:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الثلاثاء، ديسمبر 27، 2005

أهمية إعادة الاعتبار للعقل

"لا نستطيع أن نحلّ المشاكل المزمنة التي تواجهنا بنفس العقلية التي أوجدت تلك المشاكل. ومن السّذاجة أن نفعل نفس الأمور بنفس الطريقة ثم نتوقّع نتائج مختلفة".
- البيـرت آينشتـايــن

من الخطأ أن يتعسّف البعض في تفسير الآيات القرآنية فيربطها بالنظريات والاكتشافات العلمية ويحمّلها فوق ما تحتمل كما يفعل زغلول النجار وعبدالمجيد الزنداني وغيرهما.
فالقرآن الكريم، كما نعرف، هو كتاب هداية وتربية وإرشاد في المقام الأول، وليس مرجعا في الفيزياء أو الفلك أو الطب والعلوم.
إن الذي يريد معرفة أسرار الكون عليه أن يقرأ ما كتبه كبار العلماء مثل اينشتاين وهوكنغ وديفيز ونيوتن وغيرهم من الأسماء البارزة في مجال الفيزياء والطبيعة.
وحبّذا لو قام مسئولو التعليم في بلداننا بترجمة كتب هؤلاء وغيرهم إلى العربية بطريقة سهلة ومبسّطة ومفهومة كي يقرأها اكبر عدد من الناس.
هذا بنظري أولى وأهم من غسل أدمغة الطلاب بفقه التبديع والتفسيق وفتاوى التحريم والتكفير والكراهية التي لا يمكن إبطال مفاعيلها الضارّة وآثارها الخطيرة سوى بمنظفات من هذا النوع الذي يحفظ للإنسان عقله ويحفّزه على استخدام ذلك العقل فيما ينفعه ولا يضرّه وفي ما يفتح وعيه على منافذ العلم والمعرفة الحقّة.
ربّما لو وجدت هذه الفكرة طريقها للتنفيذ لخفّت حدّة التطرّف والتفكير الغيبي ولاصبح الناس في مجتمعاتنا اقلّ ميلا إلى التفسيرات الغيبية التي تجنح غالبا نحو الخرافة كلما أتى الحديث عن الإنسان والكون والوجود.
وربّما – من جهة أخرى – يصبح الناس في بلادنا اكثر تقبلا للعلمية (من العلم) واقلّ نزوعا إلى استحضار الخرافات والأساطير والركون إلى ما ينشره بعض الناس من أمور هي اقرب إلى الخزعبلات والتخريفات منها إلى حقائق العلم الحديث.
إن من الضروري أن نعيد النظر في رؤيتنا للمنطق وفي تعاملنا مع الظواهر العلمية، وهذا يبدأ من إعادة التفكير جديا في صوغ المناهج الدراسية التي تدرّس للتلاميذ بطريقة تعيد الاعتبار لعلم المنطق وأساليب البحث العلمي لان من شأن ذلك أن يعين الناشئة على تفسير الأحداث والظواهر تفسيرا علميا ومنطقيا بعيدا عن التناول الغيبي والخرافي الذي سدّ منافذ العقل وعطّل ملكة التفكير عند قطاعات كثيرة في مجتمعاتنا.

الأربعاء، ديسمبر 21، 2005

محطّات

الزبدة أم البندقية ؟


في البرتغال أقالت الحكومة رئيس هيئة أركان الجيش لأنه انتقد علنا قرار الحكومة بتقليص ميزانية الدفاع.
البرتغال تعداد سكّانها عشرة ملايين نسمة وإنفاقها العسكريّ لا يتجاوز المليار ونصف المليار دولار سنويا والمبلغ يتمّ إنفاقه على 34000 جندي.
أما كندا، التي هي الأخرى عضو في النيتو، فيبلغ إنفاقها العسكريّ حوالي سبعة مليارات دولار سنويا فيما يبلغ عدد سكانها حوالي ثلاثين مليونا.
الميزانية الدفاعية الكندية تُستخدم للإنفاق على 56 ألف جندي.
وكلا الدولتين تكرّسان ميزانية الدفاع بالكامل تقريبا لحماية شطآنهما الطويلة.
في المقابل، انتقد كبار العسكريين الكنديين علنا قلة المخصّصات المالية المعتمدة للإنفاق العسكري. لكن كندا دولة متسامحة كثيرا وديمقراطية أكثر، لذا لم تعاقب المنتقدين بل جلّ ما في الأمر أن الحكومة تجاهلت ما قالوه.
صديق عربيّ عاد من كندا مؤخّرا لاستكمال إجراءات حصوله على الغرين كارد.
وكان الرجل مبهورا بالتطوّر التكنولوجي والحضاري الذي لمسه ورآه هناك، وقد أصيب بما يشبه الصدمة الحضارية!
قال لي في نهاية حديثه عن مشاهداته: هل تصدّق أن الحكومة الكندية تحقّق، سنويا، وفرا في ميزانيتها يبلغ مليارات الدولارات! وقد جرت العادة أن تطرح الحكومة استفتاءً على المواطنين تحاول فيه استمزاج آرائهم في الكيفية التي يتعيّن بها إنفاق المال الفائض، هل يوزّع نقدا على المواطنين أم يرون إنفاقه على المزيد من الخدمات الترفيهية.
هذان مثالان لدولتين فضّل مواطنوهما الزبدة على البندقية.
على خلفية هذين المشهدين، تذكّرت واقع الحال المزري في العالم العربي.
ميزانيات الدفاع لبعض دولنا يقال أنها ضعف ميزانية إسرائيل..
وعشرات المليارات من الدولارات تُنفق سنويا على جيوش تعاني من البطالة وعلى أسلحة يعلوها الصدأ في المخازن وعلى عمولات تذهب إلى جيوب المرتشين والمتلاعبين بالمال العام، فيما المواطن المسكين يفترسه غول البطالة وتطحنه الأزمات الاقتصادية المتلاحقة ويعاني الأمرّين في سبيل الحصول على لقمة العيش الكريم.
ويبدو أن أحوال العرب المتردّية ستستمرّ على ما هي في ظل غياب أيّ قدر معقول من الديمقراطية والشفافية والمشاركة الشعبية الفاعلة.

❉ ❉ ❉

غويا والعملاق


إذا لم يكن غويا هو من رسم لوحة العملاق، فمن تراه يكون؟
لسنوات طوال ظلّت الشكوك تراود متحف برادو الاسباني حول واحدة من أشهر لوحات فرانشيسكو دي غويا.
المتحف يقول الآن انه شبه متأكّد من أن اللوحة لا تعود للرسّام الاسباني المشهور الذي عاش في القرن الثامن عشر.
العملاق لوحة زيتية كبيرة تصوّر جذع رجل ضخم يبرز من بين الغيوم رافعا قبضة يده بينما يسير فوق قرية مرعوبة. إعلان برادو سبّب حالة من الغضب في أوساط الخبراء الذين ما يزال بعضهم يعتقد أن اللوحة أصلية وأن من رسمها هو غويا فعلا.
عملاق غويا كان دائما احد عناصر الجذب الرئيسية في متحف برادو وأحد أهمّ اللوحات التي تسجّل جانبا من حرب اسبانيا ضدّ نابليون الذي كانت قوّاته قد غزت الأراضي الاسبانية عام 1808م.
الشكوك حول أصالة اللوحة بدأت تطفو إلى السطح عام 1990 ثم تزايدت إثر قيام المتحف بشكل غير متوقّع باستبعاد اللوحة من معرضه الضخم الذي أقامه مؤخّرا بعنوان "غويا في أزمنة الحرب".
مانويلا مينا الخبيرة في حياة وفنّ غويا قالت إن اللوحة تحتوي على أغلاط أسلوبية لا تتناسب مع موهبة غويا. وأضافت أن الذراع الأيسر المرفوع للعملاق مرسومة بطريقة بدائية وغريبة بالنسبة لشخص خبير في التشريح مثل غويا.
من جهته، قال المتحف إن دراسات جديدة تشير إلى أن من رسم لوحة العملاق قد يكون احد تلاميذ غويا أو مساعديه.
لكن هناك من يختلفون مع هذا الرأي. المؤرّخ البريطاني نايجل غلنديننغ يؤكّد أن اللوحة هي لـ غويا فعلا ويرفض حجّة مينا عن الأسلوب المتّبع في اللوحة بقوله إن غويا نادرا ما كان يهتمّ بالتفاصيل الخاصّة وهو كان يفضّل ضربات الفرشاة العريضة. ويشير غلنديننغ إلى دليل آخر وهو سِجلّ كان موجودا في منزل غويا عام 1812 وكان يضمّ لوحة بذلك الاسم. وكان غويا يحتفظ بتلك اللوحة إلى أن ابتاعتها منه عائلة ارستقراطية في مدريد عام 1874 وأعادها احد أحفاد العائلة إلى متحف برادو في العام 1930م.
ويضيف: من السهل أن تثبت أن اللوحة التي كانت موجودة عام 1874 هي نفس اللوحة الموجودة اليوم في متحف برادو، لأن الشخص الذي منحها لـ برادو عام 1930 هو سليل نفس تلك العائلة.
حتّى بعض الناس الأكثر ارتباطا بـ متحف برادو لا يبدون مستعدّين بعد لشطب اللوحة من سجلّ المتحف.
يقول خوسيه بيتا المدير الفخري لـ برادو: سيكون من الصعب بالنسبة لي أن اقبل بتغيير اسم المؤلف. ويجب أن لا ننسى أننا نتحدّث عن احد أعمال غويا غير العادية".
متحف برادو الذي يحتفظ بأضخم مجموعة عالمية من لوحات غويا يقول إن التحقيق بشأن من رسم العملاق لا يُتوقّع أن ينتهي قبل مرور بضعة أشهر، وأن اللوحة ستظلّ تحمل اسم غويا إلى أن يثبت العكس.

❉ ❉ ❉

نيتريبكو: المرأة الصوت



لمع نجم السوبرانو الروسية آنا نيتريبكو بقوّة خلال السنتين الأخيرتين. بل إن مجلة التايم اختارتها العام الماضي كواحدة من الشخصيات المائة الأكثر شهرة ونفوذا في العالم اليوم.
وهناك من يشبّه صوتها وأداءها وحضورها بماريا كالاس، رغم أن هذا التشبيه لا يروق لـ نيتريبكو كثيرا إذ أنها تريد أن تكون هي نفسها فحسب.
يتميّز صوت آنا نيتريبكو بقوّته وثرائه وعمقه الدرامي. ويقول بعض النقاد إنها تنتمي إلى جيل جديد من مغنيات الأوبرا اللاتي يطمحن إلى كسر نخبوية هذا الفنّ وجعله قريبا من موسيقى البوب لاجتذاب الأجيال الشابّة لسماعه والاستمتاع به.
من أجمل القطع الاوبرالية التي برعت نيتريبكو في أدائها هذا المقطع الشهير بعنوان O Mio Babbino Caro "يا والدي العزيز"، والمأخوذ من أوبرا جياني سكيتشي للموسيقي الايطالي جياكومو بوتشيني.
عُزفت هذه القطعة مرّات كثيرة على شكل موسيقى بتوزيعات مختلفة، كما أدّتها العديد من مغنّيات الأوبرا المشهورات مثل ماريا كالاس ومونسيرات كابالي وانجيلا جيورجيو وسارا برايتمان، بالإضافة إلى كلّ من شارلوت تشيرش ورينيه فليمنغ.

❉ ❉ ❉

حياة أخرى

شـعـر: نـاديـن سـتـيـر

لو كَانَ لي أن أعيش حياتي مرّة أخرى
سأَتجرّأ لارتكاب أخطاء أكثر في المرّة الثانية
سأَسترخي، سأَتكاسل
سَأكُونُ أشدّ سخافةً مما كُنْتُ في رحلة حياتي
سآخذُ أمورا أقلّ على محمل الجدّ
سأغامر بأخذ فرص أكثر
سأَتسلّقُ جبالا أكثرَ وسأَسْبحُ في أنهار أكثر
سآكلُ آيسكريم أكثر وفاصولياءَ أقل
رُبَّما سيكون عِنْدي مشاكلُ فعليةُ أكثر،
لَكن سَيكونُ عِنْدي أقلّ من تلك المشاكل المتخيّلة
كما تَرى، أَنا أحد أولئك النّاسِ الذين يَعِيشونَ بعقلانية
وبشكل جدّي ساعةَ بعد ساعة
ويومَاً بعدَ يَوم
أوه، كَانَت لي لحظاتي،
ولو كَانَ لي أن أعيدها مرّة أخرى،
سَيكونُ لي أكثر من تلك اللحظات.
في الحقيقة، سأُحاولُ أن لا يكون لي سوى ذلك.
فقط لحظات، واحدة بعد أخرى،
بدلاً مِنْ أنْ أَعِيشَ عديدا من سنوات قبل أن تأتي.
أنا أحد أولئك النّاسِ الذين أبداً لا يَذهبونَ إلى أيّ مكان
بدون ثيرمومتر، قنّينة ماء حار ومعطف مطريّ أو مظلّة.
لو كان لي أنْ أفعل ذلك ثانيةً، سأُسافرُ خفيفا
لو كَانَ لي أن أعيش حياتي ثانيةً
كنت سأظلّ حافي القدمين من بداية الرّبيع
واستمرّ هكذا إلى ما بعد الخريف.
كنت سأرقصِ أكثر،
وأركب مراجيح أكثر،
وأَلتقطُ أقحوانات أكثر.

الأحد، ديسمبر 11، 2005

مذكرات عزيز نسين - 2 من 2

3- يـد أولّ أنـثـى!
كانت العمّة سارة وزوجها محمد أفندي يعيشان في إحدى الغرف الثلاث التي شغلنا إحداها بعد عودتنا من المقبرة.
وكان للعمّة سارة ابن في نفس عمري، كما كان لها ابنة من زوجها الأول اسمها سيرفت.
كان محمد أفندي معتادا على ضرب سيرفت كل ليلة. وكانت الفتاة تبكي من شدة الضرب.
أمّ الفتاة، أي العمّة سارة، نشأت من دون أب ولا أم وبدأت تحسّ بالضيق والألم جرّاء ما يحدث لابنتها. وكحلّ للمشكلة بدأت تحضر البنت إلى غرفتنا في بعض الليالي.
وبما انه لم يكن عندنا سرير آخر فقد كنت وسيرفت ننام معا على نفس السرير.
وقد لاحظت أن سيرفت كانت تتعمّد رفع الغطاء لتخرج يدها وتتحسّس بعض أجزاء جسمي، ثم تمسك بيدي وتمرّرها على صدرها.
كنت أحسّ بطريقة ما أن ما تفعله أمر غير لائق، ولكن نتيجة لشعوري بالخجل لم اكن اجرؤ على إخبار أحد. وقد اعتدت النوم وأذني مصغية إلى إيقاع صوت ماكينة الخياطة فيما كانت يدي الصغيرة مستقرّة على الموضع الذي ترغبه سيرفت!
وفي أحد الأيام القوا بسيرفت خارج البيت.
بعد سنة تقريبا عادت الفتاة إلى المنزل.
لقد أصبحت راقصة.
كانت تنتعل كعبا عاليا. وقبل أن تنصرف أعطت أمها بعض النقود.
لم نرَ سيرفت بعد تلك الزيارة أبدا.
وإذا كانت ما تزال حيّة فلا بد أنها تجاوزت الستين عاما الآن.
بعد سنوات تخرّج أخوها من أمها من إحدى المدارس الأجنبية وغادر إلى أوربا.

4- أولّ وآخـر صفعـة مـن أمـي!
مالك الأرض التي كان يقوم عليها المنزل كان رجلا كرديا طيب القلب. وكانت زوجته السمراء امرأة متواضعة إذ لم تكن تتردّد في الحديث إلى أيّ من المستأجرين.
وكان ابنه الوسيم محمد يحبّني كثيرا، وفي كلّ صباح كان يناديني في طريقه إلى العمل: نصرت.. نصرت!
وكنت أجيبه: هاه!
لكن أمي كانت توبّخني على طريقة ردّي قائلة: هذا عيب. يجب أن تقول له: نعم يا سيّدي.
طيّب يا أمي. قلت لها.
لكن في اليوم التالي عندما ناداني محمد نسيت ما كانت قالته لي أمي وصحت: هاه!
في تلك المرّة وبعد أن انصرف محمد أخذتني أمي إلى الغرفة وصفعتني. كانت تلك أولّ وآخر صفعة تلقيتها من أمي.
في صباح اليوم التالي ناداني محمد: نصرت!
أجبته بلا تردّد: نعم يا سيدي.
ولم اقل هاه بعدها أبدا!

