:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الخميس، ديسمبر 27، 2012

حريم السلطان

لست من هواة متابعة المسلسلات أو الأفلام السينمائية، عدا تلك التي تتناول شخصيات تاريخية أو مواضيع علمية. وقد وجدت نفسي، مثل الكثيرين، مشدودا لمتابعة بعض حلقات المسلسل التركي التاريخي المدبلج حريم السلطان ، واكتشفت أن موضوع المسلسل لا يخلو من إثارة وتشويق.
المسلسل التلفزيوني الفخم، الذي يزخر بحكايات الصراع على السلطة ومؤامرات القصر، تجري أحداثه في عهد السلطان سليمان القانوني، أي في القرن السادس عشر، عندما كان العثمانيون يسيطرون على إمبراطورية مترامية الأطراف تتمدّد فوق أراضي ثلاث قارّات.
هذا المسلسل وغيره من منتجات الدراما التركية أصبحت تحظى بمشاهدة واسعة بفضل عرضها بانتظام في محطّات التلفزة عبر بلاد البلقان والشرق الأوسط، وهما الوجهتان الرئيسيتان للطفرة الجديدة التي تشهدها الدراما التركية.
يكفي أن تشاهد حلقة واحدة من حريم السلطان كي تتعرّف على المستوى الرفيع الذي وصلت إليه الدراما التركية. الإخراج البارع، الإيقاع السريع للأحداث، الرشاقة في الانتقال من مشهد لآخر، الصور واللقطات الجميلة التي تنبئ عن إبداع وذوق واضحين، الطريقة المقنعة التي يؤدّي بها الممثّلون أدوارهم، بالإضافة إلى عناصر التشويق والمتعة والإثارة الأخرى التي لا يكاد يخلو منها مشهد.
حتى وقت قريب، كان يُنظر للكثير مما له علاقة بالتاريخ العثماني لتركيا بالكثير من الجدل، تماما مثلما يشعر الأوربّيون بالحرج من مناقشة ماضيهم الاستعماري. لكن من الواضح أن هذه المسلسلات نجحت إلى حدّ كبير في استبدال صورة التركيّ المتوحّش التي كانت شائعة ذات زمن بصورة بلد حديث وواثق وجذّاب ومليء بالإمكانيات والفرص الكثيرة.
ورغم أن مسلسل حريم السلطان هوجم من قبل الكثيرين، بمن فيهم رئيس الوزراء التركيّ رجب طيّب اردوغان، إلا أنه اكتسب شعبية كبيرة، بل وازدادت شعبيّته بسبب الجدل المثار حوله. ويقال إن المسلسل يستقطب جمهورا يصل إلى 150 مليون شخص يتوزّعون على أكثر من 45 بلدا. وهناك من يقارن حريم السلطان بالمسلسل الانجليزي التاريخيّ سلالة تيودور الذي يحكي عن حكم الملك الانجليزي هنري الثامن.
حريم السلطان يتحدّث عن نساء القصر وعن المكائد والحيل التي يدبّرنها ضدّ بعضهنّ البعض. وفي بعض المشاهد يظهر سليمان في شبابه وهو جالس وسط نساء شبه عاريات ويحتسي الخمر. الشخصية المهيمنة في المسلسل هي شخصية السلطان سليمان الذي تذكر كتب التاريخ انه عمل جاهدا، كما لم يفعل غيره من سلاطين آل عثمان، على توسيع نفوذ الحكم العثماني ليشمل مناطق شاسعة من الشرق الأوسط وأوربّا، كما منح حقوقا متساوية للمسيحيين واليهود وشجّع التعليم والفنون والعلوم.
الشخصية المحورية في المسلسل، كما تقدّم، هي شخصية السلطان، ويؤدّي دوره ممثّل تركي بارع إسمه خالد ارجنش . لكن هناك شخصيّات أخرى لا تقلّ أهمية، من بينها شخصية روكسيلانا الماكرة "أو هيام في النسخة العربية"، وهي ابنة كاهن أوكراني أرثوذكسي بيعت للقصر ثمّ تحوّلت إلى محظية وأصبحت ملكة متوّجة على قلب سليمان، وفي ما بعد أمّاً لابنه سليم الذي سيرث عرش الإمبراطورية بعد وفاة أبيه.
المسلسل أثار، وما يزال، عاصفة سياسية في تركيا. فالطريقة التي قدّم بها شخصيّة السلطان لم ترق للمحافظين الأتراك. أردوغان نفسه حثّ على اتخاذ إجراءات قانونية ضدّ المغالطات التاريخية التي يروّج لها المسلسل. وقال: لا يصحّ أن يُقدّم آباؤنا وأجدادنا بهذا الشكل المسيء. إننا لا نعرف سليمان الذي يتحدّث عنه المسلسل. سليمان الذي نعرفه كان فاتحا عظيما ولم يكن بأيّ حال رجلا منهمكا في عالم الحريم كما يصوّره هذا المسلسل. وأضاف: سليمان الذي نعرفه قضى 30 عاما من عمره على ظهور الخيل وليس في قصر. إن هذا المسلسل محاولة لإهانة ماضينا والتعامل مع تاريخنا بازدراء وتصويره في أذهان الأجيال الشابّة بطريقة مسيئة".
أردوغان حذّر أيضا من أن القانون يجيز لرئيس الدولة حظر أيّ برنامج تلفزيوني وفق ما تقتضيه الضرورة. وتمّ إبلاغ الشركة المنتجة أنها يجب أن تتوقّع عقوبات إن هي فشلت في مراعاة حساسيات المجتمع. وقد اظهر صانعو المسلسل بعض المرونة فعلا عندما بادروا إلى تقصير مشاهد القُبل وتخفيف بعض العناصر الأخرى في المسلسل ابتداءً من الحلقة الثانية.
المحافظون الأتراك يرون بأن حريم السلطان يسيء لحاكم مبجّل عُرف باسم القانوني أو المشرّع، تعايشت في عهده أديان وثقافات مختلفة جنبا إلى جنب، وأسهمت براعته العسكرية وإصلاحاته القانونية في وصول العثمانيين إلى ذروة قوّتهم. وبالنسبة إلى هؤلاء وإلى غيرهم ممن يحنّون إلى أيّام الدولة العثمانية، فإن المسلسل يمثّل خيانة للماضي العظيم للبلاد. فبالرغم من كلّ شيء، كان عهد سليمان، الذي دام أربعين عاما، يمثّل ذروة الإمبراطورية العثمانية. وفي عصره فقط بلغت الإمبراطورية أوج توسّعها عندما احتلّت قوّاته بودابست ثمّ فرضت حصارا على فيينا.

المشاهد التي تُظهر سليمان مع النساء أثارت، بشكل خاصّ، نقمة البعض ممّن طالبوا بوقف المسلسل لأنه "غير لائق وغير محترم، والأسوأ من هذا وذاك انه غير صحيح تاريخيّا". وبرغم كلّ هذه الانتقادات، استمرّ المسلسل متصدّرا قائمة البرامج التي تحظى بمشاهدة كبيرة.
الجدير بالذكر أن حريم السلطان هو المسلسل الأغلى في تاريخ الدراما التركية، إذ يُنفق على كلّ حلقة نصف مليون دولار، وتطلّب إخراجه إنشاء استديو خاصّ يشبه تماما قصر توب كابي بطوابق من المرمر الحقيقي ومشغولات خشبية مصنوعة يدوياً. كما حرص أصحاب المسلسل على أن يرتدي الممثّلون ملابس من الحرير وعباءات مخملية من ذلك العصر صنعتها شركات تركية رائدة في مجال تصميم الأزياء.
وعندما بدا بثّ الجزء الأوّل من المسلسل في يناير عام 2011 ألقى المنتقدون البيض على لوحات الإعلان عن المسلسل واحتجّوا خارج مكاتب الشركة المنتجة وقُدّمت عشرات آلاف الشكاوى ضدّ وكالة التلفزيون الحكومي التركي.
من جهتها، تتهمّ المعارضة أردوغان وحزبه بالاستبداد وبمعاداة الفنون. وقد علّق رئيس حزب المعارضة الرئيسي، حزب الشعب الجمهوري، على ملاحظات أردوغان بقوله: لا بدّ وأنّ رئيس الوزراء يشعر بالغيرة من شعبية المسلسل. انه يعتقد انه ما من حاجة لسلطان آخر طالما ظلّ هو في السلطة. أردوغان يريد أن يكون السلطان الأوحد في البلاد وهذه هي المشكلة".
أمّا مخرجو وممثّلو المسلسل فيصرّون على أن حريم السلطان لا ينتقد العثمانيين ولا يسخر منهم، كما انه لا يحمل أيّ رسائل سياسية أو ثقافية، وأنه في نهاية الأمر مجرّد مسلسل تلفزيوني. الممثلة نباهت جهري التي تلعب دور أمّ سليمان في المسلسل تستغرب كلّ هذه الضجّة المثارة حول المسلسل وتقول: اعتقد أن هدف رئيس الوزراء هو تغيير الأولويات. لا أستطيع التفكير في أيّ سبب آخر يدفعه لمناقشة مسلسل تلفزيوني خيالي عندما يكون هناك الكثير من المشاكل التي تعاني منها البلاد".
الشعبية الكاسحة التي يتمتّع بها مسلسل حريم السلطان، بالإضافة إلى النموّ الاقتصادي الذي تشهده البلاد، أسهما في ظهور ما يسمّيه بعض المحلّلين داخل تركيا وخارجها بـ "العثمانية الجديدة"، أي الاهتمام الذي يبديه الجيل الجديد من الشبّان الأتراك بماضي البلاد المجيد. ولا يبدو أن هذا الحنين إلى الماضي يثير انزعاج جيران تركيا أو رعاياها السابقين، وهو ما يدهش حتى أكثر المراقبين تحفّظاً.
الحنين إلى زمن العثمانيين لم يبدأ مع ظهور مسلسل حريم السلطان، فقد سبقه عملان دراميان تاريخيان يحكيان عن نفس الحقبة من تاريخ تركيا: الأوّل مسلسل بعنوان حدث ذات مرّة في الإمبراطورية العثمانية . وقد اشترت حقوق عرضه محطات تلفزيون أجنبية حتى قبل أن يتمّ إنتاجه. والثاني فيلم بعنوان الفاتح 1453 ، ويحكي قصّة فتح اسطنبول وانتزاعها من أيدي البيزنطيين المسيحيين. وقد كسر هذا الفيلم جميع الأرقام القياسية السابقة وأصبح الفيلم التركي الأكثر شعبية والأكثر تكلفة على الإطلاق. الإعلان الترويجي للفيلم على الانترنت تجاوز عدد مشاهديه أكثر من مليون ونصف المليون مشاهد خلال الـ 24 ساعة الأولى التي تلت إطلاقه.
ومع ذلك، توجد في تركيا اليوم انقسامات عميقة. فبينما تنمو البلاد باطّراد وينظر إليها الكثيرون باعتبارها نموذجا لبلدان الشرق الأوسط في التحديث والازدهار الاقتصادي، إلا أن هناك من يتّهم النخبة الحاكمة، رغم كونها منتخبة، بميلها إلى القمع بشكل متزايد من خلال تعاملها غير المتسامح مع المعارضين. أردوغان، الذي انتُخب قبل عشر سنوات، أشرف على فترة من الازدهار لم يسبق لها مثيل في تاريخ تركيا. لكن المخاوف تتنامى حول حكمه الذي يزداد استبدادا. فقد أقدمت حكومته على سجن آلاف الضبّاط ورجال الأعمال والأكاديميين والمعارضين بتهمة التآمر لتدبير انقلاب. وبعض التهم التي وجّهت إلى بعض هؤلاء تبدو مشروعة، لكن تهما أخرى تكتنفها الشكوك. وفي وقت سابق اعتقلت الشرطة التركية ثلاثين صحفيا في حملة فُسّرت على أنها محاولة لترهيب المعارضين.
الأكاديميون الأتراك يعتبرون أن الدراما التاريخية من نوعية مسلسل حريم السلطان تعمل ببراعة على تغيير المعايير الثقافية السائدة في البلاد. وسواءً كان هذا بقصد أم بدون قصد، فإن صنّاع الدراما التركية يخلقون أدوارا جديدة وأبطالا جددا وأنساقا ثقافية مختلفة في منطقة سريعة التغيّر. ونجاح مثل هذه البرامج التلفزيونية شاهد على ثقة تركيا الجديدة بنفسها وهي تتخلّص من ذنوبها الاستعمارية وتنظر إلى الخارج باحثة عن إمكانيات وشراكات جديدة في منطقة يربطها مع شعوبها عوامل كثيرة من الثقافة والتاريخ المشترك.

الخميس، ديسمبر 20، 2012

عن الكتب والقراءة

قراءة كتاب جيّد هو احد الأشياء المفضّلة عند الكثيرين، لأن القراءة تعلّم الإنسان وتُكسبه المزيد من المعارف والخبرات. وبعض الناس يتوقون لأن يقرءوا أكثر وأكثر، لكنهم لا يعرفون كيف.
بداية، لا تقرأ لأنك ينبغي أن تقرأ، بل اقرأ من اجل المتعة. إبحث عن الكتب التي تتحدّث عن قصص وتجارب مثيرة، عن أناس يفتنونك، عن عوالم جديدة ترغب في أن تسافر إليها وتستكشفها. إنسَ الكتب الكلاسيكية، عدا تلك التي تلبّي هذه الشروط.
حاول أن تختار وقتا مناسبا للقراءة. عادة لا يتوفّر لدينا الوقت الكافي لقراءة المزيد من الكتب، ربّما لأننا نعمل كثيرا، ولدينا المزيد من الارتباطات، كما أننا نقضي وقتا أطول ممّا ينبغي في مشاهدة التلفزيون.
إبدأ بعشر دقائق فقط إذا كان من الصعب أن تجد وقتا أطول للقراءة. حتى عشر دقائق تعتبر بداية معقولة. ثم حاول أن تقرأ لعشرين أو ثلاثين دقيقة، ولو كان ثمن ذلك إسقاط بضعة أشخاص من جدولك اليومي.
عندما تبدأ القراءة، ألغِ كافّة الأشياء التي تصرف انتباهك عن الكتاب. إبحث عن مكان هادئ، ولا تفكّر في فعل أشياء أخرى وأنت تقرأ.
القراءة نوع من السحر وهي كفيلة بتغيير كلّ شيء في حياتك. حاول أن تجعل القراءة عادة اجتماعية. إبحث عن أصدقاء يحبّون القراءة أو تعرّف عليهم في الانترنت. هناك عالم كامل من القرّاء في العالم الافتراضي، ويمكنك التحدّث معهم عن الكتب التي تقرؤها وتلك التي يقرءونها.
جرّب نادياً للقراءة. صحيح أن القراءة عمل فردي في الأساس، ولكنّها أيضا عادة اجتماعية.
إجعل القراءة عاملا لكسر روتينك اليومي. واقرأ يوميا وباستمرار حتى لو كانت مدّة القراءة لا تتجاوز الخمس أو العشر دقائق كلّ يوم. وكلّما كنت أكثر انتظاما كلّما تجذّرت لديك عادة القراءة أكثر فأكثر.
لا تجعل من القراءة عملا روتينيا. ولا تدرجها ضمن قائمة الأعمال التي يتوجّب عليك القيام بها. كما لا يجب أن تكون القراءة جزءا من برنامج تحسين الذات الخاصّ بك، بل جزءا من خطّتك لجعل حياتك أكثر إمتاعا وتميّزا.
تخلّ عن أيّ كتاب متى ما وجدته مملاً. أنت تقرأ لأن القراءة متعة. وإذا كان الكتاب غير ممتع، فألقه بعيدا. حاول أن تقرأ فصلا منه على الأقل، ولكن إن أحسست انك ما تزال لا تحبّه، فاتركه.
إكتشف الكتب المدهشة. تحدّث إلى أشخاص آخرين يعشقون الكتب، واقرأ استعراضات الكتب التي تنشرها الصحف ومواقع الانترنت، وحاول اكتشاف محلات بيع الكتب القديمة.
لا تقلق بشأن سرعتك في القراءة. سرعة القراءة هي شيء جيّد بالنسبة للبعض. ولكنّ القراءة البطيئة عملية عظيمة أيضا. عدد الكتب ومعدّل القراءة لا يهمّان أبدا. المسألة ليست منافسة. أنت تقرأ لكي تستمتع بالكتاب. القراءة تشبه الاستمتاع بالطعام أو الشراب الجيّد. لذا خذ وقتك، واقرأ ببطء ودون تعجّل.

معظم الناس اليوم يفضّلون قراءة الروايات. الرواية ما يزال لها سحرها الخاص. وهي، بمعنى ما، آلة زمنية تنقلك إلى عقول أشخاص رائعين وتتيح لك متعة السفر عبر العالم. كما أنها استكشاف مذهل للحبّ والموت والجنس وعالم المجرمين والحكايات الخيالية.
هناك روايات كثيرة ومدهشة يمكن أن تستمتع بقراءتها وتثري بها مكتبتك. وفي ما يلي قائمة ببعض أفضل الروايات العالمية وضعها شخص يعشق القراءة ويمارس الكتابة. هذه القائمة هي لروايات فقط، أي لا مذكّرات ولا قصص قصيرة ولا دواوين شعر. وقد وُضعت بتسلسل عشوائي وليست مرتّبة بحسب أفضليّتها. وبالتأكيد هناك الكثير من الكتب العظيمة التي قد ترى أن القائمة تخلو منها.

