:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


السبت، ديسمبر 02، 2017

موزارت: كونشيرتو البيانو رقم 23


إن كنت من هواة سماع الموسيقى الكلاسيكية، فلا بدّ أن يعجبك هذا الكونشيرتو المكتوب لآلة البيانو. مدّته لا تتجاوز الثلاثين دقيقة، وهو بكامل حركاته ممتع، ومن السهل أن تستذكر بعض أنغامه بعد أن تسمعه مرّة أو مرّتين.
ألّف موزارت كونشيرتو البيانو رقم 23، أو (المصنّف رقم 488 كما يُسمّى اختصارا)، في مارس من عام 1786 عندما كان يعكف على ترتيب العرض الأوّل لأوبرا "زواج فيغارو". وكان يأمل أن يفاجئ من خلاله جمهور مدينة سالزبورغ بالإتيان بشيء جديد ومبتكر.
في ذلك الوقت أيضا، ألّف كونشيرتوهين آخرين للبيانو (رقم 22 ورقم 24). وقد أصبحت هذه الأعمال الثلاثة تُعزف بانتظام في حفلات الموسيقى الكلاسيكية. لكن الكونشيرتو رقم 23 أصبح أكثر هذه المؤلّفات رواجا وانتشارا. وابتداءً من الآن، سيعطي موزارت دورا أهمّ للآلات الهوائية التي باتت عنده مُعادِلة للآلات الوترية من حيث الأهمية.
كونشيرتو البيانو رقم 23 مكتوب لأوركسترا مؤلّفة من فلوت وعدد من آلات الكلارينيت والباسون والأبواق مع بعض الآلات الوترية، بالإضافة طبعا إلى الآلة الرئيسية، أي البيانو.
العزف المنفرد للأجزاء الاوركسترالية والمزاج العام الهادئ في الكونشيرتو يُنتجان موسيقى حميمية إلى حدّ كبير قد لا يلمسها السامع عادةً إلا في موسيقى الغرفة.
هذا الكونشيرتو يعكس سمات معلّم قديم ويعطي انطباعا بأن مؤلّفه رأى وسمع كلّ شيء وليس نادما على شيء. وقتها كان موزارت "عجوزا" في الثلاثين من عمره وكان يحصل على دخله من الحفلات غالبا وليس من مؤلّفاته الجديدة.
يتألّف كونشيرتو البيانو 23 من ثلاث حركات: الليغرو، وأداجيو، والليغرو اساي على شكل روندو.
الحركة الأولى "الليغرو" مكتوبة على نسق السوناتا التقليدية. في البداية تدخل الاوركسترا ثم تفسح المجال للبيانو. مفتاح أو سلّم الـ مي الكبير أو الاي ميجور له مفعول مهدّيء في يد موزارت، وهذا واضح من الشاعرية الرائعة التي تثيرها بداية الحركة.
أما الحركة الثانية، أي الأداجيو، فقد أصبحت تحتلّ مكانة خاصّة في مجموعة أعمال موزارت. وهذه هي القطعة الوحيدة تقريبا التي كتبها في مقام الـ فا الصغير، وهي ذات مزاج تأمّلي، والطبيعة التعبيرية للآلات الهوائية والتفاعل بين الاوركسترا وعازف البيانو يذكّران ببساطة موسيقى الغرفة أكثر مما يذكّران بفخامة الكونشيرتو الاوركسترالي.