5- لله مـا أعطـى ولله مـا أخـذ!
أصبحت أختي ذات الثلاث سنوات مريضة، ساقاها لم يعودا يحملانها.
بعد سنوات عرفت أنها كانت تعاني من مرض هشاشة العظام بسبب نقص التغذية وغياب الرعاية اللازمة.
لكن ماذا عن الطبيب والدواء؟ كنا فقط نسمع باسم الطبيب، فبالنسبة لنا كان يبدو مخلوقا مترفا ولا يمكن الوصول إليه، وعلى الأرجح ما كنا نحلم حتى بسماع صوته على الإطلاق.
وعندما كان يموت طفل كان أهله يقولون: لله ما أعطى ولله ما أخذ.
ولو كانت أختي قد تلقّت غذاءً كافيا ودواءً مناسبا لكانت قد شفيتْ منذ وقت طويل.
جرّبوا كل الأدوية الشعبية التي كان يمكن تحضيرها دون الحاجة إلى المال.
وعندما فشلت كل تلك الأدوية قيل لامي أن تجرّب وسيلة أخرى إذا أرادت أن تشفى ابنتها.
"في المساء عندما ينادى للصلاة خذي الطفلة إلى المقبرة واتركيها هناك بجوار شاهد أحد القبور، ثم عودي إلى البيت دون أن تلتفتي وراءك ودون أن تذرفي دمعة. إذ أن شخصا ما سيتبعك ويحضر البنت إلى البيت".
هكذا قيل لامي.
شرحت أمي للصغيرة أنها لكي تشفى من مرضها وتعاود المشي كما اعتادت في السابق، يجب أن تتحمّل التجربة. وقالت لها إنها يجب ألا تبكي عندما تترك لوحدها في المقبرة.
كانت أختي فتاة ذكية وجميلة.
وفي كل ليلة كانت أمي تمسك بذراع أختي وبذراعي أنا أيضا ونتّجه ثلاثتنا إلى المقبرة. كان جوّ المقبرة كئيبا مقبضا وكانت الظلال المخيّمة على المكان تزيد من شعورنا بالرهبة والخوف.
وعندما يرتفع صوت الآذان كانت أمي تترك الصغيرة بجانب أحد القبور وتأخذني من يدي وتهرول مسرعة.
استمرّ الحال هكذا طوال اشهر، إلى أن حلّ فصل الشتاء. ولا مرّة التفتت أمي خلفها، ولم تتزحزح الصغيرة عن مكانها بجوار القبر أبدا كما لم تصدر عنها أية إشارة تبرّم أو خوف.
لم اكن أرى وجه أمي من وراء الحجاب، لكن .. من يعرف قدر معاناتها والمها وهي تجاهد طوال الطريق كي لا تبكي!
وعند وصولنا إلى البيت كانت أمي تلقي بنفسها على الفراش وتجلس باكيةً منتحبة إلى أن تعود الصغيرة إلى المنزل.
لطالما فكرتُ في عواقب ترك طفلة مريضة في مقبرة كملجأ أخير لشفائها من مرضها.
الفقراء الذين لا يملكون المال أو الدواء ولا حتى القدرة على إطعام أطفالهم كانوا يدعون الله قائلين: يا الهي! لقد تركت طفلي في رعايتك. فادفن مرضه في الأرض وأرجعه إلينا سالما معافى!

6- بــئـر الأمانـي!
لم نتلقّ أي أخبار من أبي. ولم نكن نعرف مكانه ولا ماذا كان يفعل.
ربّما يكون قد مات في الحرب.
كانت النساء يناقشن الوضع فيما بينهن. وكانت هناك بئر ماء يسمونها بئر الأماني. عندما تنظر إلى اسفل البئر يمكنك أن ترى وجه الشخص المفقود هناك إن كان لا يزال حيا!
أما إن كان قد مات فربّما لا يظهر شئ أو ربّما ُيرى كفنه.
ذهبت اثنتان من جاراتنا بمعيّة أمّي وأنا إلى البئر الواقعة في طرف أحد التلال.
وعندما وصلنا إلى البئر قالت لي أمي: لا تقترب اكثر، انتظر هنا.
هناك أحنين رؤوسهن داخل البئر بعد أن اسندن أيديهن إلى السور الدائري الصغير الذي يسيّج فوهتها. وانسللتُ أنا ببطء باتجاههن ثم أخذت طريقي بينهن متشبثا بأرديتهن وأنا أحدّق في قاع البئر.
هناك رأيت وجه أبي بوضوح!
كان يمرّ بالقرب منا في قارب عند قاع البئر.
بالتأكيد كان ما رأيته ضربا من الوهم الذي كان يسكن رأس طفل صغير مثلي.
لكنني مع ذلك كنت واثقا من أنني رأيت وجه أبي.
لم تستطع أمي ولا جاراتها رؤية أبي، لكنني، ربما لأنني ذهبت إلى هناك دون إذن منهن، كنت أحسّ بالثقة فصرخت: لقد رأيت وجه أبي!

7- الخـوخ البـرّي وإبـر الصنـوبـر!
في أحد الأيام سمعتُ قرعا على باب بيتنا وأسرعتُ كالعادة لفتح الباب.
وقف قبالتي رجل ذو قوام هزيل ولاحظت أن حواجبه ورموش عينيه وجزءا من شعر رأسه كانت محترقة.
شعرتُ بالخوف والاضطراب وصحت: ماما، ماما!
لكن الرجل اندفع نحوي وحملني بين ذراعيه وضمّني بشدّة وهو يقول: ولدي! ألا تعرفني؟!
كان والدي قد نجا من الموت بأعجوبة عندما نجح في الهرب من مسجد كان جيش العدو المنسحب قد اقتحمه وسكب على أرضيته الكيروسين قبل أن يضرم فيه النار.
وفي اليوم الذي عاد فيه أبي إلى البيت سقط مريضا واستلقى في السرير ومكث هناك اشهرا.
أمّي التي أصبحت تخيط كميات اكبر من ملابس الجنود خصّصت معظم وقتها للعناية بأبي.
مع مرور الأيام اصبح أبي ضعيفا جدا. لم يكن يستطيع النهوض من السرير أبدا.
وقد صنع لنفسه دواءً مزجه من بعض الأعشاب والنباتات. ومن وقت لاخر كانت الحمّى تداهمه وكان يرتعش وينادي على أمي قائلا: غطيني، غطيني يا مدام!
حتى عندما يكون في قمة غضبه كان أبي ينادي أمّي: يا مدام!
لا أتذكّر بالضبط ماذا كانت أمي تقول لأبي أو كيف كانت تخاطبه. ببساطة، لم تكن تقول شيئا. لم اكن اسمعها تقول شيئا أبدا.
إلا أنها عندما كانت تتحدّث مع النساء الأخريات كانت تشير إلى أبي بقولها "سيّدنا" أو "الافندي"!
وعندما تتحدّث مع إنسان قريب جدا كانت تشير إلى بابا بقولها "أبونا".
"غطيني يا مدام. أرجوك غطيني"! كانت أمي تغطيّه بالبطانيات والشراشف والجاكيتات وبأي شئ يصلح كلحاف.
وتحوّل رأس السرير إلى ما يشبه التلّ الصغير. وكما لو كانت أمي هي السبب في البرودة التي كان يشعر بها أبي بسبب الحمّى، كان لا يكفّ عن الصراخ فيها: قلت غطيني يا مدام!
في أحد الأيام كان أبي يرتعش بشدّة لدرجة انه ُخيّل إليّ أن الأرضية تتشقّق.
"أسرعي واحضري لي بعض ثمار الخوخ البرّي الأخضر"! صاح في أمي.
كان أبي رجلا عصبيا للغاية. وأياً ما كانت رغبته، فإنه كان يحبّ أن تنفّذ دون إبطاء.
كان على الأرجح يريد تناول بعض ثمار الخوخ البرّي لكي تبرّد جوفه الذي كان يشتعل من شدة الحرارة.
ذهبت أمي إلى البستان القريب وجلبت معها بعض ثمار الخوخ. وأكل أبي الفاكهة الصغيرة بينما كان وجهه يتغضّن من فرط حموضتها.
في اليوم التالي وقف أبي على قدميه وبدأ يشعر بأن صحّته تتحسّن.
كان يدرك بأن الفضل في ذلك يعود إلى ثمار الخوخ البرّي!
ولسنوات عديدة فيما بعد كان يقول لمن حوله: لقد أنقذني الخوخ البرّي من المرض ولولاه لكنت الآن في عداد الأموات! في ذلك اليوم أكلتُ مكيالين من الخوخ"!
كان أبي يحب المبالغة دائما، فأنا اعرف انه لم يأكل سوى بضع حبّات.
في ذلك الوقت عانى أبي من نوبات الصداع الشديد. وكان عندما يفاجئه الصداع يغرس إبر الصنوبر في انفه. وعندما تبدأ انفه بالنزف يتوقف الصّداع ويحسّ بالراحة.

8- أولّ حادثـة وفـاة!
في أحد الأيام احضر أبي معه إلى البيت بعض التفاح. قال لي: استدر نحو الجدار!
وعندما استدرت سقطت تفاحة أمامي ثم واحدة أخرى.
ثم قال أبي: انظر. لقد بعث الله إلينا بهذه التفاحات، فاشكره.
لكن الله الذي أرسل التفاحات لم يشفِ أختي الصغيرة من مرضها. فقد ماتت.
عندما حمل أبي الكفن الصغير إلى القبر اعتقدت انه لعبة، فضحكت!
قلت في نفسي: سيضعون أختي في هذا الصندوق الخشبي الصغير ويودعونه في المقبرة. وهناك ستتحسّن حالها وتعود مسرعة إلى بيتنا.
"خذوا الولد إلى الداخل". قالت النساء. ووضعوني في الغرفة.
جاءت أمّي إلي وهي تبكي وقبلتني. "أختك ماتت"، قالت لي. "ولا يجب أن تضحك"!
أدركتُ ساعتها أنني ارتكبت غلطة سخيفة، وأحسستُ بالخجل.
دائما ما يسألني الناس لماذا وكيف أصبحتُ كاتبا ساخرا.
لا اعرف السبب بالتحديد.
لكني اعتقد أن السبب يعود إلى طبيعة الحياة التي عشتها.
لقد كانت حياتي عبارة عن مشوار طويل من المعاناة والحزن والدموع!

9- الأزهــــار ..!
لم تكن أمّي تقرأ أو تكتب.
لكنها كانت امرأة ذات حسّ إنساني رفيع.
كل الأمّهات هن افضل نساء العالم!
وأمّي - لأنها أمّي - كانت افضل امرأة في هذه الدنيا!
في أحد الأيام قطفتُ بعض الأزهار من الحديقة وأخذتها إليها.
أحسّت أمّي بالسرور لتلك البادرة. ثم قالت: تعال معي لنقطف المزيد من الأزهار.
ذهبنا إلى الحديقة. وأشارت أمّي إلى بعض الأزهار.
ثم قالت: "انظر! ما اجمل هذه الأزهار! هذه الأزهار حيّة تماما مثلنا. وإذا قطفناها تموت. إنها تظلّ اجمل على فروعها. لكنها لا تحافظ على هذا الجمال إذا وضعناها في كأس من الماء".
وكلما مررنا من أمام زهرة كانت أمي تقول: اقتلها! اقطفها إن أحببت!
إن كلّ ما تعلمته في هذه الحياة من خصال طيبة وصفات نبيلة أدين به .. إلى أمي!

10- "وإلـى ربـّك فارغـب" ..
تم تسجيلي في مدرسة الحي، وكانت بعيدة قليلا عن بيتنا.
المدرسة عبارة عن منزل. أما المعلمة أو الحجيّة فكانت امرأة تتارية وكان لها ثلاث بنات جميلات.
كانت تلك الفترة هي فترة نزوح الروس البيض إلى مدينة اسطنبول.
عرفت هذا بعد أن احضر أبي معه إلى البيت أوراقا نقدية كبيرة وكان عليها أرقام لاتينية والى جوار تلك الأرقام أصفار ثلاثة وأحيانا خمسة أو ستة.
وبعد الثورة البلشفية وبينما كان الروس البيض يفرّون كانوا يهرّبون معهم الكثير من تلك الأوراق النقدية بينما كان البعض الآخر يشترون المزيد منها.
كانوا يتوقعون عودة القيصر إلى الحكم ذات يوم وانهم سيصبحون بعد ذلك مليونيرات.
ورغم أن الثوّار الغوا تلك الأوراق النقدية، فإن الكثيرين الذين لم يفقدوا الأمل في أن يصبحوا أثرياء عمدوا إلى جمع اكبر كمية من تلك النقود القيصرية.
وقد علمتُ بمجيء الروس البيض إلى اسطنبول من امرأة روسية جميلة كانت تقيم بالمدرسة. كانت موهوبة وبارعة في عمل أنوار الظلّ المزخرفة التي كانت تبدو لنا في الليل كما لو كانت سفنا فضائية!
كنا نجلس على أرضية الفصل وأمامنا طاولات صغيرة وكان كلّ واحد من التلاميذ يعتمر طربوشا.
تعلمنا طريقة الربط بين الحروف بالإضافة إلى ترتيل وحفظ آيات الصلاة من جزء عمّ. وكنا نبدأ حصة الكتابة بدعاء يقول: ربّ يسّر ولا تعسّر .. ربّ تمّم لنا بالخير.
كنا نردّد هذا الدعاء الذي حفظناه عن ظهر قلب باللغة العربية في بداية كل حصّة دون أن نعرف معناه.
واتى اليوم الذي جاء فيه الدور عليّ، وتلوت: ألم نشرح لك صدرك.
لماذا وكيف كنا نحن الأولاد الصغار مطالبين بحفظ تلك الكلمات العربية دون أن نعرف معناها أو نفهم الرسالة التي تنطوي عليها؟!
ولماذا كانوا يحشون رؤوسنا بها؟!
لم يكونوا يعلموننا النسخة التركية من تلك السور التي كان مطلوبا منا أن نحفظها، ربّما لان التركية اصعب من اللغة العربية!
في أحد الأيام كنت أرتّل تلك السورة وعندما نطقت السطر الأخير: "والى ربّك فارغب"، طار الطربوش من على رأسي فجأة!
تلفتّ حولي بذهول غير مدرك لما حصل وإذا بي أفاجأ بأن الطربوش استقر على رأس عصا معلمتنا الحجية. لم يكن لدي فكرة عن طبيعة ما حدث ولم أتمكن بداعي الخوف والإحراج من أن اطلب من الحجيّة إعادة طربوشي إلي.
قلت في نفسي: عندما أعود إلى البيت من دون طربوش فإن أمي ستقيم الدنيا ولا تقعدها. وإذا قلت لها بأن الحجيّة استولت عليه فهل ستصدّقني؟
في تلك الأيام كان شراء طربوش يعادل شراء طقم استريو في هذه الأيام.
عدت إلى البيت وأنا ابكي. ولم اكن راغبا في أن يروني باكيا، فغسلت وجهي وعينيّ وقلت لامي معترفا: الحجيّة أخذت الطربوش!
فصاحت: ما شاء الله ما شاء الله. وأسرعت نحوي تحتضنني وتقبّلني بفرح.
ذلك كان التقليد الشائع في تلك الأيام. إذ عندما تتقن تلاوة وتجويد سورة الانشراح فإن المعلم أو المعلمة يخطف طربوشك دليلا على نجابتك وتفوّقك. وتلك هي الطريقة التي يتمّ بها إخبار والدي الطفل انه نجح.
بعد ذلك يتعيّن على أهل التلميذ أن يعدّوا شيئا من كعك العسل أو معجّنات الجبنة ويقدّموه هديّة إلى المعلم قبل أن يستعيدوا طربوش ابنهم منه!

11- جئت إلى هذا العالم لأضحك! لكني الآن أبكي.. ولا أدري لماذا!
كان اجمل منزل في المنطقة هو المنزل الذي يملكه حافظ رجب أفندي.
البيت مطلي من الخارج باللون الأصفر الخفيف.
وحافظ رجب يتمتّع كذلك بصوت جميل جدا.
انه شخص مشهور في تلك الناحية كما انه يغنّي!
إلى جوار بيت حافظ كانت تسكن امرأة عجوز كانت تبدو غنيّة وميسورة الحال. كانت المرأة تحبّني كثيرا.
محمد أفندي ابن مالك البيت الذي نسكن فيه سيتزوّج قريبا. والعروس الموعودة عذراء شركسية.
يا للجمال ويا للفتنة! سبحان من خلق فأبدع! تعرفون تلك البقع الوردية التي تظهر على حبّات العنب الأحمر! حسنا. كان هناك على وجه العروس حبّات كلف صغيرة تحاكي في دوائرها المتوّردة لون حبّات العنب الأحمر!
وقد تقرّر أن يقام حفل الزفاف في حديقة المنزل.
كنت وقتها قد تجاوزت السنّ المقررة للختان. وكانت أمي تفكّر بالأمر كثيرا. إذ كيف ستدبّر أمر حفلة ختاني؟ المسألة بحاجة للكثير من المال.
وفجأة تقرّرت حفلة ختاني لتتزامن مع حفل زواج الشاب الكردي الوسيم محمد والحسناء الشركسية.
لم يكن لدينا سرير في المنزل. كنا ننام على أرضيّة الغرفة. وقد استعرنا من بعض جيراننا بعض السرر والملابس من اجل حفل الختان.
ولو كان الأمر عائدا لأبي لما كان هناك حفل بالمرّة. ليس لانه كان غير مهتمّ بختاني وانما لانه كان يحرص على ألا يعرف الآخرون حالة الفقر والعوز التي كنا نحياها.
وضعت أمّي طاقية الختان على رأسي. كان مكتوبا عليها "ما شاء الله". ولا بدّ أنها استعارتها من إحدى جاراتها.
ثم ارتديتُ بنطلونا من القطيفة وقميصا من الساتان ووشاحا احمر. وأخذتني أمّي بعد ذلك إلى منزل العجوز الغنية كي اقبّل يدها.
في المساء بدأ الحفل. كان حفلا باذخا فقد كان هناك سحرة يغنون ويرقصون كما في المسرح. واصبح محمد أفندي بمثابة أبي الروحي.
في المقاطعات الشرقية يتمتّع الأب الروحي بمنزلة رفيعة وهو أحيانا اقرب إلى الشخص من بعض الأرحام.
الشخص الذي يأخذ قطرات من دم الختان على يديه يصبح تلقائيا الأب الروحي للمختون. وهذا يعني أن عليه أن يوفّر الحماية لهذا الأخير طيلة حياته.
الشخص الوحيد الذي منحني هدية الختان هي تلك العجوز الثرية.
كانت الهدية عبارة عن دمية لجمل صغير مغطى بالنقوش الشمعية الجميلة.
عندما رأيت الجمل نسيت آلام الختان. وكنت آخذه لينام معي بالليل.
أما أبي فقد أعطاني عملة عثمانية من الفضة.
واذكر انه كانت هناك امرأة تغني. كانت يهودية على الأرجح. وما زال صوتها يرنّ في أذني.
كانت المرأة تغني بصوت خشن متكسّر ومكتوم: "جئتُ إلى العالم لأضحك. وأنا الآن أبكي .. ولا ادري لماذا"!

