثين كلام فرويد عن المرض استنادا إلى الفرضية التي تقول إن الفنان أو المبدع إنسان يؤمن عادة بقيم غير تلك التي يعتنقها مجتمعه وأن آماله وتطلعاته تتجاوز تلك التي لدى الناس العاديين الذين هم بطبيعتهم مقموعون وممنوعون من تحقيق إبداعاتهم الخاصّة. في حين أن طبيعة الإنسان المبدع لا تؤمن بالحدود أو الحواجز بل بحتمية التطوّر والنموّ الذاتي الذي يجعل منه إنسانا مختلفا ومتميّزا.
ومن آراء فرويد الأخرى ذات الصلة بالموضوع ما قاله ذات مرّة من أن شكل لوحة الرسم يرقى لأن يكون سيرة ذاتية للفنان الذي أبدعها، أو هي كتاب مفتوح يمكن أن توفر قراءته مفاتيح يستدلّ بها على ما يساور الفنان من هواجس وانفعالات متصارعة تحت طبقة اللاشعور.
ومن أكثر كتاباته إثارة للجدل دراسته التي خصصّها لتحليل شخصية ليوناردو دافنشي اعتمادا على ما كتبه الأخير عن تفاصيل بعض أحلامه عندما كان شابا.
كان فرويد في دراسته تلك يحاول التأكيد على أهمّية الأحداث التي يمرّ بها الإنسان في سنيّ حياته المبكّرة ودورها في صياغة شخصيّته عندما يكبر.
وتوصّل إلى أن ليوناردو عانى من الحرمان من عاطفة الأم. كما أشار إلى احتمال انه كان شخصا مثليا جنسيا استنادا إلى بعض خيالات ليوناردو القديمة عندما تمنّى لو أن له جناحين. يقول فرويد: أن يكون لك جناحان معناه أن تكون ملاكا أي مولودا من عملية اندماج امرأة وطائر. وقد لا تكون تلك أكثر من رغبة مقنّعة في أن يصبح قادرا على مزاولة الجنس".
ومن الأمور التي توقّف عندها فرويد وهو يحلّل شخصية ليوناردو دافنشي نزوع الأخير إلى عدم إكمال لوحاته. إذ أرجع السبب في ذلك إلى الاضطهاد الذي عانى منه الفنان على يد والده، والذي ظلّ في لا وعيه دائما بحيث لم يكن ممكنا التخلص منه وإزالته من خلال التجارب والخبرات التي مرّ بها لاحقا.
وبطبيعة الحال قوبلت آراء فرويد عن ليوناردو بردود فعل تراوحت ما بين الاستحسان والاستهجان. لكنه في ما بعد أعلن تراجعه عن معظم ما قاله عن دافنشي، خاصّة ما يتعلق بميوله المثلية. وقال إن دافنشي في شبابه لم يكن أكثر من نموذج أراد أن يجّرب عليه تحليلاته ونظرياته.
ومن آرائه الجدلية الأخرى ما ضمّنه دراسته التي خصّصها لتحليل شخصية النبيّ موسى. فقد توصّل إلى أن موسى لم يكن عبرانيا بل مصريا متحدّرا من سلالة رفيعة وأنه كان ابنا لإحدى الأميرات الفرعونيات.
وأضاف: لو ذكر هذا الإنجيل لخفّ سحر الأسطورة. فكان لا بدّ من تضمين القصّة بعض العناصر الفولكلورية من أجل التأكيد على أصوله الفقيرة ونسبته إلى اليهود لكي تأخذ القصّة طابعا متماسكا وذا مصداقية.
ورأى فرويد أن الأسطورة أعيد بناؤها لاعتبارات وطنية ومن ثم تغيّرت إلى الطبعة التي نعرفها.
غير أن هناك الكثيرين ممّن اعترضوا على مقولات فرويد عن موسى. وقال بعض المنتقدين إن فرويد لا يعاني من قلة الإدراك وإنما من مشكلة إسقاط نفسي تخفي رغبة الرجل في عدم اعتبار نفسه يهوديا.
ومن الطريف أنه قدّم لدراسته عن موسى بعبارة قال فيها: إن من الأشياء التي تثقل على النفس حقيقة أنني أدرك يقينا صعوبة أن تستسيغ جماعة ما فكرة أن يجرّدوا من الرجل الذي طالما نسبوا أنفسهم إليه واعتبروه أعظم أبنائهم.
وممّا يعرف عن فرويد انه لم يكن متصالحا كثيرا مع فكرة الدين بل كان يرى فيه ضربا من الهوس أو العصاب النفسي. ومن المرجّح أن هذه الفكرة كانت تراود عقله وهو يتأمّل التمثال الضخم الذي نحته مايكل انجيلو في أحد ميادين روما. وكان قد قرّر الذهاب إلى ذلك المكان حيث أمضى فيه أيّاما كان يحضّر أثناءها دراسته المثيرة عن موسى والتي رأى بعض النقاد انه كان ينقصها الدليل العلمي رغم أن قراءتها تتوفّر على كثير من المتعة العقلية والفكرية.
لقد كان فرويد، بحسب بعض النقاد، أكثر الشخصيات الفكرية تأثيرا في فنون وآداب القرن العشرين. ومن عباءة أفكاره عن الأنا والعقل الباطن خرج عدد لا يحصى من الروايات والأعمال التشكيلية. بل يقال أحيانا أن مجمل حركة الفنّ الحديث بمدارسها المختلفة، وخاصة السوريالية، يعود الفضل في ظهورها إلى فرويد ونظرياته.
وعندما أستعيد بعض ما كتبه عن الإبداع في الفنّ اشعر ببعض الأسى لأن مجموعة كتاباته وآرائه خلت من أيّ حديث عن الموسيقى من منظور سيكولوجي. الغريب في الأمر أن فرويد عاش في بيئة ثقافية وفنية غنيّة كانت الموسيقى تشكّل إحدى ركائزها الأساسية. ومع ذلك ليس للموسيقى ورموزها اثر يذكر في كتاباته ودراساته العديدة.
غير أن أهميّة فرويد وتأثيره الهائل ماثلان للعيان في مختلف أوجه ومناحي الثقافة المعاصرة. يكفي مثلا أن نتذكّر انه صاحب الفضل الأوّل في صياغة ذلك العدد الكبير من المصطلحات والمفردات التي لم تكن موجودة قبله والتي دخلت القواميس وراجت وانتشرت في مختلف الأدبيات الطبّية والسوسيولوجية والانثروبولوجية، بل ووجد بعضها طريقه إلى الخطاب السياسي والاجتماعي مثل التابو، والفوبيا، والملانكوليا، والسادية، والماسوشية، وعقدة اوديب، والضمير، والعقل الباطن أو اللاشعور، والأنا والأنا العليا، والإسقاط، والتماهي، والطوطمية، وعقدة اليكترا، والهستيريا، والنرجسية، والبارنويا، والثنائية الجنسية، والتسامي، والتيليباثي أو التخاطر عن بعد.. إلى آخر تلك التعبيرات التي أصبحت دارجة على كلّ لسان..