  • الحبّ في زمن الكوليرا للكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز: رواية مشوّقة عن حبّ رجل لامرأة أثمر بعد انتظار دام 50 عاما. من خلال نثره الشاعريّ والفخم، يتحدّث ماركيز عن العلاقات الإنسانية وعن الحبّ والزواج والشيخوخة.
  • مهد القطّة للكاتب الأمريكي كيرت فونيغوت: لا يمكن أن تملّ من قراءة مؤلفات هذا الكاتب البارع. ومهد القطّة هي ولا شكّ أفضل كتبه. الرواية هزلية وساخرة، وفكرتها الأساسية تقول إن عالمنا كلّه مقام على الخداع والنظريات الزائفة وأنه برغم الاختراقات العلمية والتكنولوجية الكثيرة ما يزال هذا العالم لغزا وسيظلّ كذلك.
  • الرجل البطيء للكاتب الاسترالي جون كويتسي: هذا الكاتب يُعتبر احد أعظم الكتاب الأحياء اليوم. وبإمكانك أن تختار أيّا من كتبه وتطمئنّ إلى انك اخترت كتابا ممتازا. رواية الرجل البطيء عبارة عن حكاية تدور أحداثها على الحدود الفاصلة ما بين الواقع والخيال ويناقش فيها الكاتب مسائل مثل الحبّ والموت ومعنى الوطن والخير من خلال شخصيات صيغت بعمق وفهم.
  • صورة الفنّان في شبابه للكاتب الايرلندي جيمس جويس: رواية حداثية عظيمة كتبت بلغة راقية. ما يميّز هذه الرواية أيضا براعة الراوي في سرد الأحداث.
  • غاتسبي العظيم للكاتب الأمريكي سكوت فيتزجيرالد: هذا الكاتب شاعري بامتياز. وروايته هذه، الصغيرة نسبيّاً، تتضمّن الكثير من القوّة والجمال. غاتسبي العظيم تتناول قصّة حبّ عن أمريكا تجري أحداثها في عشرينات القرن الماضي.
  • آنا كارينينا للكاتب الروسي ليو تولستوي: واحدة من أعظم الروايات في جميع العصور. كارينينا عبارة عن قصص متشابكة بشكل لا يُصدّق يحكيها راوٍ متجوّل وذو معرفة لا تحدّها حدود.
  • خفّة الكائن التي لا تُحتمل للكاتب التشيكي ميلان كونديرا: رواية كلاسيكية عظيمة تدور أحداثها في تشيكوسلوفاكيا في أواخر ستّينات القرن الماضي. كونديرا يستكشف في روايته هذه عبثية الوجود الإنساني بلغة جميلة ومكثّفة.
  • المتكهّن العصبي للكاتب الأمريكي وليام غيبسون: رواية خيالية رائعة يتخيّل فيها الكاتب عالما تحكمه الشركات الكبرى ومنظمّات الجريمة بدلا من الشعوب. إقرأ هذه الرواية إن كنت من محبّي روايات الخيال العلمي التي تتحدّث عن الكمبيوتر والسايبرسبيس.
  • اسم الوردة للكاتب الايطالي امبيرتو ايكو: رواية فلسفية تدور أحداثها في دير ايطالي في العام 1327م. الدير يضمّ كنزا من نفائس الكتب المخبّأة خلف متاهة من الأسرار والحكايات الغامضة.
  • النوم الكبير للكاتب الأمريكي ريموند تشاندلر: إحدى أفضل روايات الجاسوسية. في هذا الكتاب يأخذ تشاندلر هذا النوع من الكتابة إلى آفاق جديدة. وهناك أجيال من الكتّاب الذين ترسّموا خطاه، لكنّه يظلّ الأفضل، وكتاباته ما تزال وثيقة الصلة بالواقع اليوم.
  • بجعات برّية للكاتبة الصينية يونغ تشانغ: هذه الرواية تتناول أجزاء من التاريخ الحديث للصين من خلال قصّة ثلاثة أجيال من النساء الصينيات. كما تناقش الكاتبة تأثير حكم ماو تسي تونغ على الصين ونضال النساء في ظلّ قيود الثورة الثقافية واستبداد الحزب الشيوعي. بيع من هذه الرواية أكثر من 10 ملايين نسخة وترجمت إلى أكثر من ثلاثين لغة. تشانغ كرّست عشر سنوات من حياتها لكتابة هذه الرواية وكانت شاهد عيان على الجانب المتوحّش واللاإنساني للشيوعية.
  • الفتاة ذات القرط اللؤلؤي للكاتبة الأمريكية تريسي شيفالييه: تجري أحداث الرواية في هولندا في القرن السابع عشر وتتمحور حول لوحة للرسّام الهولندي المشهور فيرمير. نُشرت الرواية عام 2000 وأصبحت أفضل الكتب مبيعا. تُرجمت إلى أكثر من 30 لغة ثم تحوّلت إلى فيلم سينمائي.
  • جنرال الجيش الميّت للكاتب الألباني إسماعيل قادري: تأمّلات عن النتائج الكارثية للحروب. بطل الرواية ضابط ايطالي ترسله بلاده لاستعادة جثث الايطاليين الذين قتلوا على الأرض الألبانية أثناء الحرب العالمية الثانية. الرواية تتذكّر بحزن قتلى الحروب وضحاياها، لكنها أيضا تكشف عن براعة وجمال أسلوب هذا الكاتب الذي يُعتبر اليوم احد أهمّ الروائيين في أوربا والعالم.
  • الأزتيك للكاتب الأمريكي غاري جينينغز: رواية مدهشة من روايات الخيال التاريخي. جينينغز درس موضوع روايته بعناية وبإلمام كبير بالتفاصيل. إذا أعجبتك هذه الرواية فاقرأ روايته الأخرى والتي لا تقلّ إمتاعا بعنوان "الرحّالة" عن أسفار ماركوبولو.
  • إسمي أحمر للكاتب التركي اورهان باموك: رواية مثيرة تجمع بين الغموض والرومانسية والفلسفة وتدور أحداثها في اسطنبول في القرن السادس عشر أثناء حكم السلطان العثماني مراد الثالث. تُرجمت الرواية إلى أكثر من 20 لغة ونالت العديد من الجوائز العالمية.
  • أن تقتل عصفورا بريئا للكاتبة الأمريكية نيللي هاربر لي: قصّة جميلة تجري أحداثها في بلدة جنوبية صغيرة مع شخصيّات لا تنسى. نُشرت الرواية عام 1960 وحقّقت نجاحا كبيرا ونالت عليها الكاتبة جائزة بوليتزر لذلك العام.
  • كافكا على الشاطيء للكاتب الياباني هاروكي موراكامي: هذا الكاتب واسع الخيال جدّا وروايته هذه مختلفة كثيرا عن معظم كتب الخيال العلمي. يمكنك أن تتخيّل حدوث أيّ شيء وأنت تقرأ لـ موراكامي.
  • مولد فينوس للكاتبة البريطانية سارة دونانت: تحكي الرواية عن قصّة حبّ تجري أحداثها في فلورنسا في القرن الخامس عشر. الرواية احتلّت قائمة أفضل الروايات مبيعا في بريطانيا عام 2003م.
  • لا تدعني أذهب أبدا للكاتب الياباني كازو ايشيجورو: من الصعب وصف كتابة ايشيجورو، فهو يتلاعب بأدوات السرد التقليدية ويستغلّ فضول القارئ لاستكشاف ما سيحدث لاحقا. هذه الرواية يمكن تصنيفها ضمن أدب الخيال العلمي لأن أحداثها تجري في المستقبل، مع أنها لا تتضمّن الكثير من الخيال.
  • الإخوة كارامازوف للكاتب الروسي دستويفكسي: رواية كلاسيكية رائعة يستكشف فيها الكاتب دواخل النفس البشرية تحت الظروف الصعبة. دستويفكسي يعالج مسائل وجودية قبل أن تظهر الوجودية.
  • فتاة بفستان أزرق كحلي للكاتبة الأمريكية سوزان فريلاند: رواية تاريخية قويّة تتضمّن 8 حكايات تروي فيها الكاتبة قصّة أستاذ جامعي يدعو احد زملائه إلى بيته ليريه لوحة ضائعة لـ فيرمير بنفس الاسم تصوّر امرأة شابّة تنظر عبر نافذة وترتدي ثوبا ازرق كحلياً. معظم الحكايات في الرواية مجلّلة بالحزن والتوق، وصورة الفتاة تمثّل شيئا ما مفقودا أو لا يمكن بلوغه.
  • حضرة المحترم للكاتب المصري نجيب محفوظ: رواية رائعة تتحدّث عن مساوئ البيروقراطية كما يجسّدها رجل يضحّي بكلّ فرصه في أن يعيش حياة طبيعية وسعيدة ويركّز كلّ اهتمامه على الوظيفة والترقية. مع الأيّام يتحوّل اهتمام الرجل بالسلطة والمكانة الاجتماعية إلى هاجس فينتظر موت رئيسه ليصعد السلّم ويجلس مكانه. وينتهي به الأمر في عالم الغانيات والأشرار ويدرك متأخّرا بأن حياته لم يكن لها معنى أو هدف.
  • الخلق للكاتب الأمريكي غور فيدال: يتتبّع الكاتب في هذه الرواية خطى دبلوماسي فارسيّ متخيّل من الحقبة الإخمينية يُدعى سايروس "أو قوروش" يلتقي الفلاسفة الكبار في ذلك الوقت، من سقراط إلى زارادشت ومن بوذا إلى كونفوشيوس ولاو تسو وغيرهم. .
  • النمر الأبيض للكاتب الهندي ارافيند ادياغا: رواية ساخرة أثارت كثيرا من الجدل بتسليطها الضوء على جوانب مظلمة من تاريخ الهند الحديث. الكاتب يصوّر الهند كمجتمع يهيمن عليه الفساد والتمييز والعبودية. ورغم أن ارافيند فاز بجائزة البوكر على هذه الرواية، إلا أنها أثارت عليه حنق الهنود وسخطهم.
  • بيرسيبوليس للكاتبة الإيرانية مرجانة ساترابي: سرد جميل لحكايات من زمن الثورة الإيرانية. كما تروي الكاتبة قصّة مغادرتها القسرية إلى خارج البلاد بعد الثورة ومن ثمّ عودتها إلى إيران بعد سنوات طويلة في المنفى. ساترابي تتناول في هذا الكتاب تاريخ إيران الحديث بأسلوب مؤثّر وساخر.

  • Credits
    modernlibrary.com
    quora.com

    الأحد، نوفمبر 11، 2012

    الفنّ في زمن الحرب

    كثيرا ما تقترن باريس في الأذهان بكونها مدينة الهدوء والدّعَة والترف، حيث الموسيقيون الذين يعزفون موسيقاهم في الطرقات، وأصوات نغمات الكمان والأكورديون التي تصدح في الليل، وأزهار الربيع التي تنشر شذاها في أجواء أمسيات المدينة الحالمة.
    لكن هذا لم يكن حال باريس في العام 1870م. فقد قرّر الفرنسيّون آنذاك، بزعامة نابليون الثالث، شنّ حرب على بروسيا. ونتيجة لذلك، انفتحت بوّابات الجحيم على مصاريعها في باريس خلال خريف وشتاء ذلك العام. وكما يحدث عادة عندما يشتبك بَلَدان في حرب، فقد فرّ السكان "أو على الأقلّ أولئك الذين لم يتحمّلوا الحرب" محاولين البحث عن ملاذ آمن خارج مناطق القتال.
    ولم تكن توقّعات الإمبراطورية الفرنسية المترهّلة بإحراز نصر سريع وحاسم متطابقة مع إمكانيات آلة الحرب البروسية الضاربة وإصرار البروسيين على إحباط الهجوم الفرنسيّ.
    وبعد هزيمة الفرنسيين في سيدان في سبتمبر من ذلك العام، تدهورت الحياة على نحو خطير في باريس. وقد واجه الفنّانون تحدّي الحرب بوسائل مختلفة. بعضهم هرب إلى لندن أو بروكسيل، كما فعل كلّ من كلود مونيه وأوجين بُودان وشارل دوبينييه . كميل بيسارو، على الرغم من أنه كان يعيش بأمان في انجلترا، إلا أن منزله في باريس احتُلّ من قبل البروسيين الذين حوّلوه إلى مسلخ. كما استخدموا لوحاته الزيتية التي وجدوها هناك كمماسح للأحذية ودمّروا عددا لا يُحصى من لوحاته بهذه الطريقة.
    فنّانون آخرون فضّلوا الانخراط في الخدمة العسكرية، كما فعل كلّ من إدوار مانيه وإدغار ديغا. أوغست رينوار، الذي لم يكن قد اعتلى ظهر حصان في حياته، التحق بسلاح الفرسان، لكن تم ادّخاره للأجيال القادمة بعد أن اكتُشف انه يعاني من الدوزنتاريا. أمّا زميله فريدريك بازيل ، الذي انضمّ هو الآخر إلى سلاح الفرسان، فقد لقي مصرعه في تلك الحرب عن عمر لا يتجاوز التاسعة والعشرين.
    وكان هناك فريق ثالث من الفنّانين ممّن آثروا الاختباء في بقعة ما من جنوب فرنسا، كما فعل سيزان وفان غوخ والروائي اميل زولا الذي اعفي من الخدمة العسكرية لكونه الابن الوحيد لأرملة.
    الرسّام غوستاف كوربيه قرّر هو أيضا البقاء في العاصمة حيث اختير رئيسا للجنة حماية الكنوز الفنّية في البلاد. وقد تمكّن من إنقاذ أعماله بشحنها إلى لندن، وبذا نجت معظم لوحاته من الدمار.
    وقد ازدادت الأمور سوءا عندما وقعت باريس تحت الحصار في أوائل يناير من عام 1871. كانت المدفعية البروسية تمطر المدينة بآلاف القذائف آناء الليل والنهار، واستمرّ ذلك لأكثر من ثلاثة أسابيع. كما أصبحت الإمدادات الغذائية ضعيفة. ثم ظهرت لافتات في الشوارع تعلن عن توفّر لحوم القطط والكلاب وحتى الفئران. والمحظوظون كانوا أولئك الذين يتمكّنون من الحصول على لحم حصان. وقد اشتكى مانيه في إحدى رسائله من أن لحوم الحمير أصبحت غالية جدّا.
    وعندما استسلمت المدينة في نهاية ذلك الشهر، كانت تلك النوعية من اللحوم، التي لا بدّ وأنها كانت تمثّل تحدّيا لفنّاني المطبخ الفرنسي وقتها، قد اختفت تماما.
    الحرب هي دائما شكل من أشكال الجحيم. وإحدى أكثر الحروب كارثية كانت تلك الحرب الصغيرة والمتهوّرة التي شنّها نابليون على بروسيا. ورغم أن الحرب كانت قصيرة، إلا أنها غيّرت بشكل جذريّ وجه التاريخ الأوربّي. فالانتصار السريع والكاسح للولايات الألمانية بقيادة بروسيا في ذلك الصراع سهّل تأسيس إمبراطورية ألمانية وتسبّب في انهيار إمبراطورية نابليون الثالث التي حلّت محلّها الجمهورية الثالثة. كما مثّلت تلك الحرب الخطوة النهائية في طريق صعود ألمانيا لتصبح قوّة عظمى في القارّة الأوربّية. وكجزء من التسوية، ضمّت ألمانيا مقاطعة الالزاس واللورين التي ظلّت تحتفظ بها إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى.
    كانت السنوات التي تلت الهزيمة الفرنسية في الحرب قد تركت البلاد منهكة وتوّاقة للتشافي من جراح الحرب. وكانت الحركة الانطباعية في مراحلها الأولى في ذلك الوقت. لكن الرسّامين الانطباعيين لم يشغلوا أنفسهم برسم مناظر صادمة عن الحرب، بل فضّلوا بدلا من ذلك رسم مشاهد تصوّر أفراد الطبقة الوسطى وهم يستمتعون بأوقات فراغهم في الحدائق وعلى الشواطئ وفي المقاهي والمسارح.
    وباستثناء ديغا ومانيه اللذين كانا يرسمان مشاهد مشحونة بالإيحاءات الجنسية، كانت لوحات الانطباعيين بوجه عام تعكس اهتمامات واحتياجات وتطلّعات الطبقة الوسطى. كان حجم تلك اللوحات صغيرا وكانت مصمّمة لتُعلّق في غرف المعيشة. كانت مزخرفة وغير مؤذية وذات مضمون خال من النزاعات السياسية أو الفضائح الاجتماعية.
    لم يكن الانطباعيون يتعمّدون السخرية أو انتقاد احد. كما لم يحاولوا استنطاق التاريخ بحثا عن أساليب أو موضوعات. ولم يحاولوا مهاجمة مؤسّسة الرسم التقليدية أو التقليل من شأنها. كان همّهم أن يرسموا ما يريدونه وفقا لشروطهم هم.

    الثلاثاء، أكتوبر 23، 2012

    سورويا الدانمركي

    في بدايات القرن العشرين، تزوّجت ماري تريبكي من الرسّام الدانمركي الأكثر شهرة آنذاك بيدير كْروْيَر. وأصبح هذا الثنائيّ أشهر زوجين في الدانمرك. كان المشاهير في ذلك الوقت من ساسة ورجال أعمال ونبلاء وعلماء وكتّاب يتطلّعون لأن يرسمهم كروير وبأيّ ثمن. وكانت البورتريهات التي يرسمها تخلع على أصحابها أهمّية ومكانة.
    ماري التي تظهر في العديد من اللوحات التي رسمها كروير كانت تُعتبر وقتها أجمل امرأة في أوروبّا. وقد حظي الاثنان، مع ابنتهما فيبكي، بأفضل ما يمكن أن توفّره الحياة: الكثير من الأسفار والحفلات والرفاهية.
    ومع ذلك، كان هذا هو ما يظهر على السطح فقط. إذ كانت ماري تعيش حياة أشبه ما تكون بالجحيم. فقد كان كروير يعاني من الهوس والاكتئاب والخرف الناجم عن مرض الزهري الذي يمكن أن يحوّل الإنسان، في لحظات، من كونه إنسانا مبتهجا ومتفائلا إلى وحش شيطاني لا يأبه ولا يكترث بمن حوله.
    كان كروير يعرف ماري قبل ذلك بزمن عندما قدّمها له صديق مشترك. وكانت هي نفسها رسّامة مبتدئة ومن عائلة محترمة. وقد تعرّف إليها بعد وقت قصير من وصوله إلى باريس في احد أيّام ديسمبر من عام 1888 في مقهى يرتاده فنّانو الشمال. وعندما رآها بُهر بشخصيّتها المتميّزة وجمالها الطاغي، ثمّ لم يلبث الاثنان أن تزوّجا في يوليو من العام التالي في منزل عائلة تريبكي في أوغسبورغ بـ ألمانيا، بلد العائلة الأصلي.
    وكان كروير قبل ذلك قد سافر كثيرا في أنحاء عديدة من أوروبّا محاولا تطوير مهاراته في الرسم. وفي باريس، درس في أكاديمية ليون بونا وتأثر بأشهر رموز العصر الانطباعي، مثل سيسلي ورينوار ومانيه وديغا ومونيه.
    غير أنه كان متأثّرا أيضا بالرسّامين الإسبان الكبار، خاصّة يواكين سورويا الذي كان يعرفه شخصيّا. ويمكن ملاحظة هذا بوضوح في مناظره عن الحدائق والشواطئ المتوسّطية التي كان يرسمها خلال أسفاره عبر بلدان البحر المتوسّط.