السبت، ديسمبر 10، 2005

مذكرات عزيز نسين - 1 من 2

الذين قرءوا شيئا من أعمال الأديب التركي عزيز نسين القصصية لا شكّ لمسوا الأسلوب الجذاب والمعالجة العميقة والسخرية الفاقعة التي يستخدمها نسين في قصصه التي اختار موضوعاتها من الحياة السياسية والاجتماعية في بلده تركيا.
وعزيز نسين كاتب غزير الإنتاج، فقد ألف اكثر من مائة كتاب ما بين رواية ومسرحية وقصة قصيرة، كما ُترجمت أعماله إلى العديد من اللغات وبيعت كتبه في معظم بلدان العالم.
وبسبب انتقاداته للسلطات العسكرية في بلاده ودفاعه عن الأكراد، تعرّض نسين إلى السجن والملاحقة اكثر من مرة.
وبالإضافة إلى موهبته الأدبية الأصيلة، كان عزيز نسين إنسانا خيّرا، فقد أسّس قبيل وفاته في العام 1995 م مؤسسة خيرية لرعاية وتعليم الأطفال الفقراء والمعوزين. وما يزال الريع المتحصّل من بيع كتبه ومؤلفاته ُيصرف على أنشطة تلك المؤسّسة حتى اليوم. البروفيسور جوزيف جيكوبسون أستاذ اللغات في جامعة يوتا الأمريكية قام مؤخرا بإتمام الترجمة الإنجليزية للسيرة الذاتية للأديب التركي الكبير واختار لها عنوان "الاسطنبولي".
في ما يلي ترجمة – مع بعض التصرّف - لمقاطع من تلك المذكّرات التي يحكي فيها عزيز نسين بعضا من ذكرياته وتجاربه التي هي بشكل أو بآخر جزء من تاريخ تركيا الحديث. وأرجو أن تعجب القارئ مثلما أعجبتني..

1- مـلائكـة وشيـاطيـن!
يسألني الناس أحيانا: كيف تسنّى لك أن تكتب بمثل هذه الغزارة؟
ويقولون: إن بعض الفنانين لديهم ملائكة ينفخون الفنّ في آذانهم!
وعندما أستحضر صورة الملاك في ذهني أتصوّر شيئا أشبه ما يكون بحورية البحر نصفها الأعلى فتاة والأسفل على هيئة سمكة.
إنها هي التي تهمس الإلهام في أذن الفنان الذي تحطّ على كتفه!
أما أنا فليس عندي ملاك، لكن عندي شياطين وسحرة! ُعشر الواحد منهم إنسان والباقي وحش!
إنها تحط على كتفي وتتسلق فوق ظهري. وأنا أئنّ تحتها من فرط التعب والإنهاك!
ليس عندي شيطان واحد ولا ساحر واحد. عندي الكثير من السحرة والشياطين!
إذا نزل اثنان منهم عن ظهري صعد فوقه ثلاثة!
جمال الملائكة لا يجارى، وقبح السحرة والشياطين ليس له نظير.
الملائكة تداعب، والشياطين تضرب وتقرص وتعضّ!
الجنّي يتنفّس داخل أذن الفنان الذي يحط على كتفه ويزرع داخل نفسه الإلهام.
والسحرة والشياطين والوحوش الخرافية التي تقذف بنفسها فوقي تأمرني دون توقف، تدفعني وتعنّفني!
أكتب! لا تكتب! إستيقظ! ليس من حقك أن تنام! لا تجلس! انهض! ليس من حقّك أن تمرض! هيّا انهض!
شياطيني وساحراتي ووحوشي الخرافية هم من يطلب مني سداد الإيجار! هم الذين يأتونني في طلب المال! انهم، بمعنى ما، دائنيّ!
إذا لم اكتب فماذا عساي أن افعل؟
في كلّ هذا العالم لا شئ يلهم الفنان ويدفعه للعمل اكثر من ثقب في بطانة نعله!
ولو كان الأمر بيدي لطلبت من الهيئة العالمية لحقوق الإنسان أن تدرج هذا البند في إعلانها: "إن حقّ الإنسان في أن يمرض هو من أهمّ واقدس الحقوق وهو حقّ غير قابل للنقض أو التصرّف أو النقاش"!
لطالما حسدتُ أولئك الناس الذين يستطيعون أن يستلقوا على ظهورهم عندما يمرضون. فطوال حياتي التي امتدّت اكثر من نصف قرن لم استخدم حقّي في أن امرض ولو ليوم واحد!
شياطين وسحرة الإلهام لا تدعني وشأني! إنها معي في أحلام الليل وتهيؤات النهار! اكتب. فأكتب. اكتب اكثر. فأكتب اكثر.
وكلما نظرت إلى المروج الخضراء في الصباح، راودتني الرغبة في أن القي بنفسي فوق العشب. ولو استطعت أن أتجوّل هناك فوق تلك المروج الزمردية حافي القدمين فإن خمسين عاما من السأم ستتسرّب من قدميّ وتنسلّ سريعا تحت أديم الأرض.
لكنني يوما ما سأحظى بالراحة الأبدية، ومن المؤسف أنني عندها لن اعرف أنني ذاهب لأرتاح!
ولو قدّر لي أن أولد مرّة أخرى، وهو أمر لا أؤمن به على الإطلاق، فإنني لن اختار طريقا آخر!
أريد أن أنهك نفسي وان أتعب بنفس الطريقة.
لقد عملتُ بائعا متجوّلا وراعي أغنام وجنديا ورسّاما ومحاسبا وبائع صحف ومصوّرا وكاتبا وبقالا ومدانا بتهمة (هذه أيضا وظيفة بل إنها اصعب الوظائف على الإطلاق!) وعاطلا عن العمل وحلاقا..
إن ذكرياتي لا تنطوي على شئ من العظمة.
وادرك أنها لا تمثل أي أهميّة في ذاتها.
لكن.. لأنها انعكاس لحياة وصخب المجتمع الذي عشت فيه، فإنني سأروي لكم جانبا من تلك الذكريات دون تزييف أو خداع.
متمنيا أن تنال بعض اهتمامكم.

2- القـرآن وماكينـة الخيـاطة وأرجـوحة أختـي!
عندما أتيتُ إلى هذه الحياة فتحتُ عينيّ على مشهد النار!
وأولّ ما أتذكّره هو تلك السحب الداكنة من النار القرمزية وقد غطّت السّماء بالسواد!
لا أستطيع تذكّر كلّ شئ قبل تلك الحادثة. لكنّ تفاصيلها ما تزال تسكن مخيّلتي.
أيقظ الحريق أمّي. فتناولتْ قطعة القماش المطرّزة بخيوط الفضّة. كان القماش يحتوي على القرآن الكريم. قبّلت أمي المصحف الشريف ووضعته على جبينها لبرهة، ثم علقته في رقبتي.
بعد ذلك انتزعتْ أمي أختي الرضيعة من أرجوحتها.
من النافذة كنت أرى السماء وقد غطتها النيران الحمراء. ألسنة كثيفة من اللهب وشرر متطاير هنا وهناك على السقف وفوق الأرضيّة والجدران. كانت ألسنة اللهب الحمراء تتّسع وتنكمش. ووراء باب بيتنا سمعت رجالا يتمتمون. وفي الخارج كان هناك صراخ وزعيق. وبين الفينة والأخرى كان يقطع الزئير والصخب صراخ طفل هنا أو امرأة هناك.
رأيت شرر النار يصفق زجاج النوافذ فيكسرها بعنف. وفجأة ُكسر باب البيت عنوة وهرع عصبة من الرجال إلى الداخل وانتزعوا كل شئ طالته أيديهم ثم فرّوا مسرعين.
اعتقدتْ أمي انهم جماعة من الأخيار جاءوا لمساعدتنا وإنقاذ أغراضنا من الحريق!
بعد ذلك وضعتني أمّي تحت أحد ذراعيها فيما وضعت أختي تحت ذراعها الآخر ثم أخذتنا إلى اسفل الدرج وتركتنا هناك وعادت مسرعة إلى داخل البيت.
وبعد لحظات ازدحم البيت بأناس أتوا من الشارع وكلما خرجت مجموعة حاملة غنائمها دخلت أخرى.
وفي خضمّ المعمعة كان هؤلاء يدوسون بعضهم بعضا. وأسرعت أمي بالخروج وهي تحمل ماكينة الخياطة وأرجوحة أختي في يديها.
كل ما استطاعت أمي ذات الثمانية عشر عاما إنقاذه من الحريق كان طفليها والمصحف الشريف والأرجوحة.
كانت الماكينة مهرها الذي كسبت ثمنه بعد عمل مضن وشاق.
لكن الحادث لم ُيخفني على الإطلاق. وبالنسبة اليّ كانت تلك الليلة أشبه ما تكون بأمسية احتفالية أو ضربا من ضروب التسلية والترفيه!
بعد مشهد الباب الأمامي توقف الفيلم فجأة! ولا اذكر بالتحديد ما الذي حدث في ما بين تلك اللحظة ولحظة وصولنا إلى المدافن.
عندما استيقظت صبيحة اليوم التالي وجدت نفسي في المقبرة!
كان واضحا أننا قضينا الليل في العراء هناك. كانت المقبرة تغصّ بالفقراء مع أمتعتهم التي استنقذوها قبل أن يأتي عليها الحريق.
كان الناس مذهولين والأطفال يبكون. ورأيت أختي مستلقية في أرجوحتها بسلام. في ما بعد علمت أن بيتنا الذي احترق كان يقع فوق ميدان قاسم باشا في منطقة يقال لها النافورة الجديدة.
حدث هذا في العام 1919 م.
لم يكن والدي موجودا معنا آنذاك. إذ كان قد تركنا منذ وقت طويل وذهب إلى الأناضول للمشاركة في حرب التحرير..

الأربعاء، ديسمبر 07، 2005

محطّات

❉ ❉ ❉

صلاة للروح الأعظم


أيها الروح الأعظم!
يا من أسمع صوتك في دمدمة الرياح
ويا من تبعث أنفاسك الحياة في كلّ العوالم
إستمع إلى ندائي!
فأنا الصغير الضعيف في أمسّ الحاجة إلى قوّتك وحكمتك
دعني أسير على دروب الجمال
بارك عينيّ كي تبصرا السحاب الأحمر والغروب الأرجواني
لتحترم يدايَ كل ما خلقته،
وليصبح سمعي مرهفاً كي ألتقط نغمات صوتك
هب لي الحكمة حتى أفهم الأشياء التي علّمتها لآبائي وأجدادي
دعني أتعلم الدروس التي أودعتها في كلّ صخرة وكل نبتة وورقة
أسألك القوّة
لا لأستقوي على أخي،
بل لأقهر عدوّي اللدود: نفسي!
ألهمني الأفكار النظيفة وساعدني على أن أعمل بنيّة طيّبة
ساعدني كي أقف بجانب الآخرين وأمدّ لهم يد العون
ألهمني كي أكون دائماً على أهبة الاستعداد لمقابلتك بيدين نظيفتين
وعينين غير منكسرتين
بحيث عندما تخبو جذوة العمر،
مثلما يتلاشى الشفق،
تنطلق روحي إليك بكلّ ثقة
وبلا حسرة أو ندامة.
- مارتن شوت، شاعر أمريكي "ترجمة محمود مسعود"

❉ ❉ ❉

استراحة موسيقية


❉ ❉ ❉

كاناليتو و فينيسيا


تخيّل لوحة تفصيلية لـ تايمز سكوير عشيّة رأس السنة الجديدة، أو منظرا مماثلا لتنصيب رئيس إحدى الدول من خلال لوحة زيتيّة.
كلّ شيء يجب أن يُرسم بتفصيل دقيق، من باعة الطعام في المقدّمة إلى تجمّعات الرجال والنساء في الخلفية. ولو كانت اللوحة كبيرة جدّا، فإن المهمّة تصبح عندئذ أكثر صعوبة، على الأقلّ بالنسبة لرسّامي القرن العشرين.
طبعا هذه الأيّام، ومع وجود التصوير الضوئي، لا يبدو أن ثمّة مشكلة. فاستخدام الصور الفوتوغرافية سيجعل المهمّة اقلّ صعوبة بكثير.
لكن هناك رسّاما واحدا، هو الرسّام الفينيسي جيوفاني انتونيو كانال المعروف اختصارا بـ كاناليتو، استطاع أن ينجز مثل هذا العمل على أفضل وجه من خلال لوحته المسمّاة حوض سان ماركو في يوم الصعود.
رسم كاناليتو هذه اللوحة عام 1730م. ولم ينجح في إظهار كافّة التفاصيل فحسب، وإنما أنجز لوحة فريدة من نوعها. لقد بنى هذا الرسّام مهنته الناجحة كلّها على حقيقة انه كان يولي التفاصيل في لوحاته عناية فائقة.
هذه اللوحة ضخمة، لكنّها مزدحمة بالتفاصيل الرائعة مثل الديكورات الزخرفية والإحساس الرائع بالحركة والنشاط.
التأثير هنا يحبس الأنفاس. كلّ التفاصيل، البنايات والمكتبة والكاثدرائية وقصر الدوق، جميعها تتوهّج تحت ضوء الشمس المبهر.
هذا فقط في الخلفية. العمل الحقيقي هو على الماء. فمركب الدوق يتحرّك على طول القنال الكبير مصحوبا بعدد من قوارب الغندول المزخرفة والمعبّئة بالمجدّفين والأمراء. وكلّ شخص له ملامحه الخاصّة وملابسه المزركشة كما انه منهمك في نشاط ما.
في الحقيقة كلّ شيء هنا يبدو وكأنّه يتحرّك. الأعلام تخفق والماء يتلألأ والقوارب تلمع في جوّ كرنفالي بديع.
وكلّ تفصيل في اللوحة أنجز في عين المكان. مع أن المنظور بأكمله وضعه كاناليتو من مخيّلته. ولا يوجد مبنى أو رصيف لم يرسمه الفنّان بطريقة احتفالية فخمة.
اليوم تُعتبر فينيسيا دون شكّ أكثر المدن رومانسية في أوربّا، وربّما في العالم بأسره.
وحتى إن لم يكن هذا الرسّام مسئولا لوحده عن إظهارها بهذا الشكل، فإنه يمكن القول انه على الأقل لعب دورا عظيما في تعزيز وتكريس هذه الصورة عن المدينة.

الجمعة، ديسمبر 02، 2005

أساطير قديمة: الإنسان الفرَس

طبقا للأساطير اليونانية القديمة، ينحدر الإنسان الفرس أو القنطور من سلالة إكسيون، ولهذا المخلوق الغريب رأس وصدر إنسان بينما يأخذ نصفه السفلي هيئة الفرس.
وفي الأساطير المتأخّرة كان القنطور يظهرون بقرون أو أجنحة أو كليهما معا.
وتقول الأسطورة إن قبيلة القنطور كانت تعيش في جبال ثيسالي وتتغذّى على اللحوم. وأصبحت ترمز إلى الظلام والى قوى الطبيعة الجامحة.
وتمثل جماعات القنطور إحدى أهم الأساطير الإغريقية التي عاشت زمنا طويلا وُخلدت من خلال الأعمال الأدبية والفنية في العصور الوسطى.
ونشأت الأسطورة على الأرجح كـرمز لفرس كانت محلّ تقديس إحدى القبائل اليونانية البدائية في عصور ما قبل التاريخ.
وتظهر الرسومات القديمة المحفورة على الكهوف صورة للإنسان الفرس شبيهة بصورة الشيطان.
وقد ثبت في ما بعد عدم صحّة النظرية التي تقول إن شخصية القنطور تعكس نظرة بعض القبائل البدائية إلى الفرس باعتباره كائنا شريرا. إذ الثابت أن الحصان كان يحظى على الدوام بمكانة محترمة عند اليونان طوال فترات تاريخهم.
وتقول بعض المصادر إن شيرون، أحد كبار القنطور، كان معروفا بحكمته وبقدراته العجيبة في الشفاء وموهبته في الصيد والموسيقى. أما اتباعه فتصوّرهم الأساطير بصورة مناقضة تماما، إذ كانوا يتّسمون بالفظاظة وبإسرافهم في شرب الخمر.
وتحفل الفنون اليونانية حتى اليوم برسومات تصوّر المعارك العنيفة التي كانت تجري بين الإنسان ومخلوقات القنطور.
ويستخدم بعض الكتّاب صورة القنطور ليرمز إلى الطبيعة المزدوجة للإنسان.
وفي العصور الوسطى ساءت صورة القنطور كثيرا إذ كانوا ُيصوّرون باعتبارهم كائنات شيطانية!
ومع ذلك ظلت هذه الشخصية تتمتّع بالشعبية في أوساط الأدباء والفنانين، ربّما بسبب النفوذ الكبير الذي لعبته الآداب اليونانية في الثقافة الغربية.
وإحدى اشهر القصص عن جماعة القنطور تتحدّث عن سلوكهم المشين في إحدى حفلات الزواج، إذ عندما أسرفوا في الشراب حاولوا اغتصاب العروس، ما أدّى إلى نشوب معركة عنيفة قتل خلالها الكثيرون منهم فيما ُطرد الباقون من بيوتهم وأراضيهم.
وفي تلك المعركة بالذات قتل كبيرهم شيرون الذي كان أكثرهم احتراما وتبجيلا. فقد كان يلعب دور المعلم للكثير من أبطال الإغريق مثل جيسون وهرقل وأخيل وسواهم.
بعض علماء الانثروبولوجيا يرجعون اصل أسطورة القنطور إلى قبيلة إغريقية عاشت في الأزمنة السحيقة وكانت تتّخذ من الفرس طوطماً Totem لها.
وثمّة نظرية أخرى تقول إن ظهور أسطورة الإنسان الفرس يرتبط بثقافة قبائل إغريقية قديمة لم تكن تعرف ركوب الدوابّ. وعندما رأى أفرادها لاول مرّة بدوا مترحّلين يمتطون الجياد نشأت في أذهانهم صورة مشوّشة لكائن نصفه إنسان ونصفه الآخر فرس.
المعروف تاريخيا انه أمكن ترويض الخيول وركوبها لاول مرّة في السهوب الجنوبية لاسيا الوسطى، وبالتحديد في ما ُيعرف اليوم بكازاخستان.
لكن مؤخّرا عثر علماء الآثار على رسومات للقنطور على الصخر في بعض أنحاء استراليا وجنوب أفريقيا. ويقول علماء استراليون وبريطانيون إن من المرجّح أن تكون تلك المخلوقات قد عاشت فعلا مع القبائل البدائية جنبا إلى جنب قبل ما يزيد عن 32 ألف سنة.
وتوصّل أولئك العلماء إلى استنتاج يقول إن مخلوقات الإنسان الفرس كانت تعيش بالفعل في أزمنة موغلة في القدم، وانه يصعب تصوّر أن يرسم البدائيون أشياء لم يشاهدوها أو يروها رأي العين.
ويؤكّد بعض علماء الطب والتشريح، اعتمادا على التجارب الجينية، إمكانية ولادة مخلوقات هجينة نتيجة الاتصال الجنسي بين الإنسان وبعض الحيوانات وهو سلوك كان شائعا بكثرة في ثقافات الشعوب البدائية. ويسوق العلماء أمثلة عديدة لحالات موّثقة عن بشر ولدوا بملامح حيوانية أو العكس.
في روايات الفانتازيا الحديثة، تغيّرت صورة القنطور من كونهم جماعات متوحّشة لا تشيع سوى الفوضى والخراب، ليصبحوا مخلوقات تتصّف بالانضباط والشرف وتمارس نفس الوظائف التي ُتنسب للحيوانات.
وقد عاد القنطور أو الإنسان الفرس إلى الظهور مجدّدا في الفنّ والأدب خاصةً في روايات الفانتازيا والخيال العلمي. وتحفل أعمال جون فاليري و جاك تشوكر و وولتر جون وليامز بالكثير من شخصيات الإنسان الفرس.

