:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الخميس، ديسمبر 31، 2009

الفنّ الاستشراقي: يقظة بعد سُبات

الفنّ الاستشراقي يعيش الآن حياة ثانية في بلدان الشرق الأوسط بعد فترة طويلة من موت هذا الفنّ في موطنه الأصلي، أي أوربّا.



بدأ الاهتمام بالفنّ الاستشراقي مع حملة نابليون على مصر في العام 1798م. وجاء ازدهاره الحقيقي بعد 40 عاما من ذلك التاريخ. والفضل يعود إلى انتشار خطوط السكك الحديد وتخفيف القيود المفروضة على السفر والتجارة.
بعض الفنّانين الاستشراقيين كانوا يرسمون أعمالهم في عين المكان. لكن مع ازدياد شعبية هذا النوع من الرسم، استطاع آخرون رسم لوحات استشراقية دون أن يغادروا أوطانهم. كانوا ببساطة يستخدمون الكتب المرجعية ويستعينون بنساء من بيئاتهم المحلية يلبسونهنّ ثيابا واكسسوارات مستوردة من بلدان الشرق.



المواضيع التي كانوا يفضّلون رسمها كانت الحصان وسوق الرقيق والمسجد وطبيعة الأرض والخلفاء والمؤذّنين وعبيد النوبة والجنود. وكان هناك موضوع مفضّل آخر يتمثّل في الحريم والمحظيات شبه العاريات. كلّ هذا كان يُرسم بتفاصيل دقيقة وبأسلوب شديد الواقعية عُرف بالأسلوب الأكاديمي الذي ساد في أوربا لعدّة قرون وانتهى تماما مع مجيء المدرسة الانطباعية.
ومع نهاية القرن التاسع عشر، أصبحت الصور الأكاديمية تتمتّع بشعبية جارفة لدى الناس، تماما مثل الأفلام السينمائية هذه الأيام. ومع ازدياد شعبيّتها تطوّرت واقعيّتها الفوتوغرافية وأصبحت مثالية وذات صيغ متكرّرة ومبتذلة أحيانا.



بحلول العام 1910 كان الاستشراق قد اختفى فعليا من المشهد الثقافي الغربي، ليس بسبب موضوعه وإنما بسبب أسلوبه. لكن في منتصف سبعينات القرن العشرين، وهنا تكمن المفارقة، عاد الفنّ الاستشراقي إلى الواجهة متزامنا مع نشر كتاب الاستشراق لـ ادوارد سعيد. في ذلك الوقت ازدادت أعداد مشتري اللوحات الاستشراقية من مواطني الشرق الأوسط. وبين 1972 وأواخر الثمانينات، ارتفعت الأسعار من 3000 دولار إلى نصف مليون دولار للوحة ذات النوعية العالية.
والسبب الأكثر شيوعا لهذه الظاهرة هو ارتفاع أسعار النفط في حقبة السبعينات الميلادية.
وقد بدأت حمّى شراء اللوحات الاستشراقية في أماكن معيّنة مثل شمال أفريقيا وتركيا. وكان من بين المشترين أعداد من مواطني الشرق الأوسط المقيمين في أوربّا.
وبحلول الثمانينات انضمّ مواطنون من الخليج العربي إلى قائمة الراغبين في شراء الفن الاستشراقي، رغم حقيقة أن للإسلام موقفا معروفا من قضيّة تصوير أو رسم البشر.
وقد ذكرت بعض التقارير الصحفية أن سلطان عمان وملك المغرب وبعض السعوديين ومسئولين في دولة قطر، بمن فيهم الأمير الحالي، يملكون مجموعات كبيرة من اللوحات الاستشراقية.



لكن لماذا يختار جامعو الأعمال الفنية من العرب اقتناء مثل هذا النوع من الفنّ الذي يفترض انه يحطّ من شأن العرب ويسيء إلى الثقافة العربية كما يقال أحيانا؟
الواقع أن هناك أعمالا استشراقية محايدة بل وذات قيمة فنّية عالية مثل تلك اللوحات التي رسمها ديفيد روبرتس لطبوغرافية بعض أراضي الشرق الأوسط.
وحتى تلك اللوحات التي تصوّر بشرا لا تخلو أحيانا من تفاصيل معمارية وجغرافية مهمّة.
ويبدو أن بعض هواة جمع مثل هذه اللوحات من العرب يساورهم شعور بأهمّية إبراز "الماضي المجيد" وما كان يحفل به من أحداث أو أنماط حياة وسلوك.



مفهوم رسم الحياة اليومية لم يصل إلى الشرق الوسط إلا في نهاية القرن التاسع عشر. لذا فإن عملا لرسّام أوربّي هو غالبا احد الخيارات المتاحة والممكنة.
كما أن جامعي تلك اللوحات من الخليجيين خاصّة يبدون منجذبين إلى أسلوب الرسم الواقعي. وهناك عامل آخر ربّما يفسّر إقبالهم على شراء هذه النوعية من اللوحات يتمثّل في أنها، أي اللوحات، لا تصوّرهم ولا تتناول تفاصيل حياتهم.
فطوال القرن التاسع عشر ظلّت السعودية، والخليج بشكل عام، منطقة مغلقة في وجوه الأوربيين، خلافا لما كان عليه الحال في بقيّة بلدان المشرق العربي وتركيا التي كانت واقعة تحت الاستعمار الغربي.



الفكرة الشائعة هي أن الخليجيين قد يكونون أكثر تسامحا مع مشاهد الشرق التي ابتكرها الرسّامون الأوربيون وسجّلوها في أعمالهم. وبعض النقّاد يقولون إن الفنّ الاستشراقي يشبع رغبة كامنة لدى الكثير من مقتنيه الذين يتوقون لرؤية مناظر تصوّر جوانب من الحياة العربية وتحمل في نفس الوقت طابع العالمية.
وبطبيعة الحال، هناك القاعدة الفنّية القديمة التي تقول إن اللوحة تبيع جيّدا وتروق للعين أكثر إذا كانت تتضمّن صورة فتاة جميلة.
ويقال إن جامعي هذه اللوحات من المسلمين يتجنّبون عادة إغراء مشاهد الحريم المغرية و"الفاسقة". وتبعا لذلك فإن المنطق يملي عليهم أن يتوخّوا الدقّة في اختيار نوعية اللوحات التي يريدون اقتناءها.
ومع ذلك، فإن نظرة سريعة إلى سجلات مزادات البيع تقول إن هذا الافتراض ليس في مكانه تماما. فعندما طرح تاجر السلاح السوري أكرم عجّة مجموعته الفنية للبيع في مزاد كريستيز عام 1999م اتضح أنها مليئة بصور الحريم والمحظيّات.
الغريب انه لا يوجد رسّام أوربّي واحد ذكر انه رأى الحريم عيانا أو في الحياة الواقعية، على الرغم من أن الكثيرين منهم كانت تنتابهم الأوهام والتخيّلات الكثيرة عنهنّ وعن أسلوب حياتهن.



