:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الأربعاء، مايو 25، 2011

الأزرق: تاريخ لون

في كتابه "الأزرق: تاريخ لون"، يكتب ميشيل باستورو تاريخا فاتناً للون الأزرق في الغرب منذ بدايات العصر الحجري وحتى القرن العشرين. كما يوضّح كيف أن هذا اللون النادر أصبح اللون الأكثر شيوعا ورواجا اليوم بأطيافه واشتقاقاته وظلاله المختلفة، من النيلي إلى اللازوردي إلى البحري الغامق إلى الكوبالت إلى التوركواز إلى الزاج الأزرق وسواها.
والكتاب يخبرنا أيضا عن الثقافات المختلفة التي أحبّت هذا اللون أو كرهته. كما يتحدّث عن الفنّ العظيم الذي أنتجه.
ويخصّص باستورو جزءا من كتابه للحديث عن المعاني والدلالات المتغيّرة للأزرق، منذ ظهوره النادر في فنّ عصور ما قبل التاريخ إلى انتشاره الكبير في عالم اليوم من خلال البلوجينز والسجائر ولوحات بيكاسو وغيرها.
ولكي يقوم المؤلّف بهذه المهمّة، تعقّب تاريخ هذا اللون من الناحية التاريخية والاجتماعية في أربعة فصول تتناول العصور القديمة والعصور الوسطى وبدايات العصر الحديث.
الأزرق له تاريخ طويل في العالم الغربي. الإغريق كانوا يحتقرون اللون لكونه "قبيحا وهمجيا". لكن معظم الأميركيين والأوروبيّين الآن يختارونه كلونهم المفضّل.
يقول المؤلّف إن الأزرق كان لونا غير مهمّ حتى أواخر العصور الوسطى. كما أن الإغريق والرومان، على ما يبدو، لم يطلقوا عليه اسما ولم يحترموه. لكن اللون استمرّ في مسيرته ليحقّق انتصارا مبهرا في القرن العشرين.
ويتساءل باستورو عن السبب في أن الأزرق لعب دورا اجتماعيا ضعيفا ورمزيا حتى القرن الثاني عشر. ويقدّم مجموعة رائعة من الأمثلة على التسميات الإثنية. الرومان، على سبيل المثال، كانوا يربطون الأزرق بالبرابرة.
ولتأييد حجّته في أن الأزرق لعب دورا تابعا في الثقافات القديمة، يشير المؤلّف إلى أن هذا اللون كان يُستخدم في مصر وروما في المقام الأوّل كخلفية أو لتصوير المناظر الطبيعية فحسب.
ويتناول الكاتب التغييرات التي طرأت على التسلسل الهرمي للون خلال القرنين الحادي عشر والثاني عشر اللذين شهدا بداية صعود الأزرق. فقد أصبح اللون معيارا لرداء العذراء كما بدأ يظهر في أزياء النخبة.
ويخصّص باستورو فصلا من الكتاب للحديث عن كيف أن الأزرق أصبح أكثر الألوان شعبية واللون المفضّل في القرن العشرين. وينسج فصول حكاية تتناول الأزياء الرسمية والبلوجينز وألوان الأعلام ونظرية الألوان والفلسفة الرومانسية واستطلاعات الرأي.
ويشير المؤلّف إلى أن أيّ تاريخ للون هو قبل كلّ شيء تاريخ اجتماعي. ويستقصي كيف أن الدور المتغيّر دائما للأزرق في المجتمع كان منعكسا في المخطوطات والزجاج الملوّن والملابس واللوحات والثقافة الشعبية.
قصّة اللون الأزرق تبدأ من غيابه شبه التام عن الفنّ الغربي القديم وعن اللغة، ومن ثمّ تنتقل القصّة إلى أوروبا في القرون الوسطى. في ذلك الوقت بدأ الناس في ربط الأزرق بـ مريم العذراء ودخل اللون الكنيسة على الرغم من جهود الأساقفة الكارهين للألوان.
في القرن الثاني عشر، ظهر الأزرق من جديد باعتباره لونا ملوكياً. وقد أدّى وظيفته كقوّة عسكرية وسياسية هائلة أثناء الثورة الفرنسية. وكما انتصر الأزرق في العصر الحديث، تمّ ابتكار طبقات وظلال جديدة منه وأصبح لون الرومانسية. وفي العصور الحديثة أصبح الأزرق اللون العالمي واللون الموحّد للأرض كما تشاهَد من الفضاء الخارجي.
تاريخ الأزرق يغطّي محطّات مختلفة، بدءا من الظلال المكلّفة لعباءة العذراء، مرورا بالأزياء الموحّدة وانتهاءً بـ بيكاسو والجينز.
المعاني والدلالات اللغوية المرتبطة بالأزرق كثيرة. العبارة الشائعة "القمر الأزرق"، تدلّ على ندرة حدوث الشيء أو تباعد فترات حدوثه. والمعنى يشير إلى الظاهرة الفلكية التي تحدث كل ثلاث سنوات تقريبا والتي يظهر فيها الهلال مرّتين في الشهر، واحدة في بدايته والثانية في نهايته.
وهناك عبارة "الدم الأزرق" التي تدلّ على انتماء الشخص إلى طبقة اجتماعية رفيعة. كما أن مفردة "ازرق" أصبحت تدلّ على حالات الاكتئاب والحزن.