الثلاثاء، نوفمبر 29، 2005

أساطير قديمة: محاربات الأمازون

"رأيتُ جيوش اوتريوس معسكرةً على ضفاف نهر سانغاريوس. تحالفتُ معهم تارةً وتارةً مع الامازونيات. كنّ يحاربن كالرجال، لكن جيش العدوّ كان يفوقهنّ عددا وعدّة".
برايام ملك طروادة (إلياذة هوميروس)

رغم انتشار أسطورة محاربات الامازون عبر الكثير من ثقافات العالم فإنها في الأساس جاءت من الأساطير الإغريقية شأن معظم الأساطير.
والمعروف أن قصّة المسلسل التلفزيوني الشهير زيـنا Xena مستوحاة أصلا من هذه الأسطورة.
لكن اصل كلمة أمازون Amazon غير معروف على وجه الدقّة، غير أن هناك اعتقادا شائعا بأن البادئة a في الكلمة تعني بدون و mazos تعني ثدي. ومما يدعم هذا الاعتقاد أن ثمّة أسطورة تقول بأن المرأة الأمازونية كانت تقطع أحد ثدييها لكي تسهّل على نفسها مهمّة الرمي بالسهام.
ومن الناحية التاريخية، اشتهرت مقاتلات الامازون بأنهن كنّ نساءً في غاية الجمال والفتنة، أو هذا على الأقل ما تؤكّده الرسومات القديمة التي كانت تصوّر معاركهن ضد الإغريق.
وكانت الامازونيات يتدرّبن على استخدام كافّة الأسلحة خاصة في القتال المنفرد. وكنّ يتّصفن بالشرف والشجاعة. كما كنّ يمثّلن ثورة على فكرة الجنس أو ما ُيعرف اليوم بالجندر.
وانتشرت حكاياتهنّ بسرعة واصبحت القصص التي تتحدّث عن بسالتهن وإقدامهن تُروى في كلّ مكان، من أفريقيا إلى آسيا وأوربّا وأمريكا الجنوبية.
والمعروف أن نهر الامازون اخذ اسمه من اسم أولئك النساء المحاربات.
وتعتبر أسطورة نساء الامازون جزءا مهمّا من الثقافة الإنسانية. فقد كانت قصصهنّ اقدم رمز لخوف المجتمع من فكرة الأنوثة. وكانت نساء الامازون يشكّكن في نظام الحياة نفسه. وكنّ، بمعنى ما، ثورة ضدّ الأدوار الاجتماعية التقليدية المناطة بالجنسين. ولم يكنّ يسمحن بأن يُعاملن بأقلّ مما كان ُيعامل به الرجال.
في الأدب الإغريقي القديم هناك الكثير من الإشارات عن نساء الامازون. فقد أتى هوميروس على ذكرهن في الإلياذة وأثنى على شجاعتهن وإتقانهن لفنون القتال. كما أن هناك إشارات متفرّقة عنهن في أعمال سترابو و بلوتارك و هيرودوت واركتينيوس الذي روى حكاية مقتل زعيمتهن بنثيسيليا على يد أخيل.
وجميع هذه المصادر الأدبية والتاريخية تتضمّن إشارات إلى المعركة المسمّاة "أمازونوماكي" والتي الحق فيها الإغريق الهزيمة النهائية بالامازونيات.
ويتفق معظم المؤرّخين على أن المستوطنات الأصلية لمقاتلات الامازون كانت في منطقة البحر الأسود. وتقول مصادر أخرى إن مستوطناتهن امتدّت حتى ليبيا وشبه جزيرة الأناضول جنوبا وحتى منغوليا وأوراسيا غربا.
ويقول هيرودوت المؤرّخ اليوناني إن وجود الامازونيات كان محصورا ضمن اليونان نفسها. بينما يقول آخرون إنهن لم يكنّ في واقع الأمر غير جنود ذكور جاءوا من بلاد فارس وكانوا يحلقون لحاهم ويرتدون ملابس النساء في المعارك.
وأحد الأسئلة المحيّرة يتعلّق بالطريقة التي استطاع فيها مجتمع يتكوّن من النساء بشكل كامل من البقاء والاستمرار على مرّ أجيال وربّما قرون عديدة.
واكثر النظريات ترجيحا تشير إلى أن الامازونيات كنّ يتصلن برجال من أراض بعيدة، وعندما يولد لهن أولاد ذكور يقمن بإرسالهم إلى آبائهم فيما يحتفظن بالإناث عندهن ويربّينهن على طريقتهن الصارمة.
ومما لا شكّ فيه أن الامازونيات كنّ مقاتلات عنيفات. وفي الكثير من المناسبات شكّلن تهديدا خطيرا لـ أثينا. وكان الإغريق يخشون بأسهنّ. أما ما يقال عن تعطّشهن للدماء فمسألة ظلّت مثارا للكثير من الأخذ والردّ.
وقد ظلّ المؤرّخون ينظرون إلى الامازونيات نظرتين متباينتين: إمّا باعتبارهنّ ظاهرة ميثولوجية محضة وإما بالنظر إليهنّ بحسبانهن مزيجا من الميثولوجيا المطعّمة بشواهد آثارية واقعية تدلّل على حقيقة وجودهنّ في حقبة تاريخية معيّنة تعود بداياتها، كما يقول علماء الآثار، إلى العصر البرونزي.
ومنذ سبع سنوات فقط توصّل العلماء إلى اقتناع مفاده أن نساء الامازون لم يكنّ ظاهرة أسطورية بحتة اعتمادا على الحفريات وأعمال التنقيب التي كشفت عن رسومات وتماثيل وأشكال فنّية تصوّر جانبا من ثقافتهن وأسلوب الحياة السائد في العصر الذي عشن فيه.

الأحد، نوفمبر 27، 2005

أساطير قديمة: الجواد المجنّح

"سابح هو في الفضاء دوما، وفور أن تلامس قوائمه الأرض تضج غناءً وحبورا. ووقع حوافره على الأرض اكثر موسيقية من بوق هيرميز إله الُطرُق والتجارة"
- ويليـام شكسبــير

تقول الأسطورة القديمة إن برسيوس عندما قطع رأس "ميدوسا" سال دمها وغاض في الأرض لينبت منه الجواد المجنّح الرائع.
كانت ميدوسا في ذلك الزمان اجمل امرأة على وجه الأرض.
ويذكر جزء آخر من الأسطورة اسم زيوس باعتباره أبا للجواد المجنّح.
وتقول الميثيولوجيا اليونانية إن الجواد المجنّح كان يذرع الأرض جيئة وذهابا قبل أن يتوقّف على قمة جبل الاوليمب.
وفي أحد الأيام وبمجرّد أن لامست حوافره الأرض انبجست من تحتها أربعة ينابيع تشكلت منها "ميوسيس" آلهة الشعر والموسيقى الإغريقية.
قامت مينيرفا بالإمسـاك بالجواد المجنّح وقدّمته إلى ميوسيس. ولانه اصبح قريبا من آلهة الشعر والموسيقى فقد اصبح الجواد المجنّـح في خدمة أهل الشعر والأدب والفنون.
يقول شيـلر الشاعر الألماني إن الجواد المجنّح بيع إلى أحد المزارعين فقام الفلاح باستخدامه في فلاحة الأرض وزراعتها.
لكن الجـواد لم يكن مؤهلا للقيام بتلك المهمة فهو لم يألف سوى الشعر والفن، فتقدم إلى سيّده شاب طلب منه ركوبه. وما أن اعتلى الشاب ظهره حتى طار به الجواد إلى السماء بكلّ عظمة وجلال.
كان الجواد المجنّح عصيّا على كلّ محاولات ترويضه حتى استطاع بيريلوفون الإمساك به وترويضه بسهولة "طبعا بمساعدة الإلهة"!
وبفضل الجواد الطائر استطاع مروّضه قتل "شيميرا" الوحش الشرّير الذي كان ينفث النار من فمه، كما هاجم الامازونيات، وهنّ محاربات شرسات يجدن إطلاق وتصويب السهام، كما انزل الهزيمة بالقبائل البدائية المعادية.
ومع مرور الوقت كان الجواد المجنّح يعيش في سعادة وهناء، واصبحت بطولاته موضوعا أثيرا للاغاني والأناشيد.
لكن سيّده لم يقنع بالعزّ والجاه الذي كسبه من وراء ترويض الجواد وتطويعه.
كانت تساور بيليروفون الغبي رغبة أخرى: أن يصبح إلها! "يعني من قلة الآلهة"!
وفي أحد الأيام ركب على ظهر الجواد وتوجّه إلى قمة الاوليمب. عندما أدرك زيوس ما كان ينوي بيليروفون فعله أرسل في إثرهما ذبابة سامّة لدغت الجواد، ما أدّى إلى اختلال توازنه وسقوط سيّده من ذلك الارتفاع الشاهق!
ظل بيليروفون يهيم على وجهه في الأرض طوال ما تبقى من حياته مصابا بالعمى والعرج!
وأينما ذهب كان يقابل بالرفض والنبذ إلى أن مات وحيدا، جزاءً وفاقا له على عصيان أوامر الآلهة!
لكن ماذا كان مصير الجواد نفسه؟!
تقول الأسطورة انه خلافا لمصير سيّده البائس، ُسمح للجواد المجنّح بأن يقضي بقية حياته في جبل الأوليمب بحضور الآلهة!
وُعهد إليه بمهمة جلب البرق والرعد للإله زيوس أقوى آلهة اليونان. كما استخدمته اورورا "آلهة الشفق القطبي" مرافقا لها في مسيرها عبر السماء عند الفجر.
كان الجواد بالإضافة إلى رشاقته وتناسق أعضائه يخلي الجنود الجرحى من ميدان المعركة ويسهم في مجهود الحرب!
كذا تقول الأساطير اليونانية وعلينا طبعا أن نصدّقها!
واليوم يحظى الجواد المجنّح بالتكريم والاحترام على أفعاله المجيدة في الأرض والسماء!
فإحدى شركات الطيران لم تجد افضل من اسم الجواد المجنّح (Pegasus) لتطلقه على جيل جديد من الطائرات العمودية التي تصنعها.
وتحمل إحدى المجرّات البعيدة اسم (Pegasus) تيمّنا بالجواد المجنح. وتقع المجرّة في الجزء الشمالي من السماء بالقرب من برج الدلو.
وعلى أطراف تلك المجرّة يقع مثلث "اندروميدا"، الأميرة الحبشية الجميلة التي تقول الأساطير الإغريقية إن غولا شدّها بالسلاسل إلى جرف جبلي ليسهل عليه ابتلاعها قبل أن ينقذها "بيرسيوس" ويقتل الغول ويتزوّجها.

الخميس، نوفمبر 24، 2005

أساطير قديمة: العنقاء

العنقاء طائر خرافي عربي يقال انه بحجم النسر، وهو كائن معمّر إذ تذكر بعض المصادر انه يعيش حوالي 500 – 1000 عام..
وتقول الأساطير القديمة إن العنقاء عندما تقترب ساعة موته يعمد إلى إقامة عشّه من أغصان أشجار التوابل ومن ثم يضرم في العش النار التي يحترق هو في لهيبها.
وبعد مرور ثلاثة أيام على عملية الانتحار تلك ينهض من بين الرماد طائر عنقاء جديد.
وتربط الأساطير الفرعونية القديمة العنقاء بالتوق إلى الخلود وهي الفكرة المهيمنة في الحضارة المصرية القديمة.
وفي القرن الأول الميلادي كان كليمنت الروماني أول مسيحي يترجم أسطورة العنقاء كرمز لفكرة البعث بعد الموت.
وكانت العنقاء رمزا لمدينة روما العصيّة على الموت، وقد ظهر الطائر على عملاتها المعدنية رمزا للمدينة الأبدية.
وفي الميثولوجيا الصينية ظلّت العنقاء دائما رمزا للفضيلة والإباء والقوّة والرخاء. وكان ارتداء مجوهرات عليها نقش العنقاء دليلا على حبّ لابسها للفضيلة والقيم الأخلاقية العليا.
كما كان العنقاء الذكر رمزا للسعادة والأنثى رمزا للإمبراطورة، مقابل التنين الذي كان رمزا للإمبراطور. وكان العنقاء، ذكرا وأنثى معا، رمزا للزواج السعيد.
واسطورة العنقاء شائعة في بلاد مصر واليونان والحضارات الشرقية بشكل عام.
يقول المؤرّخ الروماني هيرودوت في كتابه التاريخ: "لدى العرب طائر مقدّس هو العنقاء لكني لم أره أبدا باستثناء بعض الرسومات له. والطائر نادر الوجود حتى في مصر، وطبقا للروايات التي سمعتها من بعض المصريين فإنه يأتي مرّة كل خمسمائة عام ويقيم زمنا في معبد الشمس".
وقد أخذت العنقاء اسمها Phoenix اشتقاقا من كلمة Phenicieus اليونانية وتعني اللون الأرجواني الذي يتميّز به الطائر.
واصبح طائر العنقاء يرمز في ثقافات العالم إلى النبل والتفرّد كما انه يمثل الرقّة فهو لا يسحق أي شئ يدوسه كما انه لا يأكل لحم غيره من الكائنات الحية. وحتى في عملية تدميره لنفسه فإنه لا يؤذي أحدا. كما انه ينفرد بخاصية الإخصاب الذاتي، أي انه لا يتوالد بيولوجيا وانما يتخلق عنقاء جديد من رماد العنقاء المحترق.
وطبقا للأساطير فإن العنقاء تعيش بجانب الآبار الباردة وتستحم بمياهها وتنشد موسيقى عذبة لاقناع اله الشمس بالاستماع إليها!
وبعد أن تنهض العنقاء الجديدة من بين الرماد فإن أول ما تقوم به هو تحنيط رماد سابقتها ومن ثم حمل الرماد إلى مدينة الشمس.
إن العنقاء بمعنى ما صورة للنار الخلاقة والمدمّرة التي بدأ منها العالم وبها سينتهي.
وكان العرب يعتقدون أن المكان الوحيد على الأرض الذي يمكن أن يقيم فيه طائر العنقاء كان قمّة جبل كاف الذي يعتبرونه مركز الأرض.
وأيا ما كان الأمر فإن العنقاء المصرية المسمّاة بينو كانت مرتبطة بدورة الشمس وبوقت فيضان النيل، ومن هنا تأتي علاقتها بفكرة التجدّد والحياة.
وموطن العنقاء الأصلي هو الجنّة: ارض من جمال لا تحدّه حدود ولا يتصوّره عقل.
في الجنة لا أحد يموت. وهنا تكمن معضلة هذا الطائر الغريب!
فبعد أن يعيش ألف عام يصبح واقعا تحت عبء الشيخوخة ووهنها المضني، ثم يأتي الوقت الذي يتعيّن عليه فيه أن يموت.
وهنا يشقّ طريقه نحو عالم الموتى فيطير باتجاه الغرب وعبر غابات بورما وسهول الهند إلى أن يصل إلى الجزيرة العربية حيث غابات التوابل والنباتات العطرية.
وبعد أن يقوم بجمع بعض الأعشاب العطرية يواصل طيرانه باتجاه ساحل فينيقيا السوري.
هناك فوق إحدى أشجار النخيل السامقة يقيم عشّه وينتظر بزوغ الفجر التالي الذي سيعلن موته المؤجّل!
المسيحية أخذت حكاية العنقاء وأسقطت دلالاتها الفلسفية والروحية على السيّد المسيح "الذي ُقتل ثم ، كالعنقاء، يعود إلى الحياة من جديد" كما يذكر الإنجيل.
لقد جاءت حكاية العنقاء من الأسطورة وتحوّلت مع مرور الزمن لتتّخذ مضامين روحية ودينية وأصبحت رمزا لفكرة البعث، وهي الفكرة التي أصبحت ترتبط مباشرة بهذا الطائر الخرافي.
اليوم يمكن العثور على العنقاء في كتب الأدب والأعمال الفنية والموسيقية، وكثيرا ما استشهد بها الشعراء في قصائدهم للاحتفاء بالموتى وتخليدهم.