كان الأوربيون ينظرون إلى الحريم كتجسيد لقوّة وقمع المجتمع الشرقي. كان هناك مئات الرقيق اللاتي يُستخدمن للجنس ومن اجل إشباع نزوات السلاطين والأمراء. وقد تخيّل الرسّام الفرنسي جان ليون جيروم حياة الحريم عبر دخان الاراغيل. ونساؤه، العاريات غالبا، يظهرن على أطراف برك الماء وهنّ يتبادلن في ما بينهن الأحاديث والنظرات المغرية.
التفاصيل الزخرفية للشرق، مثل الارابيسك والزجاج المعشّق والخطوط المذهّبة، هي التي أغرت الرسّامين البريطانيين في القرن التاسع عشر بالسفر إلى بلدان الشرق الأوسط لاكتشافها.
والرسّامون الانجليز الذين رست سفنهم على شواطئ الشرق وجدوا في البلدان المشرقية عالما خاصّا يصعب اختراقه أو فهمه.
ولم يستطيعوا الدخول إلى عالم الحريم كما لم يتمكّنوا من زيارة سوق العبيد. وأمام عالم الحريم المغلق والغامض، لم يكن أمام معظم الرسّامين سوى أن يطلقوا العنان لمخيّلتهم لتصوّر أسلوب حياة نساء القصور.
وقد لجأ احدهم إلى حيلة فريدة عندما جلب معه أخته التي تمكّنت من اختراق ذلك العالم الغامض ونقلت له بعض مشاهداتها التي رسمها على الورق.
ادوارد سعيد قال إن الشرق ابتكار غربي، وهو وصف ربّما ينطبق أكثر على الفنّانين الذين قصروا جهدهم على رسم الحريم. لكن هل كانت رسوماتهم مقدّمة لـ اجندا استعمارية كما قيل؟ هذا السؤال ما يزال مفتوحا على أكثر من إجابة واحتمال.
في حوالي العام 1873 زار فريدريك ليتون بلاد الشام. وبعد عودته إلى انجلترا رسم لوحته المعروفة درس في الموسيقى التي تظهر فيها امرأة تعلّم الموسيقى لطفلتها. ويظهر أن الرسّام أعطى الشخصيّتين في اللوحة ملامح أوربّية خالصة بينما اختار آلة موسيقية شرقية، فارسية أو تركية على الأرجح.
جون فريدريك لويس زار اسطنبول حوالي ذلك الوقت. وبعد عودته إلى لندن رسم لوحة بعنوان "الحريم" يصوّر فيها سيّدتين تجلسان في غرفة ذات ديكور شرقي وتراقبان قطّة منهمكة في ملاحقة شعرات من ريش طاووس. المنظر يمكن أن يكون تعبيرا عن الملل عندما يتحوّل إلى لحظات من الجمال والتأمّل. ومن الواضح أن فريدريك لم يستطع إخفاء الملامح الغربية لزوجته التي اختارها كموديل للمرأة الجالسة.
الرسّام الفرنسي ايتيان دينيه جعل الجزائر بلده الثاني، وقد تعلّم فيها العربية وغمر نفسه بالثقافة الجزائرية ثمّ اعتنق الإسلام وأدّى فريضة الحج وعاد في ما بعد ليموت في وطنه الجديد. وقد رسم دينيه مجموعة من اللوحات الجميلة التي تتناول جوانب من الحياة في الجزائر وبعضا من عادات وتقاليد أهلها.



ومؤخّرا بيعت لوحة للرسّام جان ليون جيروم بعنوان "شركسية ترتدي الخِمار" بأكثر من مليوني جنيه استرليني. وقد رسمها الفنّان بعد رحلات عديدة له إلى تركيا، وهي المكان الذي يقال إن اللوحة ذهبت إليه بعد شرائها.
هناك قطاعات معيّنة من الناس في الشرق الأوسط تعتبر اللوحات الاستشراقية بمثابة السجلّ البصري الوحيد عن ثقافة القرن التاسع عشر. ويمكن أن يكون هذا احد أسباب الاهتمام بتلك اللوحات في السوق الآن.
ومثل هذا النوع من اللوحات كان يثير الغضب في الشرق الأوسط ذي الطبيعة المحافظة، وكان الكثيرون يعتبرونه فنّا مسيئا.
لوحات ديلاكروا ورينوار وماتيس تصوّر هي أيضا مشاهد مثيرة ومغرية وغريبة تتناول مظاهر الحياة في البلدان العربية. نساء مغطّيات بالكاد، سحرة أفاع بمؤخرّات مكشوفة ورجال معمّمون ينتشرون حول الخيام.



في العام الماضي 2008 حقّقت مبيعات الرسومات الاستشراقية حوالي 70 مليون دولار في مزادات عديدة حول العالم. كما نظّمت دار سوذبي أوّل عمليات بيع للرسومات الشرقية في الدوحة عاصمة قطر. ويتزعّم جهود إعادة الاعتبار للوحات الشرقية تاجر اللوحات الفنية المصري شفيق جبر الذي يقال أنه يملك أكثر من تسعين لوحة ثمينة جمعها على امتداد أكثر من خمسة عشر عاما ويقدّر ثمنها بأكثر من 40 مليون دولار.
وجبر هو ابن ديبلوماسي وسفير سابق ويحمل درجة دكتوراة من جامعة لندن. وهو لا يرى أن الاستشراق ينطوي على أيّ إهانة أو إساءة للعرب أو الإسلام.
ومجموعته تتضمّن تحفا فنّية لعدد من ابرز رسّامي الشرق في القرنين التاسع عشر والعشرين مثل الفنّان الفرنسي جان ليون جيروم والألماني غوستاف بيرنفيند والأمريكي فريدريك آرثر بريدجمان والانجليزي جون فريدريك لويس .
ومن بين اللوحات المفضّلة لدى جبر لوحة بعنوان حارس القصر للرسّام النمساوي لودفيغ دويتش. وقد حقّقت هذه اللوحة أعلى سعر بيعت به لوحة استشراقية وهو ثلاثة ملايين ونصف المليون دولار. يُذكر أن دويتش رسم اللوحة عام 1892 وفيها يصوّر حارسا نوبيّا مسلّحا يقف أمام بوّابة احد القصور في القاهرة.



كما تضمّ مجموعته لوحة للرسّامة الدانمركية اليزابيث جيريكو باومان تظهر فيها عاملة خزف شرقية بعينين مسبلتين وشفاه حمراء مكتنزة وهي تجلس على حصير وترتدي لباساً اسود يشفّ عن انحناءات صدرها وثدييها.
لوحة جيروم باشي بازوك التي تصوّر جنديا تركيا مسلّحا بالخناجر والبنادق بيعت مؤخرا بحوالي مليون دولار. كما بيعت لوحة ادولف شراير "المطاردة" والتي تصوّر مجموعة من البدو في حالة سباق بمبلغ ربع مليون دولار.