    عاد كروير إلى الدانمرك عام 1882 وذهب للعيش في كوبنهاغن كما يعيش الأثرياء. وكان له مرسمه الخاصّ وزبائنه الكثر.
    كان من عادته قضاء الصيف في إسْكيين، وهي شبه جزيرة تقع في أقصى شمال الدانمرك. وبسبب ارتفاع المكان وتأثيرات الضوء التي تدوم طويلا، أمكن للفنّان إنتاج لوحات انطباعية ضخمة. وكان يمضي الشتاء في قرية الصيّادين حيث كان يضيف اللمسات الأخيرة على لوحاته الجميلة التي تصوّر شواطئ مهجورة تحت أضواء زرقاء زاهية.
    وفي ذلك الوقت، أصبح كروير احد أعظم ثلاثة رسّامين دانمركيين. والاثنان الآخران كانا ميشيل آنكر وكريستيان كروغ.
    كانت إسْكيين قد بدأت تستقطب أعدادا أخرى من الرسّامين الذين كوّنوا دائرة حول كروير، وأصبح هذا المكان في ما بعد جزءا من الثقافة الدانمركية.
    تأثير سورويا على كروير لا يقتصر فقط على مناظر السيّدات الجميلات اللاتي يرتدين الملابس البيضاء ويمشين على الشواطئ، بل شمل أيضا مناظر الصيّادين والبورتريهات التي كان يرسمها بنفس طريقة سورويا تقريبا. ومن وقت لآخر، كان كروير يعود لرسم ماري الجميلة. كانت في ذلك الوقت حاملا بابنتهما. وكانت ما تزال تمارس الرسم وتعمل على ديكور منزلهما.
    مع مرور الوقت، كان كروير يفقد وزنه. وأصبح يطيل الجلوس على الشاطئ. وعندما كان يعود إلى البيت كان يسلم نفسه لنوبات غضب متكرّرة أسهمت في توتير علاقته بزوجته. وفي احد الأوقات، غادرت ماري البيت ورحلت إلى خارج البلاد. ثم بدأت دائرة أصدقائه تضيق عندما ظهرت عليه أوّل بوادر المرض العقلي.

    كانت قائمة أصدقاء كروير من كبار المثقّفين في ذلك الوقت تشمل الموسيقيّ كارل نيلسن والرسّام مايكل آنكر وزوجته آنّا والرسّام كريستيان كروغ وكاتب قصص الأطفال المشهور هانز كريستيان اندرسن والموسيقيّ هوغو آلفين وغيرهم.
    ابتداءً من عام 1900، ازدادت حالة كروير سوءا عندما شخّص الأطبّاء مرضه على انه الزهري. ولم تكن إصابته بهذا المرض تعني بالضرورة انه لم يكن مخلصا لزوجته، بالنظر إلى أن المرض يمكن أن ينتقل بوسائل أخرى غير الاتصال الجنسيّ.
    وقد تدهورت صحّته بشكل كبير في ما بعد. وكان يمضي معظم الوقت في المستشفيات، بينما استمرّت ماري في ممارسة حياتها كفنّانة وأمّ.
    كانت السنوات الخمس الأولى من القرن العشرين سنوات صعبة لكلا الزوجين. إذ أصبح جنون كروير لا يُحتمل. لكنه رفض أن ينفصل عن ماري على الرغم من إلحاحها المستمرّ عليه بأن يطلّقها.
    وفي عام 1902، سافرت ماري إلى جزيرة صقلّية للاستجمام بصحبة صديق زوجها الملحّن السويدي هوغو آلفين. وعاش الاثنان هناك قصّة حبّ، ثمّ عادا إلى الدانمارك ليعيشا في منزل كروير الذي كان ما يزال يرفض بإصرار تطليقها. غير انه رضخ لمشيئتها أخيرا وطلقها عام 1905 عندما علم أنها أصبحت حاملا بطفل من آلفين.
    بيدير كروير توفّي عام 1909 عن 58 عاما. وكانت آخر خمسة أعوام من حياته عبارة عن عذاب لا يُحتمل. كان المرض قد اثّر على عقله وبصره، وانتهى به الأمر إلى أن أصبح أعمى تماما. وكان إلى جواره في لحظاته الأخيرة كلّ من ابنته فيبكي وممرّضته وصديقاه الوفيّان مايكل آنكر وزوجته.
    بعد سنتين، تزوّجت ماري من آلفين رسميّا في كوبنهاغن. ثم انتقلت للعيش في منزل الزوج في السويد. غير أن زواجها الثاني لم يكن سعيدا هو الآخر. إذ ربطت آلفين علاقة بامرأة أخرى تصغر ماري بعشرين عاما، ما دفعها لطلب الطلاق. وقد توفّيت ماري كروير وحيدة منسيّة في شقّة بـ استوكهولم في احد أيّام شهر مايو من عام 1940.

    الجمعة، أكتوبر 19، 2012

    المثقّف والسياسة

    الفيلسوف والكاتب الرومانيّ المشهور ماركوس شيشيرون يقدّم نموذجا للمثقّف الذي يختار عن طواعية الانخراط في عالم السياسة، حتى وهو يدرك خطورة ما يمكن أن يجلبه عليه ذلك من أحقاد وثارات.
    شيشيرون كان في صغره طفلا عبقريا، إذ كان يتمتّع بذكاء متوقّد وموهبة استثنائية. وكانت هذه الخصال مثار حنق أترابه عليه. كما اظهر منذ نعومة أظفاره ميلا غير عاديّ لطلب المعرفة والتعلّم، على نحو ما تصوّره اللوحة فوق.
    عاش شيشيرون في عصر مليء بالاضطرابات السياسية. وكان أشهر كاتب وخطيب في زمانه. كما كان مدافعا عنيدا عن الحرّيات ومنتقدا بقوّة للتسلّط والاستبداد.
    ومن أقواله التي أصبحت مشهورة: سلام ظالم أفضل من حرب عادلة"، و "المهمّة الأساسية للفلسفة هي تعليم الإنسان كيف يستعدّ للموت".
    وقد قُتل شيشيرون بطريقة بشعة في العام 43 قبل الميلاد على أيدي مجموعة من أتباع خصمه اللدود مارك انطوني عضو المجلس العسكريّ الحاكم في روما في ذلك الوقت وأحد أكثر الذين تعرّضوا لانتقادات شيشيرون العنيفة والقاسية.
    كانت المطاردة بين الرجلين قد وصلت إلى ذروتها. وكان شيشيرون يختبئ في بيته بانتظار أن يأتيه يوما من يقرع عليه الباب. غير انه في نفس الوقت كان يفكّر في طريقة سريعة للهرب عبر البحر. لكن في النهاية تمكّن القتلة من الإمساك به وهو في طريقه إلى الشاطئ. فقاموا بذبحه ووضعوا رأسه وأطرافه في كيس وأرسلوها إلى مارك انطوني وزوجته كبرهان على أن المهمّة أنجزت.
    وعندما وصله الكيس الرهيب، أمر انطوني بأن تُدقّ البقايا بالمسامير وتُعرض في نفس المكان الذي كان شيشيرون يلقي فيه خطبه العنيفة.
    لكنْ كان على زوجة انطوني، فولفيا، قبل ذلك أن تُنزل بالرجل الذي أذلّ زوجها العقاب المناسب. فأخذت الرأس ووضعته في حضنها، ثم فتحت الفم وسحبت اللسان لتغرس فيه دبّوسا استلّته من شعرها.
    العنف الذي مارسته فولفيا ضدّ رأس شيشيرون المقطوع لم يكن شيئا روتينيا في الحياة السياسية الرومانية فحسب، وإنما أيضا تعبيرا عن حالة خاصّة من الحقد الساديّ. فقد كانت هذه المرأة متزوّجة من اثنين من ألدّ أعداء شيشيرون: الثاني كان مارك انطوني، والأوّل كان بوبليوس كلوديوس الذي سبق وأن اجبر شيشيرون على الذهاب إلى المنفى الموقّت والذي اغتيل، هو نفسه، على يد احد أتباع شيشيرون.
    كانت المرأة تتحيّن طوال الوقت الفرصة السانحة للانتقام. والآن جاءتها اللحظة المناسبة. وبتمزيقها لسان شيشيرون بدبّوس شعرها، فإن فولفيا إنّما كانت تهاجم الصفة الأساسية التي كانت تحدّد دور وقوّة هذا الرجل في الحياة السياسية آنذاك. وفي نفس الوقت كانت تحوّل أداة بريئة من أدوات الزينة النسائية، أي دبّوس الشعر، إلى سلاح مدمّر.
    الرعب الهائل الذي طبع جريمة قتل شيشيرون وتشويهه أسهم في تعزيز مكانته الأسطورية في الثقافة والأدب الروماني.
    ومنذ ذلك الوقت، ظلّ المؤرّخون يطرحون هذين السؤالين: هل كان يجب على شيشيرون أن يتوسّل العفو من مارك انطوني كي ينقذ حياته؟ وهل اخطأ الرجل عندما رفض الاتفاق الذي عرضه عليه انطوني بأن يُبقي على حياته مقابل أن يقوم هو بحرق جميع كتاباته وخطبه؟
    النقّاد والمؤرّخون يسجّلون على شيشيرون مؤاخذات كثيرة. لكن معظمهم يمتدحونه لأنه مات ميتة مثالية وشجاعة. فقد سلّم رقبته للقتلة وطلب منهم بهدوء أن يتمّوا مهمّتهم دون إبطاء.
    التاريخ العربي يحفل، هو أيضا، بالكثير من أخبار النهايات المأساوية لكتّاب وشعراء ومفكّرين قُتلوا ونُكّل بهم بسبب مواقفهم السياسية. وأكثر هذه النهايات تطرّفا في وحشيّتها وعنفها هي ما حدث للأديب الكبير ابن المقفّع مترجم كتاب "كليلة ودمنة". عاش ابن المقفّع في زمن الخليفة العبّاسي المنصور الذي اتسم حكمه بالاضطراب السياسي والفتن الكثيرة. وقد اتُهم الرجل بالكفر والزندقة، بينما كانت خطيئته الأساسية انه اغضب المنصور بسبب كتاباته الانتقادية.
    وما زاد من حنق الخليفة والحاشية عليه حقيقة انه كان ينحدر من أصول فارسية، في وقت أصبح تغلغل الفرس في الدولة خطرا داهما يقضّ مضاجع بني العبّاس وينذر بزوال حكمهم. وهنا عهد به الخليفة إلى واليه على البصرة سفيان ابن معاوية الذي كان يضمر حقدا شخصيا لابن المقفّع وينتظر الفرصة للثأر منه. وقد أمر سفيان هذا بأن تُقطّع أعضاء ابن المقفّع عضوا عضوا وهو حيّ وأن تُلقى في تنّور إلى أن احترق تماما ولم يبقَ منه أثر.
    ابن المقفّع واجه، هو أيضا، الموت بشجاعة منقطعة النظير. ويُروى أن سفيان قال له قبل قتله: إني قاتلك قتلة لم يُقتل بها احد قبلك، ولأحرقنّك بنار الدنيا قبل نار الآخرة. فردّ عليه ابن المقفّع: بقتلي تقتل ألف نفس، ولو قُتل ألف مثلك ما وفوا بواحد. ثم أنشد يقول: إذا ما مات مثلي ماتَ شخصُُ، يموتُ بموتهِ خلقُُ كثيرْ. وأنت تموتُ وحدكَ ليس يدري، بموتكََ لا الصغيرُ ولا الكبيرْ".
    وتحقّق ما قاله ابن المقفّع الذي قُتل وهو دون الأربعين. فقد ظلّ اسمه ملء السمع والبصر وعاشت كتاباته وإسهاماته الأدبية العظيمة عبر القرون. أما قاتله فلا يكاد يتذكّر اسمه اليوم أحد.

    الخميس، أكتوبر 18، 2012

    روح معذّبة

    معظم الفنّانين ينوءون تحت عبء الفكرة الشائعة عنهم بأنهم مجانين أو غريبو أطوار. وبعضهم يستمتع بهذه التهمة، وإن سرّاً. والبعض الآخر يرون فيها ترخيصا بسلوك الطريق الأقلّ ارتيادا دون النظر في المرآة الخلفية لمعرفة من الذي يتعقّبهم ولا الاهتمام بمن يحدّق فيهم بفزع.
    وهناك من هؤلاء الفنّانين من يتطلّع إلى العظمة بالذهاب إلى ابعد ممّا هو غريب أو شاذّ. وما يجعل الأمور أسوأ هو انه ليس هناك سوى خيط رفيع جدّا بين كل هذه الفروق، كما أن هناك ميلا من جانب بعض الفنّانين لاجتياز هذه الخطوط دون أن يدركوا ذلك. والمؤلم أن بعضهم في نهاية المطاف يسلك مسارا ينتهي بتدمير الذات الذي لم يستطع فينسنت فان غوخ تجنّبه.
    طوال حياته، كان فينسنت روحا مضطربة. فقد اُسيء فهمه، ولم يكن محبوبا إلا من شقيقه ثيو. كما فشل فشلا ذريعا في جميع جهوده المختلفة لتحقيق النجاح في أيّ شيء. وحتى عندما وجد ضالّته وراحته النفسية في الرسم وخلق الجمال، فإنه لم يجد سوى القليل من التقدير ولم يحقّق أيّ نجاح ماليّ على الإطلاق.
    وقد بحث فان غوخ عن علاقة مهنية وشخصية مع بول غوغان. وانتهت تلك العلاقة عندما هاجم صديقه الوحيد بشفرة حلاقة . بعد ذلك رحل غوغان على عجل من آرل بعد حادثة أذن فينسنت التي رُوّج لها كثيرا في ما بعد.
    وبفضل دعم شقيقه الماليّ، تمكّن فان غوخ من الذهاب طواعية إلى ملجأ سان بول دو موزول بالقرب من سان ريمي. وكانت تلك المصحّة النفسية خيارا جيّدا. كان الملجأ واحدا من أكثر الخلوات إنسانية التي يمكن اختيارها.
    وقد قام على علاجه هناك الدكتور راي الذي كان يتمتّع بشعور إنساني وأشار عليه بالكفّ عن الشراب. وكان هناك أيضا الدكتور تيوفيل بيرون مدير المستشفى، الذي كان متفهّما لحالة فينسنت وشخّص مشكلته على أنها نوبات صرع. وكان تشخيصه دقيقا إلى حدّ كبير.
    فان غوخ سجّل ملاحظة عن سان ريمي قال فيها: لا بدّ وأن تكون معالجة المرضى هنا سهلة، إذ لا شيء يُفعل من أجلهم على الإطلاق". وما فعله الأطبّاء لـ فينسنت كان محاولة إنقاذه من نفسه بالسماح له برسم الأمكنة والناس الذين كان يعرفهم هناك في سلام نسبي، مع وضعه بشكل دائم تحت المراقبة الطبّية.
    وقد تحسّنت حالته لفترة إلى أن عاجلته النوبة للمرّة الثانية. وبعدها بوقت قصير، أي في مايو من عام 1890، غادر المستشفى إلى أوفير حيث وُضع تحت رعاية طبيبه المحبوب الدكتور غاشيه.
    الطريق الذي سلكه فان غوخ من هناك كان قصيرا وشديد الانحدار. إذ توفّي في التاسع والعشرين من يوليو عام 1890، بعد ساعات من إطلاقه النار على نفسه. وحسب شقيقه ثيو، كانت آخر كلماته: ليس لهذا الحزن من آخر". "مترجم".

    الثلاثاء، أكتوبر 09، 2012

    سارجنت وفنّ البورتريه

    حتى لو كنت رسّاما متميّزا ومشهورا في نوعية معيّنة من الرسم وتكسب من وراء ذلك المال الوفير، قد يأتي يوم تشعر فيه بالملل على الرغم من أن شعبيتك كرسّام متخصّص في ذلك النوع تتطلّب منك الاستمرار في العمل.
    هذا هو المأزق الذي وجد جون سينغر سارجنت نفسه فيه بعد وقت قصير من بداية القرن الماضي، عندما كانت الأرامل الأوربّيات الثريّات مع بناتهنّ يتقاطرن على منزله كي يرسمهنّ هذا الفنّان الذي يعتبره الكثيرون الرسّام الأكثر نجاحا في التاريخ.
    لكن سارجنت كان قد بدأ يحتقر البورتريهات التي كان يرسمها ويجني من ورائها مبالغ طائلة من المال. ولم تكن هذه هي الصعوبة الوحيدة التي كانت تواجهه. فبالإضافة إلى حقيقة أنه لم يعد يرى في البورتريه فنّا عظيما، كانت قد بدأت تلوح في الأفق نذر العاصفة الكاسحة والقويّة التي اصطُلح على تسميتها في ما بعد بـ "الفنّ الحديث".
    أسلوب سارجنت وموضوعاته أصبحت تبدو قديمة الطراز مقارنة بأعمال بيكاسو وماتيس، بل وحتى مقارنة برسّام من جيله هو، أي كلود مونيه.
    بعض النقّاد كانوا يلمّحون إلى أن أعماله أصبحت عتيقة الطراز. وقال آخرون إنها تبدو كما لو أنها تنتمي إلى زمن آخر. ووجد سارجنت ملاذا له في الجداريات الضخمة. وعلى الرغم من أنه رسم معظمها في انغلترا، إلا انه يمكن العثور على أعماله الجدارية اليوم في عدد من المباني العامّة في الولايات المتحدة.
    كان سارجنت في الكثير من الأحيان يسافر إلى بوسطن للإشراف على تركيب جدارياته بنفسه. وكانت شهرته كبيرة في هذا المجال. كما كان معروفا باشتراطه إجراء تغييرات في أسلوب المعمار يتناسب مع طبيعة رسوماته.
    سارجنت توفّي فجأة عام 1925 وهو يستعدّ مرّة أخرى لمغادرة لندن إلى أمريكا، للإشراف على تركيب سلسلة من الجداريات في متحف بوسطن للفنون الجميلة. وأضيفت هذه السلسلة إلى 113 من لوحاته، من بينها صورته المشهورة لسيّدة المجتمع الباريسي الأمريكية المولد فيرجيني غوترو. وكانت هذه الصورة الجريئة لامرأة ترتدي ثوبا اسود أنيقا ورباطي كتف منسدلين هي التي دفعت سارجنت لمغادرة باريس نهائيا إلى لندن عام 1884م.
    وقد باع سارجنت اللوحة في النهاية إلى متحف الفنّ الحديث في نيويورك، وأصرّ على أن يكون اسمها مدام إكس. ووُصفت السيّدة بأن لها بشرة من اللافندر أو الخزامى، وقيل إنها كانت تتناول بانتظام كمّيات صغيرة من الزرنيخ لكي تحافظ على ذلك المظهر.
    وقد تردّد أن والدة المرأة قالت للرسّام بعد أن راجت اللوحة وانتشرت على نطاق واسع: لقد أصبحت ابنتي تائهة. الجميع في باريس يسخرون منها. وزوجها عازم على منازلتك في مبارزة". وقيل إن سارجنت ضحك ممّا سمعه وقال عبارة أصبحت أشبه ما تكون بالنكتة: في كلّ مرّة ارسم فيها بورتريها أصنع لنفسي عدوّا واحدا على الأقلّ". "مترجم".

