:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الخميس، أبريل 17، 2014

أرض أخرى؟

قد يتمكّن البشر قريبا من جعل موطنهم الوحيد، أي الأرض، مكانا غير صالح للسكنى. ولهذا يبذل علماء الفلك جهودا حثيثة للعثور على كواكب أخرى تتوفّر فيها الظروف المناسبة لعيش الإنسان، على أمل أن يتمكّن البشر من الوصول إليها واستيطانها مستقبلا. ومؤخّرا، تمّ اكتشاف بضعة كواكب في الكون الخارجي تُعدّ أكثر العوالم شبها بالأرض ويُتوقّع أن تكون داعمة للحياة.
المعروف أن أوّل كوكب فعليّ يقع خارج مجموعتنا الشمسية ويدور حول نجم غير شمسنا اكتشفه العلماء قبل حوالي ثلاثين عاما. ومنذ اكتشافه، تمّ إحراز تقدّم معقول في استكشاف العوالم الخارجية. وهناك من يقول إننا ربّما نقترب الآن من لحظة اكتشاف "الأرض الأخرى"، أي الكوكب الذي يشبه أرضنا.
العلماء، من جهتهم، يقدّرون أن هناك عشرات البلايين من هذه العوالم الصخرية التي تدور حول نجوم قزمية في مجرّة درب التبّانة لوحدها. والصورة فوق هي عبارة عن رسم متخيّل لمنظر الغروب كما يظهر في سماء أحد هذه الكواكب الخارجية المسمّى غليسا 667 سي سي (Gliese 667 Cc). النجم الأكثر سطوعا في سماء هذا الكوكب، كما يبدو في الصورة، هو قزم أحمر، وهو واحد من منظومة تتألّف من ثلاثة نجوم. وفي سماء الكوكب أيضا يمكن رؤية شمسنا بالعين المجرّدة، ولكن كنجم بعيد جدّا.
غليسا 667 سي سي اكتُشف لأوّل مرّة عام 2009، وهو يقع في برج العقرب ويبعد عن الأرض مسافة 23 سنة ضوئية. ولو قُدّر لإنسان أن يزوره، فسيلاحظ أن وزنه قد ازداد بسبب جاذبيّته الأقوى من الأرض. ولأن النجم الذي يدور حوله هذا الكوكب قزم احمر، فإن ضوءه أكثر خفوتا من ضوء شمس كوكبنا.
كما أن المسافة بين الكوكب ونجمه تقارب حوالي عشر المسافة بين الأرض والشمس. وبسبب قرب الكوكب من نجمه، فإن غليسا 667 سي سي يحتاج لـ 28 يوما فقط كي يكمل دورة واحدة حول شمسه، أي أن السنة الواحدة فيه تدوم حوالي أربعة أسابيع فقط بزمن الأرض.
وبسبب هذا القرب أيضا، فإن شمس الكوكب تظهر في سمائه بحجم اكبر بكثير مما تظهر به الشمس في سماء كوكبنا وتعكس على سطح الكوكب ضوءا خافتا مشوبا بحمرة. وبسبب ظاهرة المدّ المقفل ، فإن احد جانبي الكوكب يواجه الشمس دائما، بينما الجانب الآخر غارق في الظلام أبدا. لذا يمكنك أن تختار وقت اليوم الذي تريده، وهذا أيضا يعني أن جزءا من الكوكب حارّ جدّا دائما والجزء الآخر بارد جدّا على الدوام.
العلماء يرجّحون أن هذا الكوكب شبيه بأرضنا بنسبة 85 بالمائة. وهو يقع على الحافّة الداخلية لما يُسمّى بالمنطقة المعتدلة، أي انه قد يحوي محيطات وماء وربّما حياة، لكنها مختلفة من عدّة أوجه عن الحياة على الأرض.
فهو أوّلا "سوبر ايرث"، أي انه اكبر من الأرض. وكتلته اكبر بخمس مرّات من كتلة الأرض، وهذا يعني أن الجاذبية على سطحه اكبر من جاذبية الأرض، أي أن الأشياء أثقل والمطر يهطل بوتيرة أسرع والطبيعة فيه نحتتها يد أثقل.
العلماء اكتشفوا أيضا عالََما آخر يُعدّ أحد أكثر العوالم شبها بالأرض في الكون الخارجي. وهو عبارة عن كوكبين قيل إنهما قادران على دعم الحياة. والاثنان يدوران حول نجم يقع شمال كوكبة ليرا "أو القيثارة" ويبعد عن الأرض حوالي 1200 سنة ضوئية.
وهذا الكوكبان هما الأبعد في مجموعة تتألّف من خمسة عوالم تدور حول نجم مصفرّ وباهت وأصغر قليلا من شمسنا. هذا النجم كان غير معروف من قبل. لكنّه الآن أصبح يُعرف في كتب تاريخ الكون باسم كيبلر 62، على اسم المركبة التي اكتشفت تلك الكواكب.
الكواكب الخمسة المكتشفة يقارب حجم كلّ منها حجم الأرض ويُفترض أنها عبارة عن كتل من الصخر. وثمّة احتمال بأنها مغطّاة بمحيطات وأن سماواتها رطبة وملبّدة بالغيوم.


