:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الجمعة، مارس 21، 2008

فينوس الملتحفة بالفِراء

كان هامش المخطوط يتضمّن مجموعة من العبارات المعروفة من رواية فاوست. إحداها تقول: أكثر النساء إثارة هي تلك التي تقودك من أنفك".
قلبت صفحة العنوان، وقرأت: الأسطر التالية جمعتها من مذكّراتي في تلك الفترة، لأنه من المستحيل بكلّ صراحة أن يكتب شخص عن ماضيه. لكن بهذه الطريقة، فإن كلّ شيء يحتفظ بألوانه الجديدة؛ ألوان الحاضر".
غوغول، أو موليير الروسي كما كان يُلقّب، يقول: الملهمة الكوميدية الحقيقية هي تلك التي تتساقط الدموع من خلف قناعها الضاحك". قول رائع. لذلك يساورني شعور غريب جدّا وأنا أكتب كلّ هذا.
الجوّ يبدو مشبعاً برائحة الزهور المحفّزة، وهو أمر يغمرني ويسبّب لي صداعا. دخان المدفأة يتداخل ويتكثّف متحوّلا إلى شخوص صغار بلحى بيضاء يشيرون ساخرين بأصابعهم في وجهي. كيوبيدات ممتلئة الخدّين تركب على ذراعَي كرسيّي وتعتلي ركبتي.
ولا بدّ لي من ابتسامة لا إرادية، وحتى ضحكة عالية، وأنا أكتب عن مغامراتي. ومع ذلك فأنا لا أكتب بالحبر العادي، وإنما بالدم الأحمر الذي يقطر من قلبي. لقد فتحتُ كلّ الجروح الواسعة والمؤلمة. ومن حين لآخر، تسقط دمعة على الورق. الأيّام تزحف ببطء في هذا المنتجع الصغير. أنت لا ترى هنا أحدا ولا احد يراك. الوقت مملّ بما فيه الكفاية.
لست أكثر من شابّ هاو للفنّ، الرسم والشعر والموسيقى والعديد غيرها من الفنون التي تُسمّى مهناً غير مربحة. لكن قبل كلّ شيء، أنا شابّ يهوى فنّ الحياة. والى الآن، عشت كما كنت ارسم واكتب الشعر. هناك أناس يبدءون بكلّ شيء ولا ينتهون من شيء أبدا . أنا أحدهم.
اجلس الآن إلى جانب نافذتي في هذه البلدة الصغيرة التعسة. كم هو رائع منظر أشعّة الشمس الذهبية وهي تنعكس على الجبال الشاهقة. سيول الجبال تتراءى من بعيد كأشرطة من فضّة. السماء صافية زرقاء. والمنحدرات مغطّاة بالغابات الخضراء. والمروج ملأى بقطعان الماشية. والفلاحون يقفون وينحنون ثم ينهضون ثانية بين أكوام القمح الصفراء.
البيت الذي أعيش فيه محاط بحديقة أو غابة أو برّية، أيّا ما كان الوصف الذي تريد أن تطلقه عليها. وهو بيت منفرد جدّا. سكانّه الوحيدون هم أنا، وأرملة من ليمبيرغ، والسيّدة تارتاكوفسكايا التي تدير البيت، وهي امرأة عجوز ضئيلة الحجم تهرم وتصغر كلّ يوم. وهناك أيضا كلب عجوز يعرج على ساق واحدة، وقطّ صغير يلهو دائما بكرة من الغزل. كرة الغزل هذه، على ما أظن، تخصّ الأرملة.
يقال أن الأرملة جميلة، وأنها ما تزال صغيرة جدّا، في الرابعة والعشرين على الأكثر، كما أنها غنيّة جدّا. هي تسكن في الطابق الأوّل، وأنا في الطابق الأرضي. وهي دائما ما تُبقي على الستائر في غرفتها مسدلة. وللغرفة شرفة مغطّاة بالنباتات المتسلّقة الخضراء. من ناحيتي، لديّ عريشة مريحة من أشجار زهر العسل. وأنا اقرأ وأكتب وأرسم وأغنّي فيها مثل طائر بين الأغصان.
يمكنني النظر إلى فوق، أي إلى الشرفة. أحيانا افعل ذلك بالفعل. ثمّ من وقت لآخر، ألمح طرف ثوب أبيض بين الأوراق الخضراء الكثيفة. المرأة الجميلة هناك لا تهمّني كثيرا، لأنني في حالة حبّ مع شخص آخر. وأنا غير سعيد بتلك العلاقة، لأن الكائن الذي اعشقه مصنوع من الحجر.
في الحديقة القريبة، هناك مرج جميل يرعى فيه زوج من الغزلان بسلام. في هذا المرج تمثال حجريّ لـ فينوس. النسخة الأصلية من التمثال موجودة، على ما أظنّ، في فلورنسا. فينوس هذه هي أجمل امرأة رأيتها في حياتي. يكفي أن أقول إن فينوس هذه جميلة. وأنني أحبّها بشغف وجنون كما لو أن المرء يمكن أن يحبّ امرأة لا تستجيب له بأيّ شيء، عدا هدوئها وابتسامتها الأبدية.