عندما يصل الإحساس التأمّلي إلى منتهاه، تبدأ الحركة الثالثة "الروندو"، والتي تتميّز بخفّتها ومرحها. والموسيقى تنتقل من العازف إلى الاوركسترا والعكس، وكلّ منهما "يطارد" الآخر من خلال التغييرات غير المتوقّعة للمفاتيح، إلى أن نعود مرّة أخرى إلى سلّم لا الصغير "أو الاي ماينور"، ثم يتسارع العمل شيئا فشيئا باتجاه خاتمة مرحة.
وبمناسبة الحديث عن هذا الكونشيرتو، هناك قصّة ردّدتها الأوساط الموسيقية الروسية قبل أن يسجّلها الموسيقيّ ديمتري شوستاكوفتش في مذكّراته. إذ يروي أن جوزيف ستالين أصبح في أيّامه الأخيرة مدمناً على سماع الموسيقى من الإذاعة. وفي إحدى المناسبات عزفت البيانيست ماريّا يودينا هذا الكونشيرتو لموزارت والذي كان احد القطع المفضّلة عند ستالين.
كانت يودينا مشهورة بآرائها السياسية المعارضة وبترجمتها لموسيقى شوستاكوفتش حيث كانا صديقين، بالإضافة إلى ترجمتها لموسيقى كلّ من باخ وموزارت.
وقد دأبت هذه العازفة على قراءة قصائد للشعراء السوفيات الممنوعين وأقوال لرجال الكنيسة الأرثوذكسية أثناء حفلاتها. ولم تكن تخفي معتقداتها وأفكارها، بل كانت تجاهر بها على الملأ.
وقد طلب ستالين من إذاعة موسكو أن يرسلوا له نسخة من عزف يودينا لكونشيرتو موزارت هذا. لكن المشكلة أنها كانت تعزف على الهواء ولم يتمّ تسجيل الأداء في حينه. فسارع مسئولو الإذاعة للاتصال بها كي تأتي إلى مقرّ الإذاعة وجمعوا اوركسترا بسرعة في نفس تلك الليلة.
وفي صباح اليوم التالي، كان التسجيل في مكتب ستالين. وبعد أن سمعه، أرسل إلى يودينا ظرفا بداخله عشرين ألف روبل. وعندما استلمت المكافأة، كتبت إليه رسالة تقول فيها: أشكرك وسأصلّي من أجلك ليلا ونهارا كي يغفر الله خطاياك الفادحة".
ويقال أنها تبرّعت بالمبلغ لإحدى الكنائس. والغريب أنها لم تُسجن أو تُحظر بسبب أنشطتها المعارضة، بل استمرّت في وظيفتها إلى أن توفّيت في عام 1970.
وقيل إن الشريط الذي سجّلت عليه عزفها لهذا الكونشيرتو كان يشتغل في جهاز التسجيل في الغرفة التي وُجد ستالين فيها ميّتا في منزله عام 1953. ويبدو انه كان آخر شيء سمعه قبل موته. وما يزال ذلك التسجيل موجودا حتى اليوم ويمكن سماعه في موقع اليوتيوب على هذا الرابط .

