:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الخميس، سبتمبر 13، 2012

رمبراندت: الفيلسوف المتأمّل

منذ فجر التاريخ، ظهر العديد من الأفراد الذين أتعبوا عقولهم في التفكير في أسباب الأشياء ومعنى الحياة وماهيّة الخلق والموت والقدَر وغير ذلك من الأسئلة الملغزة والمحيّرة. بعض هؤلاء كرّسوا حياتهم كلّها لدراسة هذه المسائل، وكانت تلك مهمّتهم الوحيدة. ومن بين هؤلاء اليونانيّون القدماء الذين كانوا أمّة مفكّرة أنجبت العديد ممّن كانوا يُدعون بالفلاسفة، أي محبّي الحكمة. وقد انتقل هذا المصطلح من جيل إلى جيل إلى أن وصل إلى عصرنا.
ومع توالي القرون، وجد الفلاسفة مواضيع أكثر وأكثر ممّا يصلح للدراسة والتفكير. بعضهم درسوا حركات النجوم وحاولوا اكتشاف ما إذا كان لها تأثير على حياة الإنسان. وظهر آخرون قاموا بفحص مختلف الموادّ التي تتألّف منها الأرض وجمعوها معا لخلق أشياء جديدة.
وفي القرن السابع عشر، أي العصر الذي عاش فيه الرسّام الهولندي رمبراندت، كانت هناك ضجّة كبيرة أثارتها الأفكار الفلكية الجديدة التي أتى بها غاليليو في إيطاليا والاكتشافات الجديدة في مجال الكيمياء التي كان فان هيلمونت البلجيكي احد روّادها.
كان رمبراندت معروفا بافتتنانه برسم لوحات تُظهر شخصيات غارقة في التفكير والتأمّل. وتلك كانت سمة من سمات فنّه. وهي تعكس انشغاله الطويل بالتجارب البصرية والانفعالية.
وإحدى لوحاته المشهورة من هذا النوع هي لوحته المسمّاة "فيلسوف في حالة تأمّل" الموجودة اليوم في متحف اللوفر. وقد رسمها في العام 1632، أي بعد وقت قصير من انتقاله من ليدن إلى أمستردام. وظهرت اللوحة في باريس في منتصف القرن الثامن عشر، واقتناها عدد من الشخصيّات الأرستقراطية، إلى أن ضُمّت أخيرا إلى المجموعة الملكيّة في قصر اللوفر.
موضوع اللوحة وتوليفها المعقّد وأسلوب الرسّام في التعامل المتدرّج بنعومة بين الصفاء والعتمة، كانت كلّها محلّ تقدير واسع في فرنسا. كما جاء ذكر اللوحة في كتابات العديد من الشخصيّات الأدبية في القرنين التاسع عشر والعشرين، مثل جورج صاند وثيوفيل غوتييه وجول ميشيل ومارسيل بروست وبول فاليري وغاستون باشلار وبول كلوديل وألدوس هكسلي وغيرهم.
ويمكن قياس شعبية اللوحة من خلال حضورها الواسع على شبكة الانترنت، حيث تُستخدم غالبا كشعار للفلسفة أو كتفسير للظواهر الباطنية والغامضة.
وفي حين أن العنوان التقليدي للوحة، أي "فيلسوف في حالة تأمل"، مسئول إلى حدّ كبير عن شعبيّة اللوحة، فإنها لا تُظهر أيّا من السمات اللافتة للفلسفة، أي الكتب والأدوات العلمية وما إلى ذلك. كما أن وجود شخص آخر في اللوحة مشارك في المهامّ المنزلية لا يتلاءم مع العزلة المرتبطة عادة بأجواء الدراسة والتأمّل.
وعلى الرغم من أن هناك كتابا كبيرا وريشة من بين الأشياء القليلة الموضوعة على الطاولة أمام الشخصية الرئيسية، إلا أن هذه الأشياء صُوّرت بطريقة موجزة ويستحيل تحديدها بطريقة أكثر دقّة.
الأشياء المرسومة في اللوحة تشير إلى بيئة محليّة. ولكن المعمار يتحدّث عن التاريخ أكثر من أيّ شيء آخر. مؤرّخ الفنّ الفرنسي جان ماري كلارك يشير إلى أن المنظر مستمدّ من توبيا أو توبياس، وهو واحد من مصادر رمبراندت المفضّلة من كتاب العهد القديم.


