:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الاثنين، فبراير 16، 2009

طبيب بمرتبة قدّيس

من أحيا نفسا فكأنّما أحيا الناس جميعا.
تذكّرت هذا الأثر الشريف وأنا اقرأ سيرة حياة العالم والطبيب البريطاني ادوارد جينر الذي أنقذ حياة الملايين من البشر باكتشافه اللقاح الذي يقي من مرض الجدري في العام 1798م.
وعندما أتأمّل ما فعله هذا الإنسان المتميّز والعظيم فإنني أتخيّله بمنزلة قريبة من منزلة القدّيسين والأولياء، بل ربّما تفوق مكانته مكانة الكثيرين ممّن اعتدنا أن نطلق عليهم في زماننا صفات التقديس والتبجيل، في حين أنهم لم ينجزوا أعمالا حقيقية ينتفع بها الإنسان أو تعود بالفائدة على الحضارة البشرية.
لم يكن جينر مجرّد طبيب موهوب واستثنائي، بل كان أيضا نموذجا في التضحية والبذل والإيثار.
فقد جرّب العقار الذي اكتشفه على ابنه الوحيد، مع انه كان يعرف مقدّما انه يمكن أن يؤدّي إلى موته. غير أنه مضى في تجربته إلى منتهاها.
المعروف أن جينر عاش في بدايات عصر الثورة الصناعية في أوربّا. في ذلك الوقت كان وباء الجدري يحصد حياة مئات الألوف من البشر في أنحاء كثيرة من العالم. كان الفيروس القاتل يدخل الجسم عبر الرئتين ثم ينتقل للدم والأعضاء الداخلية ولا يلبث أن ينتشر على الجلد في هيئة قروح وندوب متهيّجة.
وقصّة اكتشاف جينر مصل الجدري قصّة غريبة ولا تخلو من مفارقة. ففي احد الأيّام سمع امرأة قدمت إلى قريته من مدينة أخرى وهي تؤكّد لإحدى قريباتها أنها لن تصاب بالجدري القاتل لأنها سبق وان أصيبت بجدري البقر، وهو مرض غير مهدّد للحياة وعادةً ما يشفى من تلقاء نفسه.
كان الطبيب ينصت إلى حديث المرأتين باهتمام. وقد دفعه ما سمعه لأن يدرس العلاقة بين المرضين. ويوما بعد يوم ترسّخت لديه القناعة بأن المرض الثاني يمنح الإنسان مناعة أكيدة ضدّ الإصابة بالنوع القاتل.
ولم يمض طويل وقت حتى حقن أوّل مرضاه بفيروس الجدري الخفيف، وبعد أسابيع قام بحقنه بفيروس الجدري القاتل. وكانت النتيجة مدهشة، إذ لم تظهر على المريض سوى أعراض بسيطة لم تلبث أن اختفت. ثم جرّب الطعم على عشرات الأطفال، ومن بينهم ابنه، وكانت النتيجة واحدة: لم يكن هناك أثر على الإطلاق للمرض الخطير.
في تلك الأثناء، دخلت لأوّل مرّة على المعجم الطبّي كلمة Vaccine التي تعني الطعم أو اللقاح. ثم اتخذت المفردة بعدا أوسع فأصبحت تشير إلى عملية إنتاج المناعة ضدّ مرض معيّن.
وأهمّية ما أنجزه جينر يمكن إدراكها من حقيقة انه الشخص الذي ابتدع التطعيم للمرّة الأولى في تاريخ الطب كوسيلة لحماية الجسم من خطر الأمراض المعدية.
الطريف في الأمر أن رجال الدين في ذلك الزمان أفتوا بحرمة عمله، وقالوا إن ما فعله أمر بغيض لا يرضي الله، إذ لا يجوز أن يحقن إنسان بمادّة من حيوان مريض.
أما الصحف فقد وجّهت للطبيب سيلا من النقد والسخرية اللاذعة، ونشر بعضها رسوما كاريكاتيرية متهكّمة يظهر فيها أشخاص وقد تحوّلت رؤوسهم إلى رؤوس بقر.
لكن بعد أن أدرك الناس ضخامة الانجاز الذي حققه، سرعان ما اعترفوا له بفضله وريادته وأحقيّته بالعرفان والتقدير.
وسارعت العديد من الدول إلى الإشادة بما فعل وخلعت عليه الألقاب والجوائز نظير ما قدّمه من خدمة جليلة للبشرية جمعاء. بينما كافأته جامعته، اوكسفورد، بمنحة درجة الدكتوراه الفخرية.
وبفضل ادوارد جينر وتجاربه تمّ اجتثاث مرض الجدري من العالم نهائيا. لكن لا يزال فيروس المرض القاتل وغيره من الأمراض المعدية والفتّاكة موجودا بأعداد هائلة داخل مخازن ضخمة تحتفظ بها القوى الكبرى، كالولايات المتّحدة وروسيا، لاستخدامها في الحروب التي لا تؤدّي سوى إلى قتل البشر وتدمير الحياة.
فقط لنتخيّل كيف سيكون شكل هذا العالم لو أنّ من يمسكون بمصيره أناس محسنون يقدّسون الحياة ويقاومون الموت بمثل ما فعل ادوارد جينر وغيره من العظماء ممن خدموا البشرية وتركوا وراءهم تراثا خيّرا وذكرا حسَنا..