في أمريكا، لم يكن الاستشراق موضوعا مرحّبا به كثيرا. كان الكثير من الأمريكيين ينظرون إليه باحتقار ويعتبرونه شيئا من الماضي. كان الاستشراق برأيهم عاطفيا كثيرا وأوربّيا أكثر من اللازم، بالإضافة إلى كونه غير صحيح من الناحية السياسية.
جامعو الأعمال الفنية من الأمريكيين لم يدخلوا سوق اللوحات الاستشراقية فعليا حتى منتصف التسعينات من القرن الماضي عندما ارتفعت الأسعار كثيرا لدرجة أن المستثمرين العرب فضّلوا الانسحاب.
ومنذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر أصبحت اللوحات الاستشراقية في أمريكا اقلّ جاذبية.
وبعد الهجمات بسبعة أسابيع أوقفت دار كريستيز في نيويورك بيع مجموعة رائعة من 19 لوحة استشراقية. وقد بيعت منها بعد ذلك خمس لوحات فقط بسعر يقلّ كثيرا عن السعر الذي حُدّد لها أصلا.
وكلّ لوحة من اللوحات التي كانت مطروحة للبيع كانت تتضمّن ملمحا قتاليا من نوع ما. بعضها تصوّر محاربين من البدو وهم يجوسون خلال الصحراء، بينما تُظهِِر أخرى زعماء قبليين يعتمرون العمائم ويحتضنون مجموعة من الخناجر والبنادق. هذه المناظر ذكّرت الأمريكيين بما كانوا يرونه على شاشات التلفزيون في ذلك الوقت وجعلتهم يتوجّسون خيفة منها.
لكن بعد أيّام من ذلك، حقّقت دار سوذبي للمزادات الفنّية نتائج مختلفة عندما بيعت مجموعة من اللوحات الاستشراقية الأكثر احتشاما والأقلّ فخامة إلى مشترٍ مجهول أشيع وقتها انه أمير قطر الحالي.

Credits
arthistory.net

الخميس، ديسمبر 24، 2009

أماكن في القلب

توماس كينكيد. ربّما لم تسمع بهذا الاسم من قبل. لكنّه اليوم احد أكثر الرسّامين نجاحا في العالم. وهو بالتأكيد الرسّام الأكثر رواجا وانتشارا في الولايات المتحدة. مناظره، التي تصوّر طبيعة رومانسية حالمة، تثير الكثير من الجدل. والناس والنقّاد منقسمون حول قيمتها الفنّية والإبداعية.
المعجبون بـ كينكيد يسمّونه "رسّام الضوء". والذين يبتاعون لوحاته يقولون إنها تقدّم لهم الجمال في عالم قبيح. وهم يجدون فيها ما لا يجدونه في الفنّ الحديث الذي يركّز على بؤس الحياة وقبحها وعدميّتها. والذين لا يحبّون لوحاته يقولون إنها ساذجة وتعكس نظرة هروبية بإغراقها في الخيال وبابتعادها عن الواقع وعن مشاكل الناس.
وبعض منتقديه يقولون انه يستخدم الدين ويستغلّ قناعات الآخرين لتحريضهم على شراء لوحاته التي "لا يمكن أن يعلّقها في بيته سوى الأشخاص الذين يهوون الديكور القديم والفنّ الأثري".
لوحات كينكيد تصوّر قمم جبال مكلّلة بالثلوج وسماوات ذهبية وحمراء ومنارات مضيئة وغابات وأنهارا حالمة وبيوتا وأكواخا مغمورة بالضوء. وهذه اللوحات ليست من ذلك النوع الذي يتطلّب منك النظر إليها طويلا كي تفهمها. كما لا يلزمك شهادة في الفنّ كي تقرّر إن كانت جيّدة أو رديئة. بعضهم يسمّيه دافنشي أو مونيه الجديد. لكن لا احد من الرسّامين الذين سبقوه استطاع أن يكسب نصف المال الذي يجنيه هذا الفنّان من بيع لوحاته.
يقال إن لوحات توماس كينكيد تُعلّق في واحد من كلّ عشرين بيت أمريكي. كما أن دخل لوحاته السنوي يُقدّر بأكثر من مائة وخمسين مليون دولار.
وقد أسّس الرسّام مشروعا إسكانيا عبارة عن قرية متكاملة الخدمات تعتمد في تصميمها وتفاصيلها المعمارية على الفانتازيا المثالية التي تصوّرها لوحاته. وخصّص القرية للمعجبين بفنّه أو الذين يريدون أن يعيشوا في عالم شبيه بالعالم الخيالي والحالم الذي يظهر في لوحاته. يقول احد الذين انتقلوا للعيش في أوّل بيوت القرية: المكان هادئ جدّا. وبإمكانك أن ترى فيه الغزلان والأرانب من النافذة. كما أن له جدرانا بيضاء ويمتلئ بالشرفات وأزهار البيتونيا".
كينكيد أوجد من خلال فنّه علاقة لامست أحاسيس الملايين من مواطنيه، وهي العيش في عالم أكثر جمالا ومثالية. غير أن بعض نقّاد الفنّ يسخرون منه ويصفون فنّه بالبدائي.
يعتقد كينكيد أن الله أعطاه موهبة كي يساعد على تغيير حياة الناس. وهو كان يدرك منذ البداية أن لديه موهبة خاصّة ستمكّنه من أن يعتاش من الرسم. "لقد وجدت الله في وقت مبكّر. كنت غاضبا ومحبطا من العالم حولي". الضوء الغريب الذي يظهر في لوحاته والذي اكسبه لقبه ينسبه الرسّام إلى الله. ومن الواضح أن معظم زبائنه هم من المتديّنين.
وكينكيد رجل عائلة متميّز. وقد اقترن بزوجته نانيت منذ 27 عاما. ودرج على إخفاء الحرف الأوّل من اسمها في مكان ما من كلّ لوحة من لوحاته. كما أن له أربع بنات تربّوا جميعا في بيت ريفي ليس فيه تلفزيون.
وبالنسبة له، فإن عمليه تجارة وبيع الفنّ هي بنفس أهمّية خلق الفنّ. وهناك مجموعة كاملة من المنتجات التي تظهر عليها صوره، مثل السيراميك وأضواء الإنارة والصحون والأواني والكؤوس والساعات والحقائب والمجوهرات.
ويقال إن كينكيد وقّع منذ فترة اتفاقا مع إحدى شركات الإنشاءات لتصميم منتجع يضمّ خمسة منازل تتخلّلها بحيرات، بحيث تبدو شبيهة بتفاصيل الطبيعة التي تصوّرها لوحته المشهورة "خلف بوابة الخريف". كما انه يملك شركة إعلانية تضمّ أكثر من 400 موظف يعملون في استنساخ لوحاته وبيعها، لأنه لا يبيع أعماله الأصلية.