الأربعاء، نوفمبر 23، 2005

أساطير قديمة: التّنين

لآلاف السنين، ظل التنّين يأسر عقول البشر، وقد كان الإلهام الذي استوحى منه الكثير من الكتاب والشعراء والموسيقيين أعمالهم وإبداعاتهم.
وهناك أساطير عديدة تروى عن التنّين على مرّ القرون. وأقدمها تشير إلى أن التنّين أتى من البحر، وطوال عهود التاريخ ارتبطت هذه المخلوقات بالماء.
وفي الماضي كانت خرائط العالم تضع على المناطق غير المكتشفة علامة "هنا يسكن التنّين"!
وقصص التنّين المبكّرة كانت تتمحور حول مسألة الخلق أو الحفاظ على الكون من الفوضى. لكن تلك القصص أصبحت تركز في العهود اللاحقة على حكايات البحث عن الكنوز وإنقاذ الأميرات!
أما اليوم فأصبحت قصص التنّين تترواح بين رحلات إلى الفضاء الخارجي أو البحث الفلسفي عن الحقيقة .. الخ.
وأقدم القصص المروية عن التنين وردت في أسطورة سومرية تعود إلى العام 5000 قبل الميلاد وتدور أحداثها حول تنّين يسمى "زو". وقصة التنين "زو" هذا تتضمّن عنصر الإله، وتشرح كيف أن "زو" سرق الألواح التي سجّلت عليها القوانين من الإله "انليل". ويقوم "انليل" بإرسال اله الشمس "نينورتا" لاستعادة الألواح. وينفذ "نينورتا" المهمّة ويقتل "زو" في أثناء المواجهة.
كما تتضمّن الحضارة البابلية قصصا مشابهة عن التنّين.
وثمة قصة حثية (نسبة إلى الحثيين) تتحدث عن الطريقة التي تمكن بها اله العواصف بمساعدة الآلهة "ايناراس" وعشيقها البشري "هوباسيغا" من قتل تنّين يقال له "ايلوغانكا".
وهناك قصة كنعانية من أشعار "بعل" تتحدّث عن كيف أن الإله بعل هزم تنّينا بحريا له سبعة رؤوس يقال له "يامناهار".
وفي مصر راجت أسطورة تتحدث عن تنّين بحري حاول أن يلحق الهزيمة بـ "رع" اله الشمس المصري لكنه قتل على يد اله آخر اسمه "سيث"!
وتعزى فكرة إنقاذ الأميرات من براثن التنّين على يد أبطال شباب إلى الأساطير اليونانية.
وكانت كائنات التنين اليونانية هي مصدر الأسطورة في الآداب الغربية. واقدم قصة إغريقية عن التنّين هي قصة الفروة الذهبية.
وفي القصة أن رجلا يقال له "جيسون" أبحر في سفينة بحثا عن فروة ذهبية بمساعدة أميرة ساحرة تسمى "ميديا" ، وكانت الفروة بعهدة ملك كلوشيس وكان يحرسها تنين صعب المزاج!
وكانت ميديا قد وعدت جيسون بالزواج منها إن هو افلح في استعادة الفروة الذهبية من التنين. وهذا ما حدث في النهاية.
والصورة الشائعة عن التنين ترسم له ملامح مخلوق شرير وقاس ومتعطش للدماء وله جسد ضخم ودائما ما ينفث من فمه النار وله أربع قوائم ومخالب تشبه مخالب الأسد وجناحان هائلان وجلد خشن ومتغضّن.
وبعض أنواع التنّين يملك القدرة على تغيير شكله ولونه. والتنين يأكل ولكن مرة واحدة في الشهر، وهو يتغذّى على لحم خروف أو ثور كما يأكل لحم البشر (الأساطير تقول انه يفضل لحم الفتيات العذارى بشكل خاص)!
وتقول بعض الأساطير إن من يأكل قلب تنين فإنه يصبح قادرا على فهم لغة الطير، أما من يأكل لسانه فإنه يصبح حجّة في النقاش والإقناع!
ومع مجيء المسيحية انتهى التنّين، إذ كان فرسان القرون الخوالي توّاقين إلى إثبات شجاعتهم واكتشفوا بسرعة أن صيد التنّين كان عملية مربحة وسرعان ما انقرض التنين بعد ذلك من العالم!
وكان الفايكنغ ينحتون مقدّمة سفنهم على هيئة تنين إيمانا منهم بان ذلك يجلب لهم الحماية والأمان.
واليوم ما يزال علم ويلز يحمل صورة تنّين احمر على خلفية من اللونين الأخضر والأبيض، وما زال التنين هو الرمز الرسمي لذلك البلد.
ويعتقد أن جسد التنين كان عبارة عن مزيج من الخصائص الفسيولوجية لحيوانات عديدة، فله جسم أفعى ورأس جمل وقرون غزال ضخم وعينا أرنب وأذنا ثور وبطن ضفدع ومخالب نسر!
ويصوّر التنّين في الشرق باعتباره مخلوقا طيّبا ورحيما وذكيا! والصينيون يحتفظون بأقدم تاريخ مكتوب في العالم عن هذه الكائنات يعود إلى آلاف السنين.
وتاريخيا هناك ربط دائم ما بين التنّين وحالة الطقس، إذ يقال بأن أسوأ الفيضانات في آسيا كانت تحدث بسبب موت تنّين!
وفي الصين كان التنّين رمزا لبعض الأباطرة هناك، وكان هناك قانون قديم في الصين ينصّ على أن الإمبراطور وحده هو من يحقّ له ارتداء ملابس عليها نقش تنين كرمز للسلطة والمنعة.
وكان لون التنين الإمبراطوري اصفر وهو أعلى الفصائل مكانة ومقاما. وإذا ما ُقبض على أي إنسان، عدا الإمبراطور، مرتديا رمز التنين الأصفر فإنه ُيحكم عليه بالموت فورا!
وما تزال حيوانات التنّين تظهر في الاستعراضات والاحتفالات العامة في آسيا، واشهرها الاحتفال بعام التنّين في الصين.
لقد عاشت قصص التنين آلاف السنين ويبدو أنها لن تتلاشى قريبا. ومن المؤكد أن العديد من تلك القصص والأساطير عن ذلك الوحش الخرافي سوف تروى لتملأ خيال الأطفال والكبار على حدّ سواء، وسيستمر الفنانون والشعراء والأدباء في استلهام قصص التنّين ورسمه بشتى الأوضاع والصور طالما أطلقوا لمخيلتهم العنان باتجاه عوالم السحر والأساطير!

الثلاثاء، نوفمبر 22، 2005

أساطير قديمة: عروس البحر

"في اليوم السابق، وعندما كان الأدميرال في طريقه إلى ريو ديل اورو، قال انه شاهد ثلاثا من حوريات البحر كنّ طافيات فوق ثبج الأمواج الهادرة، لكنهن لم يكنّ بالجمال الذي تصوّره الأساطير، لان ملامح وجوههن كانت تبدو كملامح الرجال. وقال انه سبق وان شاهد بعض هذه المخلوقات في غينيا وفي ساحل مانيغيتا".
- مقطع من مذكرات كريستوفر كولومبوس، 9 يناير 1493 م

اعتاد الإنسان ولقرون طويلة سماع العديد من القصص التي تروى عن عرائس البحار. وسيطرت صور هذه الكائنات الغريبة على مخيّلة الفنانين والكتاب والشعراء الذين حاولوا إعادة الحياة إلى هذا المخلوق الغامض والمحيّر.
وغالبا ما كانت صورة عروس البحر - التي تأخذ في الغالب جسد امرأة وذيل سمكة - مقترنة في الأذهان بالرّقة والجمال والشهوة .
والأمر المؤكّد هو أن الواسطة الأساسية التي راجت من خلالها صورة عروس البحر كانت القصص المحكية، وبعد ذلك مباشرة يأتي دور الأدب والفن، إذ مع تطوّر الحضارة كانت أسطورة عروس البحر نفسها تتطوّر وتأخذ أبعادا وتمظهرات أكثر تنوّعا.
ويشير بعض الكتاب إلى أن جمال عروس البحر الأخّاذ وصورتها الدائمة وهي تمشط شعرها، واستعصاءها على الرجال، كل ذلك أغرى بالمغامرة والذهاب إلى المجهول سعيا وراء الوصول إلى تلك الفاكهة المحرّمة!
ورغم ذلك فخلف هذه الصورة المغرية معنى مجازي للموت، فقد أغرى جمال عروس البحر أجيالا عديدة من المغامرين الذين قادتهم روح المغامرة من اجل اكتشاف سرّها الغريب إلى حتفهم، على نحو ما تصوّره عشرات القصص الأدبية المتخيلة عن هذه الأسطورة.
ويمكن العثور على عروس البحر في آداب جميع الأمم تقريبا، فالمعابد الهندية تحوي قطعا نحتية تصوّرها بأوضاع وصور شتى. وتقول الأساطير الهندية إن الإله فيشنو اتخذ شكل سمكة كي ينقذ مانو من الطوفان العظيم!
ويؤمن البحّارة بوجود مخلوقات مشابهة في بحر الصين وتروى في هذا المجال قصص عديدة.
ويعود تاريخ عروس البحر إلى الحضارات الإنسانية المبكّرة التي كانت تتخّذ إلهة لها على هيئة امرأة لها ذيل طويل يشبه ذيل سمكة.
وكان البحر دائما يلعب دورا مهما في معتقدات العالم، فهو يقوم بوظيفة الرحم الذي يكتنز بداخله الخلق والإبداع كما كان يعتبر مصدرا للحكمة خاصة بالنسبة للأمم والشعوب البحرية.
في الميثيولوجيا الإغريقية تصوّر عرائس البحر كائنات يأخذ كل منها جسد طير ورأس امرأة، وهي بنات البحر بمعنى ما، ولطالما فتنت البحّارة بأصواتهن العذبة ودفعتهم إلى الرسوّ بمراكبهم وسفنهم على الصخور التي كانت تغنّي الحوريات فوقها.
وحسب إحدى الأساطير اليونانية القديمة فإن عرائس البحر ألقين بأنفسهن إلى أعماق البحر وهلكن أسفا على هرب اوديسيوس وانتصار اورفيوس.
وفي العديد من الحكايات التي تروى عنهن فإن عرائس البحر يستطعن التنبؤ بالمستقبل، تحت الإكراه أحيانا، كما أنهن يمنحن البشر قوى خارقة. ويمكن أن تقع عروس البحر في حبّ إنسان ثم تغريه بالمشي في إثرها إلى أعماق البحر.
وإحدى أقدم الإشارات إلى لقاء عرائس البحر بالبشر وردت في ملحمة الاوديسا التي كتبها هوميروس حوالي العام 800 قبل الميلاد.
في الملحمة كان اوليسيس مضرب المثل في العزم والشجاعة، وقد قويت شوكته كثيرا بعد الأخطار العديدة التي واجهها وتغلب عليها بجسارة وبفضل نصائح الساحرة "سيرشي" التي تقوده إلى التعرّف على أسرار البحار ليقهر خصومه في مغامراته الكثيرة.
ميكيل أنجيلو رسّام عصر النهضة صوّر عروس البحر مثالا متطرّفا في الغواية واغراء البشر عندما رسم لها لوحة في سقف كنيسة سيستين.
في اللوحة التي اسماها "سقوط الإنسان والطرد من الجنة" يظهر كائن على هيئة عروس بحر جزؤها العلوي امرأة والسفلي حيّة أو سمكة تقوم بغواية آدم وحواء!
من المهم أن نلاحظ أن عرائس البحر طبقا للأسطورة هي مخلوقات مائية في المقام الأول، والماء له قيمة رمزية قوية. كما أن الماء ، والبحر استطرادا، يشتمل على ثنائية لافتة، فهو مصدر للحياة والوفرة والتجدّد كما انه المصدر الذي ولدنا منه.
لكن الماء بنفس الوقت يمكن أن يكون مصدرا للموت والفناء. وعروس البحر تجسّد كل هذه الصفات والمعاني المتقابلة مجتمعة، فهي إذن رمز للخلود والموت معا.
إنها تدعو الإنسان إلى المجهول والى أن يتغيّر وينتقل من فضاء إلى آخر، ومن حالة لأخرى. وهي تقوم بدور الدليل أثناء أوقات التحوّل والخطر وعدم اليقين.
عرائس البحر تدعو الإنسان بل تحثه لان يتخلى عن حاله الراهن ويصبح شيئا جديدا.
أما الخوف منها والذي نلمسه في الأساطير فهو خوف من الإخلال بالتوازن القائم وخوف من التعلم وفقدان الذات، وخوف من النزول إلى الأعماق "أي منطقة اللاوعي" حسب التفسير الفرويدي.

الاثنين، نوفمبر 21، 2005

أساطير قديمة: اليونيكورن

"نحن الآن في العام الثاني عشر. في ركن قصيّ من البحر الغربي وفي المياه الراكدة للمروج العظيمة، ُعثر على اليونيكورن. كان ارتفاعه خمسة عشر قدما، له جسم غزال وذيل أسد وقرن وحيد يلمع كسحابة حمراء في سديم ارجواني".
- مقطع من قصيدة صينية قديمة

من أهم الكائنات الأسطورية التي تحدّث عنها الناس منذ اقدم الأزمنة اليونيكورن، هذا الكائن الأحادي القرن الذي يشبه الفرس في قوامه وهيئته وله قرن وحيد في وسط جبهته.
ورغم عدم وجود دلائل علمية مؤكدة تشير إلى وجوده، فإن هذا الكائن الأسطوري كثيرا ما فتن مخيلة الإنسان كما لم يفعل أي كائن خرافي آخر.
والملاحظ أن الموروث الشعبي أو الميثيولوجي العربي يخلو من أي ذكر لهذا الكائن أو لأي كائن آخر يشبهه. الإشارات الوحيدة المتوفّرة عن أحادي القرن وردت في بعض الأساطير والحكايات التي انتقلت إلينا من تراث بلاد الرافدين القديم.
وبالرغم من كل المحاولات الرامية إلى توكيد أو نفي وجود هذا المخلوق الغريب، فإنه ظل على الدوام حاضرا في ضباب الأحلام وفي غبار الأساطير وحكايات الأزمنة السحيقة. وكان يتخذ دائما أشكالا وملامح متباينة في تراث وثقافات العديد من الشعوب المختلفة.
ظل اليونيكورن يعيش في مخيلة الإنسان بشكل أو بآخر منذ فجر التاريخ. وطبقا للحضارة الصينية فان هذه الحيوانات الفاتنة دخلت تاريخ الإنسان في حوالي العام 2697 قبل الميلاد عندما شق الجواد الأسطوري "تشيلين" طريقه بوقار وجلال إلى داخل قصر الإمبراطور "هوانج تي" وتجوّل في ردهاته وأروقته قبل أن يختفي على حين غرة!
ويعتقد على نطاق واسع أن أوّل إشارة إلى كائنات اليونيكورن كانت في الصين وبالتحديد في حوالي سنة 2500 قبل الميلاد، وكان الحديث عنها مقرونا باعتبارها مخلوقات إعجازية يشعّ جسم الواحد منها بالألوان المبهرة وله صوت يشبه صلصلة الجرس وقرن من العاج منزرع في مقدمة رأسه طوله حوالي اثني عشر قدما.
كان الجواد الأحادي القرن يتمتع بمكانة خاصة لدى الصينيين فقد كان رمزا للقوة والحكمة والخير وكان ظهوره دائما علامة للحظ السعيد والفأل الحسن.
فعندما يكون الحاكم عادلا ورحيما وتسود الناس السكينة والسلام فإن هذا الكائن الأسطوري الغريب سرعان ما يظهر على الملأ علامة على التفاؤل والحظ السعيد. كما انه يظهر في مكان مشابه عندما يوشك قائد عظيم أن يولد أو يموت.
وأكثر الأمثلة شهرة هو ما حدث قبل اكثر من 2500 سنة عندما ظهر هذا الكائن لامرأة شابة اسمها "يين تشين زاي". كانت المرأة حسب ما تقول الحوليات الصينية القديمة تصلي في أحد المعابد، وكانت تثابر على زيارة ذلك المعبد بانتظار أن يمنّ الله عليها بمولود ذكر. وبينما هي معتكفة في ذلك المعبد الجبلي النائي ظهر لها على حين غرة كائن اليونيكورن وركع قبالتها وألقى بين يديها بقطعة من اليشب Jade وهو نوع من الأحجار الكريمة. وعندما تفحّصت المرأة الحجر وجدت منقوشا عليه عبارة تقول بأن ابن الماء سيلد قريبا وسيخلد المملكة وسيكون ملكا بلا تاج!
بعد ذلك بفترة وجيزة تحققت نبوءة الكائن الأسطوري وحملت المرأة الشابة بـ "كونغ فوتسي"!
ولم يكن "كونغ فوتسي" سوى الفيلسوف الصيني العظيم "كونفوشيوس" الذي استطاع في ما بعد، ومن خلال تعاليمه وحكمته، أن يعيد صياغة حضارة الصين جذريا وأن ينال شهرة لم ينلها اعظم أباطرة الصين على مرّ القرون السابقة أو اللاحقة.
لقد اصبح "كونفوشيوس" إمبراطورا كبيرا ولكن من دون تاج الإمبراطورية!
وتقول الحكايات الشعبية الصينية القديمة أن اليونيكورن كان على الدوام يمشي بطريقة ناعمة لانه بطبيعته رحيم القلب وكان يتعمّد المشي بخفّة على الأعشاب والشجيرات مخافة أن يسحقها بقدميه.
كان له صوت كصوت الريح وكان يتجنّب الدخول في عراك مع غيره مهما كان الثمن، وكانت حياته تمتد لألف عام!
وقد ظهر اليونيكورن في آداب وفنون بلاد الهلال الخصيب أيضا، كما أن هناك الكثير من الإشارات عنه في الآداب الهندية واليونانية القديمة.
والحقيقة أن الكتب التاريخية في كلّ العصور تقريبا تحفل بذكر اليونيكورن بما في ذلك كتاب العهد القديم.
تقول إحدى الأساطير الهندية القديمة أن غوتاما بوذا عندما كان يلقي خطبته الشهيرة في منطقة بيناريس أتاه يونيكورن وجثا عند قدميه ليستمع! وقد ُصوّر الكائن على انه غزال له قرن واحد. والقرن هو رمز للنيرفانا، أما الكائن نفسه فنُظر إليه باعتباره نموذجا للسلوك الصالح والمستقيم، كما تؤكد على ذلك إحدى القصائد البوذية القديمة.
وقد لعبت هذه الكائنات الخرافية أهم دور لها خلال القرون الوسطى في أوربا فظهرت في اللوحات والرسومات التصويرية وعلى المفروشات التي كانت ُتطرّز بصورها المختلفة الأوضاع والأشكال. وتشير القصص الفولكلورية العائدة لتلك الفترة إلى انه كان بالمستطاع رؤية ذلك الحيوان من وقت لاخر رغم انه لم يكن يسمح لاحد بأسره أو الإمساك به.
وقد ارتبط ذكر اليونيكورن بسيرة حياة ثلاثة من اشهر القواد في التاريخ: يوليوس قيصر والاسكندر الأكبر وجنكيز خان!
ويقال بأن الاسكندر ركب على ظهر كائن أحادي القرن يعتقد اليوم بأنه لم يكن سوى حصان هجين. كما يقال بأن الاسكندر ورجاله دخلوا ذات مرة في صراع عنيف مع قبيلة من مخلوقات اليونيكورن!
أما بالنسبة لجنكيز خان فتقول بعض المصادر التاريخية انه سيّر في العام 1206 جيشا ضخما كي يفتح به الهند. وبينما كان يقف في ممرّ جبلي يطلّ على تلك البلاد ظهر له حيوان أحادي القرن واتجه نحوه ثم ركع أمامه ثلاث مرات احتراما! وقد اعتبر جنكيز خان تلك الإشارة نصيحة من والده الميت بأن يعدل عن خطته بمهاجمة الهند فأمر جنوده بالعودة من حيث أتوا.
وترسم بعض الاسكتشات والرسومات التي تعود للقرون الوسطى صورة مختلفة بعض الشيء لليونيكورن، فهو يبدو قريب الشبه من الغزال وله قوائم طويلة وذيل قصير أشبه ما يكون بذيل الأسد. كما أن هذا الكائن وحسب تلك المصادر كان يتميّز بقدرته الفائقة على العدو على نحو يصعب معه الإمساك به.
وتشير بعض الحكايات إلى أن الفتاة العذراء الجالسة تحت شجرة في الغابة هي القادرة وحدها على جذب اهتمام ذلك الكائن واستئناسه.
وقد يكون لهذا أصل في الحكايات والقصص المنسوبة إلى أوربا الوثنية حيث كان َذكَر آلهة الخصوبة ذا قرن وحيد.
وربما كان اللون الأبيض الذي اصبح مرادفا للعذرية والعفة انعكاسا لحقيقة أن لون اليونيكورن نفسه ابيض.
وعودا على بدء، فإن أباطرة الصين المتنوّرين ورّثوا الحكم إلى أباطرة اقلّ شانا وأهمية، ومع مرور الأيام خفّت نبرة الحديث عن ظهور اليونيكورن في حدائق القصر إلى أن توقف الحديث عنه نهائيا.
وبحلول القرن السادس قبل الميلاد أصبحت الصين ُتحكم اسميا من قبل سلالة تشاو، لكن البلاد تفسّخت فعليا بعد ذلك وتحوّلت إلى مقاطعات منقسمة على نفسها ومتحاربة في ما بينها.
ومنذ ذلك الحين، اصبح اليونيكورن مجرّد ذكرى غابرة يرويها الناس في أسمارهم ومجالس أنسهم ويتناقلونها جيلا بعد جيل!