أحد باحثي الفضاء وصف اثنين من تلك العوالم النائية كأفضل مكانين لنشوء حياة. وكلّ من الكوكبين يظهر في السماء الزاهية للكوكب الآخر. كما أنهما يدوران حول نجمهما على مسافتي 37 و65 مليون ميل على التوالي. والأهم من ذلك أن مداريهما يضعهما في المنطقة المعتدلة، وهو الوصف الذي يطلقه العلماء على أيّ كوكب يبلغ متوسّط درجة الحرارة على سطحه أكثر من صفر وأقلّ من 100 درجة مئوية، أي حيث يمكن أن يوجد ماء في حالته السائلة وليست الغازيّة كما هو الحال مع كوكب الزهرة أو الثلجية كما هو حال كوكب المرّيخ.
منظومة كيبلر 62 تشبه نظامنا الشمسي، الذي يحتوي هو أيضا على كوكبين في المنطقة المعتدلة هما الأرض والمرّيخ الذي يقال انه كان يحتوي في ما مضى على ماء وكان بالإمكان أن يكون صالحا للسكنى اليوم لو انه احتفظ بغلافه الجوّي البدائي.
العلماء يقولون إن البشر لا يمكن أن يعيشوا تحت الضغط الساحق للسحب الغازيّة في كواكب مثل المشتري. والحياة كما خبرناها تتطلّب أرضا صلبة وماءً سائلا، أي بعبارة أخرى، بيئة أرضية مواتية.
هذه الكواكب المكتشفة حديثا، أي عوالم كيبلر 62 والكوكب غليسا 667 سي سي، دفعت علماء الفلك لأن يغرقوا في تفاؤلهم وتوقّعاتهم العالية وعزّزت قناعتهم بأن المجرّة تتناثر فوقها بلايين الكواكب بحجم الأرض، وبما يصل إلى كوكب واحد على الأقلّ مقابل كلّ نجم، وأنه لن يمضي وقت طويل حتى يعثروا على ما يقولون انه توأم الأرض الضائع.
لكن من المرجّح أن لا يتمكّن احد على الإطلاق من معرفة ما إذا كان هناك أيّ شيء يعيش على تلك الكواكب. ويُحتمل أن لا يتمكّن البشر من السفر إلى هناك إلا في أحلامهم الأسرع من الضوء! فهذه العوالم بعيدة جدّا. وباستخدام التكنولوجيا المتوفّرة حاليا، يمكن أن يستغرق السفر إليها ملايين السنين الضوئية!
المعروف أن قطع مسافات كونية يتطلّب مقادير فلكية من الطاقة، بحسب نظرية النسبيّة الخاصّة. وليس لدى البشر بعد سفن تطوي الكون وتحمل الناس إلى العوالم الأخرى. والتكنولوجيا المتاحة الآن لا تستطيع أن تأخذنا إلى أيّ مكان، بل إننا لا نستطيع حتى إرسال مركبة مأهولة إلى المرّيخ وإعادة ركّابها أحياء من هناك.
وليست السرعة فقط هي التي يجب وضعها بالاعتبار في مسألة السفر إلى هذه العوالم البعيدة، وإنّما أيضا الطاقة المطلوبة للحصول على تلك السرعة. ولو لم تكن الطاقة متطلّبا، لأمكن بلوغ مجرّة اندروميدا، مثلا، وهي أقرب مجرّة كبيرة إلينا، خلال 28 عاما فقط من منظور المركبة الفضائية ودونما حاجة لتجاوز سرعة الضوء، رغم أن هذه المجرّة تبعد عنّا أكثر من مليونين وخمسمائة ألف سنة ضوئية.
والمشكلة الأخرى هي أن الفضاء ليس فراغا كاملا. فالاصطدام بذرّة غبار أثناء الطيران بسرعات هائلة قريباً من سرعة الضوء كفيل بأن يتسبّب بكارثة، أو على الأقل بخلق حالة من الفوضى والارتباك.
وبرأي بعض العلماء، فإن الذهاب إلى الفضاء بمعدّلات سرعة فائقة ليس حلا، بل قد يكون احد الحلول هو الثقوب الدوديّة ، أي الطرق المختصرة. وهي أشبه ما يكون بأن تحفر ثقوبا في جدران منزلك كي تنتقل من غرفة لأخرى، دونما حاجة للدخول من الأبواب أو المرور بالصالات. لكن لسوء الحظّ أيضا، فإن هذه الطريقة تتطلّب، هي الأخرى، طاقة هائلة لا تقلّ عن الطاقة المتولّدة عن سوبرنوفا أو نجم متفجّر. ولو لم تكن الطاقة مطلوبة لأمكن بناء آلة أو فقاعة لطيّ الزمان والمكان "الزَمَكان"، كما في فيلم "ستار ترِك" وغيره من أفلام الخيال العلمي.
وللحديث بقيّة.