المعروف أن كينكيد يرسم في العام الواحد حوالي عشر لوحات يحتفظ بأصولها في قبو خاصّ وبعيدا عن الأعين. وعملية استنساخ اللوحة تتطلّب تصويرها رقميا ثم تحويلها إلى أسطح ملحقة برقعات القماش. ثم يأتي الرسّامون البارعون في تقليد اللوحات الأصلية، ومعظمهم من اللاتين والآسيويين ممّن يتقاضون أجورهم بالساعة، فيضيفون أشرطة الألوان التي تعطي اللوحة ملمحها ورونقها الخاصّ.
يقول كينكيد: هناك نقّاد ينتقصون من شأن أعمالي على اعتبار أنها عاطفية أو وجدانية أكثر من اللازم، مع أنني لست سوى امتداد لفنّانين أتوا قبلي وكانوا يرسمون الحياة كما يحلمون بها". وهو يحبّ نورمان روكويل وآندي وارهول. كما يعتقد أن بيكاسو كان يملك الموهبة، لكنه لم يكن يستخدمها بالطريقة الصحيحة.
وجانب من جاذبية مناظره يتمثل في أنها تصوّر عالما حالما، بعيدا عن البنايات العالية ومشاكل مجتمع المدينة. وهذا هو بالضبط ما يتوق إليه اليوم أمريكيون كثر، خاصّة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر.
الأكواخ التي شيّدها كينكيد في قريته الاستثمارية تجلب الهدوء والسلام وتعيد إلى البال ذكريات عن أزمنة أكثر عفوية وبساطة. والبيوت، التي يتجاوز عددها المائة، موزّعة إلى أربع مجموعات كلّ منها تحمل اسم إحدى بناته. وفي يوم الافتتاح أدّى كينكيد صلاة شكر دعا الله فيها أن تكون القرية مكانا لكلّ الأديان والخلفيات. "لقد كنت أؤمن لسنوات طوال بأن الارتباط الذي يشعر به الناس تجاه مناظري يمكن أن يتجسّد في مكان حقيقي".
التكنولوجيا الحديثة دخلت على قرية كينكيد. فهي مطوّقة ببوّابة كهربائية وذلك لأسباب أمنية. وقد بيع البيت الواحد بحوالي نصف مليون دولار. غير أن هناك قواعد صارمة حول ما يمكن للمالك أن يقوم به في بيته، وذلك من اجل المحافظة على فكرة القرية وعدم المساس بطبيعتها الهادئة والمسالمة.
في السنوات الأخيرة، عبرت في سماء "رسّام الضوء" بعض السحب الداكنة. فأوّلا، لا يبدو أن كلّ شخص مستعدّ لتصديق الحلم الذي بشّر به. الفنّان جوس سانشيز قرّر أن يضفي بعض المرح على أسلوب كينكيد، فأعاد إنتاج خمس لوحات من طبيعته الحالمة. وأضاف إلى بعضها دبّابة تسير فوق جسر وقناصّين مختبئين بين الأشجار المتشابكة. وعندما عرض هذه اللوحات على الجمهور تعرّض للنقد الشديد على تهجّمه وطالب الكثيرون بإغلاق معرضه. فقال معلقا: لوحات كينكيد جميلة، لكنها تنمّ عن تفكير هروبي وتزييف للواقع. كما أنها تتضمّن مستوى من الإنكار الذي يدّعي بأن كلّ شيء على ما يرام وأن الحياة وردية وليس هناك من يعاني".
ومنذ أشهر، ظهرت بعض المقالات التي تتحدّث عن جوانب مظلمة في حياة "رسّام الضوء". فقد نعته بعض الكتّاب بأنه رجل أعمال قاس "يخاف الله ويحبّ المال" عندما دفع شركاءه إلى حافّة الإفلاس المالي، في الوقت الذي كان يُتخم فيه حساباته البنكية ويسوّر عُشّه بعشرات الملايين من الدولارات.
كما تحدّث آخرون عن إدمان كينكيد على الكحول، وعن قيامه بتحسّس ثدي امرأة في حفل غنائي، وتعمّده إهانة تمثال يصوّر إحدى شخصيّات ديزني بالتبوّل على رأس التمثال في ساعة متأخّرة من إحدى الليالي بحجّة انه صنم.
وفي الفترة الأخيرة هبّت رياح الركود الباردة على أكواخ توماس كينكيد. فأغلقت بعض الغاليريهات التي تعرض أعماله أبوابها. كما انخفضت قيمة أسهم شركته في البورصة. ونتيجة لذلك، صرف الرسّام النظر عن خطط كان قد أعلن عنها من قبل تتعلّق بتكرار تجربة القرية.
حضور كينكيد تقلّص كثيرا في الأشهر الأخيرة، لدرجة انه لم يعد يملك الوقت الكافي للحديث إلى الزبائن. وأصبح يكتفي بوضع رسالة مسجّلة على الهاتف تقول: شكرا لك على تقاسم الضوء معنا"!
وليس معروفا بعد كيف سيتعامل "رسّام الضوء" مع قوى الظلام المتمثّلة في مظاهر التباطؤ الاقتصادي وتبعاته الكثيرة.