رمزية اللون الأزرق تشمل العديد من نواحي الحياة، من الملابس واللغة إلى الديكور والصحة والفنّ. السماء والماء لونهما ازرق، وهما مليئان بالمعاني الايجابية في مختلف الثقافات. كما أن كوكب الأرض الذي نعيش فوقه يُسمّى بالكوكب الأزرق.
وفي الهند، هناك مدينة تُدعى جودبور وتُلقّب بالمدينة الزرقاء لهيمنة هذا اللون على جدران منازلها. ودائما ما يظهر الإله الهندوسي كريشنا في الرسم ببشرة زرقاء. الرسّام الهولندي فان غوخ كان مفتونا بهذا اللون. وقد قال مرّة: لا يوجد ازرق بدون الأصفر والبرتقالي. جون راسكن الكاتب الانجليزي الرومانسي كتب مرّة يقول: الأزرق هو اللون الذي اختارته الآلهة ليكون مصدرا للفرح".
وهناك اليوم شركات كبرى كثيرة حول العالم اختارت الأزرق كهويّة لها، مثل آي بي إم وإنتل وفورد وبيبسي كولا وغيرها.
دار أزياء بوديكا طوّرت وسيلة جديدة للتعريف بأحد عطوراتها. فبمجرّد رشّ العطر تظهر بقعة زرقاء في المكان. ثم لا تلبث أن تتبخّر سريعا. والرسالة المتضمّنة هي أن البعد الفيزيائي للرائحة لم يعد منطقة مجهولة.
ربط سيكولوجية اللون برمزيّته تحيل إلى بعض الاكتشافات الأخرى. إذ يقال أحيانا أن الذين يرتدون الأزرق الفاتح أفراد عمليون ويتمتّعون بعقلية تحليلية. بينما الذين يرتدون الغامق يتميّزون بالذكاء وروح المسئولية والاعتماد على الذات.
وهناك من يربط الأزرق بالحرّية والقوّة والبدايات الجديدة. السماء الزرقاء رمز للتفاؤل والفرص الأفضل. كما أن الأزرق هو لون الولاء والحماية. وربّما لهذا السبب يدخل هذا اللون في نسيج عدد كبير من أعلام الدول كما انه لون العلم الخاصّ بالأمم المتّحدة.
من الجوانب الجمالية في هذا الكتاب انه يعرض سلسلة من الصور الفوتوغرافية المذهلة لأعمال فنّية مختلفة، بما في ذلك نوافذ الزجاج المعشّق في الكنائس القديمة والتماثيل والايقونات والفنون الأخرى.
لآلاف وربّما لملايين السنين، كانت الألوان الرئيسية للتعبير الفنّي هي الأسود، الأبيض والأحمر. الحكايات الرمزية القديمة مثل "بياض الثلج" و"الثعلب والغراب" تعكس هذا الثالوث الأساسي. الرومان كانوا يعتبرون الأزرق لونا وضيعا، خاصّة بعد أن اكتشفت قبائل الشمال الوثنية أن أوراق نبات النيلج يمكن تحويلها إلى "باستيل" ازرق ومناسب لطلاء الجسم.
الألوان الدينية للكنيسة الكاثوليكية تعود إلى زمن الرومان، وهي الأحمر والأبيض والأسود. وفي وقت لاحق أضيف إلى هذه الألوان اللون الأخضر.
ومع ذلك، وفي مرحلة تالية أصبح الأزرق مرتبطا بمريم أمّ المسيح.
عندما أصبح الأزرق اللون الرائج والمفضّل عند الكثير من الطبقات الاجتماعية في بدايات القرن العشرين، أمر البروتستانت بتحويل كلّ شيء إلى الأسود، رمز الخطيئة والتكفير عن الذنب. وقد تطلّب ذلك أن يحطّموا عدّة آلاف من نوافذ الكنائس المطليّة بالأزرق. هؤلاء الإصلاحيون كانوا مرتبطين بالرأسمالية. وقد حوّلوا كلّ شيء إلى اسود، من التليفونات إلى السيارات وسواها.
وينقل المؤلف عن هنري فورد قوله ذات مرّة انه يمكن للعميل أن يكون له أيّ لون يريده طالما أنه اسود. واستمرّ الأسود معيارا للباس المجتمع الراقي لبعض الوقت.
لكن لم يمض وقت طويل حتى حلّ الأزرق مرّة أخرى محلّ الأسود وأفسحت الملابس السوداء الطريق أمام موجة الأزرق الداكن والجينز.
باستورو لم يغفل في هذا الكتاب الحديث عن ايقونية اللون الأزرق ضمن منظور علم الاجتماع وعلم الأعراق البشرية والجوانب الاقتصادية للنسيج والصباغة، بالإضافة إلى مجموعة كبيرة من المواضيع الأخرى المرتبطة بهذا اللون.
تصميم هذا الكتاب لافت للنظر. فهو أنيق بشكل استثنائي وذو وهج ياقوتي. كما انه مزيّن بمائة لوحة ملوّنة. ولأنه غنيّ بالمعلومات المفيدة وأحيانا الطريفة، فإنه يشكّل إسهاما حقيقيا في التاريخ الاجتماعي للفنّ.
يقول احد النقّاد إن التاريخ يمكن أن يجعلك أعمى أحيانا. لكنّ بعض المؤرّخين، ومنهم ميشيل باستورو، يمكن أن يجعلوك ترى من جديد.
في الحقيقة، قد يكون كتاب باستورو هذا "فرنسيا" أكثر من اللازم. لكن.. من يمكنه أن يتكلّم عن هذا اللون أفضل من رجل فرنسيّ؟!