الأحد، نوفمبر 20، 2005

ليـل السلطان

رحم الله الأديب السوري الساخر زكريا تامر..
كانت أعماله القصصية مرآة للواقع العربي المجلل بالمآسي والخيبات!
هنا مشهد ساخر منتزع من إحدى قصصه القصيرة تحت عنوان "ليل السلطان وصباحه"..
في القصّة يعكف رئيس الوزراء على اختيار أعضاء حكومته الجديدة تنفيذا لأوامر السلطان.
في البداية يستقبل رئيس الوزراء مثقفا يفخر بأنه عصامي وتخرّج حديثا من مدارس مكافحة الأمية، ويدور بين الرجلين الحوار التالي..
رئيس الوزراء: ما هي دراستك؟
المثقف: لم ادرس في أية مدرسة. أنا مثل مكسيم غوركي. لكنّي اختلف عنه فهو خرّيج مدرسة الحياة أما أنا فخرّيج جامعة الحياة، وغوركي ألف رواية عنوانها "الأم" وأنا سأؤلف رواية اسمها "الأب"!
رئيس الوزراء: إعرب ما يلي: ضرب الولد القطة!
المثقف: ضرب حرف جر، الولد مضاف إليه منصوب، القطة حيوان أليف وخبر إنّ مرفوع!
رئيس الوزراء: ما هي معلوماتك عن شكسبير؟
المثقف: شكسبير هو صاحب وعد بلفور!
رئيس الوزراء: مهما بحث الوطن عن وزير للثقافة فلن يجد من هو افضل منك!
ثم يستقبل رئيس الوزراء أحد التجّار:
رئيس الوزراء: إذا اشتكى المواطنون صارخين انهم جائعون فمن المسئول؟
التاجر: المسئول هو أجهزة الإعلام التي أخفقت في إقناع المواطن بأنه شبعان!
رئيس الوزراء: ما رأيك في الجوع؟
التاجر: الجوع في سبيل الوطن غاية سامية لا ُتدرك، والبلد الذي يتكاثر فيه عدد الجائعين ينجب العباقرة!
رئيس الوزراء: إذا ُفقدت الفواكه من الأسواق فما العمل؟
التاجر: ُتطبع فورا صور ملونة للفواكه وتوزّع مجانا على المواطنين تنشيطا لخيالهم وقدرتهم على الابتكار.
رئيس الوزراء: أظنّ انه لا داعي لطرح المزيد من الأسئلة عليك. فمن الواضح انه لا أحد غيرك يصلح وزيرا للتموين!
ثم يستقبل رئيس الوزراء رجلا فقيرا ساذجا ُيتّهم أحيانا بأنه ابله..
رئيس الوزراء: ما اسمك؟
الفقير: لا اذكر!
رئيس الوزراء: ماذا تشتغل؟
الفقير: لا شئ!
رئيس الوزراء: ما رأيك في الميزان الاستراتيجي؟
الفقير: لا رأي لي!
رئيس الوزراء: لو كنت تمشي في الشارع ورأيت مظاهرة فماذا تفعل؟
الفقير: لا اعرف!
هنا نظر إليه رئيس الوزراء بحنق، وأمر باعتقاله لاعتقاده أن السلطان لو علم به لعيّنه رئيسا للوزارة بدلا منه، فالمطلوب هو من لا يدري ولا يعرف ولا يعلم!

السبت، نوفمبر 19، 2005

محطّات

الشعب المختار والشعب المحتار


أشارت مجلة فورتشون Fortune الأمريكية إلى أن 89 بالمائة من أصحاب الشركات الكبرى في العالم هم من اليهود، وأن 79 بالمائة من إجمالي عدد المخترعين والمكتشفين في العالم هم من اليهود!
كما أن اليهود يسيطرون سيطرة تامّة على البنوك الكبرى وعلى وسائل الإعلام الأكثر نفوذا في هذا العالم.
بالإضافة إلى كل ما سبق، فانّ أموال اليهود هي التي تحكم وتحرّك سوق الاقتصاد العالمي, وثمّة دلائل كثيرة تشير إلى أن اليهود هم أكثر الشعوب سخاءً، إذ أنهم يوفّرون فرصا وظيفية لملايين الناس في مختلف القارات.
كل هذا وأكثر، على الرغم من أن تعدادهم في العالم لا يتجاوز 13 مليون نسمة فقط!
على الجانب الآخر، فإن إجماليّ صادرات البلدان العربية مجتمعة (21 أو 22 بلدا) يقلّ عن صادرات بلد أوربّي صغير مثل فنلندا، بينما يزيد إجماليّ الناتج الوطنيّ لبلد أوربّي صغير، هو الآخر، مثل إسبانيا على الناتج الإجماليّ لجميع البلدان العربية!
13 مليون نسمة من اليهود يتمتّعون بهذا النفوذ الهائل، مقابل مليار مسلم تقبع الأغلبية الساحقة من دولهم في ذيل قائمة الدول الأكثر تخلّفا وفقرا في العالم.
ترى كيف تسنّى لليهود أن يحقّقوا كلّ هذه الوفرة ويمارسوا كلّ هذا التأثير الاستثنائي على الرغم من أن أدبياتنا الدينية تدمغهم بالذلّة والمسكنة وتصمهم بأحفاد الخنازير والقردة؟!
ألا يحقّ لليهود بعد هذا أن يفاخروا بكونهم شعب الله المختار؟ وألا يصحّ أن يسمّي العرب والمسلمون أنفسهم شعب الله المحتار؟!

❉ ❉ ❉

امرأة ترسم


أحيانا نتصوّر خطئاً أن تاريخ الفنّ مسجّل على الحجارة وأنه لا يقبل التعديل أو التغيير. لكن هذا التاريخ يخضع للنقاش والمراجعة، تماما مثل بعض حقائق العلم.
هذه اللوحة كان الكثيرون ولسنوات طويلة جدّا يظنّون أنها من أعمال رائد النيوكلاسيكية جان لوي دافيد.
ثم اتضح مؤخّرا، وبعد عملية تدقيق طويلة أجراها متحف المتروبوليتان حيث توجد اللوحة، أنها لإحدى تلميذات الرسّام الفرنسي المشهور وتُدعى ماري دونيز فيليه.
واللوحة هي عبارة عن بورتريه شخصيّ للرسّامة على الأرجح. وهو يصوّر امرأة شابّة تحدّق مباشرة في الناظر وترسم على ورقة مثبّتة في حضنها. وعبر نافذة متصدّعة خلفها نرى رجلا وامرأة يتحادثان على طرف شارع تعلوه بناية.
حجم اللوحة ضخم جدّا. عندما تدخل إلى الصالة المعلّقة فيها فإنها تواجهك مباشرة على الجدار المقابل. ومن الصعب أن تقاوم النوعية اللامعة لشخص المرأة وهي ترسم وتحدّق كما لو انك أنت الشخص الذي ترسمه.
وقد أضاف المتروبوليتان مؤخّرا نسخة مكبّرة من اللوحة بألوان أكثر دقّة، ما يمكّن من رؤية تفاصيل الصورة بوضوح اكبر.
ولدت ماري دونيز فيليه في العام 1774 وتوفيت عام 1821. وهي تنحدر من عائلة ارستقراطية باريسية. المعلومات المتوفّرة عنها شحيحة. لكنّ المؤكّد أنها كانت رسّامة موهوبة. ويّرجّح أنها رسمت اللوحة عندما كان عمرها سبعة وعشرين عاما. لكن يبدو أنها توقّفت عن الرسم بعدها لأسباب غير معروفة.
وهناك الآن من يتساءل ما إذا كان المتحف سيغيّر مكان اللوحة وينقلها إلى إحدى صالاته الداخلية باعتبارها تخصّ فنّانا اقلّ شهرة أو أهمّية.
هنا لا بدّ وأن نتذكّر شكسبير الذي قال ذات مرّة إن زهرة بأيّ اسم آخر ستظلّ تحتفظ برائحتها الشذيّة.
وبالنتيجة، لا يهمّ اسم من رسم اللوحة. المهمّ أنها ما تزال لوحة جميلة ومعبّرة.

❉ ❉ ❉

استراحة موسيقية

❉ ❉ ❉

قصّة حبّ صوفية


"بينما كنت أفكّر فيها غالبني نعاس لذيذ".
كذا يقول مطلع هذه القطعة الاوبرالية الجميلة التي وضع لحنها المؤلّف الموسيقي الألماني هانز زيمر لفيلم هانيبال.
والنصّ المغنّى مأخوذ من قصيدة للشاعر الايطالي دانتي بعنوان "Vide Cor Meum"، يحكي فيها عن تجربة حبّ صوفية جمعته مع امرأة تدعى بياتريس.
كان دانتي يرى المرأة، أو خيالها، في الكثير من الأماكن التي كان يذهب إليها.
كانت صامتة ساهمة على الدوام. وكلّ ما ظفر به منها كان تحيّة عابرة ألقتها عليه في ظهيرة أحد الأيّام قبل أن تختفي مرّة أخرى.
وقد اختار مخرج الفيلم أن يصوّر هذه القطعة في إحدى دور الأوبرا في مدينة فلورنسا الايطالية.
أكثر ما يشدّ الاهتمام في الأغنية هو موسيقاها الراقية والشحنة الميلودرامية المكثفة التي أودعها المؤلّف فيها.
هنا ليس مطلوبا منك أن تهتمّ كثيرا بالكلام بل أن تستمع إلى الموسيقى الفخمة والى الغناء الاوبرالي الذي يلامس الروح ويتسلّل إلى الوجدان.
الإنشاد الجماعيّ في المقطوعة رائع هو الآخر، بالرغم من حقيقة أن اللحن نفسه حزين وفيه نبرة ندم وأسى عميق.
يبدأ الإنشاد على خلفية من موسيقى الكمان تصاحبه الاوركسترا والكورال. وبعد قليل يدخل صوت السوبرانو ثم التينور في حين تلتحم أصوات المنشدين بالموسيقى في تناغم رائع وذوبان حميم وصولا إلى نهاية الأغنية.
ومن الواضح أن المؤلّف بذل جهدا كبيرا في إخراج هذه القطعة بهذا المستوى الضخم. فقد اختار لعزفها اوركسترا مدينة براغ الفيلهارمونية التي اشتهرت بكثرة عازفيها المحترفين وبالمستوى العالي للغناء الجماعيّ الذي توفّره.
في ما بعد، أدّى الأغنية مغنّون كثر من بينهم السوبرانو البريطانية كاثرين جينكينز التي ضمّنتها ألبومها بعنوان "طبيعة ثانية" بمصاحبة التينور ريس ميريون.
ومع مرور الأيّام أصبحت الموسيقى أشهر من الفيلم نفسه، وتمّ توظيفها في أكثر من عمل سينمائي كان آخرها فيلم مملكة السماء.
الجدير بالذكر أن هانز زيمر وضع الموسيقى التصويرية للعديد من الأفلام السينمائية المشهورة مثل الساموراي الأخير وشيفرة دافنشي وقراصنة الكاريبي وغيرها.
يمكن سماع الموسيقى هنا أو هنا .

الأربعاء، نوفمبر 16، 2005

اوكتافيو اوكامبو

اوكتافيو اوكامبو فنان مكسيكي معروف على الصعيد العالمي، ولعلّ رواج رسوماته وكثرة الطلب عليها خير دليل على تميّز هذا الفنان وتفرّد أسلوبه الفني.
تنتشر أعمال اوكامبو في قصور الملوك ورؤساء الدول، ومن بين المعجبين الكبار بأعماله الملك الإسباني خوان كارلوس.
ولا يقتصر إبداع اوكامبو على الرسم والنحت وانما يتعدّاهما إلى المسرح والسينما، لكن منذ بدايات 1976 اصبح يكرّس وقته وجهده للفن التشكيلي.
ويغلب على أعمال اوكامبو المجاز والرمزية وسعة الخيال. ويتطلب فهم لوحاته قدر غير قليل من النظر والتركيز.
وكلما أمعنا النظر في إحدى لوحاته كلما اكتشفنا المزيد من عناصرها وتفاصيلها الدقيقة. فالوجوه من بعيد تبدو خلاف ما هي عليه عند النظر إليها عن قرب بفضل عنصري المجاز والرمزية اللذين يوظفهما الفنان باقتدار عال.
الزهور في لوحات اوكامبو تتحوّل إلى وجوه بشرية والجبال تتحدّث إلى بعضها البعض، والنساء النائحات فوق الأكفان تأخذ وجوههن ملامح السيد المسيح.
في لوحته Visions of Don Quixote يبدو رجل بملامح حالمة يتحوّل إلى دون كيشوت وتابعه سانشو بانزا في الريف الإسباني.
وفيForever Always نرى "بورتريه" لرجل عجوز وزوجته وكل منهما ينظر إلى وجه الآخر، وفي ثنايا اللوحة يطلّ مشهد من حياتهما.
وفي كرسي الموناليزا Mona Lisa’s Chair ، إحدى اشهر لوحات اوكامبو، تتحول اليدان إلى أرنبين والرقبة إلى قطة على كرسي!
وفي Lupe Velez نرى وجه امرأة ينبثق من ملامحها ثلاثة أشخاص أمام سور منزل مضيء، وقد ُرسم فكّ الممثلة وانفها على هيئة امرأة بلباس ابيض، وعلى يمين المرأة ويسارها رجلان!
وفي عائلة الجنرال The General's Family، وهي اكثر لوحات الفنان انتشارا، يطلّ علينا الجنرال بلباسه الرسمي، وفي ثنايا اللوحة تظهر وجوه تسعة من أفراد عائلته.
في هذه اللوحة ربما أراد الفنان أن يقول ألا شئ في هذه الحياة يخلو من الأهمية. وعائلة الجنرال، زوجته وكلبه وعناصر بيئته الفلاحية، لا يمكن أن يحجبها أو يقلل من أهميتها المظهر الفخم واللباس المهيب.
الفنان اوكتافيو اوكامبو يقيم اليوم في منطقة تبوتزلان المكسيكية التي تعتبر واحدة من اكثر بقاع العالم فتنة وسحرا.
ومن بين اهتمامات الفنان الأخرى رسم بورتريهات لرؤساء الدول والفنانين، ومن هؤلاء جيمي كارتر وجين فوندا و شير و سيزار تشافيز.