الأحد، ديسمبر 20، 2009

أفق الكلمات

جميع السلالم تؤدّي إلى أعلى وأسفل بنفس الوقت. إنها وسيلتنا للتحرّك إلى أماكن يتعذّر علينا الوصول إليها.
أحيانا تكون السلالم أداة جيّدة للملاحظة وأحيانا تكون خطرة.
الذي يصعد فوق سلّم يتعيّن عليه أن يكون متنبّها ونشطاً. السلبية لا توصلك إلى مساحات جديدة. إننا نطمح إلى أن نتحرّر من الجاذبية ومن الأرض. البعض يريد الوصول إلى السماء، النجوم، الهواء والأجزاء الخارجية لكوننا.
وطوال تاريخ الفنّ كانت السلالم رمزا لتحقيق التفوّق. فنحن نتوق دائما لأن نرتفع، لأن نذهب إلى الأعماق ونصل إلى منظور مختلف.
السماء والأرض لم تعودا موجودتين بالمفهوم القديم. فالأرض مستديرة. والكون نفسه ليست له مصاعد أو مهابط. إنه يتحرّك باستمرار. ولم يعد بإمكاننا إصلاح النجوم لخلق مكان مثالي. وهذه معضلة.
إن من الطبيعي أن نبحث عن بداياتنا؛ عن المكان الذي أتينا منه في البداية. لكن لا يجب أن نفترض أن له اتجاها واحدا. إننا نعيش الآن في "مستقبل" علمي لم يستطع الفلاسفة والحكماء المتقدّمون أن يتنبّئوا به، لكنهم فهموا جيّدا العلاقة الأساسية بين السماء والأرض التي نسيناها. الكتب القديمة تصف المراحل والاستعارات والرموز التي تطفو في كلّ مكان. الأمر أشبه ما يكون برحلة روحية نحو الإدراك والكمال.
الشمال والشرق والجنوب والغرب والمرتفع والمنخفض ليست قضايا مكانية. بالنسبة لي، هذه أشياء لها علاقة بالزمن. الماضي والحاضر والمستقبل هي في جوهرها رموز تتحرّك في جميع الاتجاهات.
إننا لا نستطيع أن نهرب من الدِين. لكن هناك فرقا بين السماء والأرض. وأحدهما لا يقود إلى الآخر بالضرورة.
هناك فنّانون كثر واجهوا مشاكل وهم في طريقهم إلى "الجنّة". وهناك فلاسفة أيضا مثل ماركس وهيغل وماو وفاغنر واجهوا نفس المشاكل. كلّهم جميعا كانوا يبحثون عن مكانهم، عن جنّتهم، عن خلاصهم من خلال الفلسفة والفنّ والدِين.
إن رقعة الرسم تمثّل فكرة الفنان عن ارتباط السماء والأرض. الفنّان يعمل هنا لكنه ينظر إلى هناك، إلى فوق. وهو يتحرّك دائما بين العالَمَين. الفنّانون يشبهون السحرة القدامى الذين كانوا يمارسون التأمّل في شجرة كي يعلّقوا أنفسهم بين السماء والأرض. اللوحة يمكن أن تغيّر الواقع باقتراح رؤى جديدة. إذ يمكنك أن تقول إن الرؤيا تجد طريقها إلى العالم المادّي من خلال اللوحة.
إنني أنظّم صوري ولوحاتي اعتمادا على مفهوم أن لا شيء ثابت في مكانه. الآلات الطائرة لعبت أدوارا مهمّة في التاريخ وكانت تمثّل طموحات العلوّ والقوّة العسكرية منذ ايكاروس إلى عصر الصواريخ المسافرة للقمر.
إن كلّ القصص عن السماء بدأت على الأرض. والسماء والأرض في لوحاتي مترادفتان. بعض اللوحات يمكنك أن تقلبها رأسا على عقب ومع ذلك ما تزال تحمل رسائلها، كما لو أن السماء والأرض تتبادلان هويّتيهما.
عندما تحفر في الأرض قد تجد شيئا ما، ماءً، نيزكا مدفونا، جرماً من السماء. هذه الأنواع من الصور تعمل دائما بين الكون الكبير والكون الصغير. مجرّة درب التبّانة التي رُصدت منذ آلاف السنين كمجموعة كبيرة ومتمدّدة، هي في الحقيقة شيء صغير في الكون. إنها تشبه بركة صغيرة موحلة على الأرض.
إن خلق سماء وأرض هي طريقة نحاول من خلالها أن نحدّد اتجاهاتنا. لكنّ الفضاء الكوني لا يفهم هذا. فكلّ شيء في هذا الكون نسبي. ما هو كبير يمكن في الحقيقة أن يكون صغيرا جدّا، وما هو أعلى يمكن أن يكون أسفل.
العلماء وصفوا النجوم وأعطوها أسماءً وأرقاما، بل وربطوا في ما بينها بخطوط تشير إلى بعد النجم ولونه وحجمه.. إلى آخره. هذه هي السماء "العِلمية". لكنها بطبيعة الحال مجرّد وهم. كلّ المجرّات والأبراج هي أوهام وأشباح. إنها غير موجودة في الواقع المحسوس. الضوء الذي نراه اليوم انبعث منذ ملايين أو بلايين السنين. ومصادر الضوء ظلّت تتغيّر باستمرار وتتحرّك وتموت.
هذه الأضواء التي نراها في السماء لا علاقة لها بواقعنا. نحن خائفون، لذا كان يتعيّن علينا أن نوجد معنى لهذا العالم. ولا نستطيع أن نتحمّل أن لا يكون هناك سماء في عقولنا. لو أن هناك سماءً حقّا لوُجِدت خارج العلم والدِين.
لذلك فالعلماء يصنعون قبّة السماء الخاصّة بهم. يريدون أن يعثروا على سماء أيضا، لكن نجومهم دائما تتحرّك، ودائما تموت، وبعضها ينفجر مكوّنا نجوما جديدة.
العلماء يشبِهون الفنّانين إلى حدّ كبير. نجومهم مثل تلك الأجزاء من الذاكرة التي تجد طريقها إلى لوحة. إنها تتوقّف فقط في اللحظة التي تثبّت عليها عينيك ثم لا تلبث أن تغيّر المكان لترى بعد ذلك شيئا آخر مختلفا.
- آنسيلم كيفر، فنّان ومفكّر ألماني