Credits
theguardian.com

الاثنين، مايو 23، 2011

تأثير موزارت


يقول دون كامبل في كتابه المشهور تأثير موزارت: في لحظات، يمكن للموسيقى أن تسمو بأرواحنا. إنها تصفّي عقولنا وتوقظ في دواخلنا مشاعر الصلاة والعاطفة والحبّ".
ويشرح الكاتب القوّة الشفائية للموسيقى منذ أقدم الأزمنة فيقول: لقد كان الصينيون والهنود والسحرة في الثقافات المحلّية المختلفة يمزجون الموسيقى بالطبّ. وجميع الأديان الكبرى وظّفت قوّة الصوت في الطقوس والصلاة والإنشاد الديني. وهناك اليوم عشرات الأمراض التي بإمكان الموسيقى أن تسهم في شفائها من آلام الظهر إلى الأرق إلى مرض السكّر وغيرها".
لقد بدأ مفهوم الصوت مع الصرخة الأولى. ومع مرور الزمن تطوّرت صرخات وآهات البشر إلى أشكال مختلفة من اللغة. إن التزاوج الساحر بين الإيقاع والنغم، بين الصوت والحركة، هو الذي أدّى إلى ولادة اللغة. ثم تطوّرت اللغة بعد ذلك إلى ما نسمّيه الآن الموسيقى.
إن كلّ شيء في هذه الحياة له عناصر موسيقية وإيقاعية. كما أن الموسيقى تتخلّل جميع طقوس الإنسان من ميلاد وموت وزواج.. إلى آخره".
إن كلّ أشكال الموسيقى لها تأثير علينا. ولكن، وبطريقة ما وبشكل لا يمكن وصفه تقريبا، فإن لدى وولفغانغ اماديوس موزارت وسيلة بسيطة ورائعة للتحدّث إلينا. انه واضح، منظّم وفعّال. كما انه ليس عاطفيا أكثر ممّا ينبغي.
موسيقى موزارت تنفذ إلى أعماق أرواحنا بطرق خفيّة وقويّة. وحتى لو لم يكن موزارت موسيقيّك المفضّل من المنظور الجمالي، فإن موسيقاه توفّر بيئة إيجابية حيث يمكنك أن تتعلّم وأن تسترخي وأن تكتشف أفضل ما لديك. وهذا هو، ببساطة، ما يُسمّى "تأثير موزارت".
خلال القرنين الماضيين، تعلّمت أدمغتنا وأجسادنا طرقا أكثر صحّية للأكل وممارسة الرياضة والاستماع.
وقد وُجد أن الموسيقى العظيمة مهمّة لتغذية العقل والجسد والمشاعر.
ودون وجود مدرّس موسيقى متحمّس، قد تجد من الصعب أن تقترب من موزارت وموسيقاه. وربّما يساورك شكّ بأن بعض الناس مُنحوا جيناً خاصّا يسمح لهم بفهم موزارت. ولحسن الحظ، فإن هذا ليس حقيقيا.
فموسيقى موزارت سهلة الوصول والفهم. وأكثر من هذا، فهي واحدة من الكنوز العظيمة للتراث الفنّي العالمي.
كما أن هذه الموسيقى منحة يمكن لنا أن نتشاركها وأن نستمتع بها وأيضا، وكما هو الحال مع الأعمال الفنّية العظيمة، أن نتعلّم منها.
في اقلّ من ستّ وثلاثين سنة، كتب موزارت أكثر من ستمائة لحن للبيانو والكمان والاوركسترا والجوقة والفرق الصغيرة. كان غزير الإنتاج في جميع الأشكال الموسيقية السائدة في زمانه، من موسيقى الغرفة إلى السيمفونيات إلى الموسيقى الجنائزية وانتهاءً بالأوبرا.