    الاثنين، أكتوبر 08، 2012

    انثروبولوجيا العقل في الإسلام

    تابعت منذ يومين حوارا تلفزيونيا ممتعا مع د. علي مبروك أستاذ الأدب في جامعة القاهرة، تناول خلاله بعض ما تضمّنه كتابه الذي سيصدر قريبا بعنوان "انثروبولوجيا العقل في الإسلام". وقد بدأ المؤلّف حديثه بشرح ما يعنيه بالأصول الانثربولوجية للعقل في الإسلام، فقال إنها الآليات والأدوات التي تفسّر كيف تشكّل العقل في الإسلام وكيف تحكّم في تفكير المجتمعات العربية.
    يقول د. مبروك: لا يوجد شيء اسمه العقل الإسلامي. هناك العقل الذي ساد في الإسلام. العقل الإسلاميّ فكرة تقصر العقل على طريقة واحدة في التفكير، مع انه ليست هناك طريقة بعينها في التفكير فرضها الإسلام على الناس. والذي يقرأ التراث الإسلامي يجد انه كان ساحة لطرائق متعدّدة ومختلفة في التفكير. كانت هناك، مثلا، الأشعرية والمعتزلة، وكلّ منهما كان لها طريقتها المختلفة في التفكير. وما حدث هو أن العقل الأشعري هو الذي تسيّد الساحة بعد أن احتكر لنفسه صفة تمثيل الإسلام، وأصبح كلّ ما عداه عقولا خارجية أو لا إسلامية.
    ويضيف المؤلّف: العقل الإسلاميّ مفهوم أيديولوجي وغير علميّ، رغم انه فكرة مركزية في عمل مفكّر بارز مثل محمد اركون. والمشكلة أن الكثيرين ينظرون إلى العقل على انه منحة أو هبة، بينما هو في واقع الحال بنية تطوّرية وليس معطى جاهزا يأخذه الناس كيفما اتفق. ومن سمات العقل السائد الآن في المجتمعات العربية انه لا يفكّر إلا عندما يكون هناك أصل جاهز. كما انه عقل نقلي وليس نقديّا. وهذه هي بنية العقل الأشعري الذي على الرغم من زخارفه العقلية، إلا أن جوهره كان وما يزال النقل والإتباع. لذا ليس من المستغرب أن تروج من حين لآخر فكرة تقول انك لكي تكون حداثيا، فلا بدّ وأن تعتمد على أصل جاهز.
    ثم يتطرّق الدكتور مبروك إلى فكرة البداوة التي يعتبرها احد أهمّ مصادر العقل في المجتمعات العربية فيقول: من خصائص ثقافة البداوة أنها شفوية، أي أنها تعتمد على الرواية والتلقين والحفظ. كما أن مفهوم الأصل، أي مسائل الأنساب والأصول، هي تركيبة جوهرية في فكر البداوة. ويذكّر الكاتب برأي ابن خلدون الذي يذهب إلى أن تاريخ العرب يتمحور حول فكرة البداوة التي تحكّمت في الثقافة المعرفية العربية، وأن الإسلام لم يستطع قهر البداوة رغم انه جاء من اجل إنهاء ثقافتها.
    ثم يؤكّد المؤلّف على أن موقف الإسلام من البداوة موقف نقديّ، بدليل أن مصطلح "الآباء" ورد في القرآن الكريم أكثر من عشرين مرّة مقرونا بحمولة نقدية وفي سياق القدح والذمّ دائما. "قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمّة وإنا على آثارهم مهتدون". "قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون". "قال أوَلو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنّا بما أرسلتم به كافرون". "قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أوَلو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون".
    ويضيف الكاتب أن الإسلام أراد منذ البداية استبدال ثقافة الحفظ والشفاهية بثقافة مختلفة تعتمد على الكتابية والعقل والتفكّر. وليس من قبيل الصدفة أن القرآن يسمّي نفسه الكتاب أو أمّ الكتاب. لقد كانت هناك دائما إرادة لنقل البداوة والعرب إلى حالة أرقى، مع ما يتطلّبه ذلك من إدانة للأبوية. لكن البداوة كانت تنتصر دائما. وتمّ اختزال الدين في العبادات اليومية وفي تحجيب النساء. وتحوّل الموروث الديني إلى أداة للقمع والسيطرة والاستبداد السياسيّ. ولن يتغيّر الحال ما لم ننظر إلى هذا الموروث بطريقة مختلفة. وعندها فقط يمكن للإنسان أن يتحرّر وأن يرتقي.
    وفي جانب آخر من حديثه تناول الدكتور مبروك صعود الإسلاميين إلى السلطة فقال: أمام الإسلاميين اليوم تحدّيات وأسئلة كبرى. والخوف هو أن يظلّوا أسرى للخطاب القديم الذي ينبغي تجاوزه والذي ظلّ يعوّل على إحداث تغييرات إجرائية في الواقع. وأضاف: يتوجّب على الإسلاميين أن يدركوا مغزى اللحظة الراهنة، وهو أن الخطاب القديم كلّه سقط ولا إمكانية لاستمراره. كما يتعيّن عليهم الكفّ عن استخدام مصطلحات مثل الدولة الدينية والدولة المدنية والشريعة كسلاح أيديولوجي يشهرونه بوجه خصومهم السياسيين لإقصائهم ونفيهم.
    وختم د. مبروك حديثه بالقول إن لدينا معضلة في الإسلام، وهي أن السياسة سادت على كلّ شيء. إنّنا يجب أن نرتقي بالتعامل مع الواقع من الخلاف السياسي إلى الخلاف المعرفيّ. وهذا بحاجة إلى مناخات جديدة وأن يكون هذا جزءا من التفكير العام. إن إعادة التفكير في نوع علاقتنا مع هذه الأصول لا يهدف إلى هدمها أو نقضها، وإنما إلى تأسيس علاقة جديدة مع العقل والدين".

    الأربعاء، أكتوبر 03، 2012

    ذات الخِمار

    بعد سنوات طويلة من النسيان، تحاول السويد بعث الاهتمام بواحد من أشهر رسّاميها الذي عاش قبل أكثر من مائتي عام.
    كان الكسندر روزلين رسّام الطبقة الأرستقراطية الأوروبّية في منتصف القرن الثامن عشر. وكان عمله مطلوبا من قبل أشهر العائلات الملكية في أوربّا. وما يزال هذا الرسّام شاهدا غير عادي على مجتمع كان فيه الارستقراطيون على علاقة حميمة بالفنّانين والمثقفين.
    تعلّم روزلين الرسم على يد مواطنه الرسّام جورج إنغلهارد شرودر. لكن بمجرّد أن شعر أنه لم يعد قادرا على تعلّم المزيد من أستاذه، وضع عينه على أوروبّا، وبالتحديد على باريس. وبعد بضع سنوات قضاها في إيطاليا، وصل إلى باريس التي التحق بأكاديمية الفنون فيها.
    عندما وصل روزلين إلى فرنسا عام 1752، عقد صداقة مع فرانسوا بوشيه الذي كان آنذاك أستاذا في أكاديمية الرسم الملكي. وقد أدّت تلك العلاقة إلى فتح الكثير من الأبواب أمامه، وحقّق نجاحا كبيرا في أوساط الفنّ الفرنسي. وعند وفاته عام 1793، كان أغنى فنّان في فرنسا.
    أسلوب الكسندر روزلين في الرسم كان مذهلا. وعمله يثبت قدرته على تصوير العوالم الداخلية للشخصيات التي كان يرسمها، كما يظهر من بورتريهاته التي تتميّز بنغماتها الواضحة والجديدة وبتأثّره بأسلوب الروكوكو.
    ومن أشهر أعماله، التي تربو على المائة، البورتريه المسمّى ذات الخِمار والذي اعتبره الناقد والفيلسوف دونيه ديدرو أفضل لوحة عرضها صالون باريس عام 1769م. المرأة ذات الابتسامة الغامضة في اللوحة لم تكن شخصية ملوكية ولا هي كانت عضوا في المجتمع الراقي أو الارستقراطي، بل كانت زوجة روزلين نفسه ماري سوزان غيروست.
    تصوير روزلين الواقعي والرائع لزوجته مغرٍ ومستفزّ. كما انه يثير الإحساس بالغموض والأنوثة والإغواء، ويذكّر بعلاقة الحبّ الملتزم التي كانت تربط الفنّان بزوجته الجميلة.
    لوحات روزلين، بشكل عام، تركّز على الثقافة المصطنعة والنخبوية للقرن الثامن عشر، بما كانت تتسم به من ميل إلى حياة البذخ والاستهلاك. كانت النخبة الأوروبية في ذلك الوقت ترغب في أن تنأى بنفسها عن بقيّة المجتمع. وكان أفرادها مهجوسين بالمثل الجمالية العالية وبتمثيل الأدوار واستهلاك السلع الكمالية.
    وقد استخدم روزلين مهاراته الفنّية في رسم نمط الحياة الباذخة لرعاته وزبائنه ولم يتردّد في الامتثال لرغباتهم. وبفضل موهبته الفنّية وشبكة اتصالاته وصداقاته الواسعة، استطاع الرسّام وبطريقة منهجية أن يتقدّم إلى الأمام وأن يطوّر فنّه.
    هناك سمة مميّزة في أعمال روزلين تتمثّل في قدرته على الاستنساخ، الفوتوغرافي تقريبا، للملابس والاكسسوارات والملامح الناعمة لشخصيّاته. كما أن الملابس وطبيعة الأماكن في اللوحات هي دليل لا يخطئ على مكانة ومهنة الأشخاص المرسومين.

    الثلاثاء، أكتوبر 02، 2012

    المحظيّة والسلطان

    بعض اللوحات لا يكفي أن تنظر إليها مرّة واحدة كي تفهمها، بل لا بدّ من معاودة النظر إليها أكثر من مرّة والتمعّن في تفاصيلها الصغيرة لتعرف ما الذي أراد الرسّام أن يقوله.
    هذه اللوحة للرسّام البولندي فرانشيشيك زيموركو يصوّر فيها جسدا عاريا لامرأة مستلقية ووجهها محجوب عن الناظر. الأقمشة وقطع الأثاث في الغرفة متناثرة هنا وهناك وفي حال من الفوضى.
    ولأوّل وهلة، لن تكتشف المعنى الكامن في الصورة. لكن بعد أن تدقّق في تفاصيلها قليلا ستدرك أن ما تراه هو عبارة عن مسرح لجريمة قتل مفترضة وأن المرأة فيها قُتلت بناءً على تعليمات سيّدها السلطان.
    الجمال الايروتيكي للصورة يحجب عن الناظر علامات العنف التي بالكاد يمكن رؤيتها. غير أن هناك سكّينا تقطر دما وآثار دماء على عنق المرأة وعلى إحدى الوسائد.
    لوحة زيموركو هي نموذج للفانتازيا المرتبطة بعصر الحريم والتي تنعكس في تصاوير العديد من الرسّامين الأكاديميين الأوربيّين. غير أننا نعرف اليوم أن معظم هذه المناظر كانت ثمرة خيال جامح، لأن أيّا من أولئك الرسّامين لم يستطع اختراق هذا العالم المليء بالأسرار والغموض.
    جاذبية المواضيع الشرقية في الرسم الأوربّي في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين مثّلت بداية نوع جديد من الرسم عُرف بالرسم الأكاديمي. ومن يومها أصبح الاستشراق في الرسم ظاهرة، وبات جزءا من اتجاه أكثر شمولا في الثقافة الأوروبية رأينا آثاره في العديد من المجالات مثل المعمار والموسيقى والعلوم والأدب.
    اهتمام الفنّانين والعلماء الأوروبيّين بالشرق، والذي بلغ أوجه في العصر الرومانسي، ترافق مع جملة من الأحداث السياسية المهمّة، مثل حرب نابليون في مصر، واحتلال فرنسا للجزائر، ونضال اليونانيين من أجل الاستقلال. وأثناء تلك الأحداث، لعب العديد من الرسّامين الأدوار التي يضطلع بها هذه الأيّام المؤرّخون والصحفيون.
    البعثات العلمية الأوربّية - ومعظمها كانت فرنسية وألمانية - أسهمت، هي الأخرى، في معرفة المزيد عن بلاد الشرق. وكان على الفنّانين أن يرسموا الأحداث السياسية والتاريخية التي كانت تجري أمام أعينهم. وقد نقلوا في صورهم الموتيفات الدينية والحريم والأسواق والمناظر الطبيعية والمعالم المعمارية. وكان هذا مصدر إلهام لظهور الأدب الخيالي الاستشراقي، بما في ذلك حكايات ألف ليلة وليلة.
    الرومانسيون البولنديون لم يكونوا بعيدين عن ما يجري آنذاك. ومن أشهر هؤلاء المسرحي آدم ميتسكيفيتس ، والشاعر يوليوش سويفتسكي الذي ألّف من وحي رحلته المشرقية كتابا مصوّرا بعنوان "الرحلة إلى الشرق".
    ولأن الرسّامين الاستشراقيين كانوا يركّزون، بشكل خاصّ، على تصوير مظاهر الثروة والأبّهة والطبيعة الحسّية للمناظر الاكزوتية أو الغرائبية، فقد ركّز زيموركو أيضا، وبقدر كبير من العناية، على الإمساك بنسيج الأقمشة النفيسة والأثاث وبريق المجوهرات الذهبية. ويبدو جسد المرأة متوهّجا ومرمري الطابع، مع نغمات لونية رائعة تتناغم مع الأشياء المحيطة المزخرفة بألوان ذهبية دافئة. والشكل المتطوّر للوحة لا يروق للعين فحسب، وإنما يخلق أيضا وهما باللمس.
    هذا المزيج الغريب من الفتنة والعنف والثراء والشبق الذي كان يطبع اللوحات الاستشراقية فتن الأوربّيين وسكن مخيّلتهم زمنا طويلا. وقد أسهمت هذه اللوحات في إماطة أجواء الملل والرتابة التي كانت تتسم بها الصالونات البرجوازية في أوربّا في ذلك الحين. لكن الكثيرين يرون أن من الخطأ اعتبار الرسم الاستشراقي علامة على رغبة الأوربّيين في اكتساب مزيد من المعرفة عن أماكن بعيدة وغريبة، بل كانت وظيفته الأساسية إسقاط رغبات وتهويمات الإنسان الأوربّي على صورة الآخر.