الثلاثاء، نوفمبر 15، 2005

الروض العاطر

هذا كتاب فريد من نوعه وفي مضمونه وقد ذاع اسم مؤلفه في الأمصار وحقّق شهرة عالمية بفضل هذا الكتاب بالذات.
اسم الكتاب "الروض العاطر في نزهة الخاطر" ومؤلفه هو الشيخ عمر بن محمد النفزاوي المولود في نفزاوة الواقعة جنوبي تونس.
لم يؤلف الشيخ النفزاوي كتابا آخر غير هذا الكتاب مع أن مؤلفه كان ضليعا بأمور الأدب والطب والمعرفة. ومع ذلك اختار أن يكرّس كتابه للحديث عن أمور العشق والجنس بطريقة فيها الكثير من الجرأة والاقتحام.
كتاب النفزاوي يندر أن تجده اليوم في المكتبات نظرا لجرأة الكتاب وحساسية موضوعه وكذلك للغة المباشرة والمكشوفة التي استخدمها المؤلف في كتابه.ومن حسن الحظ أن الإنترنت التي كسرت الحظر على الكثير من الكتب والمؤلفات الممنوعة أتاحت أخيرا قراءة النص الكامل لهذا الكتاب النادر في نسخته الإنجليزية التي نقلها عن العربية السير ريتشارد بيرتون الرحالة والأديب والمستشرق البريطاني المشهور.
وقد ادرج موقع نصوص مقدّسة كتاب الشيخ النفزاوي ضمن النصوص المختارة التي يوفرها.
ويبدو أن هذا الكتاب ألف في بدية القرن السادس عشر أي في حوالي 925 هجرية. وعن ظروف تأليف الكتاب يقال بان الباي حاكم تونس في ذلك الوقت كان ينوي أن يعهد إلى الشيخ النفزاوي بمنصب رئيس القضاء لكن الشيخ لم يكن راغبا في تولي الوظيفة، فلما قرأ الباي كتاب الشيخ عدل عن رأيه واذعن لمشيئة الشيخ بعد أن توصّل إلى استنتاج أن الشيخ لا يصلح لتقلد وظيفة القضاء ولا أية وظيفة عامة أخرى.
يقول بيرتون في تقديمه للكتاب: خلافا لعادة العرب لا يوجد تعليق على هذا الكتاب والسبب يعود ربما إلى طبيعة الموضوع الذي يعالجه والذي قد يزعج الجادين والوقورين.
ومن بين المؤلفات التي تطرّقت إلى علاقة الرجل بالمرأة وعلاقة الجنس بالشخصية والصحة والمزاج لا يوجد كتاب ينافس "الروض العاطر" ، بل إن ما يجعله متفرّدا عما سواه هو الجدية التي يتعرّض بها كاتبه لأمور وأحوال قد تبدو في نظر الكثيرين مبتذلة وفاضحة.
وربما يستحق الشيخ النفزاوي الكثير من الإشادة والتقدير لانه سلط الضوء على جانب "ظل غائبا في حياة قوم ما يزال فن الحب عندهم في سني طفولته الأولى"، على حدّ تعبير بيرتون.
لكن بيرتون يأسف لان الشيخ لا يذكر في كتابه ما يفيد بأن العرب عرفوا شيئا من فنون الحب والمداعبات الجنسية التي خبرها الغربيون!
يقول الشيخ في مقدمة كتابه:
"اقسم بالله العظيم انه لا غنى لأي إنسان عن قراءة هذا الكتاب، أما الذين لا يقرءونه أو ينظرون إلى ما فيه بسخرية أو استهزاء فانهم ليسوا اكثر من جهلة واعداء للمعرفة! والحمد لله الذي وضع في أعضاء المرأة متعة للرجل وزوّد الرجل بأعضائه الطبيعية كي يوفّر للمرأة اعظم متعة. إن الله سبحانه لم يضع في عضو الأنثى أية متعة أو إشباع ما لم يخترقه عضو الرجل كما أن عضو الرجل لا يعرف الهدوء ولا الراحة حتى يلج عضو الأنثى"!
ويمضي الشيخ النفزاوي في هذه التجليات الطريفة فيقول في باب الرجال الذين يستحقون الثناء:
"فلتعلم يا مولاي (أي الباي) بارك الله فيك أن هناك أنواعا مختلفة من الرجال والنساء وبين هؤلاء من هم جديرون بالثناء والإعجاب ومنهم من لا يستحق سوى الذمّ والازدراء".
ويضيف: "إن الرجل الكفء عندما يجد نفسه قرب امرأة فإن ذكره سرعان ما يقوم ويشتد. هذا هو الرجل الذي تبحث عنه وتقدّره وتحبه النساء. لان المرأة لا تحبّ الرجل سوى للجنس لذا يجب أن يكون في عضوه بسطة وقوّة"!
والكتاب حافل بالكثير من التعليقات الجريئة والأوصاف الطريفة التي ربما ينظر إليها المرء باستغراب وحيرة. ولا ينسى الشيخ أن يضمّن كتابه جانبا من مغامراته العاطفية مع جاراته أيام الشباب وبشكل مفصّل، وبعض تلك القصص لا يخلو من جرأة وطرافة!
يقول الشيخ شارحا ردّ فعل الباي على الكتاب:
"بعد مرور ثلاثة أيام أتاني مولانا الباي وبيده الكتاب، وعندما رآني متوتّرا وخجلا بعض الشيء قال: لا يجب أن تشعر بأيّ خجل أو حرج فكلّ ما ذكرته في هذا الكتاب ذو قيمة، وليس في ما كتبته ما يصدم أحدا. لكن فاتك شئ ما". وعندما استفسرتُ عن مراده قال: لقد كنت افضّل أن تضيف إلى الكتاب ملحقا تخصّصه للحديث عن كل مرض من الأمراض والاختلالات التي ذكرتها".
كتاب "الروض العاطر" يذكّرنا إلى حدّ كبير بكتاب شهير آخر هو كاما سوترا Kama Sutra ، وكاما هو اله الحب عند الهندوس وسوترا كلمة معناها دليل وبذا يكون معنى الكتاب "دليل الحب".
وقد ُكتب كاما سوترا في الهند في القرن الرابع الميلادي وهو كتاب فلسفة واجتماع كما انه يشتمل على التعاليم الهندوسية المتعلقة بطقوس الحب والتي تعكس العادات الاجتماعية والجنسية التي كانت شائعة لدى الهندوس زمن تأليف الكتاب.
وتتضمّن تلك التعاليم أساليب استخدام الزيوت والعطور والنباتات لزيادة الإثارة والاستمتاع بالجنس بين الرجال والنساء.
وكثير من فصول كتاب الكاما سوترا ما تزال تلقى الانتشار والقبول في كل مكان. (بالمناسبة هناك في محرّك الياهو حوالي 178000 موقعا وصفحة تتحدّث عن تعاليم الكاما سوترا بدءا بفنون الحب ومرورا بأوضاع الجنس وانتهاء بالألعاب الجنسية والخليعة)!
الغريب في الأمر أن اتباع كاما سوترا قاموا بترجمة كتاب الشيخ النفزاوي إلى اللغات الهندية كما اخرجوا نسخة خاصة منه بالإنجليزية بعد أن أدركوا قيمة الكتاب وأهمية مضمونه.
وعند الحديث عن الكاما سوترا فإن الذهن ينصرف تلقائيا إلى كتاب آخر شبيه ويحظى بنفس الشهرة وهو كتاب التانترا Tantra ، والتانترا فلسفة بوذية تنحو باتجاه إحاطة الجنس بهالة روحانية وتحاول أن توفر للإنسان أقصى درجات الحب والنشوة من خلال تعاليم ذلك النص المقدس.
ومع ذلك يظل كتاب الروض العاطر بإجماع النقاد اشهر الكتب الكلاسيكية في بابه وأكثرها تشويقا وابهارا، وهو يتميّز عن كاما سوترا والتانترا وغيرهما من الكتب المماثلة باحتوائه على قصص وحكايات مدهشة واحيانا طريفة عن العادات الجنسية التي كانت شائعة في المجتمعات العربية والإسلامية خلال القرون الوسطى.
ومن المؤسف أنه في الوقت الذي تحتفي فيه الثقافات العالمية الأخرى بكتبنا وتهتم بآثارنا الأدبية، يلاقي هذا الكتاب نفس مصير كتاب ألف ليلة وليلة فيتعرّض للحظر والمنع في الأقطار العربية بدلا من إجازته بعد شئ من التعديل والتشذيب.

الاثنين، نوفمبر 14، 2005

السعادة والتديّن

كثيرا ما نقرأ ونسمع كلاما من قبيل أن الشخص المتديّن اكثر سعادة من غير المتديّن. فهو يعيش حياة أطول ولا يعرف الحزن أو الإحباط إلا في ما ندر، كما انه في العموم يعيش حياة هانئة وسعيدة لا تعرف المشاكل ولا المنغّصات.
ومن بين الأقوال التي تتردّد بكثرة في المساجد وعلى منابر الوعظ أن الإنسان غير الملتزم أو غير المتديّن هو دائما فريسة للقلق والتململ والسخط على الدنيا، وان المتديّن قريب من الله وان الله قريب منه من خلال الصلاة والدعاء والمناجاة وعامل التوكّل والإيمان بالقضاء والقدر.
ولهذا فان المتديّن اكثر سعادة من غيره من الناس.
لكن هناك العديد من الأمثلة والحالات التي لا أقول إنها تناقض هذه الصورة بالضرورة وانما – على الأقل – تحفزنا لعرضها على ميزان الفحص والتدقيق لاثباتها أو نفيها..
سمعتُ ذات مرة قصّة رواها أحد الأشخاص وفيها يتحدّث عن الانقلاب الذي حدث في سلوك أفراد عائلة أحد معارفه.
فالزوجة والبنات بعد أن واظبوا لبعض الوقت على حضور بعض جلسات الذكر والتوعية الدينية اعترتهن فجأة حالة من التديّن المفرط فاصبحوا لا يكفون عن قراءة القرآن الكريم في البيت آناء الليل والنهار.
وامتدّ تأثير تلك الحالة ليشمل الامتناع عن مشاهدة التلفزيون ثم الاعتكاف في المنزل ساعات طوالا، وشيئا فشيئا اصبحوا مقطوعين عن العالم الخارجي!
وفي مرحلة لاحقة أصبحت تنتاب الأم وبناتها حالات من الخوف والقلق غير المبرّر.
في الليل مثلا كانت تتراءى لهم أشباح واخيلة مخيفة واثناء النوم تزورهم الكوابيس المزعجة على الرغم من تسلّحهم بقراءة الآيات الكريمة والمعوّذات وغيرها.
وفي النهاية وعندما بلغت الأمور حدّا لا يطاق اصبح الرجل وعائلته ضيوفا دائمين على المشايخ الذين يزاولون الشعوذة باسم الدين ويزعمون امتلاكهم قوى خارقة تمكّنهم من إخراج الجان من الجسد!
والقصة لم تنته فصولها حتى هذه اللحظة للأسف!
ربّما يقول البعض إن هذه حالة شاذة واستثنائية ولا ينبني عليها حكم وهذا صحيح إلى حد كبير، ولكنها تثير سؤالا يحمل مفارقة، إذ أن الفكرة الشائعة هي أن التديّن يدفع بالإنسان إلى منطقة اليقين ومن ثم إلى حالة الاطمئنان الذهني والاستقرار العقلي وليس العكس.
برنارد شو ُطرح عليه مثل هذا السؤال فأجاب بطريقته الساخرة: إن حقيقة أن الإنسان المتديّن اكثر سعادة من غير المتديّن لا تختلف عن حقيقة أن الإنسان السّكير اكثر سعادة من الإنسان الوقور!
نظريا وبشكل عام ، يمكن القول إن الإنسان المتديّن (باعتدال وسماحة) اكثر سعادة من سواه.
ربّما يعود السبب إلى أن الملتزم يؤمن بالله وبالحياة الآخرة إيمانا يقينيا وصادقا، وهذا العامل من شانه أن يخفّف من شعوره بالوحدة في الدنيا، بالإضافة إلى أن هذا الشعور يمنح صاحبه قوّة كبرى خاصة في أوقات المحن والشدائد.
لهذا هو – بقدر ما - اكثر سعادة من غير المتديّن.
لكن هذا لا ينفي أن بعض المتديّنين كثيرا ما يتعرّضون لحالات اكتئاب وعدم رضا عن الذات والآخرين، ولعل هذا العامل بالذات هو ما يدفع البعض نحو التطرّف والهوس الديني واعتزال المجتمع تحت ذريعة انه "كافر وفاسد".
لكن في بيئة مثل بيئتنا الشديدة المحافظة دينيا واجتماعيا، يمكن أن ُيطرح سؤال آخر غير بعيد الصلة عن الموضوع: ألا يمكن أن يتسبّب التديّن المبالغ فيه وغير السويّ في أمراض واختلالات نفسية لممارسيه يروح ضحيتها المجتمع بأسره وذلك عندما ُتحرم غالبية الناس من التمتّع بالسعادة والرضا عن الذات، خاصة في مثل هذه الظروف التي تحوّل فيها الدين إلى رخصة للقتل بفضل الفتاوى السوداء والحمراء؟!
ثم أليس من حق الآخرين أن يختاروا أن يعيشوا حياة اقلّ تديّنا واكثر سعادة وتسامحا وانفتاحا وإنسانية؟!

الأحد، سبتمبر 25، 2005

تعدّدت الاسباب والموت واحد

في البداية لم أسمع جملته الأخيرة جيدا، إذ قطع حديثنا رنين الهاتف.
كان الحديث عن فكرة الموت وما يرتبط به من طقوس ومعتقدات في ثقافات الشعوب المختلفة..
قلت: أظنك كنت تتحدث عن الحرق وكأنني سمعتك تقول بأنك تفضّله على الدفن..
صمت ُبرهة ثم قال: نعم، وقد كتبت ذلك في وصيّتي بالفعل. الحرق افضل مرارا من الدفن وأنا لا أريد لجسدي أن يفترسه الدود والهوام.
قلت: لكنك مسيحي، والمسيحيون يدفنون موتاهم كما اعلم.
قال: ليس كلهم، ثم انه لا علاقة للمسيحية أو الأديان بكلامي. تستطيع أن تقول إنني أصبحت أميل نحو البوذية، والبوذية بالمناسبة ليست دينا وانما طريقة حياة.
قلت: بعيدا عن الأديان، ألا تعتقد بأن حرق الجثة ُيعدّ، على نحو ما، تدنيسا لحرمة الجسد الإنساني؟
قال: أبدا. الجسد يفنى سواءً بالدفن أو الحرق أو بطمر الجثة في البحر أو بوضعها على قمة جبل كي تنهشها السباع والجوارح كما يفعل الزارادشتيون. الجسد يفنى على أي حال. أما الروح فتولد منها أرواح جديدة لتسكن في أجساد مختلفة من خلال ما يعرف بالتقمّص.
قلت: لكن الحرق هو بمثابة تدمير للجثة وهو أسلوب لا يخلو من الوحشية والقسوة كما أرى، لان الجسد منحة من الخالق ولا يجب أن يعامَل بغير الاحترام. بصراحة اعتقد أن الدفن ارحم بكثير من الحرق.
قال: حسنا، عندما يحتضر الشخص تتسرّب الطاقة من جسده شيئا فشيئا إلى أن تتلاشى نهائيا بموت الجسد. والطاقة هنا هي الروح التي ُتستنسخ في أرواح أخرى كما قلت. وفي النهاية لا يضرّ الجثة أن ُتحرق أو يتم التخلص منها بأي طريقة أخرى.
قلت: لكن إلى الآن لم أفهم بالضبط فلسفة الحرق أو الحكمة من ورائها.
قال: الحرق يتضمّن ثلاثة من عناصر الطبيعة: النار والهواء ثم الماء الذي يذهب إليه القليل مما يتبقى من الجثة في هيئة الرماد الذي ُيلقى في النهر. الشاهد هنا هو أن الإنسان أتى من الطبيعة واليها يعود. كما أن حرق الجثة ينهي من الأرض أيّ وجود فيزيائي أو مادّي للشخص الميّت، وفي هذا راحة نفسية لأهله. أما الدفن فيبقي على شئ من ذلك الوجود مما يشعِر ذوي المتوفّى بأنهم ما يزالون مرتبطين به بشكل أو بآخر. الحرق ينهي تلك الرابطة تماما.
قلت: كلامك عن إنهاء الرابطة ما بين الميّت وذويه من الأحياء لا يخدم فكرة الحرق بل ربّما يكون حجّة ضدّها.
قال: ما ذكرته ربما يكون صحيحا لو أننا نتحدث عن الإسلام أو المسيحية أو اليهودية. لكننا نتحدّث عن البوذية التي ترى ضرورة قطع الصلة ما بين الميت وذويه من الأحياء بعد أن انتقلت روحه وحلّت في كائن آخر. الجسد مجرّد وهم لا وجود له في المعتقدات البوذية. ولو تمعّنت قليلا في مزايا التخلّص من الجثة بحرقها لتأكّد لك أن المسألة لا تخلو من بعض المبرّرات المنطقية. فتكلفة الحرق ارخص بكثير من تكاليف الدفن وأسلم من الناحية الصحية والبيئية، كما أن الحرق يوفّر مساحات من الأرض ينتفع بها الأحياء في الزراعة والسكنى بدلا من تحويلها إلى مقابر تحتضن بداخلها الرفات والعظام.
قلت: على سيرة العظام والبيئة، سمعت أن قيعان كثير من الأنهر والبحيرات في جنوب شرق آسيا والصين والهند تغصّ بأكوام العظام الآدمية الصغيرة المتخلّفة عن عمليات إحراق الجثث.
قال: ما يحدث هو أن الأفران المخصّصة لحرق الجثث، مهما كانت حديثة وفعّالة، لا تفلح دائما في حرق الجثة وتحويلها إلى رماد خالص. وهذا الرماد المختلط ببقايا العظام الصغيرة يحمله أهل الميّت إلى الأنهار والبحيرات ليلقى فيها، بينما تستقرّ العظام في اسفل النهر لعدة سنوات إلى أن تتحلل وتتلاشى تماما.
قلت: وماذا عن رائحة اللحم الآدمي المحترق؟ ألا يعتبر أمرا مقّززا ومرعبا؟
قال: لا رائحة ولا شئ من هذا القبيل. فالجثة قبل مراسم الحرق يتمّ حشوها بعيدان البخور والصندل والنباتات والزيوت العطرية بإشراف الكهنة وذوي المتوفى.
قلت: لكن ماذا عن فكرة البعث من القبور، والثواب والعقاب؟
قال: البوذية حسمت فكرة الجنّة والنار من قديم. وتعاليمها تؤكّد في المقام الأول على ضرورة أن يلتمس الإنسان في هذه الحياة كل ما يبعد عنه الألم والمعاناة ويحقّق له السعادة والراحة النفسية والصفاء الذهني.
سألته وأنا أهمّ بإنهاء حديثنا: ترى لو انك ُمنحت الحريّة في اختيار طريقة أخرى مبتكرة، غير الحرق، لتتخلص بها من جثتك، بعد عمر طويل طبعا، فأيّ طريقة كنت ستختار؟
صمت قليلا ثم قال وهو يضحك: لا ادري حقيقة ولم يخطر ببالي مثل هذا الأمر من قبل. لكن ربّما كنت سأفضّل أن توضع جثتي داخل كبسولة تنطلق بسرعة الضوء نحو الفضاء الخارجي للأرض إلى أن تبلغ أطراف الكون البعيد. وأن أبقى هناك إلى الأبد سابحا بين الكواكب والمجرّات القصيّة وهائما في اللانهائية والثلج والسديم إلى ما لا نهاية!
قلت: هذا حلم أشبه ما يكون بالفنتازيا وقصص الخيال العلمي، ويبدو انه لن يتحقق في المستقبل المنظور، وعلى كل لا أقول سوى: أحسن الله خاتمتنا جميعا..