لقد تطوّر موزارت من تلميذ إلى موسيقيّ عبقري على مدى سنوات قليلة جدّا. كانت لديه ميزة مثيرة للاهتمام. فقد تسنّى له سماع والديه وهما يعزفان على البيانو والكمان قبل أشهر من ولادته. لذا لم يكن مستغربا أن هذا الطفل العبقري بدأ وهو في سنّ الرابعة يؤلّف الموسيقى ويعزف لأصدقاء والده في البلاط الملكي في جميع أنحاء أوروبّا.
وقد أشيد بـ أماديوس الصغير على نطاق واسع كأعظم موسيقي على قيد الحياة في ذلك الوقت.
كانت أشكاله وأدواته تمثّل ذروة الجمال والرّقة وقتها. لذا استحقّ أن يُسمى في كثير من الأحيان بالطفل الخالد. وكان وعاءً للعبقرية والبساطة والفرح والحقيقة. كانت موسيقاه واضحة ومفعمة بالأمل والحساسية. وكانت هذه هي عبقريته الحقيقية. ولهذا السبب، لا يلزمك شيفرة لكسرها، وليس هناك ثمّة ميثاق سرّي ينبغي عليك أن تبرمه كي تفيد من موزارت.
يكفي فقط أن تأخذ معك في المنزل أو في السيّارة بعضا من موسيقاه وأن تسمعها لبضعة أيّام. وستكتشف سريعا انه يتحدّث إلى جسدك وعقلك وقلبك وأنه لا يطلب منك سوى أن تصغي إليه.
بعد مائتي عام من ولادة موزارت، درس طبيب فرنسي يُدعى الفريد توماتيس العلاقة بين طريقة تعلّم الأطفال وبيئتهم الصوتية.
واكتشف أن الطفل يسمع حتى قبل أن يولد "أي أن والد موزارت كان على علم بما كان يفعل". وقد أدرك هذا الطبيب أن هذه التجربة السمعية قبل الولادة هي أحد الجوانب الحاسمة في نموّ الطفولة المبكّرة.
كما أظهرت دراسته أن الأشخاص الذين يعانون من صعوبات في التعلّم واضطرابات في النموّ، يمكن أن يجدوا في موسيقى موزارت ما يعينهم على التغلّب على ظروف إعاقتهم.
لكن هذه ليست الشهادة الوحيدة على قوى موزارت النادرة.
ففي أوائل تسعينات القرن الماضي، وكجزء من دراسة بحثية أجراها كلّ من غوردون شو وفرانسيس راوشر من جامعة كاليفورنيا، تبيّن أن الاستماع إلى موزارت يمكن أن يعزّز الذكاء المكاني، وهو عنصر حاسم في عملية قياس مستوى الذكاء عند الإنسان.
السماع المركّز أو ما يطلق عليه الخبراء التتبّع السمعي يمكن أن يغيّر الطريقة التي ننظّم بها أساليب تفكيرنا. والأدوات الجديدة التي تسمح لنا بالنظر إلى داخل الدماغ تُظهر أن الاستماع إلى الموسيقى يؤثّر على إحساسنا بالزمان والمكان وعلى الإدراك العام إجمالا.
وموزارت يتحدّث إلى العقل والجسد بلغة خاصّة.
موسيقى موزارت لا تجعلك عبقريا على الفور أو راضيا عن هذا العالم أو شخصاً خلاقا. لكن موزارت يمكن أن يساعدك على أن تنقل عقلك ومشاعرك نحو آفاق جديدة. "مترجم".