Credits
universetoday.com
fromquarkstoquasars.com
science.kqed.org

الأحد، أبريل 13، 2014

عودة إلى البدايات

قبل القرن التاسع عشر، كان موقف الإنسان تجاه المحيط أو البحر نفعيّا أكثر منه جماليّا. كان البحر يُصوّر على انه خطير وطارد وقبيح وغير صالح للتمثيل الأدبيّ أو الفنّي. وكانت المحيطات تُستكشف كوسيلة للوصول إلى أراض بعيدة. ولم يكن هناك سوى اهتمام قليل بالمياه نفسها.
كانت الفكرة الشائعة عند الكثيرين هي أن البحر العميق نادرا ما يترك انطباعا. وحتى المستكشفون العابرون للمحيطات كانت وجهتهم الأراضي وليست المحيطات. كانوا يستخدمون البحر فقط كطريق سريع للوصول إلى اليابسة التالية.
العلم الحديث في بداياته كان يعرف عن السماء أكثر ممّا كان يعرفه عن المحيطات. وكان هناك اهتمام باستخراج ثروات البحار، وخاصّة الأسماك، اكبر من الاهتمام بالمياه نفسها. وكلّ ما يكمن تحت السطح، أي في الأعماق، كان يُنظر إليه على أنه هاوية بلا قرار ومنطقة ميّتة ومظلمة ومجهولة لا يمكن اختراقها، كما أنها تحاصر وتحبس كلّ ما يغرق هناك تحت السطح ولا تكشف عن أسرارها أبدا.
كانت روايات البحر الخيالية والرسومات المبكّرة فقيرة على نحو مستغرب عندما يتعلّق الأمر بالمحيطات نفسها. والتركيز كلّه تقريبا كان على السفن ومهارات الرجال الذين يشرفون عليها، وكان البحر نفسه يعامل كفكرة ثانوية.
وما يمكن تسميته بالاكتشاف الثاني للبحر، أي ابتداءً من أواخر القرن الثامن عشر وطوال القرنين التاسع عشر والعشرين، أنتج توسّعا هائلا في المعرفة العلمية والإنسانية عن البحر كشيء حيّ ثلاثيّ الأبعاد له تاريخ وجغرافيا وحياة مستقلّة وقائمة بذاتها.
والآن تتوفّر كنوز دفينة من الكتابة والرسم والموسيقى التي يمكن وضعها تحت لافتة ما يُسمّى اليوم بعلم المحيطات. كما أن هناك الآن تحوّلا في الاهتمام من الأرض إلى البحر في العديد من المجالات.
علم الآثار مثلا انتقل إلى قبالة الشواطئ كاشفا عن جوانب لم تكن معروفة سابقا عن عصور ما قبل التاريخ كانت قد فُقدت بسبب ارتفاع مستويات البحر.
والأنثروبولوجيا، أو علم الإنسان، الذي كان قد بدأ في الجزر أصبح الآن يركّز على البحار وما بينها. والتاريخ البحريّ، الذي كان ذات مرّة يتناول ما يحدث فوق سطح الماء، بات الآن يهتمّ بالحياة في المحيط نفسه. وهو الآن يندمج بسرعة مع علم الأحياء البحرية، ليصبحا شكلا لا يمكن تمييزه عن التاريخ الطبيعي.
وما كان ذات مرّة مجرّد حفرة زرقاء في التاريخ البيئي بدأ الآن يمتلئ بالدراسات عن أنواع معيّنة من الأسماك والثدييات البحرية. وحتى في الفترة القليلة الماضية، بدأنا استكشاف تاريخ تيّارات المحيطات والمدّ والجزر وحتى الأمواج، أي الظواهر التي كان يُعتقد في الماضي أنها ثابتة لا تتغيّر، تماما كـ "البحر الأبديّ" نفسه.
إن إضفاء سمة تاريخية على المحيطات هو واحد من الاتجاهات الأكثر إثارة للاهتمام في علم المحيطات. وهذا يعني أن التاريخ لم يعد يتوقّف عند حافّة الماء. البحر المتوسّط كان محطّ اهتمام كلّ المؤرّخين القدماء. والآن أصبح تاريخ المحيطين الأطلسي والهادئ جزءا من الدراسات الحديثة.
قصص البحر وأغانيه واللوحات البحرية ليست بالشيء الجديد، غير أنها لم تخضع للتدقيق الأكاديمي سوى في الآونة الأخيرة. والمناظر البحرية التي كانت في الماضي جزءا صغيرا من تاريخ الفنّ، كانت تركّز أساسا على السفن والمرافئ. وقد تطوّرت عندما رسم فنّانون روّاد من القرن التاسع عشر من أمثال وليم تيرنر وايساك ليفيتان وغوستاف كوربيه ووليم هودجيز وكاسبار فريدريش وشارل مالفروي وإيفان ايفازوفسكي وكلود مونيه ووينسلو هومر ضوء وحركة البحر على القماش في ما يسمّيه بعض النقّاد بالمناظر البحرية النقيّة.
وقد تناول خبراء الأدب المقارن كيف ظهرت قصص البحر المعنيّة أصلا بآليّات الإبحار في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وكيف أصبحت تركّز على المحيط نفسه محوّلة إيّاه إلى فضاء يمكن من خلاله تخيّل الحداثة.
الرواية الحديثة ولدت في البحر مع روبنسون كروزو، ووصلت إلى مستوى جديد من التطوّر الميتافيزيقي مع موبي ديك، ثمّ استمرّت تتقدّم للأمام مع روايات الخيال المائي لجول فيرن.