أحيانا اقرأ مستلقيا تحت الغطاء الوارف لشجرة بتولا صغيرة عندما تشرق الشمس على الغابة. وفي كثير من الأحيان، أقوم بزيارة عشيقتي الباردة والصلبة ليلا، واستلقي على ركبتيّ أمامها ووجهي مسنود على قاعدة التمثال الذي ترتاح عليه قدماها. وهناك أبثّها صلواتي.
من خلال تعاملي مع الصور الفوتوغرافية، استطعت تشكيل صورة عن أفكاري المثالية. إنها نسخة صغيرة من لوحة تيشيان "فينوس مع مرآة". يا لها من امرأة! أردت أن أكتب فيها قصيدة. تناولت الصورة وكتبت عليها: فينوس الملتحفة بالفراء.
"أنت باردة، بينما تشعلين الحرائق حولك وتلفّين نفسك في فرائك الخاصّ الذي لا يناسب أحدا سواك كإلهة للحبّ والجمال". بعد فترة أضفت إلى القصيدة بعض أبيات من شعر غوته وجدتها مؤخّرا في فاوست: لها زوج من الأجنحة الخيالية، والسهام في يدها ليست أكثر من مخالب، والإكليل يُخفي قرونا صغيرة. إنها تشبه، دون شكّ، كلّ آلهة اليونان القديمة، باستثناء أنها شيطان متخفّ".
ثم وضعت الصورة أمامي على الطاولة، وأسندتها بكتاب، وأخذت انظر إليها. لقد ملأني إعجابا وخوفا هذا التدلّل البارد الذي تلفّ به هذه المرأة الرائعة مفاتنها في الفراء وهذه الشدّة والصلابة التي تكمن في هذا الرخام البارد.
ومرّة أخرى أخذت قلمي، وكتبت الكلمات التالية: أن تحِبّ وأن تُحَبّ، تلك هي السعادة. ومع ذلك، كيف يُقارَن بريق هذه الأشياء الشاحبة مع متعة الخضوع لامرأة طاغية الجمال تستعبدنا، بل وتدوسنا بالأقدام دون رحمة. شمشون، البطل العملاق، وضع نفسه في يدي دليلة. وحتى بعد أن غدرت به وخانته وربطه أعداؤه وأخمدوا نور عينيه، بقيت نظراته مثبّتة عليها ومملوءة حبّا وغضبا على الخائنة الجميلة".
كنت أتناول إفطاري في عريشة زهر العسل وأقرأ كتاب جوديث. وقد حسدت البطل هولوفيرنس على تلك المرأة الملوكية التي قطعت رأسه بالسيف ومنحته تلك النهاية الدموية الجميلة. "وضرب الربّ سبحانه فأسلمه ليَدَي امرأة". هذه الجملة أعجبتني بشكل غريب. قلت لنفسي: ما الذي بإمكاني أن افعل حتى يحلّ بي نفس العقاب؟

بين الأغصان الخضراء وشتلات الورد، لاح الثوب الأبيض مرّة أخرى.
في تلك اللحظات، أتت مدبّرة المنزل التي تضاءلت أكثر ما بين عشيّة وضحاها وطلبت مني شيئا كي تقرأه الأرملة التي فوق. وركضت إلى غرفتي وجمعت لها مجلّدين. وتذكّرت في وقت لاحق أن صورة فينوس كانت تتوسّط احدهما. بعد لحظات تناهت إلى سمعي ضحكات الأرملة. ترى هل كانت تضحك عليّ؟
كان القمر قد اكتمل. كان ضوؤه ينعكس على قمم الأشجار التي تحيط بالحديقة. وهواء أو دخان فضّي يملأ الشرفة. كانت الأشجار على البعد تتلاشى تدريجيا مثل مياه مضطربة.
لم أستطع المقاومة. شعرت بدافع غريب ونداء في داخلي. ارتديت ملابسي وخرجت إلى الحديقة على عجل. قوّة ما تجذبني نحو المرج، نحوها، إلهتي وحبيبتي. الليل بارد. والجوّ ثقيل برائحة الزهور والغابة.
يا للهدوء! كان هناك عندليب يتنهّد. النجوم تتلألأ ببريق ازرق شاحب. المرج يبدو ناعما، مثل مرآة، مثل غطاء من الجليد على بِركة. وتمثال فينوس يقف مضيئا.
ولكن ما الذي حدث؟ من المنكبين الرخاميين لتمثال الإلهة، كان يتدلّى فراء داكن يصل إلى كعبيها. أقف مصعوقا وأنا أحدّق فيها. يستولي عليّ الخوف.. وأهرب.