الأحد، مايو 22، 2011

محطّات

أوهام ضائعة


عندما يتقدّم الإنسان في العمر ويحسّ بوطأة الشيخوخة ووهن الجسد، يبدأ في تذكّر الماضي والحنين إلى الأيّام الخوالي عندما كان شابّا يافعا تملأ نفسه الآمال والأحلام العريضة.
والشاعر والفنّان، بما جُبلا عليه من عاطفة جيّاشة ورهافة في الشعور، هما خير من يعبّر عن فداحة الإحساس بمرور الزمن وانصرام سنوات العمر.
على صعيد الرسم بوجه خاصّ، هناك لوحات كثيرة صوّر الفنّان فيها مراحل عبور الإنسان من مرحلة إلى مرحلة ومن طور إلى طور بطريقة رمزية وموحية.
ومن أشهر الرسّامين الذين تناولوا هذه الفكرة في أعمالهم كلود مونيه وادوار مانيه وكاسبار فريدريش ورمبراندت.
في هذه اللوحة المعبّرة بعنوان أوهام ضائعة، يرسم الفنّان الفرنسي شارل غلير حلم يقظة راوده وهو جالس ذات مساء على ضفاف نهر النيل خلال جولة قام بها في بعض حواضر الشرق حوالي منتصف القرن التاسع عشر.
كان غلير وقتها قد جاوز الستّين من عمره. وقد صوّر نفسه في اللوحة على هيئة شاعر عجوز يجلس على ضفّة النهر ويراقب قاربا غامضا يمرّ إلى جواره ويحمل مجموعة من الفتيات وهنّ يغنّينَ ويعزفن على آلاتهنّ الموسيقية.
الفتيات في اللوحة هنّ رمز لأحلام وأوهام الشباب الذي ولّى وانقضى بلمح البصر. والشاعر ينظر إلى القارب بحزن واضح وقد سقطت آلته الموسيقية على الأرض دون أن يشعر، كما يبدو.
المشهد مؤثر ولا شكّ. والغريب أن اللوحة كانت آخر ما رسمه الفنّان. فعندما عاد إلى باريس أغلق محترفه نهائيا مؤثرا حياة الاعتكاف والعزلة.
لكن على النقيض منه، عاش رسّامون آخرون، مثل تيشيان وبيكاسو وغويا وجورجيا اوكيف ومونيه، حتى الثمانين وأحيانا التسعين. وكان هؤلاء يرسمون ويبدعون حتى النهاية. بل إن بعضهم أنتجوا أفضل وأشهر أعمالهم في مراحل متأخّرة من حياتهم.
الشيخوخة ليست دائما مرحلة ضعف وانقطاع عن الحياة وعن العمل، بل يمكن أن تكون مرحلة ولادة جديدة وتجدّد روحي.