غير أن العصر الحديث أنجز ما لم ينجزه عصر آخر، أي اكتشاف العمق الزماني والمكاني للبحر. وأصبحنا نعرف أن الماء أنتج جميع أشكال الحياة على الأرض، بما في ذلك حياتنا نحن البشر. كما قوّض علم الآثار التسلسل الزمني المحدود الذي فرضه الإنجيل، عندما أعاد موطن الإنسان العاقل الأصلي، أي أسلافنا المباشرين أو الهومو سابيانز كما يُسمّون، إلى الشاطئ الأفريقي الذي بدأ منه البشر استيطانهم السريع للعالم.
والمفارقة هي أن الأمم عندما ابتعدت عن البحر كمكان للعمل، بدأ الكتّاب والرسّامون توجيه اهتمامهم بالكامل إلى البحر نفسه. وقد حوّلوه، وكما لم يحدث من قبل، إلى مكان للترفيه الروحي والجسدي وأضفوا عليه مسحة سموّ وأعطوه مكانة ثقافية جديدة وقوة جمالية أعلى. وأصبح المحيط في ما بعد ينبوعا للصور والاستعارات. وكان حطام السفن هو الرمز الأكثر بروزا واستمرّ يؤثّر في الثقافة الغربية إلى يومنا هذا.
وحتى عندما بدأت أعداد أولئك الذين يذهبون إلى البحر من اجل كسب لقمة العيش تتضاءل بشكل كبير، ظهرت سلسلة لوحات توماس كول الأربع المشهورة بعنوان رحلة الحياة عام 1842 لتأسر المخيّلة الشعبية. وصار الناس وبشكل متزايد يصفون حياتهم بأوصاف بحريّة ويفضّلون أن يمثّلوا حالتهم العامّة في العالم من منظور الرحلة البحرية، على الرغم من حقيقة أنهم يعيشون على اليابسة.
أما الطبيعة البكر التي كانت قد بدأت تتقلّص مساحتها في المجتمعات الصناعية فقد وجدت لها ملاذا في المحيطات، بينما انتقل الغموض الذي كان مرتبطا بالأراضي المجهولة إلى الأعماق. ولم يكن مستغربا أن التسامي الذي ارتبط سابقا بالجبال والغابات أصبح الآن مرتبطا بالمياه الفطرية أو الطبيعية.
يقول احد المؤرّخين: خلال القرن التاسع عشر، دخل المحيط عقول ومنازل وأحلام وأحاديث الناس العاديّين". وقد فعل ذلك من خلال فنّ المناظر البحرية وأدب المغامرة وتعلّق الناس بالأصداف البحرية وبطلاسم الطبيعة.
لقد بدأ الناس في العودة إلى البحر بحثا عن نوعيّة كانوا يشعرون أنهم يفتقدونها في البيئة الصناعية الجديدة، أي ذلك الشيء المسمّى البرّية. الرغبة في تجربة الطبيعة الفطرية نشأت في القرن الثامن عشر بين مجموعة صغيرة من الكتّاب الأوروبّيين الذين كانوا يرون في قوّة البحر الرهيبة محفّزا عاطفيّا وذهنيّا قويّا. الشعور بالرهبة الذي كان المتديّنون يربطونه في الماضي بالقوى الغيبية الخارقة انتقل الآن إلى الطبيعة نفسها.