Credits
classicfm.com

الثلاثاء، نوفمبر 28، 2017

بحر هوميروس

كانت علاقة اليونانيين القدماء بالبحر حميمية وخاصّة. وكانت رحلاتهم البحرية هي المحرّك الأساسيّ لثقافتهم.
والبحر حاضر في كلّ مكان في الطبيعة اليونانية. ومن أعالي الجبال الوعرة إلى السهول المنخفضة، لا يكاد مرأى البحر المتوسّط يغيب عن الأعين.
وهو حاضر أيضا في الأساطير الإغريقية التي تحكي عن الحوريات اللاتي يعشن في الماء وعن الكنوز التي توجد طافية على الشطآن.
بالنسبة للإغريق، البحر هو أكثر من واقع جغرافيّ، انه ثقافة وأسلوب حياة. كانوا يعتمدون عليه، ليس للعيش والتنقّل فقط، وإنما أيضا لمعرفة الأخبار وإدارة الحروب وللتبادل السياسيّ والتجاريّ.
البحر أيضا نقطة عبور بين الحياة والموت. زيوس قرّر في نهاية العصر البرونزيّ أن يبيد الجنس البشريّ بالطوفان جزاءً له على شروره. وقيل إن ذلك الطوفان تسبّب في تدمير اطلانتيس وطبيعتها الفردوسية.
وذات مرّة، أشار يوريبيديس إلى أن الإبحار إلى ما وراء أعمدة هرقل يُعدّ عملا محرّما لأنه ينتهك أرضا مقدّسة. غير أن البحّارة الفينيقيين تجاوزوا تلك الأعمدة منذ القرن السابع الميلاديّ.
كان الإغريق ينظرون إلى البحر كنقطة التقاء بين العالم المتخيّل وعالم الواقع. ويمكن أن نجد نفس هذه النظرة في ثقافات شعوب أخرى سبقوهم أو جاءوا بعدهم مثل البابليين وغيرهم من شعوب الهلال الخصيب.
ورغم أن البحر المتوسّط كان بحرا هادئا مقارنة بالمحيطات، إلا أن العواصف الموسمية العاتية فيه كانت تمثّل خطرا داهما على السفن والبحّارة. وهناك إشارة إلى حادثة مشئومة وقعت عندما أرسل الاسكندر المقدونيّ بعثة من ألف سفينة إلى المحيط الهنديّ عبر المتوسّط. وقد عانى البحّارة من أعراض ركوب البحر وأرهقوا ومات الكثير منهم بسبب الرحلة الطويلة.
لكن أن تبقى بعيدا عن البحر معناه أن تعيش في عزلة، لأن البحر وحده كان طريق الأفكار والتجارة.
في بداية القرن الخامس قبل الميلاد، استعار أسقف ليبيا اليونانية بُعده عن البحر ليصف كيف انه عاش بعيدا عن الحضارة. وجنود أثينا العائدون من بابل صرخوا "البحر.. البحر" عندما لاحت لهم من بعيد مشارف الوطن.
لكن الإغريق كانوا يدركون أن الترحال في البحر يمكن أن يكون عملا محفوفا بالمخاطر. وهذه الفكرة ترد كثيرا على ألسنة العديد من شعرائهم. هيسيود، مثلا، حذّر من البحر وكان يرى أن "الرجال الطامحين بالثروة هم وحدهم من يجازفون بالنزول إليه. لكن من المخيف أن تموت وسط الأمواج".
في "الإلياذة"، يستدعي هوميروس البحر في مناظر مثيرة تعبّر عن العديد من التجارب الإنسانية: البحّارة، الشطآن المنعزلة، العواصف البحرية وأمواج البشر التي تتدافع في معركة.
الشاطئ المنعزل يُصوَّر كخلفية لحزن كاهن يصلّي، بينما اضطراب الأمواج يعكس التوتّر الذي يعتمل في عقله. والبحر الساطع يعكس رحلة ناجحة لرجال أتقياء يبحرون باتجاه الوطن بعد مهمّة نبيلة.
والبحر المطمئن هو طريق السفر الواسع والمتيّسر. والأمواج المتلاطمة تذكّر بالمسافة الخطيرة بين ارض أخيل وطروادة.
أما أعماق البحر المظلمة فهي موطن الكائنات الخارقة وقوى الطبيعة.
سمات البحر ترد كثيرا من خلال الصور الرائعة التي يرسمها هوميروس في ملحمتيه لكي يقرّب تلك المشاهد والأحداث من ذهن القارئ الذي قد لا يكون خَبِرها مباشرة.
وبحر هوميروس يوصف بأنه ضبابيّ، مضطرب، عميق، متلاطم، مغمغم، هائج وعاصف.