    الأحد، سبتمبر 30، 2012

    عن الصحّة والمرض

    ذهبت إلى المستشفى وفي ذهني عبارة منسوبة إلى الأديب الروسيّ انطون تشيكوف، الذي كان طبيبا أيضا، يقول فيها: لا فرق كبيرا بين الأطبّاء والمحامين. الفارق الوحيد هو أن المحامين يسرقونك، بينما الأطبّاء يسرقونك ويقتلونك"!
    وعندما دخلت على الطبيب، تمعّن قليلا في نتائج الفحوصات والتحاليل التي أمامه ثم قال: لقد تأخّرت كثيرا. هذا النزيف يثير الانزعاج فعلا. وأقدّر انك بحاجة إلى عمليّتين: الأولى لا بدّ من إجرائها دون إبطاء. ثمّ بعد شهرين على الأقلّ سنشرع في التفكير في الجراحة الثانية".
    خلال السنوات العشر الأخيرة، وباستثناء مراجعتي المنتظمة لطبيب الأسنان، لا أتذكّر أنني زرت مستشفى أو رأيت طبيبا. ولطالما آمنت بأن الأطبّاء، أو معظمهم على الأصح، لا يحلّون مشاكل المرضى، وإنّما يضيفون إليها مشاكل جديدة.
    كما أنني ممّن يؤمنون بأن الزمن أفضل معالج، وبأن كلّ إنسان هو، بمعنى ما، طبيب نفسه، وأنك كلما فكّرت اقلّ بصحّتك كلّما كان ذلك أفضل، لأن الانشغال أكثر مما ينبغي بأمور الصحّة والمرض قد يتطوّر إلى نوع من الهاجس أو الوسواس الذي يحرم الإنسان من الاستمتاع بمباهج الحياة.
    قلت للطبيب: إذن أنت تقترح إجراء العملية الأولى الآن. وأنا موافق. لكن عليّ قبل ذلك أن انهي بعض الالتزامات على أن أعود إليك بعد أسبوع من اليوم. فقال مقاطعا: لا، الأمر لا يحتمل المزيد من التأخير. ولو كان الأمر بيدي لأمرت بتنويمك من هذه الساعة على أن اجري لك العملية غدا صباحا. والقرار في النهاية متروك لك. قلت: سآتيك بعد غد، أي بعد أن ابلغ عملي وأهيّئ نفسي للأمر. قال وهو يبتسم في محاولة لطمأنتي: لا تقلق، بعد الجراحة سيكون كلّ شيء على ما يرام، فاعقلها وتوكّل".
    خرجت من العيادة وأنا اشعر بالارتياح، وبشيء من الخجل مبعثه أن انطباعاتي السابقة عن الأطبّاء لم تكن في محلّها بعد ما لمسته من إنسانية هذا الطبيب ولطفه. والحقيقة أنني لم اذهب إليه هو بالذات إلا بعد أن سمعت الكثيرين يثنون عليه ويمتدحون كفاءته.
    عدت إلى المستشفى في الموعد المتّفق عليه. وأدخلت فجراً غرفة بسرير مفرد، وجاءت الممرّضة ومساعد الطبيب ومسئول التغذية لمعاينتي والسؤال عن بعض الأمور. وقيل لي: قرّر الدكتور أن تكون الأوّل في قائمة من سيجري لهم عمليات هذا اليوم. وموعد العملية سيكون الساعة التاسعة هذا الصباح.
    بعد التاسعة بدقائق جاء ممرّض وممرّضة ليعلماني أنهما سيأخذاني إلى غرفة العمليات. وتذكّرت أن هذه هي أوّل مرّة اجري فيها عملية في حياتي تحت التخدير الكلّي. ولم أكن اشعر بأيّ انزعاج أو توتّر. كنت مرتاحا وهادئا ومستعدّا لخوض هذه التجربة الجديدة بالنسبة إليّ.
    نزلنا إلى الدور السفلي وانتقلنا من ممرّ لآخر، وتخلّل ذلك بضع دقائق من الانتظار. وعندما وصلت إلى غرفة العمليات سمعت أصوات أشخاص يمازحون بعضهم ويضحكون وقرقعة أجهزة وآلات تُطوى ثم تُفتح. وبدّد هذا الجوّ ما كان علق بذهني من قبل من أن غرف العمليات تشبه في صمتها وبرودتها أجواء المقابر. ووسط ذلك الضجيج لمحت شخصا ضئيلا يضع على وجهه قناعا اخضر ويجلس في طرف الغرفة البعيد. وعندما مررت بالقرب منه قال لي بصوت خفيض: أهلا يا "..."، صباح الخير، أنا الدكتور "..."، هل أنت جاهز للعملية"؟ لوّحت بيدي ناحيته وقلت: صباح الخير يا دكتور، نعم أنا جاهز".
    ولا أتذكّر شيئا ممّا حصل بعد ذلك. ولم أفق إلا على صوت الممرّض وهو يقول: انتهت العملية، ستعود الآن إلى غرفتك". في الغرفة كان هناك بعض الأشخاص الذين يروحون ويجيئون كالظلال. ونظرت إلى التلفزيون فبدت لي الصورة مشوّشة وغائمة من تأثير البنج. ونمت ساعتين تقريبا، وعندما صحوت كان كلّ شيء على ما يرام باستثناء بعض الألم الناتج عن جرح العملية.
    بعد هذه التجربة لم تتغيّر الكثير من قناعاتي السابقة. صحيح أنّنا لا نعرف نعمة العافية إلا بعد أن نجرّب المرض، لكن إن كان المرض من النوع الخفيف الذي يجيء ويذهب فالأجدى في هذه الحالة ألا تتعب نفسك بمراجعة الأطبّاء. كما أن الشفاء لا يكمن في الأدوية بالضرورة، بل في تنظيم الحياة واختيار الغذاء السليم والمناسب.
    وأختم بكلام قرأته لبعض الحكماء القدامى: أفضل الأطبّاء أشعّة الشمس والماء والراحة والهواء النظيف والتمارين والغذاء السليم. وأفضل وصفة للحفاظ على حياة متوازنة وخالية من العلل والمتاعب هي أن تداوم على الذهاب إلى البحر أو الصحراء عند الفجر وتأمّل الأزهار وقت شروق الشمس والمشي حافي القدمين على العشب. وإذا اضطرّتك الظروف للذهاب إلى طبيب، فحذارِ أن تذهب إلى طبيب توجد في مكتبه أشجار ميّتة!

    الخميس، سبتمبر 13، 2012

    رمبراندت: الفيلسوف المتأمّل

    منذ فجر التاريخ، ظهر العديد من الأفراد الذين أتعبوا عقولهم في التفكير في أسباب الأشياء ومعنى الحياة وماهيّة الخلق والموت والقدَر وغير ذلك من الأسئلة الملغزة والمحيّرة. بعض هؤلاء كرّسوا حياتهم كلّها لدراسة هذه المسائل، وكانت تلك مهمّتهم الوحيدة. ومن بين هؤلاء اليونانيّون القدماء الذين كانوا أمّة مفكّرة أنجبت العديد ممّن كانوا يُدعون بالفلاسفة، أي محبّي الحكمة. وقد انتقل هذا المصطلح من جيل إلى جيل إلى أن وصل إلى عصرنا.
    ومع توالي القرون، وجد الفلاسفة مواضيع أكثر وأكثر ممّا يصلح للدراسة والتفكير. بعضهم درسوا حركات النجوم وحاولوا اكتشاف ما إذا كان لها تأثير على حياة الإنسان. وظهر آخرون قاموا بفحص مختلف الموادّ التي تتألّف منها الأرض وجمعوها معا لخلق أشياء جديدة.
    وفي القرن السابع عشر، أي العصر الذي عاش فيه الرسّام الهولندي رمبراندت، كانت هناك ضجّة كبيرة أثارتها الأفكار الفلكية الجديدة التي أتى بها غاليليو في إيطاليا والاكتشافات الجديدة في مجال الكيمياء التي كان فان هيلمونت البلجيكي احد روّادها.
    كان رمبراندت معروفا بافتتنانه برسم لوحات تُظهر شخصيات غارقة في التفكير والتأمّل. وتلك كانت سمة من سمات فنّه. وهي تعكس انشغاله الطويل بالتجارب البصرية والانفعالية.
    وإحدى لوحاته المشهورة من هذا النوع هي لوحته المسمّاة "فيلسوف في حالة تأمّل" الموجودة اليوم في متحف اللوفر. وقد رسمها في العام 1632، أي بعد وقت قصير من انتقاله من ليدن إلى أمستردام. وظهرت اللوحة في باريس في منتصف القرن الثامن عشر، واقتناها عدد من الشخصيّات الأرستقراطية، إلى أن ضُمّت أخيرا إلى المجموعة الملكيّة في قصر اللوفر.
    موضوع اللوحة وتوليفها المعقّد وأسلوب الرسّام في التعامل المتدرّج بنعومة بين الصفاء والعتمة، كانت كلّها محلّ تقدير واسع في فرنسا. كما جاء ذكر اللوحة في كتابات العديد من الشخصيّات الأدبية في القرنين التاسع عشر والعشرين، مثل جورج صاند وثيوفيل غوتييه وجول ميشيل ومارسيل بروست وبول فاليري وغاستون باشلار وبول كلوديل وألدوس هكسلي وغيرهم.
    ويمكن قياس شعبية اللوحة من خلال حضورها الواسع على شبكة الانترنت، حيث تُستخدم غالبا كشعار للفلسفة أو كتفسير للظواهر الباطنية والغامضة.
    وفي حين أن العنوان التقليدي للوحة، أي "فيلسوف في حالة تأمل"، مسئول إلى حدّ كبير عن شعبيّة اللوحة، فإنها لا تُظهر أيّا من السمات اللافتة للفلسفة، أي الكتب والأدوات العلمية وما إلى ذلك. كما أن وجود شخص آخر في اللوحة مشارك في المهامّ المنزلية لا يتلاءم مع العزلة المرتبطة عادة بأجواء الدراسة والتأمّل.
    وعلى الرغم من أن هناك كتابا كبيرا وريشة من بين الأشياء القليلة الموضوعة على الطاولة أمام الشخصية الرئيسية، إلا أن هذه الأشياء صُوّرت بطريقة موجزة ويستحيل تحديدها بطريقة أكثر دقّة.
    الأشياء المرسومة في اللوحة تشير إلى بيئة محليّة. ولكن المعمار يتحدّث عن التاريخ أكثر من أيّ شيء آخر. مؤرّخ الفنّ الفرنسي جان ماري كلارك يشير إلى أن المنظر مستمدّ من توبيا أو توبياس، وهو واحد من مصادر رمبراندت المفضّلة من كتاب العهد القديم.


    ولا يبدو مرجّحا أن رمبراندت كان في عقله أيّ فيلسوف عندما رسم هذه اللوحة. ومن الواضح أن فيلسوفه يبدو مهتمّا بالتفكير أكثر من القراءة، لأنه يجلس ويداه مضمومتان إلى حضنه ورأسه غارق على صدره. عيناه تحدّقان بعيدا عن الكتاب المفتوح الموضوع على الطاولة، وكأنه يغلقهما عن العالم الخارجي ويفتح كيانه كلّه على النور الداخلي. وهو يرتدي ملابس فضفاضة، ورأسه الأصلع محميّ بغطاء صغير. ومكانه الذي يجلس فيه يعتبر مكانا مثاليّا لفيلسوف في حالة تأمّل.
    جدران الغرفة، حيث يجلس، سميكة جدّا بحيث تسدّ كلّ الضجيج المربك للعالم الخارجي. وهناك نافذة واحدة إلى يمينه تسمح بتسرّب قدر من الضوء بما يكفي للقراءة. إنها غرفة عارية صغيرة مع جدران غير منتظمة وأرضية مرصوفة بالحجارة.
    الفيلسوف يجلس هنا في سكون. احتياجاته بسيطة ولا مكان فيها للترف والأشياء الكمالية. انه لا يطلب شيئا أكثر من الهدوء الذي يعينه على متابعة أفكاره وتأمّلاته.
    وفي حين أن أفكاره هي عن الأشياء السامية والحقائق الأبدية، إلا أن هناك امرأة مسنّة مشغولة بمعالجة النار في زاوية الغرفة. ومن الواضح أنها تهتمّ بالأشياء المادّية والزمنية للحياة. وهي تبدو منكبّة على الموقد وتضع غلاية على النار. الضوء ينعكس على وجهها ويومض هنا وهناك على الأواني المعلّقة بالمدخنة إلى أعلى. جهد المرأة ومثابرتها يحملان وعدا بما سيأتي. فعندما يفرغ الفيلسوف من تأمّلاته، سيكون على موعد مع عشاء ساخن وشهيّ، على ما يبدو.
    هناك شيئان غامضان في الغرفة ومثيران للفضول. في الحائط، خلف كرسيّ الفيلسوف، هناك باب منخفض ومقوّس. ترى هل يؤدّي الباب، مثلا، إلى كهف ما تحت الأرض؟ هل هناك سرّ ما وراء هذا الباب؟ مختبر مثلا؟ هل الفيلسوف يبحث في أسرار الكيمياء ويحاول العثور على "حجر الفلاسفة"؟ هل يكمن وراء هذا الباب كنز مخبّأ وثمين وصعب المنال، مثل الحقائق الخفيّة التي يتوق الفيلسوف لاكتشافها؟
    في الجانب الأيمن من الغرفة، ثمّة درج عريض ومتعرّج يرتفع إلى فوق ويختفي في الظلمة الكئيبة إلى أعلى. السلّم الحلزوني قد يكون رمزا للطبيعة التصاعدية للتفكير التأمّلي. نتابع ذلك الدرج بعيوننا المتسائلة إذ تحاول اختراق الظلام ورؤية إلامَ يؤدّي. ربّما هناك غرفة علوية مع نوافذ مفتوحة على السماء، حيث يدرس الفيلسوف النجوم. ويُحتمل أن السلالم المتعرّجة تقود إلى مرصد أو برج صغير من النوع الذي يستخدمه عالم فلكيّ.
    الفيلسوف في اللوحة رجل عجوز برأس أشيب. ووجهه مكسوّ بخطوط وتجاعيد، ربّما من كثرة التفكير. وحتى لو حُلّت جميع مشاكله، فإنه ما يزال يجد متعة كبيرة في التفكير الذي قد يجلب له في النهاية السلام والطمأنينة.
    النهار يقترب من نهايته. والضوء المتراجع يسقط من خلال النافذة ويضيء وجه الرجل الجليل. هذا المكان هو في الواقع مسكن مثاليّ يليق بفيلسوف يخترق بأفكاره حجب الغيب وأسرار المجهول.
    استدارة الدرج وسط الظلال، والضوء الذهبيّ المتدفّق من النافذة إلى حيث يجلس الفيلسوف في عزلة وتأمّل، يوحيان بالشعلة المتوهّجة من التأمّل الداخلي. الدرج نفسه يختفي في الأعلى حيث الظلام والعتمة. ومهمّة الفيلسوف هي أن يصعد إلى أعلى ويحضر الضوء الذي يبدّد الظلام.
    موضوع رمبراندت الخالد عن الفيلسوف المتأمّل هو مساحة داخلية، من الناحيتين الجسدية والعقلية. ومن خلاله يقودنا رمبراندت كي نتواصل مع جوهر التأمّل الموصل إلى اليقين والاستنارة.

    Credits
    rembrandtonline.org
    contemplationem.com

    الأربعاء، سبتمبر 05، 2012

    طبيعة بطولية

    بإمكانك اليوم أن ترى أعدادا متزايدة من الفنّانين الذين يرسمون مناظر للطبيعة في الهواء الطلق، وكأنهم يعيدون الاعتبار إلى ما كان يُعتبر نوعا مملا وغير مقدّر من الفنّ خلال معظم سنوات القرن العشرين.
    وقبل عقود، ومع تحوّل الناس إلى الفنّ الحديث الذي يخاطب المشاعر الداخلية للإنسان، أصبح الكثيرون ينظرون إلى رسم المناظر الطبيعية باعتباره فنّا غير مهمّ وغير ذي صلة بالواقع.
    غير أن رسّامي القرون الماضية كانوا في كثير من الأحيان معبّرين تماما عن ما اصطلح على تسميته "مأزق الإنسان" من خلال فنّ رسم المناظر الطبيعية. والواقع أن النقيض التام لرسم المناظر الطبيعة في الهواء الطلق هو ما يسمّيه مؤرّخو الفنّ بـ "الطبيعة البطولية".
    رسّام المناظر الطبيعية الفرنسي بيير اونري دي فالينسيان هو احد روّاد ومنظّري هذا النوع من رسم الطبيعة. وقد كان يحثّ رسّامي الطبيعة في زمانه على أن يقرءوا أوّلا كتب الأدب الكلاسيكي ويستوعبوا ويتأمّلوا كلمات الشعراء العظام قبل أن يغلقوا أعينهم ويتخيّلوا مشهدا مثاليا عن جمال الطبيعة.
    وكان فالينسيان يؤكّد على أهميّة أن يلاحظ الفنانون الطبيعة وأن يعبّروا عن خيبة أملهم من عشوائيتها ومن ما يعتريها من أوجه نقص وقصور. وعندما يعودون إلى محترفاتهم يتعيّن عليهم أن يرسموا في لوحاتهم جمال رؤاهم الداخلية ويحرّروا أنفسهم من الحقائق الصغيرة التي قد يكونون لاحظوها، لصالح الحقائق الكونية الكبرى المتجسّدة في الطبيعة.
    ولوحة فالينسيان بعنوان منظر لمدينة أغريجينتو القديمة والتي رسمها في 1787 تقدّم نموذجا على مثل هذه المثالية الفنّية.
    فالينسيان لم يكن الفنّان الأول أو الأخير الذي نظر إلى رسم المناظر الطبيعية بهذه الصورة. وهو كان من أتباع نيكولا بُوسان الذي كان، هو نفسه، تلميذا لـ كلود لورين. ولكن بُوسان كان هو من أتقن رسم مناظر الطبيعة البطولية وأصبحت أعماله معيارا تقاس على أساسه كلّ لوحة أخرى من هذا النوع، على الأقل حتى نهاية القرن التاسع عشر.
    ولوحة بُوسان الطبيعية بعنوان رماد فوشيان التي رسمها في العام 1648 تستند إلى قصّة ذكرها الشاعر الروماني بلوتارك في كتابه حيوات متوازية. وفيها يروي تفاصيل قصّة جنرال إغريقي يُدعى فوشيان أدين ظلما وحُكم عليه بالموت. وبسبب انتمائه إلى جماعة تؤمن بحرق جثّة الميّت لا دفنها، وهو ما يُعدّ انتهاكا لقانون كان ساريا في أثينا وقتها، اضطرّت زوجته لأخذ جثّته إلى مكان خارج المدينة لحرقها. ثمّ جمعت رماده سرّا واحتفظت به، بانتظار حدوث تغيير سياسي يسمح بإجراء مراسم دفن تليق بزوجها كإنسان شريف.
    في مقدّمة اللوحة، نرى الأرملة وهي تجمع رماد زوجها بعد حرق جثمانه وإلى جوارها خادمتها. تفاعل الضوء والظلّ له معنى واضح. فجانبا الطريق، حيث الزوجة والخادمة، تغطّيهما الظلمة بفعل ظلال الأشجار. والتباين ما بين النور والعتمة يركّز اهتمام الناظر إلى ما يجري. الخادمة تبدو وكأنها تريد التأكّد من أن أحدا لا يراقب ما يحدث. وفي الخلفية نرى البلدة كمنظر طبيعي مثاليّ. فالناس يقضون وقتا مسليّا، وبعضهم يظهر وهو مسترخٍ أو نائم. وهم لا يدركون مقدار الألم والمعاناة التي تمرّ بها المرأة.
    مثل هذا المنظر لا يمكن أن يتخيّله سوى رسّام مثل بُوسان. وقد اشبع الطبيعة بحضور يتجاوز مجرّد رسمها بشكلها الخامّ، ومنحها نوعية خالدة تناسب البطولة الخالدة للطبيعة الإنسانية.
    وربّما يتفاجأ البعض اليوم إذا ما عرفوا بأن بول سيزان كان هو أيضا احد أتباع بُوسان. قد يبدو هذا غريبا، خاصّة في ضوء حقيقة أن سيزان كان بالكاد يعرف أو يهتمّ بالأدب القديم، مع انه في كثير من الأحيان كان يرسم مناظره في الهواء الطلق. وهو في عمله كان متأثّرا بلا شك بالانطباعيين. لكنه كان أيضا على خلاف معهم في بعض فترات حياته.
    وأيّ شخص درس سلسلة لوحاته عن طبيعة جبل سان فيكتوار سيدرك أن تلك المناظر يمكن إدراجها ضمن مفهوم الطبيعة البطولية.
    وتجاوبا مع ما اقترحه فالينسيان، يبدو أن سيزان كان يغمض عينيه فعلا بينما كان يرسم ويتخيّل الجوانب المثالية للطبيعة. فهناك إحساس بالصفاء واهتمام شديد بالتوليف والتصميم اللذين يهيمنان على طبيعته. "مترجم".