الجمعة، ديسمبر 18، 2009

أغورا: ملحمة من العالم القديم


المكان: مصر. والزمان: القرن الرابع الميلادي. المسيحية آخذة في الانتشار. والوثنيّون ليس أمامهم سوى واحد من خيارين: إمّا أن يؤمنوا برسالة المسيح وإمّا أن يتقبّلوا مصيرهم.
هكذا يبدأ فيلم أغورا الذي يتناول فصلا من فصول التاريخ الذي نُسي منذ زمن طويل. الفيلم يمزج بين الفلسفة والتاريخ والحبّ، ويروي كيف أن بإمكان أكثر أفكار الأصولية الدينية بدائيةً أن تؤثّر في حياة الناس وأن تولّد البغضاء والكراهية. كما يتناول الفيلم عددا من الأسئلة والأفكار الملحّة التي تتصّل بواقع البشر في ذلك الوقت وفي هذه الأيّام. متى يفسح التسامح الطريق للطغيان والتعصّب؟ وإذا لم تكن الأرض مركزا للكون، فهل في ذلك ما يجعل البشر اقلّ أهمّية؟ وهل يمكن أن يتعايش العلم والدين بسلام؟
منذ أيّام سيرجيو ليوني، لم يظهر فيلم يتحدّث كثيرا وبصوت عال بمثل ما يتحدّث فيلم "أغورا". وهذه ليست مفاجأة. فـ أغورا في اليونان القديمة كانت مكانا عامّا ومفتوحا تؤمّه مختلف طبقات الناس للتجمّع والتسوّق. في الإسكندرية خلال القرن الرابع الميلادي، كانت أغورا ما تزال مكانا عامّا ومفتوحا. لكنّ التجمعّات والأسواق كانت تناقش مواضيع تدور حول الآلهة وكانت تلك النقاشات تنتهي أحيانا بعواقب مأساوية.
الغرض من فيلم "أغورا" طموح، وربّما طموح جدّا. ومثل الكيس الثقيل الذي تستخدمه هيباتيا "ريتشيل فايس" للتدليل على مسار الأجسام الساقطة، فإن "أغورا" لا يرقى إلى الغرض الأصلي منه، لأن مخرجه اليهاندرو امينابار نسي أن الغرض الأساسي من أيّ فيلم هو أن يكون مسلّيا.
وفيلمه يحاول الموازنة بين اثنين من أقطاب الجذب، تماما مثل المسار البيضاوي للأرض حول الشمس. امينابار لم يستطع بوضوح أن يقرّر ما إذا كان فيلمه عن مدينة الإسكندرية أو عن سقوط الإمبراطورية الرومانية أو عن سفك الدماء الذي تسبّب به التعصّب الديني أو عن المسيحية أو عن امرأة يحبّها رجلان أو عن علم الفلك. هذا الغموض محيّر ومربك، لأنه في كلّ مرة يحقّق الفيلم تعاطفا اكبر مع شخصيّاته، يتدخّل امينابار بصريا ليقدّم أفكارا ونظريات مطوّلة عن الأرض والنجوم.
"أغورا" هو فيلم عن الإيمان بالكمال في السماء وعلى الأرض. المسيحيون يعبدون إلها واحدا، ورمزية الصليب أكثر خطورة على البشر من الآلهة التي تحمل الزهور على رؤوسها. هيباتيا تفشل في فهم السماء لأنها تعتقد أن السماء كاملة ومحكمة. وامينابار يعتقد أن البحث عن الكمال المثالي هو أعظم الأخطار.
إن جوهر فيلم "أغورا" هو عن الكواكب الصامتة التي تدور حول الشمس وعن اضطراب مدينة الإسكندرية حول المكتبة. الجنود الرومان يحاولون السيطرة على الحشود الصاخبة. والكهنة والنبلاء يتجادلون بلا نهاية. وهيباتيا تعلّم الطلاب نظام بطليموس عن مدارات النجوم. والمسيحيون يحرقون الناس في الأماكن العامّة ثم يمارسون أعمالهم الخيرية العظيمة بعد ذلك.
وبما أن هذا الفيلم يتحدّث عن الثنائية القطبية، فإن لدى هيباتيا عاشقين وهي تتأرجح بينهما، مع الحفاظ على مسافة معقولة من كلّ منهما في حركة لا تنتهي من الجذب والصدّ. وهناك أوريستيس الشابّ "أوسكار إيساك" الذي يتعقّب هيباتيا مصرّحا بحبّه لها. وأيضا هناك العبد ديفوس "ماكس مينغيلا" الذي يحترق بحبّه القوي، لكن الصامت، لـ هيباتيا.
إذا استخدمنا المجاز في عملية دوران الأرض حول الشمس، عندها يصبح ديفوس هو الأوج بالنظر إلى انه الحبيب البعيد كونه أحد سفّاحي فرقة جنود المسيح. وأوريستيس هو القاع، فهو الأقرب إلى هيباتيا اجتماعيا وفكريا. ديفوس رجل فعل وغضب كما انه مفتون بالعنف. في حين أن أوريستيس رجل كلمات وتسويات كما انه حسّاس وهشّ.



هيباتيا تبدو امرأة عاطفية في سعيها لفهم القوانين التي تحكم حركة الكواكب. إنها امرأة متشكّكة أيضا. كان والدها يحبّ امرأة. وهي كانت ثمرة ذلك الحبّ. لكن إن تزوّجت فمعنى ذلك تخلّيها عن دراساتها وتعليمها. وهي تريد أن تكون حرّة. نضالها الدائم كي تبقى حرّة وأمينة مع نفسها هو أمر يثير المشاعر أكثر من تدمير مكتبة الإسكندرية.
عندما يحاول أوريستيس إقناعها بحبّه لها، تقترح عليه أن يبحث عن وسيلة إلهام مناسبة كالموسيقى مثلا. عندها يعلن أوريستيس عن حبّه لها على الملأ ويعزف لحنا عاطفيا على الناي. وفي اليوم التالي ترسل له هيباتيا شالا ملوّثا بدم الحيض وتسأله ما إذا كان هذا يتناسب مع رغبته في الحبّ المثالي. بالنسبة لها فإن حبّ الفلسفة والرياضيات هو الحبّ المثالي.
فيلم أغورا ينقسم إلى جزأين: الأوّل عن ثورة المسيحيين وسقوط مكتبة الإسكندرية. والثاني عن ثورة المسيحيين الثانية التي تنتهي بمذبحة اليهود وتدمير السلطة المدنية لـ روما والموت العنيف لـ هيباتيا.
اليهاندرو امينابار لا يتعاطف كثيرا مع أبطاله الذكور. فهم ضعفاء وفي حالة شكّ دائم ولا يمكن أن يقدّموا الحماية والحبّ لـ هيباتيا دون أن يلوّثوها أو يقتلوها.
"أغورا" عبارة عن قصّة رجال يخذلون المرأة التي يحبّونها. وهيباتيا تموت عذراء. والعناق المميت لقاتلها يعبّر عن الرغبة أكثر من الانتقام.
إنه فيلم غريب. فيه عظمة المشاهد الأخيرة من فيلمي "سقوط الإمبراطورية الرومانية" و"قائمة شيندلر". لكن الإسكندرية ليست روما أو كراكوف. مصر كانت دائما شوكة في خاصرة الإمبراطورية الرومانية. وبينما انتظر فرنسيّ عشرين عاما كي يصبح عضوا في مجلس الشيوخ في روما، استغرق الأمر أربعمائة سنة من مصريّ. وكانت مصر قد تفسّخت بالفعل عندما وصلها القيصر. وبعد خمسة قرون أصبحت وعاء تجمّعت فيه كلّ عوامل اضمحلال وانهيار الإمبراطورية الرومانية.
السفّاحون المسيحيون يملكون الشوارع مثل النازيّين. وفهمهم الديني للمسيح يملي عليهم أن يصلبوا جميع الكفّار وأن يطيعوا طاعة مطلقة وعمياء زعيمهم الملهم سيريل.
عاشقا هيباتيا الاثنان يشكّلان مزيجا غريبا من الأفكار الرومانسية المثالية. ديفوس هو الأقرب إلى كونه عاشقا حقيقيا. وهو الذي سوف يقتل هيباتيا كي يوفّر عليها آلام التعذيب. أوريستيس لديه أفكار طالب فلسفة يوناني منحطّ. انه يقضي وقتا في قتل المسيحيين قبل أن ينضمّ إلى صفوفهم ويصبح حاكما على الإسكندرية. وفي نهاية المطاف يخون هيباتيا كي يواجه القوّة المتنامية لزعيم المسيحيين سيريل.
ريتشيل فايس غير مقنعة، إلا أن ضعفها غامض. لماذا دخلت هيباتيا المعترك العامّ كي تتحدّي زعيم المسيحيين سيريل؟ لماذا لم تركّز على دراستها فحسب؟ ما فعلته مثال لتدخّل المثقف في الشؤون العامّة وهي ستدفع ثمنا باهظا في النهاية بسبب التزامها المثالي بأفكار الكمال والحرّية.
ومثل آنا بوليتكوفسكايا في روسيا، لن تستسلم هيباتيا. وموتها كان تعبيرا عن الضياع الفاحش للشباب والموهبة. وهكذا تحققت نهاية الزمن في الإسكندرية.
"أغورا" هو وثيقة سياسية عن التسامح. اليهاندرو امينابار يعتقد أن حضارتنا ما تزال رخوة. فمنذ 1500 عام ذبلت الإمبراطورية الرومانية وسقطت بسبب إفلاسها وفسادها الداخلي وبسبب التعصّب الديني.
التعصّب الديني يملك دائما إجابات مبسّطة على الأسئلة المعقّدة. وهذا متجذّر في رغبتنا في الكمال وفي السموّ الروحي.
مجتمعنا الحديث له أصنامه الجديدة المتمثّلة في العلوم والتكنولوجيا. وامينابار يحذّرنا من خطورة الاعتقاد بأن هذه الأصنام ستجعل حياتنا سعيدة وكاملة. لا توجد سعادة، بل ثمّة جنون وتدمير وتعصّب في سعينا للبحث عن الكمال. "مترجم بتصرّف".

