:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


السبت، سبتمبر 23، 2017

قراءة الحرب والسّلام

ربّما تكون قد قرأت رواية "الحرب والسلام" لـ ليو تولستوي. وإن لم تكن قد قرأتها من قبل وتنوي الآن قراءتها، فلا شكّ أن قرارك صائب وفي مكانه.
لكن ثمّة احتمال بأن تجد من لا يغبطك على اختيارك لهذه الرواية، على أساس أنها طويلة جدّا وفي نفس الوقت صعبة إلى حدّ ما. بالإضافة إلى أنها تتضمّن عددا كبيرا من الشخصيات، ومن المستحيل أن تتذكّر جميع أسمائهم. بل قد تجد من يقول لك إن قراءة تولستوي عموما تجلب الإحباط والملل.
لكن يمكن الردّ على هؤلاء بأنهم يفوّتون على أنفسهم قراءة احد أفضل الكتب التي اُلّفت على مرّ العصور. وليس صدفة أن كتّابا كبارا مثل بروست وفوكنر ونابوكوف وغيرهم اعتبروا تولستوي كاتبهم المفضّل.
"الحرب والسلام" نصّ أدبيّ مميّز. صحيح أن قراءة كتاب من أكثر من ألف صفحة تتطلّب جهدا ووقتا. لكن عندما تبدأ في قراءتها ستشعر انك أصبحت مشدودا إلى أحداثها ابتداءً من الصفحات الأولى. وإن كنت قارئا مثابرا، فقد لا تحتاج لأكثر من عشرة أيّام لإكمالها. والمهمّ أن تدوّن أسماء الشخصيّات منذ البداية كي لا تتوه في زحامها.
لكن لماذا "الحرب والسلام" رواية مهمّة وممتعة في الوقت نفسه؟
أوّلا: أسلوب تولستوي رائع ومشوّق. وأوصافه للطبيعة والأشخاص والبيوت ليست مجرّد أوصاف ولا حتى مجرّد رموز، بل يمكن أن تكون محطّات في رحلة، أو أعباءً ينبغي التخفّف منها، أو عقبات يتعيّن إزالتها، أو دروسا ينبغي تعلّمها.. وهكذا.
كما أن تصويره للشخصيات وعلاقاتها البينية جذّاب ومدهش. وكلّ شخصية من شخصيّاته لها حياتها المستقلّة وفضاؤها الخاصّ، وليست مجرّد دمية بيد الكاتب يوجّهها حيث يشاء. والشخصيّات تتوازى وتتقاطع ويؤثّر كلّ منها في الآخر بطريقة منطقية ومقنعة.
وتولستوي يتحدّث بحرّية، مع حسّ تنبّؤي واستشرافيّ. كما انه يعطي القارئ معلومات أكثر ممّا يطلب، لكنه بنفس الوقت يترك له مجالا لإعمال مخيّلته.
ثانيا: قصص الحبّ في هذه الرواية جميلة وملهمة. بل إن أفضل القصص الحميمة بين رجال ونساء على الإطلاق ستجدها في "الحرب والسلام". وهناك أيضا التأمّلات العميقة لتولستوي في مسائل الحياة والموت والحبّ والحرب والقدَر. ويقال انه كان هناك على الدوام بداخل الكاتب صراع بين الفنّان الذي يؤمن بظرفية الحياة وبين الداعية الأخلاقيّ الذي يريد أن يعطي للحياة معنى.
ثالثا: بعض شخصيات الرواية رائعة وتستحقّ التأمّل. مثلا شخصية بيير بيزوكوف، وهو شخص يمكن أن تتماهى معه وأن ترى في نفسك الكثير من سمات شخصيّته. تحوّلاته عظيمة، وهو يعلّمك أن الإنسان خُلق من اجل أن يكون سعيدا، وأن السعادة تكمن في داخلنا، وأن لا أحد ولا شيء في هذا العالم قادر على أن يسلب منّا سعادتنا أو شغفنا بالحياة.

رابعا: "الحرب والسلام" تخلّد حادثة تاريخية مهمّة، وهي حرب روسيا ضدّ نابليون التي انتهت بهزيمة الأخير عام 1812م. والرواية لا تقدّم صورة وردية عن الحرب، لكنها أيضا لا تصوّرها بطريقة مرعبة. كما أنها تعلّمنا بعض الأشياء والدروس عن التاريخ. وتولستوي يصف نابليون من زوايا متعدّدة. وعليك أنت أن تستكشف السياقات التاريخية وتحكم على الأشخاص والأحداث من منظورك الخاصّ.
خامسا: شخصيات الرواية ليست جامدة بل تتطوّر باستمرار. وستلاحظ وأنت تقرأ كيف أنها تنمو وتتغيّر بتأثير الأحداث والمشاعر والمواقف المختلفة. والكاتب يضع ببراعة كلّ التفاصيل الصغيرة في إطار الصورة الكبيرة.
سادسا: كلّ شخصية في هذه الرواية تنتشل الأخرى من هاوية العدمية والسقوط. والسعادة تُصوّر على أنها عدوى، والأشخاص الحزانى والمكسورون يستعيدون تفاءلهم وحبّهم للحياة بفعل تعاطف الآخرين ومؤازرتهم.
سابعا: تولستوي نفسه كان إنسانا فاتنا بحقّ. شخصيّته المركّبة والثريّة تؤهّله لأن يكون هو نفسه بطلا لرواية خيالية. وبلا شكّ كان هو احد الشخصيّات المهمة التي أسهمت في صوغ العالم كما نعرفه اليوم.
كان تولستوي وطنيّا، لكنه لم يكن قوميّا ولا شوفينيّا. وكان يؤمن بالعبقرية المتفرّدة لكلّ ثقافة وبكرامة كلّ إنسان بصرف النظر عن خلفيّته.
في شبابه، عاش الكاتب حياة متفلّتة، ثم خضع لمراقبة الأمن الروسيّ. وبعد ذلك أصبح داعية للاعنف والعدالة الاجتماعية. ومع انه ينتمي إلى عائلة ارستقراطية بالغة الثراء، إلا انه كان يحبّ جميع البشر بلا تمييز، وتنازل عن معظم ما يملكه هو وعائلته لصالح الفقراء والمعوزين.
كان تولستوي دائما يبحث عن الكمال الأخلاقيّ، ودعا إلى مجانية التعليم وحرّية المرأة، كما وقف ضدّ طغيان الدولة والكنيسة وضدّ استعباد الإنسان لأخيه الإنسان.
ثامنا: في هذه الرواية، يتعامل تولستوي مع الغزاة الفرنسيين كبشر محترمين، فلا يسخر منهم ولا يحطّ من شأنهم. صحيح انه يكره نابليون، لكنه يرسم له صورة مثيرة، بل انه يسمح لك بالنفاذ إلى عقل القائد الفرنسيّ، فتحسّ بألمه عندما يزور ميدان المعركة ويرى آلاف الجثث المكدّسة فيشعر بمدى وحشيّته.
وتولستوي يرى انه لا توجد عظمة في غياب الخير والحقيقة. كما انه يؤمن أن عظمة الأوطان لا تنبع من القوّة، بل من التواضع والاحتفاظ ببوصلة أخلاقية سليمة حتى في أسوأ الأوقات.
وأخيرا من أروع ما سطّره تولستوي في "الحرب والسلام" عبارته التي أصبحت مشهورة جدّا: أعلى مراتب الحكمة أن يعرف الإنسان انه لا يعرف شيئا".

Credits
tolstoytherapy.com