    الأحد، أغسطس 12، 2012

    أندروميدا في العالم الحديث

    بحسب كتاب التحوّلات لـ أوفيد، كانت أندروميدا ابنة لكلّ من الملك سيفيوس وزوجته الملكة كاسيوبيا اللذين كانا يحكمان مملكة كانت تقع بالقرب من مدينة يافا على شاطئ البحر المتوسّط.
    وتذكر الأسطورة أن كاسيوبيا كانت امرأة معتدّة بجمالها. وقد بلغ من إعجابها بنفسها أن ادّعت في احد الأيّام أن جمالها يفوق جمال الناريدات، وهنّ مجموعة من حوريّات البحر الفاتنات.
    الحوريّات لم يعجبهنّ غرور كاسيوبيا وافتنانها المفرط بجمالها. لذا طلبن من إله البحر بوسيدون أن يلقّنها درسا في التواضع. ونزولا عند رغبة الناريدات، أرسل بوسيدون وحش البحر الهائل سيتوس لإغراق سواحل المملكة.
    الملك سيفيوس الذي روّعه منظر الفيضان وهو يهاجم أراضي المملكة، دفعته توسّلات الناس لاتخاذ إجراء سريع وحاسم لمعالجة المشكلة. فجمع عددا من سحرة البلاد واستشارهم في ما ينبغي فعله لوقف الخطر الداهم. وأبلغه السحرة أنه ما من طريقة لصدّ الوحش سوى أن يقدّم الملك له ابنته أندروميدا كقُربان.
    وقد اُجبر سيفيوس في النهاية على أن ينفّذ مشورة السحرة. لذا تمّ ربط أندروميدا إلى صخرة على الشاطئ وتُركت هناك ليأكلها الوحش. لكن فجأة ظهر في الأفق البطل بيرسيوس فوق جواده المجنّح. وقد رأى أندروميدا مربوطة إلى الصخرة ومستسلمة لمصيرها المحتوم. كان بيرسيوس ما يزال يرتدي حذائي هيرمِس اللذين استخدمهما في مهمّة قطع رأس ميدوسا.
    أوفيد يخبرنا أن بيرسيوس عندما لمح أندروميدا لأوّل مرّة وهي مصفّدة بالسلاسل ظنّها تمثالا من رخام لشدّة بياضها ولأنها كانت تقف ساكنة مثل تمثال. ولم يدرك أنها إنسان حقيقي إلا بعد أن هبّت الريح فحرّكت خصلات شعرها. وعندما سمع القصّة، عرض على والدها أن ينقذها من براثن الوحش، شرط أن يوافق على تزويجه منها.
    تقول الأسطورة إن بيرسيوس انقضّ على الوحش وقتله وأنقذ أندروميدا. ثم وقع الاثنان في الحبّ وتزوّجا وأنجبا في ما بعد ستّة أطفال.
    بالنسبة للقارئ الحديث، يمكن أن تكون أندروميدا نموذجا نسائيّا مخيّبا للآمال. فهي مجرّد فتاة سلبية بلا حول ولا قوّة تقع في محنة. وهي ليست أكثر من مكافأة لأفعال بيرسيوس البطولية. ويُفترض أن القصّة تعكس الفترة الزمنية القديمة التي ظهرت فيها.
    من المثير للاهتمام أن نقارن بين أندروميدا وسايكي زوجة كيوبيد المُحبّة. من نواح عدّة، تبدو قصّة كلّ من المرأتين شبيهة بالأخرى. فكلاهما جميلة جدّا لدرجة أن ذلك الجمال يثير انزعاج الآلهة. في حالة سايكي، فإن ملامحها الجميلة تثير غضب فينوس إلهة الحبّ والجمال. ووالدا سايكي، أيضا، يتخليّان عن ابنتهما ليأكلها وحش. وبعد ذلك تأخذ القصّة منحى مختلفا.
    الأمر اللافت بالنسبة لـ سايكي هو أنها بطلة قصّتها. إنها تقع في حبّ كيوبيد، تفقده ثم تحارب بقوّة كي تستعيده. وكيوبيد هو مكافأتها النهائية.
    غير أن أندروميدا ليست هي نجمة العرض. إنها ليست حتى بطلة الأسطورة. ونحن غير متأكّدين ما إذا كانت تحبّ بيرسيوس حقّا. وأيضا ليس من الواضح ما إذا كانت راغبة فعلا في أن تتزوّجه فيما لو مُنحت حرّية الاختيار.
    من بين كلّ حكايات السماء الليلية، فإن قصّة أندروميدا تتضمّن أكبر عدد من البروج أو تشكيلات النجوم. فهناك ما لا يقلّ عن ستّ شخصيّات في السماء. وكلّها تذكّرنا بقابليتنا للفناء وبمكاننا في الكون.
    عندما تنتشر نسائم الخريف الباردة في الجوّ، فإن قصّة أندروميدا تحتلّ مركز الصدارة. ففي أواخر شهر سبتمبر، وعندما تتطلّع ناحية الشرق في بدايات الليل، سترى الوحش سيتوس كامناً في الفضاء الضحل فوق الأفق.
    وفي منتصف الطريق إلى السماء، يلوح المربّع الكبير الذي يمثّل بيغاسوس أو الجواد المجنّح. وإلى يساره، تبدو أندروميدا بذراعين ممدودتين وسلاسل تطوّق خصرها. وخلفها، يظهر مربّع آخر في منتصف مجرّة درب التبّانة يمثّل شكل أمّها الملكة كاسيوبيا.
    وأسفل الملكة مباشرة، يلوح طيف البطل بيرسيوس. وفوقه يجلس الملك سيفيوس مكلّلا بتاجه الملكيّ ليكمل الحكاية ويضفي على السماء هالة من المغامرة والرومانسية.
    الجِرم الأكثر إثارة في برج أندروميدا هو مجرّة أندروميدا، المعروفة كذلك باسم M31. والسبب في أنها مثيرة ومذهلة هو أنها قريبة منّا جدّا، مع أن القرب في هذه الحالة صفة نسبية.
    مجرّة أندروميدا تبعد عن الأرض مسافة نصف مليون سنة ضوئية. وهي مسافة كبيرة للغاية وبما يتعذّر على عقل الإنسان إدراكها. يمكننا فقط أن نقول إنها قريبة، لأن جميع المجرّات الأخرى، أي مئات البلايين من المجرّات، هي ابعد منها كثيرا. والسبب الوحيد في انه يمكن رؤيتها من خلال أجهزة الرصد هو أن لمعانها يواكبه تألّق مئات بلايين النجوم التي تحتويها.
    ومن بين تلك الأعداد المهولة من المجرّات التي تملأ أضواؤها سماءنا الليلية، فإن مجرّة أندروميدا هي الوحيدة التي يمكن أن نراها بالعين المجرّدة. وعندما تعرف أين تنظر، فمن السهل تحديد موقعها في قبّة السماء.
    في هذا الكون الذي يتمدّد بلا توقّف، ليس كلّ شيء يتحرّك بعيدا عمّا يجاوره. فمجرّتا درب التبّانة وأندروميدا تتحرّكان باتجاه بعضهما البعض بسرعة فائقة. ويتوقّع العلماء انه خلال بضع مئات ملايين السنين، ستلتحم المجرّتان ببعضهما لتكوّنا مجرّة واحدة. "مترجم".

    الأربعاء، أغسطس 08، 2012

    آخر البوهيميين

    في بعض الأحيان، تصبح بعض الأحداث التافهة ظاهريّا نقاط تحوّل مهمّة في مسار التاريخ. في الرابع عشر من يوليو 1789، اقتحمت مجموعة صغيرة من الغوغاء سجنا فارغا تقريبا في إحدى ضواحي باريس. وهكذا بدأت الثورة الفرنسية التي أنهت 500 عام من الحكم الملكي في فرنسا.
    وفي ديسمبر من عام 1955، طُلب من إحدى الأميركيات من أصل أفريقي أن تنتقل إلى الجزء الخلفيّ من حافلة في مونتغمري بولاية ألاباما. وبسبب تلك الحادثة ولدت حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة.
    وفي عام 1969، انشأت وزارة الدفاع الأمريكية شبكة اتصالات الكترونية أسميت الاربانت لتربط مجموعة من مراكز الأبحاث. وهكذا ولدت الإنترنت.
    في 25 يناير من عام 1919، توفي فنّان غير معروف تقريبا في جناح خيريّ في احد مشافي باريس. وبموته انتهت الهيمنة الفرنسية على عالم الفنّ. كان ذلك الفنّان آخر شخص في سلالة كانت تُعرف بآخر الفنّانين البوهيميين.
    كان اسمه اميديو موديلياني. وكان قد عانى من الفقر والسلّ وإدمان الكحول وتعاطي المخدرات. وبعد أيّام، وبينما كانت جنازته تمرّ في شوارع مونمارتر القديمة، كان الآلاف من الناس ممّن لم يكونوا قد رأوا أعماله من قبل، وبعضهم لم يكونوا قد سمعوا باسمه، يصطفّون على جانب الطريق لتحيّته وإلقاء نظرة الوداع على جثمانه.
    كان موديلياني، الايطالي الأصل، آخر أربعة فنّانين ارتبطت أقدارهم معا وانتهى بهم المطاف جميعا في شوارع وأزقّة مونمارتر، مهد الفنّ الحديث في أوائل القرن العشرين. والثلاثة الآخرون كانوا الفرنسيّ موريس اوتريللو، والبلغاري جول باسكين، والليثواني شيم سوتين.
    ولد موريس اوتريللو عام 1883، وعاش فترة صباه حياة فقر وتشرّد. وكان يكسب قوته من عمله كموديل للرسّامين. كان اوتريللو مدمنا على الكحول منذ أن كان في الخامسة عشرة. ثم وُضع في عهدة أمّه وزوجته اللتين أنقذتاه من تدميره لنفسه. وقد استمرّ يرسم حتى وفاته. وهو الوحيد من بين الأربعة الذي تمكّن من الإفلات من حياة الشوارع والضياع.
    جول باسكين كان اصغر قليلا من اوتريللو. لكنّه كان أكثر موهبة وتدريبا أكاديميّا، إذ درس الرسم في فيينا وميونيخ وباريس. وسافر إلى أماكن كثيرة من العالم، بما في ذلك المكسيك والولايات المتحدة. مشاهد باسكين للشوارع كانت من بين أفضل ما رسمه الأربعة.
    ومع ذلك، كان نموذجا للبلاي بوي الذي لا يهدأ ولا يستقرّ. وقد انتهت حياته بطريقة مأساوية عندما أقدم على الانتحار في عام 1930.
    شيم سوتين كان اصغر الأربعة. وقد هرب من منزل والده الخيّاط الذي كان يتأمّل منه أن يسير على خطاه ويرث عنه مهنته. وانتهى به الأمر في باريس التي قرّر أن يدرس فيها الرسم. وقد عاش في مسكن مجاور لمسلخ، حيث كان من عادته أن يذهب إلى هناك لرسم لحوم الحيوانات واستكشاف ميوله في التعبير واللون.
    الفقر المدقع الذي عانى منه سوتين دفعه في النهاية إلى الانتحار. لكن قُيّض له أن ينجو من الموت بفضل صديق تصادف وجوده بالقرب من المكان،فأنقذه وبذا كُتبت له حياة جديدة.
    وفي وقت لاحق، وبمساعدة صديقه موديلياني، التقى سوتين أحد وكلاء الفنّ الذي نصحه بمغادرة باريس. ثم قابل في ما بعد الأمريكيّ ألبرت بارنز، وهو احد هواة جمع الفنّ الحديث، الذي اشترى ما يقرب من 100 من لوحاته. وعلى الرغم من انه أصبح مرتاحا ماليّا، إلا انه كان يزداد عزلة وكان يرفض عرض أعماله. واستمرّ على تلك الحال إلى أن توفّي وحيدا منسيّا في عام 1943.
    لكن لماذا شكّل موت موديلياني نقطة تحوّل؟ ما حدث بعد وفاة موديلياني هو أن الفنّانين هجروا مونمارتر واحدا في إثر الآخر، واختاروا أن يذهبوا إلى ميونيخ أو نيويورك، أو إلى أيّ مكان باستثناء باريس.
    وابتداءً من العام 1919، لم تظهر حركات فنّية جديدة. وغابت عن سماء باريس تلك الروح المثيرة للابتكار وذلك المزيج المتفجّر من المواهب الخلاقة والمبدعة. حدث هذا قبل سنوات طويلة من وصول طلائع جند ادولف هتلر إلى شارع الشونزيليزيه.
    آخر سلالة الفنّانين البوهيميين كانوا الفصل النهائي والأخير من تقليد دام زهاء 300 عام وتمثّل في الهيمنة الفرنسية على الفنون التي بدأت زمن الملك شارل الثاني.
    من وقت لآخر، كانت هناك جذوات تتوهّج هنا وهناك ثم لا تلبث أن تخبو وتموت. لكنّ الفنّ وباريس كانا قد تغيّرا إلى الأبد. وانتهى الزمن الذي كانت فيه باريس تفيض على غيرها من عواصم أوربّا والعالم فنّاً وإبداعاً وألقاً.

    الثلاثاء، أغسطس 07، 2012

    عاشقا الفراشة

    عاشقا الفراشة هو اسم لإحدى أشهر القطع الموسيقية الصينية التي ألّفت لآلة الكمان. وهي بالتأكيد من أشهر المعزوفات الموسيقية المعروفة خارج الصين. وهناك من يقارن هذه القطعة بموسيقى صينية أخرى لا تقلّ شهرة هي كونشيرتو النهر الأصفر للبيانو.
    البناء الاوركسترالي لكونشيرتو عاشقا الفراشة مستوحى من أسطورة صينية قديمة تحكي عن فتاة تُدعى جو ينغاتي، تتنكّر في هيئة رجل أثناء دراستها في إحدى مدارس هانغشو.
    في المدرسة، تقابل جو زميلها ليانغ، حيث يقضي الاثنان ثلاث سنوات معا كصديقين متحابّين. ثم تقع الفتاة في حبّ زميلها، لكنّها لا تستطيع التعبير عن مشاعرها نحوه دون أن تكشف عن هويّتها الحقيقية كامرأة.
    وعندما تعود جو إلى قريتها، تدعو ليانغ لزيارة بيت عائلتها، دون أن يعلم أنها امرأة. كما انه لا يعلم أنها تدعوه لكي تتزوّجه.
    يعد ليانغ جو بأن يزورها في بيتهم، لكنه يتريّث لبعض الوقت. وعندما يصل إلى البيت، يرى جو هناك ويدرك لأوّل مرّة أنها امرأة، فيقع في حبّها.
    الكمان والتشيللو المنفردان يعزفان لحنا حزينا هو أشهر وأقوى جزء في هذا الكونشيرتو. لكن اللحن سرعان ما يتحوّل إلى موسيقى متوتّرة عندما يعلم ليانغ أن جو اختطفت كي تُزفّ إلى رجل آخر.
    يقع ليانغ ضحيّة المرض، ثم لا يلبث أن يموت، بينما تعيد الموسيقى عزف اللحن الحزين. وينتهي هذا الجزء بانتحار جو على إيقاع لحن مشوب بالحزن والرهبة.
    في الأسطورة، ينفتح قبر ليانغ وتلقي جو بنفسها في داخله. ثم يتحوّل العاشقان بطريقة سحرية إلى فراشتين.
    ظهر كونشيرتو عاشقا الفراشة عام 1959م. وعُزف لأوّل مرّة في الذكرى العاشرة لتأسيس جمهورية الصين الشعبية. وقد وضع موسيقاه ملحنّان صينيّان هما شين غانغ وهي جانهاو عندما كانا طالبين في معهد الكونسيرفاتوار في شانغهاي.
    يتألّف الكونشيرتو من حركة واحدة، لكنّها موزّعة إلى عدّة مقاطع. وكلّ مقطع يتحدّث عن جزء من القصّة. وبعض أنغامه مقتبسة من الأوبرا الصينية ومن بعض الأغاني الفولكلورية الشائعة في الصين.
    لم يكتسب هذا الكونشيرتو الشهرة والشعبية إلا ابتداءً من أوائل سبعينات القرن الماضي، عندما خفّفت الحكومة الصينية قيودها بعد الثورة الثقافية. وأصبحت الموسيقى تجسيدا للتغييرات التي شهدتها الصين في تلك الفترة.
    وفي ما بعد، أصبح الكونشيرتو يُعزف بانتظام في منافسات التزلّج على الجليد وفي قاعات الموسيقى الكبيرة حول العالم.