أسارع بخطواتي، وأكتشف أنني أضعت الطريق الرئيسي. وبينما أنا على وشك أن أتحوّل إلى الممشى الأخضر الجانبي، أرى فينوس تجلس أمامي على مقعد حجري. لم تكن المرأة الرخامية الجميلة، وإنما إلهة الحبّ نفسها بدم حار ونبضات تخفق.
لقد عادت فعلا إلى الحياة من اجلي، مثل التمثال الذي بدأ يتنفّس لخالقه.
شعرها بدا انه لا يزال من الحجر، ورداؤها الأبيض يشعّ مثل ضوء القمر. ومن كتفيها يفيض الفراء الداكن. شفتاها بدأتا تحمرّان وخدّاها يأخذان لونهما. وخيطان من الوميض الشيطانيّ الأخضر يخرجان من عينيها ليقعا عليّ. ثم تناهى إلى أذنيّ صدى ضحكات ساخرة.
اهرب أبعد وأبعد. وبين كلّ بضع خطوات، كان يتعيّن عليّ أن أتوقّف لألتقط أنفاسي. الضحكات الساخرة تتعقبّني بين الممرّات الداكنة، وعبر المساحات المفتوحة من الضوء والأوراق الكثيفة التي لا يمكن أن يخترقها سوى شعاع ضئيل من ضوء القمر.
لم يعد بمقدوري أن اعثر على طريقي وأنا أهيم على وجهي حائرا تماما، بينما قطرات من البرد تبلّل جبيني. وأخيرا وقفت ساكنا.
الآن أصبح كلّ شيء واضحا تماما أمام عينيّ مرّة أخرى. هناك النافورة، وهناك الزقاق المرصوفة جوانبه بالخشب، وهناك المنزل الذي أقترب منه ببطء. دخلت المنزل والتقطت أنفاسي، وجلست أفكّر.
صباح قائظ آخر. الجوّ ساكن ومحمّل بروائح الأزهار. أجلس تحت أشجار زهر العسل وأقرأ في الأوديسا عن الساحرة الجميلة التي كانت تحوّل معجبيها إلى بهائم. صورة رائعة من صور الحبّ القديم.
ثمّة حفيف ليّن بين الأغصان. صفحات كتابي تخشخش. وعلى الشرفة، هناك أيضا خشخشة. ثوب امرأة. هي هناك، أي فينوس، ولكن من دون فراء. إنها الأرملة هذه المرّة.
كانت تقف هناك في ثوبها الصباحيّ الخفيف والأبيض وتنظر إليّ. قوامها يبدو مملوءا بالشِعر وبالنعمة. ليست بالكبيرة ولا بالصغيرة. بشرتها رقيقة وفمها صغير جدّا. شعرها أحمر، ليس بالأشقر أو الذهبيّ أو الأصفر. وهي تلفّه حول عنقها بطريقة شيطانية. عيناها الآن تلتقيان بعينيّ مثل حزمتي برق أخضر. عينان خضراوان كالأحجار الثمينة أو كبحيرات الجبال العميقة بلا قرار.
لاحظتْ حيرتي. ولفظاظتي، كنت ما أزال أضع قبّعتي على رأسي. كانت تبتسم بخبث. وأخيرا نهضتْ. وانحنيت لها. اقتربت شيئا فشيئا ثمّ ندت عنها ضحكة عالية وطفولية. كنت أتأتيء مثل ما يفعل هاو صغير أو حمار كبير في مثل هذا الموقف.
هكذا بدأ التعارف بيننا.
- اسمي واندا فان دوناهيو.
قلت بعد أن استجمعت شجاعتي: لكن سيّدتي، ما الذي دفع بهذه الفكرة إلى رأسك؟
قالت: الصورة الصغيرة في احد كتابيك.
كنت قد نسيت ذلك.
- والملاحظات الغريبة خلفها.
ولماذا هي غريبة؟
نظرت إليّ قليلا ثم قالت: لطالما أردت، على سبيل التغيير، أن أتعرّف على حالم حقيقي. ويبدو أنك واحد من أكثر أفراد القبيلة جنونا.
لثوان وقعت ضحيّة لعثمتي البلهاء واحمرّ وجهي خجلا.
ثم قالت: لقد كنت خائفا منّي الليلة الماضية.
حقّا؟ بالطبع.. ولكن لماذا لا تجلسين؟
جلست، كانت تستمتع بإحراجي. كنت في الواقع أكثر خوفا منها الآن ونحن في وضح النهار. وارتسم على شفتيها تعبير لذيذ بالاحتقار.
- أنت تنظر إلى الحبّ، حبّ المرأة خصوصا، كشيء خطير. شيء تحاول أن تدفعه عنك حتى لو كان ذلك دون جدوى. انك تشعر بأن قوّة المرأة عليك تمنحك إحساسا بمتعة التعذيب، بالقسوة الموجعة. وهذه نظرة حديثة حقّا".

Credits
wikipedia.org