الخميس، ديسمبر 17، 2009

وليام بليك: الفوضوي الحالم

عندما ولدت، تأوّهت أمّي وبكى أبي
قفزت إلى هذا العالم الخطير
اعزل، عاريا، مزقزقا بأعلى صوتي
مثل شيطان مختبئ في غيمة!

بعد مرور قرنين ونصف على ولادته، ما يزال وليام بليك حيّا من خلال ميراثه البصري وقيمه الفكرية. عاش حياة ثريّة وكانت عين عقله مليئة بصور الأبطال من الرجال والنساء والقدّيسين ذوي اللحى الطويلة البيضاء والوحوش المجنّحة والمخيفة.
ومع ذلك كان أسلوب حياته اليومي متّسما بالكفاح والفاقة.
وخلال السنوات السبع الأخيرة من حياته، عندما كان يرسم الكوميديا الإلهية ويصوّر شخصيات شكسبيرية، كان هو وزوجته يمرّان بأوقات صعبة. كانت غرفة معيشتهما في شقّتهما بـ لندن هي أيضا غرفة نومهما ومطبخهما واستديو الرسّام في وقت وحد.
احد الجوانب المثيرة في سيرة حياة وليام بليك يتمثّل في حقيقة أن النقّاد والناس ما يزالون منقسمين بشدّة حول شخصيّته وقيمة أعماله.
البعض يرى انه كان شخصا غريب الأطوار. أو هذا على الأقلّ ما وصفه به بعض معاصريه. وبينما قد لا يرقى الوصف لمستوى المرض العقلي، فإنه كانت هناك دائما درجة من الشكّ عن هذا الرجل الذي قيل مرّة انه ادّعى انه كان يرى الملائكة في الأشجار.
عندما مات بليك سنة 1827 كان مفلسا، ثم لم يلبث أن أصبح نسيا منسيا.
لكن حدث أمر غريب خلال المائة والثمانين عاما الأخيرة. فـ بليك الهامشي والضئيل دخل إلى مؤسّسة الفنّ والأدب بقوّة وأصبح شخصية ثقافية لها مكانتها ووزنها.
ورغم أن بليك مات عام 1827 فقيرا في سنّ السبعين، فإنه استطاع بعد موته أن يكتسب شعبية بأكثر مما كان يحلم به.
وأكثر من ذلك فإن نجاحه كفنّان وشاعر يتجاوز النواحي المالية. فشعره يدرّس لتلاميذ الثانوية كما أن له تأثيرا واضحا في الثقافة الشعبية.
في فيلم التنّين الأحمر يستشهد بطل الفيلم بلوحة بليك التي تحمل نفس الاسم والموجودة اليوم في متحف بروكلين للفن الحديث. ويندر فعلا أن تجد لمعاصري بليك، مثل توماس لورانس وجوشوا رينولدز وبنجامين ويست، مثل هذا النفوذ في أوساط الثقافة الشعبية.
في العام 1789 كتب وليام بليك أغاني البراءة، وهي مجموعة من القصائد الغنائية القصيرة. في ذلك الوقت لم تعد رؤاه ساكنة، بل تحوّلت إلى كائنات بأجنحة تكشف عن رؤى مظلمة. كان العالم الذي يراه بليك يمرّ بتحوّلات دراماتيكية أيضا. الثورة الأمريكية، التي اندلعت عندما كان بليك ما يزال طالبا في الفن، تمكّنت من تحرير 13 مستعمرة واستقلّت عن ملك كان يسقط في وهدة الجنون. والثورة الفرنسية جاءت بالتنوير وبالأفكار الإنسانية عن العدالة والحرية والمساواة.
كان بليك يقوم بكلّ شيء. كان يكتب القصائد ويرسمها. وخلال أربعة عقود تقريبا تطوّرت لغته الصورية وشعره كثيرا.
سبب شعبية بليك يكمن، على الأقل جزئيا، في قصيدته عن القدس التي أصبحت نشيدا خلال الحرب العالمية الأولى. وقد جرت العادة أن يظهر كلّ سنتين شخص يقترح دمج تلك القصيدة في النشيد الوطني لانجلترا.
وبليك محبوب من اليساريين بسبب الإصلاح الاجتماعي الذي تحدّث عنه في إشارته إلى "الطواحين الشيطانية المظلمة". واليمينيون أيضا يحتفون به باعتباره نموذجا للوطنية المتّقدة. وعشّاق الرياضة أيضا يحبّونه لأن أوّل سطر في تلك القصيدة يشير إلى القدمين.
لكن لا توجد رسالة سياسية يمكن تمييزها بسهولة في القصيدة أو في معظم أعمال بليك، كما تقول شيرلي دنت مؤلفة كتاب "بليك الراديكالي". "إنها قصيدة رجعية وراديكالية بنفس الوقت. وهي تمنح أشياء كثيرة لأناس كثيرين. وهناك شيء ما في الشعر نفسه يجعله متناقضا".
الذين يدّعون أن بليك وطني بإفراط يجب أن يتذكّروا انه كتب القصيدة عندما كان ينتظر المحاكمة على ما قيل إنها ملاحظات مهينة منه تجاه الملك وعلى تغنّيه بنابليون.
أعمال بليك تتضمّن ميثولوجيا معقّدة وشخصيات غيبية ورؤى فانتازية عن الريف البريطاني وإشارات إلى الأساطير ونقدا للرقّ وثناءً على التصوّف المسيحي.
ويبدو أن صورته باعتباره غير منتمٍ إلى التيّار السائد أسهمت في تعزيز جاذبيّته الشعبية.