    الأحد، أغسطس 05، 2012

    غيّر حياتك

    عندما يتمّ اصطياد الحيوانات البرّية ووضعها في أقفاص بحديقة الحيوان، فإنها تحاول فعل كلّ ما في وسعها للخروج من القفص. قد يعضّ الحيوان الأسير القفص، وقد يجري باتجاهه بأقصى سرعة لفتحه عنوة، وقد ينشب مخالبه وأنيابه فيه لكسره. محاولات الحيوان لكسر القفص والخروج من الأسر ربّما تستمرّ لأسابيع وحتى لأشهر. وأثناء ذلك لا يوفّر أيّ فرصة سانحة كي يحرّر نفسه.
    ولكن بعد أن يقضي الحيوان بضع سنوات في الأسر، فإنه يفقد رغبته في أن يصبح حرّا. وحتى لو تُرك باب القفص مفتوحا كي يتمكّن من الفرار، فإن الحيوان لا يهرب. انه حتى لا يحاول الهرب، لأنه يكون قد تكيّف مع الوضع الجديد الذي أصبح مريحا بالنسبة له وتخلّى عن غريزته التي تقول له انه يمكن أن يكون حرّا مرّة أخرى.
    هل تشعر أنت انّك مثل حيوان برّي في قفص؟ هل فقدت المبادرة لتحقيق النجاح وجعل الأشياء الجيّدة تحدث في حياتك؟ ربّما تعتقد أن ماضيك يدلّ على مستقبلك، وأن قدَرَك أن تظلّ حبيس سجنك. وقد تعتقد أنه لمجرّد أنك لم تكن ناجحا في هذا العمل أو ذاك فإنك لن تكون ناجحا أبدا في أيّ عمل آخر وأنك يجب أن تتقبّل قدرك باستسلام. إن الاعتقاد بأن مستقبلك مرهون بماضيك هو شرَك يجب ألا تقع فيه. مثل هذه الفكرة هي في الواقع مصيدة لأحلامك.
    عليك أن تؤمن بأن كلّ شيء يمكنك أن تتخيّله يمكن أن يحدث، وأن واقعك يكمن في المكان الذي تريد أن تكون فيه. وعليك أيضا أن تتخلّى عن فكرة أن ما يمكن أن تفعله له حدود لا يمكن تجاوزها. فحدود انجازاتك لا يضعها لك الآخرون وإنما أنت الذي تقرّرها بنفسك.
    في كثير من الأحيان لا تكون الأمور بالصعوبة التي تبدو عليها. وهذا ينطبق أيضا على الطريقة التي عشت بها حياتك منذ اليوم الذي ولدت فيه وحتى هذه اللحظة. تستيقظ كلّ صباح وتقوم بما تقوم به منذ سنوات. ومع مرور الأيام تتشكّل لديك منظومة من المعتقدات، كأن تضع لنفسك حدودا تجعلها مقياسا لما تستطيع وما لا تستطيع تحقيقه. الآخرون أيضا يقولون لك ما يمكنك وما لا يمكنك فعله. لكن لا تنس أن معظم الناس لا يهمّهم أن تنهار أحلامك. وحسنو النيّة منهم يريدونك أن تفعل ما يظنّون انه الأفضل لك. وأحيانا قد يعمدون إلى التقليل من أهميّة أحلامك حتى دون أن يدركوا ذلك. ولكن تذكّر أن أحلامك هي ملكك لوحدك. أحلامك هي ما يعرفه وما يشعر به قلبك، ولا يهمّ ما يقوله لك الآخرون.
    في إحدى الليالي، قصد احد الكتّاب شاطئ البحر، ومشى هناك أميالا كتب خلالها بضع قصائد بلا معنى تقريبا. وكان أثناء ذلك يبحث دون كلل عن شخص ما رائع يخرج من الظلام ليغيّر حياته. ولم يخطر بباله أبدا أن ذلك الشخص يمكن أن يكون هو بالذات.
    إننا إن لم نتغيّر فإننا لا ننمو. وإذا لم ننمو فإننا لن نعيش حياة حقيقية. وتغيير حياتنا هو أوّل خطوة للخروج من القفص. تغيير الحياة هو عملية مستمرّة ولا تنتهي أبدا. في اللحظة التي تتوقّف فيها عن التغيير، فإنك تتوقّف عن النموّ. إننا لا نعرف كلّ شيء عن تغيير الحياة. فما زلنا جميعا نتعلّم. لكن هناك بضع نصائح يمكن أن تساعدنا على أن نغيّر حياتنا..
    أوّلا: لا تسرع الخطى. فلكي تغيّر حياتك فإنك تحتاج وقتا للتفكير والتأمّل. إن كنت مشغولا دائما، فلن يتوفّر لديك الوقت الكافي للتفكير في حياتك، ناهيك عن أن تأخذ قرارا بتغييرها. لذا تمهّل قليلا كي تفسح المجال للتغيير. تمهّل واستمتع بالحياة. والأمر لا يتعلق فقط بالمنظر الذي فاتتك رؤيته بالأمس لأنك كنت مسرعا، وإنما أيضا في حقيقة أنك فقدت الإحساس بالمكان الذي كنت ذاهبا إليه والسبب في انك ذهبت إلى هناك.
    ثانيا: كن راغبا في التغيير. الرغبة أمر ضروريّ. إنها حياتك، ولا أحد يستطيع تغييرها سواك. وإذا لم تكن راغبا في التغيير فإنه لا شيء في هذا العالم يمكن أن يجعلك تتغيّر. الرغبة في التغيير تتطلّب منك أوّلا أن تدرك أن حياتك يمكن أن تكون أفضل مما هي عليه الآن. ومهما كانت حياتك جيّدة اليوم فإنها يمكن أن تصبح أفضل غدا. ولا يجب أن تشعر باليأس إن كانت حياتك لا تبدو جيّدة الآن. فأنت تستطيع دائما أن تغيّر حياتك إلى الأفضل.
    ثالثا: إقبل المسؤولية. قبول المسئولية عن حياتك أمر لا بدّ منه. لا تلم الآخرين على الأشياء السيّئة التي تقع في حياتك. لا تلم عائلتك وأصدقائك أو رئيسك أو الاقتصاد. طبيعة الحياة التي تعيشها، سواءً كانت جيّدة أو رديئة، تعتمد عليك أنت وحدك. وعندما تتحمّل المسؤولية، فإن التغيير الحقيقي في حياتك يصبح في متناول يدك. إننا نصبح أكثر فاعلية على الفور عندما نقرّر تغيير أنفسنا بدلا من أن نطلب من الظروف أن تتغيّر من اجلنا.


    رابعا: إبحث عن قيمك العميقة. في أعماق قلبك، هناك بعض المبادئ التي تعرف أنها صحيحة. خذ من الوقت ما يكفي كي تعثر عليها. ما الذي تعتقد انه الشيء الأكثر قيمة في الحياة؟ ما هي المبادئ التي تعتقد أنك يجب أن تتبعها كي تعيش حياة مثمرة وثريّة؟ هذه هي القيم التي تحتاج لأن تتواءم معها. حاول أن تجدها وان تذكّر نفسك بها باستمرار.
    خامسا: اخلق لنفسك واقعا جديدا. يمكنك أن تخلق لك واقعا جديدا وأن تجعل أحلامك تتحقّق. والأمر متروك لك. البدء من جديد هو احد أفضل الأشياء التي يمكن القيام بها في حياتنا. انظر إلى نفسك كما كنت في أسعد وأقوى حالاتك في الماضي. إبدأ في تذكّر الأشياء المفيدة. تذكّر كيف كنت تبدو طبيعيا عندما كنت طفلا. إبدأ في نسيان الأثقال التي ظللت تحملها فوق ظهرك لسنوات: المشاكل التي لم تعد مهمّة الآن، والمخاوف التي ستنقضي وتتلاشى بعيدا عمّا قريب.
    إننا نثقل على أنفسنا عندما نتمسك بأشياء تسبّب لنا قدرا كبيرا من التوتّر والألم والمعاناة، مع أننا لو تخلّينا عنها لأصبحت حياتنا أكثر بساطة وسعادة ولساعدنا ذلك على إحداث التغيير المنشود في حياتنا.
    أوّلا: تخلّ عن حاجتك لأن تكون دائما على حقّ. الكثيرون منّا لا يمكن أن يتحمّلوا فكرة أن يكونوا مخطئين. يريدون أن يكونوا دائما على حقّ، حتى عندما يكون ثمن ذلك المخاطرة بإنهاء علاقة مهمّة أو التسبّب بقدر كبير من التوتّر والألم لأنفسهم وللآخرين. والمسألة لا تستحقّ كلّ هذا العناء. كلّما شعرت بحاجة ماسّة للقتال مع الآخرين حول من يكون على حقّ ومن يكون على خطأ، فاسأل نفسك هذا السؤال: هل ثمّة فرق بين إن كنت على حقّ أم على خطأ، أم أن الأنا بداخلك متضخمّة ومهمّة إلى هذا الحدّ؟ هل من الأفضل أن تكون على حقّ دائما أم أن تكون ودودا ومراعيا للآخرين؟ يقول الحكيم الصينيّ لاو تسو: لا يفوز في هذا العالم إلا أولئك الذين يدعون الأمور تمضي في طريقها".
    ثانيا: تخلّ عن اللوم. توقّف عن لوم الآخرين على ما لديك أو ما ليس لديك، أو على ما تشعر به أو لا تشعر. توقّف عن تبديد قواك في ما لا طائل من ورائه وابدأ بتحمّل المسؤولية عن حياتك.
    ثالثا: تخلّ عن عادة إلحاق الهزيمة بنفسك. كم عدد الأشخاص الذين يؤذون أنفسهم بسبب عقليّتهم المهزومة والسلبيّة؟ لا تصدّق كلّ شيء يقوله لك عقلك، لا سيّما إن كان سلبيّا وهادما للذات. أنت أفضل من ذلك بكثير. العقل أداة ممتازة إذا ما استخدم بشكل صحيح. لكنه يصبح مدمّرا للغاية إن استخدم بطريقة خاطئة.
    رابعا: تخلّ عن قناعاتك التي تقيّدك. قناعاتك تقول لك ما يمكنك القيام به وما لا يمكنك، ما هو ممكن أو مستحيل. ومن الآن فصاعدا، لا تسمح لقناعاتك المقيّدة بأن تبقيك مسجونا في المكان الخطأ. افرد جناحيك وطِر! في غالب الأحيان، القناعات ليست أفكارا يتبّناها العقل، بل قيودا تشلّ العقل وتكبّله.
    خامسا: توقّف عن حاجتك المستمرّة للشكوى من الأشياء والناس والحالات والأحداث التي تجعلك حزينا أو غير سعيد. لا أحد ولا شيء يمكنه أن يجعلك تعيسا ما لم تسمح له أنت بذلك. لا تقلّل أبدا من قوّة وأثر التفكير الايجابي على حياتك.
    سادسا: تخلّ عن ترف انتقاد الآخرين المختلفين عنك. فنحن جميعا مختلفون، ومع ذلك نحن متشابهون بدرجة أو بأخرى. إننا جميعا نريد أن نكون سعداء، وأن نحبّ ونُحَبّ، وأن يفهمنا الآخرون.
    سابعا: تخلّ عن محاولاتك الدائمة في أن تكون إنسانا مختلفا لمجرّد انك تريد إرضاء الآخرين. الأمور لا تعمل بهذه الطريقة. في اللحظة التي تتوقّف فيها عن محاولة أن تكون شيئا ما مختلفا عن طبيعتك الأصلية، وفي اللحظة التي تزيل فيها جميع الأقنعة وترميها بعيدا، وفي اللحظة التي تقبل فيها نفسك وتحتضن شخصيّتك الحقيقية، ستجد أن الآخرين بدءوا ينجذبون إليك.
    ثامنا: تخلّ عن الماضي. صحيح انه من الصعب علينا أن ننسى الماضي، خاصّة عندما يكون الماضي أفضل من الحاضر وعندما يكون المستقبل أكثر إثارة للخوف من الحاضر. لكن يجب أن تأخذ في حسبانك أن لحظات الحاضر هي كلّ ما لديك الآن. الماضي الذي تتوق إليه والذي تحلم به الآن انقضى ولن يعود ثانيةً. وفي النهاية، تذكّر أن الحياة رحلة وليست وجهة نهائية. حاول أن تمتلك رؤية واضحة للمستقبل، وأعدّ نفسك جيّدا، وكن دائما حاضرا في اللحظة التي أنت فيها الآن.
    تاسعا: توقّف عن محاولة إرضاء توقّعات الآخرين. الكثير من الناس يعيشون حياة ليست لهم. إنهم يعيشون وفقا لما يرى الآخرون، آباؤهم أو أصدقاؤهم أو معلّموهم، أنه الأفضل بالنسبة لهم. هؤلاء يتجاهلون صوتهم الداخليّ. إنهم مشغولون للغاية بالارتقاء إلى مستوى توقّعات الآخرين وبجعل الجميع مسرورين منهم، لدرجة أنهم يفقدون السيطرة على حياتهم الخاصّة. إنهم ينسون ما يجعلهم سعداء، وما الذي يريدونه، وما الذي يحتاجون إليه، وفي نهاية المطاف ينسون أنفسهم. إن لديك حياة واحدة ينبغي أن تعيشها وأن تملكها. فلا تدع آراء الآخرين تصرف انتباهك عن طريقك الخاصّ.

    Credits
    purposefairy.com
    therapyinsider.com

    الاثنين، يوليو 30، 2012

    سنوات ليوناردو في ميلانو

    طوال حياته المهنيّة، لم يرسم ليوناردو دافنشي سوى 20 لوحة، بقي منها إلى اليوم 14 لوحة فقط. كان بطيئا جدّا في عمله. فخلال الفترة التي رسم فيها الموناليزا، كان ميكيل أنجيلو قد أكمل تقريبا جميع رسوماته في سقف كنيسة سيستين.
    كانت مدينة ميلانو هي المكان الذي طوّر فيه ليوناردو أفكاره كرسّام فيلسوف. وفيها تحوّلت ملاحظاته الدقيقة للطبيعة إلى وسيلة لاكتشاف قوانينها، ومن ثمّ استخدامها لإبراز العالم المادّي والميتافيزيقي.
    وقد حظي ليوناردو في ميلانو برعاية أميرها لودوفيكو سفورزا، وهو سليل عائلة متنفّذة لعبت دورا مهمّا في تاريخ هذه المدينة. والمعروف أن الأمير والرسّام كانا متماثلين في السنّ، إذ ولدا في نفس السنة، أي 1452م.
    كان لودوفيكو الابن الرابع لعائلته. وكانت آماله متركّزة على الثروة وليس السلطة. ولهذا السبب كان صعوده إلى الحكم مفاجئا وقبضته على ميلانو ضعيفة في بداية الأمر. كان لودوفيكو بحاجة ماسّة إلى ليوناردو دافنشي وإلى خبراته العملية ومهاراته الفنّية. وقد أشار ليوناردو نفسه إلى هذه الحقيقة في رسالة أعلن فيها عن نفسه كمصمّم لأدوات الحرب، التي يمكن تكييفها لتُستخدم في زمن السلم، في مجال العمارة وتصميم المباني وفي تسيير المياه من مكان إلى آخر.
    في ذلك الوقت، كان الرسّام يكرّس كلّ وقته لدراسة التصميم وتجريب كلّ شيء كان قد تعلّمه عن المنظور الجوّي والضوء والظلّ. وكان يرى أن الفهم الحقيقيّ للأشكال الموجودة في أعمال الطبيعة هو السبيل الأمثل لفهم صانع هذه الأشياء.
    وأثناء إقامته في ميلانو، رسم ليوناردو ثلاثا من أشهر لوحاته. الأولى هي بورتريه سيسيليا غاليراني "سيّدة مع إيرمين". والثانية امرأة بعقد جميل "أو لا بيل فيرونيير" التي يصوّر فيها لوكريشيا كريفالي عشيقة لودوفيكو. والثالثة، وهي غير معروفة كثيرا، بورتريه لموسيقيّ.
    ويقال إن الفنّان رسم هذه اللوحات الصامتة، لكن الرائعة، لأعين الخبراء والمختصّين، لأنه وضع فيها عصارة تجاربه في أساليب التوليف والإفصاح عن المشاعر. ومن الواضح انه تجنّب عمدا استخدام الألوان الساطعة، لأنه كان يعتقد أن "كلّ من يرسم بلا ظلال لا يمكن أن يحقّق المجد الفنّي الذي لا تدركه سوى العقول الفطنة والنبيلة".
    النظرات المباشرة للمرأة في لوحة لوكريشيا كريفالي توحي بالعلاقة بين الموضوع والمتلقّي وتضفي على المرأة بعدا شخصيا. وقد أشيع في بعض الأوقات أن من رسم اللوحة هو احد تلاميذ دافنشي. لكن نموذج الوجه والملامح يرجّح احتمال أن من رسم اللوحة هو ليوناردو نفسه. معرفة الرسّام بالضوء مكّنته من تصوير الملامح الدقيقة للمرأة من خلال هذه الصورة المدهشة ذات البعد الثلاثي التي يبدو التناغم فيها واضحا بين المعرفة العلمية والبراعة الفنّية.
    وفي جميع هذه اللوحات الثلاث، فإن تحويرات الألوان والضوء، والتحوّلات غير المحسوسة في الأجساد والنماذج، والتعامل الحريص مع النسيج، كلّها أشكال وسمات اعتمد فيها الرسّام، كليّا تقريبا، على الملاحظة البحتة.
    أثناء مكوثه في ميلانو، كان ليوناردو يبحث عن شكل جديد من الرسم. وأصبح يعتقد بأن الفنّ يمكن أن يبلغ درجة الكمال، وبأن الغاية من الرسم هي تصوير كلّ ما يُرى وما لا يُرى، من ملامح الوجه إلى المشاعر العابرة.
    كان ذلك نوعا من الطموح الرفيع وغير العاديّ. وهو يفسّر، جزئيا، لماذا كان الرسّام غالبا يتوقّف عن رسم لوحة ما دون أن يكملها لينتقل لأخرى.
    لوحات دافنشي في ميلانو كانت محاولات لأخذ رسم الوجه إلى ما هو ابعد من مجرّد تصوير الملامح. وجميع هذه الوجوه الثلاثة قريبة من تصوّرات ليوناردو المثالية عن النِسب والتناغم. كما أنها، وعلى نحو ما، مشرّبة بإحساس روحي لا تخطئه العين. "مترجم".