احد الكتّاب من تلك الفترة كتب يصف الرعب الذي تثيره العواصف بقوله: من بين جميع الكائنات التي رأيتها في حياتي، لا شيء يؤثّر على الخيال مثلما يؤثّر البحر أو المحيط". وكتب آخر انه يفضّل البحر على اليابسة كمنشّط للعقل والروح. ولم يكن يعرف هذا أفضل من جول فيرن الذي كتب يقول: العقل البشريّ يجد سروره في الرؤى الكبرى للكائنات الخارقة. والبحر هو البيئة الوحيدة التي يمكن فيها لهذه الكائنات أن تنتج وأن تتطوّر".
ومثل هذه الأفكار نجدها مبثوثة في مئات، وربّما آلاف الأعمال الروائية التي يتمحور موضوعها حول البحر أو المحيط لكتّاب مثل هيرمان ميلفيل وكلايف كسلر وجون شتاينبك ودانيال ديفو وبيتر بينشلي ولويس ستيفنسون وغيرهم.
الأحلام والكوابيس التي سبق وأن أسقطت على المناظر الطبيعية البرّية أصبحت تُستثمر الآن في المناظر البحرية. وحتى عندما أصبحت المحيطات كائنات أو موضوعات للعلم، فإنها أنتجت أساطير جديدة. وقد تمّ إحياء فكرة اتلانتيس، القارّة المغمورة، من قبل عالَم حديث يشعر بالقلق بشأن بقائه. وانجذب البحر إلى مركز الوعي الجماعي الغربيّ.
البحر كامن في مخيّلة بلايين البشر. ومنهم من لن يختبروا مياهه أبدا. وقد توصّلنا إلى معرفتنا عنه من خلال العلوم الإنسانية بقدر ما عرفنا عنه من خلال العلم. ومعظم لقاءاتنا معه تتمّ من مسافة بعيدة ومن خلال الرسوم والقصص التي تعود إلى فترة طفولتنا. وهو حاضر إلى الأبد في أحلامنا وكوابيسنا. وغالبا ما يكون منظر بحريّ أو صورة ايقونية هي التي تغرينا وتستدرجنا نحو شاطئ ما.
وحتى عندما تضاءل الارتباط الفعليّ بالبحر، فإن حضوره الرمزيّ والمجازيّ ازداد. وكانت أمواج المدّ وما تزال تذكيرا بالطفولة والشباب، والجزر رمزا للشيخوخة، بينما الأفق يحكي عن المستقبل وعن الأبدية.
من جهة أخرى، بات البحر رمزا للخلود. وهو يوفّر سُلواناً لأولئك الذين فقدوا إيمانهم بالحياة الأبدية، وصاروا يرون فيه دليلا على حركة الطبيعة الخالدة ووعدا دنيويّا باستمرارية الحياة. .

Credits
link.springer.com