:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الجمعة، فبراير 20، 2009

شجرة الأماني


في الكتب الهندية القديمة إشارات متكرّرة عن شجرة يقال أنها موجودة في الجنّة.
ومهمّة الشجرة هي تحقيق الأماني والرغبات وتحويل الأفكار إلى حقيقة.
وفي الجنّة أعداد كثيرة من هذه الشجرة. ما عليك سوى أن تجلس تحت إحداها وتطلق لمخيّلتك العنان وتتمنّى ما يحلو لك. وفي الحال تتحقق أمنيتك أو رغبتك. لكنّ المشكلة أن تلك الشجرة السخيّة لا تحقق الأماني فقط، وإنما تحوّل كلّ ما يعبر رأسك من أفكار أو تخيّلات أو هواجس إلى واقع.
ويظهر أن فلاسفة الهند القدماء أرادوا أن تكون الشجرة رمزا لعقل الإنسان المبدع بأفكاره وتصوّراته.
تقول إحدى الحكايات إن رجلا كان مسافرا في طريق عندما دخل الجنّة مصادفة. ولأنه كان منهكا من أثر الترحال الطويل فقد غالبه النعاس ونام تحت إحدى تلك الأشجار.
وعندما استيقظ أحسّ بالجوع وقال: لو أن عندي بعض الطعام لآكله.
وفي الحال ظهر الطعام من أكثر من ناحية وامتلأ المكان بأصناف شتّى من أطايب الأطعمة والفاكهة.
وبدأ الرجل يأكل إلى أن شبع. ثم واتته فكرة أخرى وقال: لو أن عندي شيئا من الشراب لأطفئ به ظمأي.
وما هي إلا لحظات حتى امتلأ المكان بكؤوس النبيذ وعصير الفواكه المختلفة. وعندما أخذ الرجل كفايته من الشراب تمدّد في ظلّ تلك الشجرة مستمتعا بنسيم الجنّة العليل ومناظرها البهيّة.
وبينما هو على تلك الحال أخذ يفكّر في هذا الذي حدث له. وتساءل: ما الذي يحدث؟ هل كنت أحلم؟ هل كان هذا مجرّد خيال أو حلم يقظة؟ أم أن هناك أشباحا لا أراها، تخادعني وتتلاعب بعقلي؟ وظهرت له الأشباح فجأة. كانت شرسة وقبيحة المنظر. وبدأ الرجل يرتجف من شدّة الخوف.
ثم قال: أنا متأكّد الآن بأنني سأقتل. هذه المخلوقات الرهيبة ستقتلني!
وقُتِل..!
هذه القصّة جدّ معبّرة وتتضمّن دروسا بالغة الأهمية.
إنها تقول بطريقة غير مباشرة إنّ ما يمرّ بالإنسان من أحداث وتجارب هي في النهاية من صنع عقله وتفكيره هو.
فنوعية أفكارك هي التي تخلق جنّتك أو نارك، سعادتك أو تعاستك.
بل إن نوعيّة أفكار الإنسان يمكن أن تحوّل جنّته إلى نار، وناره إلى نعيم.
هذا الرجل، أي بطل القصّة، كانت له عينان تمنحانه الدهشة ومتعة الاكتشاف، لكنْ كان ينقصه اللسان الذي يعبّر به عن شكره لله.
ومن العبر الأخرى التي تقدّمها القصّة أن التعاسة هي إحساس وليست قدرا محتّما.
الفلسفة البوذية تقول شيئا قريبا من هذا. فهي تؤكّد على ألا حاجة للإنسان أن يخلق جنّة أو نارا، لأنّ كلّ إنسان ساحر ومبدع على طريقته وباستطاعته أن يصوغ عالمه الخاصّ وفقا لمشيئته، وبذا يرتاح الخالق من عناء المهمّة ويعتكف. إن أفضل ما يمكن أن يفعله الإنسان هو أن يبحث عمّا يريده فعلا وليس عمّا كان يفكّر أنه سيجده.