    الأحد، يوليو 29، 2012

    جماليّات الطبيعة

    في الاوديسّا، يأخذنا هوميروس إلى أماكن متعدّدة من الطبيعة ويستكشف معانيها الرمزية، ويتناول القيم الحضرية للبطل والشخصيّات الأخرى، ويُخضعها للعديد من الاختبارات. كما يشرح لنا العلاقة بين الآلهة والبشر، وبين الحاضر والماضي، ويقدّم رؤى عن هذه الحياة وعمّا بعدها.
    وما يلفت الانتباه بشكل خاصّ هو حديث هوميروس عن البرّية والدلالات الرمزية التي تحملها. البرّية في الأوديسّا مكان غير حضريّ، وبالتالي يفتقر إلى كلّ صفات العمران. في البرّية، ليس من السهل أن تثق بأحد. قد يفترسك احد أكلة لحوم البشر، وقد تتحوّل إلى حيوان، أو قد تغويك غولة، أو تُسحق عظامك على الصخور.
    البرّية مكان مختلف وخطير. ولكنّها أيضا، وهذا هو أحد الجوانب المثيرة للاهتمام، جميلة ومغرية. وإذا كان بوليفيموس غاشماً وبهيميّا، فإن الطبيعة التي يعيش فيها هي أشبه ما تكون بالجنّة، مع طعام وفير بحيث لا يحتاج المرء للعمل أو بذل الجهد. أغاني السيرينات مدمّرة، لكنها جميلة. والبرّية أيضا تؤوي سيرسي إلهة التحوّلات السحرية. والذي يذكّرنا بهذا هو العبارة الأكثر شهرة في الأوديسّا: بحر الظلام النبيذي". مثل النبيذ، فإن البحر (والبرّية) غامضان ومظلمان ويحملان معهما الكثير من الأخطار. لكن، وكالنبيذ أيضا، فإن البرّية مُسكرة، وحتى ساحرة. ويمكن أيضا أن تكون منحة لبني البشر. والمرء لا يمكنه أن يفكّر في النبيذ دون أن يتذكّر طبيعته المتناقضة.
    في العهد القديم، ثمّة إشارات عن عدد من البراري. لكن الغرض من ذكرها هو امتحان ديانة العبرانيين وليس أكثر. إذ لا توصل هذه النصوص أيّ إحساس بأن للبرّية جمالا وفتنة، بل هي مجرّد ارض قاسية ومجدبة.
    البرّية أيضا لها حضور قويّ في الأدب والفنّ. فهي موجودة في الروايات التي تتحدّث عن مخاطر البحار المضطربة والبراري النائية "مثل رواية موبي ديك لـ هيرمان ميلفيل". وهي موجودة أيضا في أساطير الشمال الأوربّي وفي مغامرات الرحالة والمستكشفين القدماء. ومن بين المفكّرين والفلاسفة الذين تحدّثوا عن البرّية مطوّلا كلّ من جيل دولوز وغريغوري وايتهيد.
    في كتابه حواسّ الطيور، يتناول العالم تيم بيركهيد جانبا آخر من جماليات الطبيعة، متمثّلا في بعض الظواهر الغريبة التي رصدها من عالم الطيور. يتحدّث، مثلا، عن طائر يقال له الروبين "أو أبو الحنّاء بالعربية" وكيف انه يستطيع سماع الدود وهو يتحرّك تحت الأرض. ثم يتحدّث عن الكيوي، وهو طائر أعمى تقريبا. ومع ذلك يستطيع هذا الطائر شمّ الدود من مسافات بعيدة.
    ويتحدّث المؤلّف عن طائر الفلامينغو الذي يُعتبر من أجمل الطيور على الأرض. وهو معروف بألوانه الزاهية التي يغلب عليها الزهريّ. جاذبية الفلامينغو تتبدّى في أجمل حالاتها عندما يطير في أسراب كثيرة. وهو يهاجر لمسافات طويلة، إذ يمكنه أن يقطع أكثر من مائتي ميل في ليلة واحدة. وبإمكان الفلامينغو أيضا أن يحسّ بالمطر المتساقط على بعد مئات الكيلومترات، حيث الأرض المبلّلة التي تصلح للتكاثر. وللفلامينغو قدرة غريبة على التكيّف مع أكثر حالات البيئة تطرّفا. فهو يعيش قرب البراكين، لكن يمكن رؤيته وسط البحيرات الجليدية أيضا. الفلامينغو يمكن أن يعيش في بيئته الطبيعية حوالي ثلاثين عاما، وفي الأسر لخمسين عاما أو أكثر.
    الجبال أيضا لها جماليّاتها الخاصّة والمتفرّدة التي تجعل منها مصدر سحر وفتنة بمناظرها الجليلة وهوائها العليل. ساكنو الجبال هم عادةً، ولسبب غير معروف تماما، أكثر ودّا وحميمية ودفئا من سكّان الحواضر. لكن الحياة في الجبال معروفة بقسوتها، لذا يعتمد قاطنوها على بعضهم البعض طلبا للحماية والأمان. وبسبب بعد الجبال عن العمران، فإنك لا تستطيع العيش فيها دون أن تحتاج لمساعدة الآخرين. الإحساس بالجماعة هو ما يميّز سكّان الجبال أكثر من غيرهم. هذا الشعور الجماعي هو الذي يساعدهم على قهر ظروف العزلة والشتاء الطويل والتعامل مع المحاصيل التي لا تدوم طويلا.
    مكان أهل الجبال في العالم وفي التاريخ جعلهم يُظهرون أفضل ما في الطبيعة الإنسانية من صفات وخصال. الجبال مصدر إلهام، ليس بسبب جمالها المذهل فحسب، وإنما أيضا لأن سكّانها يتميّزون بالعاطفة والدفء الإنساني. والأشخاص الذين يتوقون إلى استكشاف غموض الكون والطاقات الكامنة فيه لديهم هذا الشغف بالجبال. في الجبال تحسّ بالعالم الأزلي والخالد وتصبح جزءا منه. تشعر بالسكون والرياح وتتنفّس الهواء العذب وترى فيها سماءً أوسع ونجوما أكثر.
    في كثير من الأحيان، نتحدّث عن الطبيعة وكأنها خير مطلق. لكنها، مثل كلّ شيء آخر في هذه الحياة، لها وجه مختلف. فالبراكين والزلازل والأعاصير التي تقتل البشر وتدمّر الممتلكات هي أيضا جزء من عالم الطبيعة. وهناك أيضا الفيروسات والبكتيريا القاتلة والسلوكيات المرتبطة بتغيّر الطقس وتعاقب الفصول.
    الفكرة الشائعة بين الناس هي أن خالق الطبيعة هو إله خيّر ورحيم. وبناءً عليه، يُفترض أن تكون الطبيعة أفضل العوالم قاطبة. غير أن الواقع يقول شيئا آخر مختلفا. فالطبيعة يمكن أن تقتل وأن تعذّب وتبطش وتدمّر. كما أن الحيوانات يفترس بعضها بعضا والطيور الجارحة تهجم على أعشاش الطيور الصغيرة لتلتهم صغارها. الطبيعة ليست خيرا محضا وليست شرّا خالصا بنفس الوقت. وفي كلّ الأحوال، يمكن أن تمنحنا الطبيعة أفضل ما لديها إذا ما تعاملنا معها بوعي وبصيرة.

    الأربعاء، يوليو 25، 2012

    كوكوشكا: صورة الفنّان

    صورة الرسّام في أذهان الناس لا تخلو من رومانسية. فهو عبقريّ ومبدع وعاطفي وغريب الأطوار وغير مستقرّ نفسيّا ولا أحد يقدّره إلا بعد أن يموت.
    النموذج العصري، والسائد هذه الأيّام، للفنّان هو ذلك التاجر الذكيّ الذي يدعم موهبته الفنّية بالعلاقات الشخصيّة وبالدعاية والبهرجة. ولا يحتاج الإنسان لأن يسمّي أشخاصا من هذه الفئة لأنهم كثيرون. لكنّ المثالين الأقرب إلى الذهن هما آندي وارهول وتوماس كينكيد.
    النموذج الأوّل عن الفنّان يمكن أن نسمّيه متلازمة فان غوخ. وأفضل من يمثّل هذا النموذج الرسّام اوسكار كوكوشكا المولود في النمسا عام 1886م. كان كوكوشكا ذا شخصية مزاجية وعنيفة. وقد انجذب إلى مجموعة من فنّاني بدايات القرن العشرين الذين أصبحوا يُعرفون باسم التعبيريين النمساويين. وكان من بين هؤلاء ماكس بيكمان وأوتو ديكس، بالإضافة إلى النرويجي ادفارد مونك والروسي فاسيلي كاندينسكي. طبعا لم يكن كلّ هؤلاء من النوع الذهاني والمتقلّب. لكن في كلّ واحد منهم، كان هناك قدر من عدم الاستقرار العاطفيّ الذي طبع حياتهم وامتدّ ليشمل أعمالهم.
    كان اوسكار كوكوشكا متأثّرا كثيرا بزميله ومواطنه غوستاف كليمت. وبورتريهاته ومناظره الطبيعية تُظهر حرّية في استخدام الألوان وحيوية في الأسلوب لم يكن يجرؤ عليهما سوى القليلين في زمانه.
    شغل كوكوشكا وظيفة ثابتة لبعض الوقت عندما عمل مدرّسا في أكاديمية الفنون المشهورة في دريسدن بعد الحرب العالمية الأولى. وكانت تلك إحدى الفترات المستقرّة القليلة في حياته بعد أن شُفي من علاقة حبّ غريبة ربطته مع آلما شيندلر أرملة المؤلّف الموسيقيّ الألمانيّ غوستاف ماهلر.
    ولوحته بعنوان عروس الريح هي شهادة رومانسية من الدوّامات والعواصف على مدى انغماس الرسّام في حبّ تلك المرأة. غير أن شيندلر المشهورة بجمالها الفتّاك هجرته بعد أن عاشت معه ثلاث سنوات وفضّلت عليه رجلا آخر. وكان ردّ فعله أن كلّف صانع دمى في ميونيخ بتفصيل دمية لها بالحجم الطبيعي. كانت الدمية تشبه المرأة تماما، وكانت تتضمّن أدقّ تفاصيلها الحميمة. وأصبح كوكوشكا يحمل الدمية معه أينما ذهب كدليل على المعاناة التي كان يتحمّلها نتيجة حبّه لها وإعراضها عنه.
    تقول آلما ماهلر في يوميّاتها واصفة علاقتها الغريبة بـ كوكوشكا: المشاعر التي كانت تنتاب اوسكار كانت من النوع الذي لا يمكن التنبّؤ به. كان يحبّ بشغف وبلا شروط، مثل وثنيّ يصلّي لنجمة بعيدة. كانت علاقتنا معركة حبّ. ولم أذق أبدا قبل ذلك كلّ هذا القدر من الجنّة ومن الجحيم". وقد عانت المرأة كثيرا من غيرته المفرطة، ولم يكن يتحمّل أصدقاءها ومعارفها. بل كان يغار حتى من زوجها الميّت. "موسيقاه تهدّ كياني وتمزّق جسدي وروحي"!
    عندما علمت آلما بأنها أصبحت حاملا من كوكوشكا، قرّرت على الفور إسقاط الجنين. وفي المستشفى، قام بأخذ قطعة من ملابسها المبلّلة بالدم وعاد بها معه إلى البيت. كان يقول: هذا هو طفلي الوحيد، وسيظلّ كذلك". وكان من عادته أن يحمل معه تلك القطعة من لباسها أينما ذهب. ولم يتغلّب أبدا على ألمه من فقدان طفلهما المشترك، بل وجعله موضوعا للعديد من لوحاته.
    وفي ما بعد، فعل كلّ ما في وسعه لإقناعها بالزواج منه. لكنها كانت تبتعد عنه أكثر فأكثر. وفي عيد ميلادها السبعين، بعث إليها برسالة يصفها فيها بالمخلوق المتوحّش. ثمّ بلغها الخبر بأن إصابة خطيرة لحقت به أثناء قتاله على الجبهة الروسية. فذهبت إلى بيته وأخذت الرسائل التي كانت قد كتبتها إليه وكذلك بعض رسوماته لها. وطلب منها احد أصدقائهما المشتركين أن تزوره على فراش المرض. غير أنها كانت قد وضعته وراء ظهرها ونسيته تماما.
    لكن قُدّر لـ اوسكار كوكوشكا أن يُشفى من إصابته. وقد هاجر بعد ذلك إلى باريس ثم لندن فـ نيويورك، وأخيرا استقرّ في سويسرا بعد الحرب العالمية الثانية. أما الدمية التي كان قد صنعها لـ آلما فقد ظلّ يحتفظ بها سنوات طويلة إلى أن قام بإتلافها أثناء نوبة غضب ليلية.
    قضى اوسكار كوكوشكا آخر سنواته في سويسرا. كان يشعر بالكثير من الحزن والمرارة لأنه وجد نفسه غريبا ومنسيّا مثل هامش صغير في كتاب تاريخ الفنّ. وقد أسهمت فردانيّته في أن أصبح معزولا عن حركات الحداثة في القرن العشرين. والغريب أن سيرة حياته خلت من احد العناصر المألوفة في متلازمة فان غوخ. فقد عاش حياة طويلة نسبيّا. وتوفّي في مونترو في فبراير من عام 1980 عن 94 عاما.

    الأحد، يوليو 22، 2012

    ووترهاوس و أوفيليا

    أوفيليا هي إحدى الشخصيّات الرئيسية في مسرحية هاملت لـ شكسبير. في بداية المسرحية، تظهر اوفيليا كعذراء بريئة تمشي في الطبيعة وتغنّي للأزهار. لكنّ والدها يقرّر أن يوظّف جمالها للتلاعب بـ هاملت، فتقع في حبّه. ثمّ تعرف في نهاية المطاف أن هاملت قتل والدها بعنف، فتمرّ بمعاناة رهيبة نتيجة تشتّت عواطفها واضطراب أفكارها ما بين حبّها لـ هاملت وهجره إيّاها وحزنها على والدها. ونتيجة لعجزها عن التعامل مع الموقف، تقع أوفيليا ضحيّة حالة جنون حقيقيّ وتقرّر الانتحار غرقا.
    شكسبير يكثّف الطبيعة المأساوية لشخصيّة اوفيليا، خاصّة بعد أن حوّلها الصراع بين الرجال إلى ضحيّة، وذلك بجعلها تموت خارج الكواليس. ثم تتلاشى أوفيليا ببساطة، كقطرة في ماء وترحل بعيدا مثل بتلات الزهور.
    رسم أوفيليا العديد من الفنّانين واستخدموها بكثرة كرمز لهشاشة النساء وللفرص الضائعة. الرسّامون ما قبل الرافائيليين وجدوا في قصّتها موضوعا لا يقاوم للوحاتهم. المشهد التراجيدي العظيم في شخصيّتها ورمزية العذراء الشابّة الغارقة في الجنون أضافت إلى الصورة مزيدا من القوّة والجاذبية. وحتّى في وقتنا الحاضر، ما تزال صورة أوفيليا تلهم خيال الفنّانين والأدباء والشعراء.
    الفنّان جون وليام ووترهاوس رسم ثلاث لوحات لـ أوفيليا، وكلّ واحدة منها تصوّر المرأة في مرحلة مختلفة أثناء الفترة التي سبقت وفاتها.
    في لوحة من عام 1889 "الثانية إلى اسفل"، يرسم ووترهاوس اوفيليا وهي مستلقية في مرج وشاردة التفكير، بينما تمسك شعرها بيدٍ وبالأخرى باقة من شقائق النعمان. عيناها تنظران إلى الخارج في انشغال منوّم تقريبا. تمثيل الطبيعة الخلابة في هذه اللوحة تمّ بطريقة حسّاسة ومذهلة. العشب وبتلات الزهور مفصّلة بعناية، وتخلق خلفية خضراء وخصبة. ليس مستغربا هذا الهوس الذي يبديه ووترهاوس في الاهتمام بالتفاصيل. وقد احتفظ بهذه اللوحة في محترفه زمنا، ثمّ عاود العمل عليها مرّات ومرّات على مدى سنوات.

    لوحة ووترهاوس الثانية لـ اوفيليا ظهرت في العام 1894م. وفيها تبدو المرأة جالسة وسط بركة من أزهار الزنبق في اللحظات الأخيرة قبل وفاتها. ملابسها الفخمة تتباين مع الطبيعة المحيطة. ومرّة أخرى، وضع الرسّام الأزهار على حجرها وفي شعرها في محاولة لربطها بمحيطها الطبيعيّ. اوفيليا تحدّق في المياه المظلمة للبحيرة، بينما يظهر جانب من وجهها الهادئ في نظرة جانبية. في هذه اللوحة، يبدو الموضوع بعيد المنال. وعلى الأرجح، لم ينجح الرسّام في أن يصوّر بدقّة امرأة قرّرت أن تأخذ حياتها وتنتحر.
    تصوير ووترهاوس الثالث والأخير لـ أوفيليا "اللوحة الأولى فوق" كان في عام 1910، وهو الأكثر دراماتيكية. وكما في اللوحتين الأخريين، تظهر هنا أيضا مزيّنة بالورود وبشعر طويل ومائل إلى الحمرة. لكن اوفيليا هذه تختلف كلّيا عن سابقتيها. فالرسّام يصوّرها أكثر نضجا وأنوثة. كما أنها ترتدي ثوبا أزرق قرمزيا بدلا من الثوب الأبيض العذري. اوفيليا تقف في مقدّمة اللوحة وتحتلّ معظم الصورة بينما تحدّق في الناظر. نظراتها الحادّة وخدّاها المشوبان بحمرة يعبّران عن حالة اليأس التي تتملّكها. يدها تستريح على الشجرة لكي توازن نفسها قبل أن تخطو في الماء. وهناك شخصان يظهران في الخلفية. إنهما ينظران، لكن لا يبدو أنهما يدركان أن المرأة ماضية إلى مصيرها.
    جون وليام ووترهاوس كان احد الفنّانين النادرين الذين أصبحوا يتمتّعون بالشعبية والثراء أثناء حياتهم. وكان لأسلوبه تأثير كبير على العديد من الرسّامين ما قبل الرافائيليين مثل فرانك ديكسي وجيمس دريبر. وبشكل عام، لا يُعرف سوى القليل جدّا عن حياته الخاصّة. لكن يقال انه كان شخصا خجولا ومتحفّظا نوعا ما. وقد نجح الرسّام في تطوير أسلوبه الخاصّ في الرسم والذي كان مزيجا من الكلاسيكية والرومانسية.
    كان ووترهاوس مشهورا، ليس فقط بتوليفاته ومهاراته الفنّية العالية، وإنّما أيضا بموهبته في التقاط الكثافة الدرامية لموضوعاته. كان يحبّ أن يرسم شخصيات نسائية منكوبة، وكان غالبا يستخدم زوجته كموديل. "مترجم".