ولا يبدو مرجّحا أن رمبراندت كان في عقله أيّ فيلسوف عندما رسم هذه اللوحة. ومن الواضح أن فيلسوفه يبدو مهتمّا بالتفكير أكثر من القراءة، لأنه يجلس ويداه مضمومتان إلى حضنه ورأسه غارق على صدره. عيناه تحدّقان بعيدا عن الكتاب المفتوح الموضوع على الطاولة، وكأنه يغلقهما عن العالم الخارجي ويفتح كيانه كلّه على النور الداخلي. وهو يرتدي ملابس فضفاضة، ورأسه الأصلع محميّ بغطاء صغير. ومكانه الذي يجلس فيه يعتبر مكانا مثاليّا لفيلسوف في حالة تأمّل.
جدران الغرفة، حيث يجلس، سميكة جدّا بحيث تسدّ كلّ الضجيج المربك للعالم الخارجي. وهناك نافذة واحدة إلى يمينه تسمح بتسرّب قدر من الضوء بما يكفي للقراءة. إنها غرفة عارية صغيرة مع جدران غير منتظمة وأرضية مرصوفة بالحجارة.
الفيلسوف يجلس هنا في سكون. احتياجاته بسيطة ولا مكان فيها للترف والأشياء الكمالية. انه لا يطلب شيئا أكثر من الهدوء الذي يعينه على متابعة أفكاره وتأمّلاته.
وفي حين أن أفكاره هي عن الأشياء السامية والحقائق الأبدية، إلا أن هناك امرأة مسنّة مشغولة بمعالجة النار في زاوية الغرفة. ومن الواضح أنها تهتمّ بالأشياء المادّية والزمنية للحياة. وهي تبدو منكبّة على الموقد وتضع غلاية على النار. الضوء ينعكس على وجهها ويومض هنا وهناك على الأواني المعلّقة بالمدخنة إلى أعلى. جهد المرأة ومثابرتها يحملان وعدا بما سيأتي. فعندما يفرغ الفيلسوف من تأمّلاته، سيكون على موعد مع عشاء ساخن وشهيّ، على ما يبدو.
هناك شيئان غامضان في الغرفة ومثيران للفضول. في الحائط، خلف كرسيّ الفيلسوف، هناك باب منخفض ومقوّس. ترى هل يؤدّي الباب، مثلا، إلى كهف ما تحت الأرض؟ هل هناك سرّ ما وراء هذا الباب؟ مختبر مثلا؟ هل الفيلسوف يبحث في أسرار الكيمياء ويحاول العثور على "حجر الفلاسفة"؟ هل يكمن وراء هذا الباب كنز مخبّأ وثمين وصعب المنال، مثل الحقائق الخفيّة التي يتوق الفيلسوف لاكتشافها؟
في الجانب الأيمن من الغرفة، ثمّة درج عريض ومتعرّج يرتفع إلى فوق ويختفي في الظلمة الكئيبة إلى أعلى. السلّم الحلزوني قد يكون رمزا للطبيعة التصاعدية للتفكير التأمّلي. نتابع ذلك الدرج بعيوننا المتسائلة إذ تحاول اختراق الظلام ورؤية إلامَ يؤدّي. ربّما هناك غرفة علوية مع نوافذ مفتوحة على السماء، حيث يدرس الفيلسوف النجوم. ويُحتمل أن السلالم المتعرّجة تقود إلى مرصد أو برج صغير من النوع الذي يستخدمه عالم فلكيّ.
الفيلسوف في اللوحة رجل عجوز برأس أشيب. ووجهه مكسوّ بخطوط وتجاعيد، ربّما من كثرة التفكير. وحتى لو حُلّت جميع مشاكله، فإنه ما يزال يجد متعة كبيرة في التفكير الذي قد يجلب له في النهاية السلام والطمأنينة.
النهار يقترب من نهايته. والضوء المتراجع يسقط من خلال النافذة ويضيء وجه الرجل الجليل. هذا المكان هو في الواقع مسكن مثاليّ يليق بفيلسوف يخترق بأفكاره حجب الغيب وأسرار المجهول.
استدارة الدرج وسط الظلال، والضوء الذهبيّ المتدفّق من النافذة إلى حيث يجلس الفيلسوف في عزلة وتأمّل، يوحيان بالشعلة المتوهّجة من التأمّل الداخلي. الدرج نفسه يختفي في الأعلى حيث الظلام والعتمة. ومهمّة الفيلسوف هي أن يصعد إلى أعلى ويحضر الضوء الذي يبدّد الظلام.
موضوع رمبراندت الخالد عن الفيلسوف المتأمّل هو مساحة داخلية، من الناحيتين الجسدية والعقلية. ومن خلاله يقودنا رمبراندت كي نتواصل مع جوهر التأمّل الموصل إلى اليقين والاستنارة.

Credits
rembrandtonline.org
contemplationem.com