الأربعاء، فبراير 18، 2009

ترنيمة العبيد

"كنت تائها ثم وجدت نفسي. وكنت أعمى وأنا الآن أرى".
قليلة هي النماذج الموسيقية ذات المضمون الروحي القويّ والمؤثّر. وهذه الأغنية تعتبر بالتأكيد إحدى الأغاني التي تنطوي على مضمون ديني وروحي هائل.
وكلمات الأغنية ولحنها من النوع الذي يلامس الوجدان ويحرّك المشاعر بنعومة. تسمعها فتحسّ أنها تنقلك إلى مكان وزمان مختلف.
لذا يصحّ اعتبارها أغنية عابرة للثقافات والجغرافيا بالنظر إلى شعبيّتها الكبيرة وانتشارها غير العادي.
والأغنية المقصودة هي Amazing Grace "أو فيض عجيب"، التي أصبحت منذ ظهورها قبل أكثر من قرنين واحدة من أشهر الأغاني الدينية في العالم.
ولهذه الأغنية قصّة جديرة بأن تُروى.
حوالي منتصف القرن الثامن عشر، كان جون نيوتن قبطان سفينة لتجارة العبيد. وقد ورث الرجل عن أبيه هذه المهنة.
كان نيوتن يذهب بسفينته مرّتين في العام إلى بلدان ساحل أفريقيا الشرقي. ومن هناك كان يبتاع العبيد ثم يحملهم على سفينته ليعود بهم إلى بريطانيا وأمريكا حيث ينتظر وصوله الزبائن المحتملون.
وذات ليلة وهو في وسط المحيط، وكان الجوّ مظلما والبحر ينذر بعاصفة، أصاخ السمع للعبيد على سطح السفينة وهم يؤدّون غناءً جماعيا.
كانوا ينشدون وهم شبه عراة وأيديهم وأرجلهم مكبّلة بالسلاسل.

لم يكن نيوتن يعرف ماذا كانوا يقولون بالضبط. لكنه افترض أنهم بتلك الأغنية إنّما كانوا يحاولون تذكّر أهلهم وأقربائهم الذين تركوهم وراءهم.
وفي الليالي التالية، كان نيوتن يجلس في نفس مكانه المرتفع على متن السفينة وهو ينصت باهتمام إلى غناء العبيد. ومن خلال غنائهم كان يحسّ شيئا فشيئا بمعاناتهم وبؤسهم.
وعندما وصل إلى لندن حدث له أمر غريب. قرّر القبطان أن يودّع تجارة العبيد إلى الأبد وأن يصبح واعظا. ثم شرع في كتابة ترنيمة ألبسها اللحن الذي طالما سمع العبيد يردّدونه على ظهر سفينته.
وما لبثت الأغنية أن انتشرت بسرعة وأصبحت تتردّد على كلّ لسان.
واليوم كثيرا ما تُغنّى في المناسبات والأحداث المؤلمة، بالنظر إلى طبيعتها الحزينة على الرغم من أن الرسالة التي تتضمّنها رسالة أمل وشكر.
"فيض عجيب" من الأغاني التي تروق للجانب الناعم والرقيق من الإنسان. وهي توصل رسالة قويّة مؤدّاها أن البشر في النهاية إخوة في الإنسانية مهما تنوّعت أو تعدّدت ألوانهم وعقائدهم.
إنها حكاية إنسان أضاء نور الله في قلبه فتحوّل إلى شخص آخر تعمر نفسه مشاعر الإيمان والأخوّة الإنسانية.
في كثير من الأحيان، يتحدّث الباحثون عن الأثر الشافي للموسيقى باعتبارها مصدر راحة وعزاء بمثل ما أنها غذاء للروح والنفس والوجدان. وما من شكّ في أن هذه الأغنية ينطبق عليها هذا الوصف.
وقد غنّاها مطربون كثر منهم الفيس بريسلي وهيلي ويستنرا وجودي كولينز. بالإضافة إلى فريق غريغوريان للإنشاد الديني الذي يؤدّي الأغنية هنا بطريقة مختلفة وبإحساس رائع وعميق.