❉ ❉ ❉

بوكيريني: رقص بطيء

يعتبر لويجي بوكيريني (1743-1805) واحدا من أعظم عازفي التشيللو في جميع العصور. وإنجازاته كمؤلّف موسيقيّ تضعه تقريبا في مرتبة قريبة من هايدن وموزارت.
ومع ذلك أهمله المؤرّخون، ليس فقط لأنه كان ايطاليّا ويعيش في مدريد التي كانت فيها الموسيقى راكدة إلى حدّ ما في زمانه، وإنما أيضا لأن موسيقاه يطغى عليها الطابع الرومانسيّ ولا تناسب القوالب الكلاسيكية التقليدية.
كان بوكيريني مؤلّفا غزير الإنتاج، وخاصّة لموسيقى الغرفة. ويُعزى إليه الفضل في ابتكار الخماسية الوترية بآلتي كمان وفيولا وآلتي تشيللو.
ومثل هايدن، وخلافا لـ موزارت، كان بوكيريني يتفاعل باستمرار مع المثيرات الخارجية، سواءً كانت أصوات الغيتار الاسباني أو أغاني الطيور التي كان دائما يضمّنها في أعماله.
أشهر أعمال بوكيريني هو مجموعة الخماسيات الوترية التي كتبها عام 1771 بعد أن أصبح موسيقيّا في بلاط لويس شقيق الملك كارلوس الثالث ملك اسبانيا.
وأشهر جزء من هذه الخماسيّات هو المقطوعة الراقصة المعروفة بـ المينيويت Minuet، وهي عبارة عن حوار سلس وباذخ بين الآلات الوترية. هذه القطعة تتميّز بتجانسها وأناقتها وبطابعها الاحتفاليّ وتوازنها الإيقاعيّ. وقد اكتسبت مع مرور الوقت شعبية هائلة وأصبحت ترمز للسنوات الأخيرة من النظام القديم في أوروبّا.
لحن المينيويت لـ بوكيريني من الألحان التي لا تُنسى. وطوال أكثر من قرنين، اجتذب عشّاق الموسيقى من كلّ مكان. وما ضاعف من جاذبيّته هو مرونته وقابليّته للعزف سواءً على الآلات المنفردة كالبيانو والفيولا والكمان والفلوت أو بمصاحبة فرقة اوركسترالية كاملة.

❉ ❉ ❉

استراحة موسيقية


❉ ❉ ❉

غاليري الجميلات


قبل حوالي مائتي عام، كان يُنظر إلى الرسم باعتباره فنّا نخبويّاً. وكانت الارستقراطيات الأوربّية هي التي تحتكر الرسم وترعى الرسّامين لدواعي الوجاهة والتنافس.
احد ملوك بافاريا، واسمه لودفيغ الأوّل، كان يحبّ الرسم ويقدّر الفنّانين كثيرا. وكان رسّامه المفضّل هو كارل شتيلر الذي عيّنه رسّاما للقصر. وشتيلر، بالمناسبة، هو الذي رسم بورتريهين مشهورين لكلّ من بيتهوفن وغوته.
ويبدو أن هذا الملك كان لديه فائض من الوقت يصرفه على هواياته واهتماماته الأخرى. وأحد تلك الاهتمامات كان ولعه الشديد بالنساء، وبالجمال الأنثوي الكلاسيكي على وجه الخصوص. لذا قرّر أن يخصّص صالة في قصره في ميونيخ كي يملأها بصور نسائه المفضّلات.
ولهذه الغاية، اختار كارل شتيلر كي يقوم بمهمّة رسم النساء. كما عهد إلى زوجته الملكة، وكانت سيّدة طيّبة وساذجة على ما يبدو، بأن تساعده في مهمّة اختيار النساء اللاتي تنطبق عليهنّ الشروط ممّن يزرنَ القصر عادة لحضور الحفلات والمناسبات الاجتماعية التي تقام فيه.
وفي النهاية أنجز الرسّام للملك مجموعة خاصّة من اللوحات أطلق عليها غاليري الجميلات . وتضمّ المجموعة ستّاً وثلاثين لوحة تصوّر أجمل نساء أوربّا في ذلك الوقت.
الغريب أن إحدى تلك النساء، وكانت امرأة لعوبا تُدعى اليوم تغيّر حال الرسم كثيرا. أصبح فنّا جماهيريا وغادر صالات وأروقة القصور إلى فضاء الشوارع وجدران المتاحف التي يؤمّها الفقراء والأغنياء على حدّ سواء.

Credits
metmuseum.org