الجمعة، سبتمبر 23، 2005

رافال اولبينسكي

رافال اولبينسكي فنان بولندي ذو شهرة عالمية، رسوماته تذكّرنا إلى حدّ كبير بلوحات الفنان البلجيكي رينيه فرانسوا ماغريت.
غير أن أعمال اولبينسكي تتسّم بكونها اكثر عصرية واقل ميلا للسوداوية والاكتئاب.. واكثر جمالا.
يعمل اولبينسكي أستاذا للفنون الجميلة بنيويوروك منذ خمسة عشر عاما، وقد ظهرت رسوماته السوريالية على أغلفة العديد من المجلات مثل التايم والنيوزويك والنيويوركر والنيويورك تايمز "المجلة" والبلاي بوي ودير شبيغل الألمانية. وقام بتصميم الكثير من البوسترات الدعائية للعديد من المسرحيات والأعمال السينمائية والاوبرالية، كما اشترت أعماله مؤسّسات ثقافية مرموقة مثل مكتبة الكونغرس ومؤسّسة كارنيغي والنادي الوطني للفنون بنيويورك.
في لوحاته التي صمّمها توظيف بارع للخدع البصرية على نحو ما يفعله السورياليون، كما أنها تحفل بعنصر المفاجأة ولا تخلو من اللمسات الحسّية والشاعرية.
وفي رسوماته التي أبدعها لاوبرا موزارت وفيردي وسواهما من كبار الموسيقيين، يبرهن اولبينسكي على فهمه العميق لجوهر تلك الأعمال وللإشارات المجازية والمضامين الإنسانية التي تنطوي عليها، وهذا هو السبب في أن رسوماته تضجّ بالحياة وسعة الخيال.
حب اولبينسكي الأول كان الاوبرا التي احترفها قبل هجرته إلى الولايات المتحدة، وسبب ما أصابه الفنان من شهرة عالمية ربما يعود بالدرجة الأولى إلى ملصقاته التي صممها للاوبرا بشكل خاص، بما تتسّم به من انفعالات قوية وصور وشخصيات مشهدية حاول أن يعكسها في لوحاته بمهارة.
في ملصق "مدام بترفلاي Madame Butterfly"، مثلا، نرى بينكيرتون أحد شخوص المسرحية بقوامه الصغير وهو يصعد على أطراف مروحة تمسك بها إحدى فتيات الغيشا اليابانيات.
وفي ملصق اوبرا "البوهيمي La Boheme لبوتشيني"، تظهر ميمي المرأة الضعيفة وهي تنظر بطريقة حالمة إلى شمعة محترقة، وعبر الدخان الرفيع المتصاعد من الشمعة تتشكّل صورة الرجل الذي تحبّه.
وفي ملصق "قل لا للمخدرات Say No To Drugs"، تظهر حمامة بيضاء ميّتة، وقد ذبل جناحاها وانطويا على بعضهما متّخذين شكل يدين مرتفعتين بالدعاء.
التمثيل الحسّي الذي يقدّمه اولبينسكي في لوحاته للنساء يتماشى مع الصورة المألوفة عن نساء الاوبرا اللاتي يتّسمن عادة بالجمال والجاذبية ويرتدين غالبا ملابس شفافة تكشف عن مفاتنهن. لكن بعض النقاد يأخذون على الفنان إصراره على تصوير الرجال في لوحاته بطريقة تفتقد إلى البريق والجاذبية. إذ يقدّم شخوص لوحاته من الرجال في هيئة رثّة ويكتفي بإلباسهم إما أزياء تاريخية باهتة في الغالب، أو حديثة لكنها مملة على أي حال.
نال رافال اولبينسكي اكثر من مائة جائزة فنية عالمية اعترافا بموهبته وتقديرا لاعماله الفنية المتميّزة.

الأحد، سبتمبر 11، 2005

قصائد


لابن الفارض:
شـربنا عـلى ذكـر الحـبيب مدامـة
سـكرنا بهـا مـن قبل أن ُيخلق الكرْمُ

لهـا البـدر كـأس وهي شمس يديرها
هـلال وكـم يبـدو إذا ُمزجـت نجـمُ

ولـولا شـذاها مـا اهتـديتُ لحانهـا
ولـولا سـناها مـا تصوّرهـا الـوهمُ

فـإن ُذكـرتْ فـي الحـي أصبح أهله
نشــاوى ولا عـار عليهـم ولا إثـمُ

وإن خـطرتْ يومـا على خاطر امـرئ
أقـامت بـه الأفـراح وارتحـل الهـمُ

وللمعتمد بن عباد:
أباح لطيفي طيفها الخدّ والنهـدا
فعضّ به تفاحـة واجتـنى وردا

وألثمني ثغـرا شممـتُ نسيمـهُ
فخُيّل لـي أني شممـتُ به نـدّا

ولو قدرتْ زارتْ على حال يقظة
ولكنْ حجاب البين ما بيننا ُمـدّا

ولأبي نواس:
لا تبك ليلـى ولا تطـرب إلـى هنـدِ
واشرب على الورد من حمراء كالوردِ

كأساً إذا انحـدرت من حلـق شاربها
رأيـت حمـرتها في الكـأس والخـدِّ

فالخمـر ياقوتـة والكـأس لـؤلـؤة
من كـفّ لؤلـؤة ممشـوقـة القـدِّ

تسقيك من عينها سحـراً ومن يـدها
خمـراً فمـالك من ُسكْريـنِ من ُبـدِّ

لـي نشـوتان وللنُـدمـان واحـدة
شيء خصصـت به من بينهم وحدي!

الأربعاء، أغسطس 31، 2005

لي موثيس

الطبيعة هي عشق الإنسان الأول منذ الأزل. وتحتفظ الكهوف والجبال برسومات للحيوان والطير تعتبر على نحو ما اقدم سجل فني للبشرية، وقد تكون تلك الرسومات بمنظور اليوم بدائية وبسيطة، لكنها على كل حال تختصر رؤية الإنسان القديم للطبيعة وتصور علاقته الحميمة بعناصرها وتفاصيلها المختلفة.
وقد تطورت علاقة الإنسان بالطبيعة على مر العصور، وبرزت العديد من المدارس الفنية التي تجسد عناصر الجمال في الطبيعة من بحار واشجار وجبال وانهار وغيرها من العناصر التي يوفر النظر إليها وتأملها حالة من الشفافية وراحة البال وسمو المشاعر.
ومؤخرا حظي فنان شاب باحتفاء خاص من قبل أوساط الثقافة والفن التشكيلي في الولايات المتحدة والغرب بعد سلسلة الرسومات الجميلة التي أبدعها من وحي حبه الجارف والاستثنائي للطبيعة وعنصر الماء فيها بشكل خاص.
هذا الفنان هو لي موثيس الذي أبدع لوحات رائعة تنبض بالحيوية الممزوجة بشيء من سحر الأحلام ووهج الرومانسية.
هذا الذوبان الحميم مع الطبيعة والذي تشي به لوحات موثيس ليس بالمستغرب، فهو عاش طفولته في أحضان المحيط وحفظت ذاكرته صور البحيرات والشواطئ والمروج الخضراء التي لم تبرح مخيلته.
بعض هذه اللوحات هي من نسج عالم متخيل، والبعض الآخر مستوحى من عالم الطبيعة الحي الذي يزخر بكل عوامل الصفاء والجمال والسكينة.
الفنان يتعامل مع تفاصيل الطبيعة وكأنها جزء من بيته الخاص، فالشرفات مشرعة على الموج والشطآن، والأزهار جزء لا يتجزأ من سمفونية العناق الأبدي بين الشمس والبحر، وكأن الفنان يريد أن يقول انه كلما امتزجنا بالطبيعة اكثر واستشعرنا مواطن الحسن فيها كلما أصبحت عناصرها اكثر فاكثر جزءا صميميا من واقعنا الحياتي الحميم.
إن كل لوحة من لوحات لـي موثيـس هي عالم قائم بذاته، لكنها تلتقي جميعها في كونها تعبيرا صادقا وشفافا عن حب مبدعها للطبيعة وافتتانه بها وإحساسه الفائق بمكامن الجمال فيها.

الأحد، أغسطس 28، 2005

حكايات من صندوق البريد

هذه مجموعة من القصص القصيرة التي اخترتها من ضمن ما يرد إلى البريد الإليكتروني من حين لآخر.
وبالرغم من أن كتاب هذه القصص مجهولون، فإنها تحتوي على الكثير من الدروس والتجارب الإنسانية الثرية والمفيدة.
وقد اخترت هذه المرة أربع حكايات، وجهدي فيها لا يتجاوز نقلها إلى العربية وإعادة صياغتها بشيء من الاختزال الذي لا يخل بمضمونها الأخلاقي والإنساني.
وأرجو أن تعجبكم كما أعجبتني..

أصدقاء رائعون
ُأصيب صبي شاب بمرض السرطان وأدخل المستشفى لعدة أسابيع حيث كان يتلقى علاجا كيميائيا وإشعاعيا. وأثناء العلاج فقد جميع شعره.
في طريق عودته إلى البيت من المستشفى شعر بالقلق، ليس من السرطان بل من الإحراج الذي سيشعر به عندما يذهب إلى المدرسة برأس اصلع. وكان قد قرّر أن يرتدي باروكة أو قبعة.
عندما وصل إلى البيت مشى أمام الباب وأضاء الأنوار. ورأى أمرا فاجأه!
كان هناك حوالي خمسين من أصدقائه يقفزون ويهزجون مردّدين بصوت واحد: مرحبا بعودتك إلى البيت!
نظر الصبي حول الغرفة ولم يصدّق عينيه. كان كل أصدقائه الخمسين حليقي الرؤوس!
ألا يسرّنا أن يكون لنا أصدقاء يهتمون بنا ويتلمسون آلامنا ويتعاطفون معنا لدرجة أن يضحوا بأي شئ مهما كان صغيرا أو رمزيا طالما كان ذلك يشعرنا بالاحتواء والسلوى والمحبة؟
من الصعب في عالم اليوم أن تعثر على مثل أولئك الأصدقاء.

معنى أن تحب الآخرين كما هم
هذه القصة عن جندي عاد أخيرا إلى ارض الوطن بعد أن شارك في القتال في فيتنام.
وقد اتصل بوالديه من سان فرانسيسكو ليقول لهما: أنا عائد إلى البيت لكني اطلب منكما خدمة. لدي صديق وأريد أن اصحبه معي إلى البيت"
"بالتأكيد" .. رد الوالدان "ونحن نحب أن نراه ونقابله"..
قال الابن: لكن هناك أمرا يجب أن تعرفاه. صديقي لحقته إصابة جسيمة أثناء القتال، إذ خطا فوق لغم ارضي وفقد إحدى ذراعيه وإحدى ساقيه، وليس هناك ثمة مكان يذهب إليه وأنا أريد أن أحضره معي كي يعيش معنا"
رد الأب: يحزنني أن اسمع ذلك لكن يا ولدي يمكن أن نساعده في البحث عن مكان ليعيش فيه"
أجاب الابن: لا يا والدي العزيز. أنا أريده أن يعيش معنا"
قال الأب: يا ولدي! أنت لا تعرف صعوبة هذا الأمر، فرجل بمثل تلك الإعاقة سيكون عبئا عظيما علينا، لدينا حياتنا وليس بوسعنا تحمّل أن يتدخل أحد في خصوصيتنا، واعتقد أن عليك أن تعود إلى البيت وتدع الرجل يتدبر أمره فسوف لن يعدم الوسيلة ليهتم بشأنه"
وفي تلك اللحظة انقطع الاتصال ولم يسمع الأبوان اكثر من ذلك.
لكن بعد بضعة أيام تلقيا اتصالا من شرطة سان فرانسيسكو. قيل لهما: لقد توفي ابنكما بعد سقوطه من أحد المباني ويبدو انه اقدم على الانتحار.
هرع الوالدان المصدومان إلى سان فرانسيسكو وُأخذا إلى ثلاجة الموتى كي يتعرفا على جثة ابنهما.
هناك تعرفا على الجثة. لكن الأمر الذي أرعبهما هو انهما اكتشفا شيئا لم يكونا يعرفانه.
كان الابن بذراع وساق واحدة!
الوالدان في هذه القصة لا يختلفان عن الكثيرين منا. قد نحب بسهولة أولئك الذين يتميزون بمظهرهم الأنيق ويشيعون حولهم المرح والسعادة والمتعة، لكننا لا نميل إلى الأشخاص الذين يجعلوننا نحس بالحزن أو الشفقة أو عدم الارتياح.
وفي معظم الأحيان نفضل الابتعاد عن الناس الذين لا يتمتعون بنفس القدر من الصحة والأناقة والذكاء الذي ننعم به نحن.
أحبّوا الآخرين كما هم!
هذه هي الرسالة!

الصندوق الذهبي
عاقب أب ابنته ذات الأعوام الأربعة لأنها أفسدت لفة من ورق التغليف المذهّب. وقد ثارت ثائرة الأب عندما حاولت الطفلة تزيين صندوق كانت تريد وضعه تحت شجرة الميلاد. ومع ذلك أحضرت الطفلة الصندوق إلى أبيها صباح اليوم التالي وقالت له: هذا لك يا أبي!
أحس الأب بالحرج وندم على رد فعله المتسرع لكن سرعان ما اشتعل غضبه عندما تبين له أن الصندوق كان فارغا!
فصرخ في الطفلة: ألا تعرفين انك عندما تقدمين إلى شخص ما علبة فانه يفترض أن يكون هناك شيء ما داخلها؟
نظرت الطفلة الصغيرة إلى والدها والدموع تترقرق في عينيها وقالت: أبي .. انه ليس فارغا. فقد أودعت فيه قبلاتي لك"!
في تلك اللحظة أحس الأب بالانسحاق. طوّق الصغيرة بذراعيه واحتضنها وضمّها إلى صدره متوسلا منها السماح!
ويقال بأن الرجل ظل يحتفظ بذلك الصندوق الذهبي بجانب سريره لسنوات طوال، وكلما أحس بالإحباط كان يعمد إلى الصندوق فيخرج منه تلك القبلات المتخيلة ويتذكر حب تلك الطفلة التي كانت قد وضعته هناك.
وفي الحقيقة فإن كلا منا نحن البشر ُأعطي صندوقا ذهبيا مملوءا بحب غير مشروط وقبلات من أطفالنا وأفراد عائلاتنا وأصدقائنا ومعارفنا. وليس بوسع إنسان أن يمتلك ما هو أغلى أو اثمن من ذلك الحب.

الفراشــة!
في أحد الأيام وجد رجل فراشة تقبع في شرنقتها.
وجلس يراقب الفراشة لعدة ساعات بينما كانت تجاهد لتدفع بجسدها من خلال ثقب صغير في الشرنقة. ثم بدا أنها عاجزة عن إحراز المزيد من التقدم، وكان واضحا أنها لم تعد قادرة على الذهاب ابعد مما فعلت. لذا قرّر الرجل أن يساعد الفراشة. اخذ مقصا وشق به الجزء المتبقي من الشرنقة. بعدها خرجت الفراشة بسهولة. لكن بدا جسمها متورما وجناحاها صغيرين ذابلين.
استمر الرجل يراقب الفراشة لانه كان يتوقع في أية لحظة أن يكبر الجناحان ويمتدا إلى أن يصبحا قادرين على دعم جسمها. لكن شيئا من ذلك لم يحدث! وفي الحقيقة قضت الفراشة بقية حياتها تزحف وتدور بجسمها المتورّم وجناحيها المتغضّنين ولم يكن بمقدورها أن تطير أبدا.
ما لم يفهمه الرجل على الرغم من عطفه وتسرّعه هو أن الشرنقة المحصورة وروح العزيمة التي كان مطلوبا من الفراشة إظهارها كي تنفذ من خلال الفتحة الصغيرة كانت الطريقة الوحيدة التي تمكّن الفراشة من ضخّ السائل من جسمها إلى جناحيها كي تستطيع الطيران بمجرّد أن تظفر بحرّيتها وتخرج من الشرنقة.
في أحيان كثيرة تكون العزيمة هي السلاح الذي نحتاجه في هذه الحياة. ولو كنا نعيش حياتنا بلا مشاكل ولا منغّصات أو عقبات لأصابنا الشلل والعجز ولما كنا أقوياء. ولما استطعنا أن " نطير"!