الاثنين، فبراير 16، 2009

طبيب بمرتبة قدّيس

من أحيا نفسا فكأنّما أحيا الناس جميعا.
تذكّرت هذا الأثر الشريف وأنا اقرأ سيرة حياة العالم والطبيب البريطاني ادوارد جينر الذي أنقذ حياة الملايين من البشر باكتشافه اللقاح الذي يقي من مرض الجدري في العام 1798م.
وعندما أتأمّل ما فعله هذا الإنسان المتميّز والعظيم فإنني أتخيّله بمنزلة قريبة من منزلة القدّيسين والأولياء، بل ربّما تفوق مكانته مكانة الكثيرين ممّن اعتدنا أن نطلق عليهم في زماننا صفات التقديس والتبجيل، في حين أنهم لم ينجزوا أعمالا حقيقية ينتفع بها الإنسان أو تعود بالفائدة على الحضارة البشرية.
لم يكن جينر مجرّد طبيب موهوب واستثنائي، بل كان أيضا نموذجا في التضحية والبذل والإيثار.
فقد جرّب العقار الذي اكتشفه على ابنه الوحيد، مع انه كان يعرف مقدّما انه يمكن أن يؤدّي إلى موته. غير أنه مضى في تجربته إلى منتهاها.
المعروف أن جينر عاش في بدايات عصر الثورة الصناعية في أوربّا. في ذلك الوقت كان وباء الجدري يحصد حياة مئات الألوف من البشر في أنحاء كثيرة من العالم. كان الفيروس القاتل يدخل الجسم عبر الرئتين ثم ينتقل للدم والأعضاء الداخلية ولا يلبث أن ينتشر على الجلد في هيئة قروح وندوب متهيّجة.
وقصّة اكتشاف جينر مصل الجدري قصّة غريبة ولا تخلو من مفارقة. ففي احد الأيّام سمع امرأة قدمت إلى قريته من مدينة أخرى وهي تؤكّد لإحدى قريباتها أنها لن تصاب بالجدري القاتل لأنها سبق وان أصيبت بجدري البقر، وهو مرض غير مهدّد للحياة وعادةً ما يشفى من تلقاء نفسه.
كان الطبيب ينصت إلى حديث المرأتين باهتمام. وقد دفعه ما سمعه لأن يدرس العلاقة بين المرضين. ويوما بعد يوم ترسّخت لديه القناعة بأن المرض الثاني يمنح الإنسان مناعة أكيدة ضدّ الإصابة بالنوع القاتل.
ولم يمض طويل وقت حتى حقن أوّل مرضاه بفيروس الجدري الخفيف، وبعد أسابيع قام بحقنه بفيروس الجدري القاتل. وكانت النتيجة مدهشة، إذ لم تظهر على المريض سوى أعراض بسيطة لم تلبث أن اختفت. ثم جرّب الطعم على عشرات الأطفال، ومن بينهم ابنه، وكانت النتيجة واحدة: لم يكن هناك أثر على الإطلاق للمرض الخطير.
في تلك الأثناء، دخلت لأوّل مرّة على المعجم الطبّي كلمة Vaccine التي تعني الطعم أو اللقاح. ثم اتخذت المفردة بعدا أوسع فأصبحت تشير إلى عملية إنتاج المناعة ضدّ مرض معيّن.
وأهمّية ما أنجزه جينر يمكن إدراكها من حقيقة انه الشخص الذي ابتدع التطعيم للمرّة الأولى في تاريخ الطب كوسيلة لحماية الجسم من خطر الأمراض المعدية.
الطريف في الأمر أن رجال الدين في ذلك الزمان أفتوا بحرمة عمله، وقالوا إن ما فعله أمر بغيض لا يرضي الله، إذ لا يجوز أن يحقن إنسان بمادّة من حيوان مريض.
أما الصحف فقد وجّهت للطبيب سيلا من النقد والسخرية اللاذعة، ونشر بعضها رسوما كاريكاتيرية متهكّمة يظهر فيها أشخاص وقد تحوّلت رؤوسهم إلى رؤوس بقر.
لكن بعد أن أدرك الناس ضخامة الانجاز الذي حققه، سرعان ما اعترفوا له بفضله وريادته وأحقيّته بالعرفان والتقدير.
وسارعت العديد من الدول إلى الإشادة بما فعل وخلعت عليه الألقاب والجوائز نظير ما قدّمه من خدمة جليلة للبشرية جمعاء. بينما كافأته جامعته، اوكسفورد، بمنحة درجة الدكتوراه الفخرية.
وبفضل ادوارد جينر وتجاربه تمّ اجتثاث مرض الجدري من العالم نهائيا. لكن لا يزال فيروس المرض القاتل وغيره من الأمراض المعدية والفتّاكة موجودا بأعداد هائلة داخل مخازن ضخمة تحتفظ بها القوى الكبرى، كالولايات المتّحدة وروسيا، لاستخدامها في الحروب التي لا تؤدّي سوى إلى قتل البشر وتدمير الحياة.
فقط لنتخيّل كيف سيكون شكل هذا العالم لو أنّ من يمسكون بمصيره أناس محسنون يقدّسون الحياة ويقاومون الموت بمثل ما فعل ادوارد جينر وغيره من العظماء ممن خدموا البشرية وتركوا وراءهم تراثا خيّرا وذكرا حسَنا..