لكن الشاعر يستخدم وصفا آخر غريبا للبحر عندما يتحدّث عن "بحر مظلم كالنبيذ". وهذه الجملة أصبحت مشهورة جدّا ويعرفها حتى الأشخاص الذين لم يقرءوا هوميروس أبدا.
وهو يذكر هذه الجملة، ليس في الأوديسّا، وإنما في "الإلياذة"، ملحمته الأولى، التي تجري أحداثها على ارض طروادة. كما انه يردّدها ستّ مرّات في أماكن متفرّقة من الكتاب.
"البحر المظلم كالنبيذ" عبارة فاتنة ومثيرة وتستدعي ذكريات وصورا متعدّدة لطالما فتنت مخيّلة الكثيرين. لكنها في نفس الوقت ما تزال عصيّة على الفهم ومثارا لجدل واسع بين النقّاد والقرّاء على حدّ سواء.
ترى بأية طريقة ذكّر البحر هوميروس بالنبيذ المظلم؟ ثمّة كلمات كثيرة يمكن أن تذكّر بالبحر، فلماذا قارنه بالنبيذ بالذات؟
مهمّة المترجم هي أن يقدّم للقارئ المعنى العامّ والمعنى المحسوس لكلمة أو جملة ما في نصّ أدبيّ. لكن عبارة هوميروس هذه، المشهورة والمحتفى بها كثيرا، غريبة وملتبسة.
وبعض الذين ترجموا الإلياذة استخدموا عبارة "بحر ازرق بلون النبيذ" كترجمة قريبة من الأصل، بينما اكتفى آخرون بكلمة "البحر" مجرّدة من أيّ وصف كي يريحوا أنفسهم من عناء البحث عن ترجمة مناسبة.
لكن هذا البحر ليس أزرق أبدا. فالكلمة اليونانية التي تعطي معنى الأزرق لم تُستخدم لوصف البحر إلا في أواخر القرن السادس قبل الميلاد في قصيدة منسوبة لسيمونيدس.
احد الكتّاب الانجليز من القرن التاسع عشر كتب يقول محاولا تفسير العبارة أن الإغريق كان لديهم شكل من عمى الألوان. كانت الألوان عندهم مقتصرة على الأبيض والأسود وربّما الأحمر.
وقال كاتب آخر إن الإغريق كان من عادتهم مزج نبيذهم بالماء، لكنهم أحيانا كانوا يمزجونه بالماء الحمضيّ، لذا تحوّل النبيذ الأحمر إلى ازرق.
وذهب كاتب آخر إلى أن جملة هوميروس ربّما قصد بها الغروب الأحمر للشمس إثر امتلاء السماء بالرماد الناجم عن ثوران بركان ما.
وهناك من قال إن العبارة لا معنى لها وهي مجرّد تعبير أجوف، لكنه ذو إيقاع شاعريّ. وربّما كان الغرض من استخدامه هو ملء الفراغ في شطر بيت.
الصورة التي أراد هوميروس أن يرسمها في بحره الشبيه بالنبيذ كانت تعتمد إلى حدّ كبير على ما الذي كان يعنيه النبيذ لقرّائه.
ومن المحتمل أن الإغريق كانوا يعرفون النبيذ الأبيض، مع أن معظم النبيذ القديم كان احمر. ونبيذ هوميروس كان أحيانا اسود، وهي صفة تذكّر بالموت والغضب والسفن والليل والدم والبحر.
عندما ينظر أخيل المنتحب باتجاه البحر الممتدّ أمام ناظريه فإنه يتواصل معه. ورغم أخطاره، إلا أن البحر يمكن أن يوفّر له ممرّا يأخذه إلى المكان الذي يتطلّع إلى بلوغه، أي الوطن.
وكون أن البحر يجلب الدمار أحيانا، فتلك حقيقة من حقائق التاريخ والشعر أيضا.
العصر البرونزيّ الإغريقيّ الذي وصفه هوميروس إنهار في بداية الألفية الثانية قبل الميلاد لأسباب غير معروفة. لكن السجلات التي تعود إلى تلك الفترة تتحدّث عن "مهاجمين جاءوا من البحر". وهذا الإيحاء عن شرّ قادم وُجد منقوشا على لوح طينيّ استُنقذ من ارشيف قصر بايلوس. ويبدو أن هذا القصر تمّ إحراقه على يد العدوّ. لكن قُدّر لهذا اللوح أن ينجو من الدمار.
والعبارة المكتوبة عليه تتحدّث عن "خمسين حارسا يقفون على شاطئ البحر". واعتمادا على وصف هوميروس المشهور، يمكن للمرء أن يتخيّل منظر القصر المحترق وسط أعمدة الدخان وصورة هؤلاء الرجال المسلّحين واليقظين وهم وقوف على الشاطئ بينما يحدّقون أمامهم في أفق "بحر مظلم كالنبيذ".

Credits
clarkesworldmagazine.com