يقول الكاتب المسرحي جاك شيبرد: كان ذكاء بليك يجذب الانتباه فلم يتقيّد بالفكر الأكاديمي لذلك الزمن. كان واحدا من أولئك الناس النادرين الذين يتمتعون برؤية شاملة. بدأت قراءته عندما كنت طفلا وكانت لوحاته معلقة على جدران الكنيسة التي كنا نذهب إليها. وقد وجدت صوره كريهة وفاتنة، مريحة ومخيفة بنفس الوقت. كنت أحبّ كرهي لها. كان لها تأثير هائل. ومع الأيام انجذبت إلى فلسفة بليك الخطرة".
جون ويتيكر مؤلّف كتاب "بليك وأساطير بريطانيا" يقول: مكانة بليك كفنّان وشاعر لم تنشأ سوى منذ الحرب العالمية الثانية. والكثير من الناس يتحمّسون له حتّى دون أن يقرءوا شعره أو ينظروا في فنّه".
معتقدات بليك المسيحية القويّة وتصوّفه الذي يصعب فكّ طلاسمه يمكن أن يدفع المرء للاعتقاد بأن بليك يمكن أن يتواءم مع هذا العصر العلماني. غير أن هذا ليس هو واقع لحال.
الناقد فالديمار يانوتشاك لا يفهم ما يقال عن المكانة شبه الإلهية التي يبدو أن بليك استطاع تحقيقها. "الرجل لم يكن يستطيع أن يرسم جيّدا. وشخصياته متهاوية. إننا نحبّ كثيرا الأشخاص الغريبي الأطوار، خصوصا القدامى منهم. في هذا العصر اعتدنا على فكرة الفنّان الغريب الأطوار الذي لا يتمسّك بالقواعد. لقد اسقط الجمهور الحديث جزءا كبيرا من تسامحه على عصر آخر. لذا هناك من يعتبر بليك إنسانا فطريا ورائدا من روّاد الفن. ويضيف يانوتشاك: لقد كان الرجل مجنونا. كان يزعم انه يتحدّث إلى الملائكة. في عصرنا هذا، لو قال احد مثل هذه الكلام لانتهى به الأمر إلى السجن. ثم إن الكثير من أشياء بليك مملّة جدّا".
لكن جون ويتيكر يرى أن من الخطأ وصف بليك بالمرض النفسي، رغم ما يفترضه بعض الأكاديميين من أعراض الهوس والاكتئاب وغيرها من الحالات الطبية. إن رؤية الملائكة ما هي سوى أمور مجازية. أن تقول إن الرجل كان مجنونا، هذا تبسيط مخلّ للأمور. ربّما كان يعاني، مثل الكثير من الفنانين، من درجات من الحالات العقلية المتطرّفة نسبيا".
ويتيكر يصرّ أيضا على أن لا علاقة لـ بليك بعالم المخدّرات، ولا يوجد دليل أبدا على انه كان يتعاطى مخدّرات إطلاقا".
كان بليك متعاطفا مع الثورة الفرنسية التي أصبحت محورا لاهتمامه وموضوعا للعديد من قصائده. وقد وضعته دعوته ودفاعه عن الحرّيات السياسية والحقوق المدنية على طريق الصدام مع حكومة وليام بيت القمعية. وهناك من النقاد من ذهب إلى أن بليك حاول عمدا إخفاء آرائه السياسية والفكرية خلف قناع التصوّف كي يتجنّب رقابة الحكومة وغضبها.
كان الشاعر يرى أن الطبيعة هي خيال بذاتها وأن الخيال بدوره يقود إلى الرؤيا والحكمة. وكان يفضّل الخيال على عالم المادّة، كما اعتبر أن مهمّته الشخصية تتمثّل في توظيف الخيال لإضفاء طبيعة تنبؤية على أعماله.
هل كان بليك إنسانا مجنونا أم عبقريا؟
يقول الشاعر وليام ووردزوورث محاولا الإجابة عن هذا السؤال: لا يوجد شكّ في أن هذا الإنسان المسكين كان مجنونا. لكن هناك شيئا ما في جنونه يشدّني أكثر من عقلانية بايرون ووالتر سكوت".
اليوم يمكن العثور على بليك الرسّام في العروض الدائمة في تيت غاليري. وليس صعبا أن تقرأ اسمه في قائمة تتحدّث أيضا عن كونستابل وتيرنر وغينسبورو.
كما أن شعره يعلّم في المدارس. وكثير من التلاميذ ظلّوا يشتكون من صعوبة وغرابة قصائده.
وحتّى بالنسبة إلى أولئك الذين لا تربطهم علاقة مباشرة بالشعر والفنّ، ما يزال بليك بالنسبة لهم شخصية شاهقة. وقد احتلّ مؤخّرا المرتبة الثامنة والثلاثين في الاستفتاء الذي أجرته إذاعة البي بي سي عن أعظم مائة شاعر بريطاني.
الغريب في الأمر أن شعراء ورسّامين مثل ووردزوورث وكولريدج وكونستابل وتيرنر لم تشملهم تلك القائمة.

Credits
blakearchive.org
thetimes.co.uk

الأربعاء، ديسمبر 16، 2009

أشهر عشر نساء خلّدهن الرسم


كان جون سنغر سارجنت أشهر رسّام للبورتريه في زمانه. وقد رسم هذا البورتريه الاستثنائي في بدايات اشتغاله بالرسم.
كان يتمنّى أن يكسبه الشهرة. وقد تحقّق له ذلك، لكن ليس بالطريقة التي كان يتصوّرها.
تعرّف سارجنت إلى فيرجيني غوترو ، وهي سيّدة مجتمع مشهورة وجميلة وزوجة مصرفي فرنسي بارز. وظلّ يطاردها لسنتين كي توافق على طلبه بأن تكون الموديل لهذه اللوحة. واختار الرسّام طريقة وقوفها بعناية فرسمها في وضع جانبي بجسد زجاجي وبشرة عاجية. وعندما أتمّ اللوحة وعرضها في صالون باريس في العام 1884، أثارت ما يشبه الفضيحة.
فقد صُدم الناس بمكياج المرأة الأبيض الشاحب. وصُدموا أكثر لأن احد شريطي فستانها، في اللوحة الأصلية، كان منحسرا عن كتفها، وهي علامة اعتبرت غير لائقة في ذلك الوقت.
وقد دفع ذلك فرجيني إلى اعتزال المجتمع، بينما اضطرّ سارجنت إلى إعادة رسم شريط الكتف بعد أن انتهى المعرض. ثم غادر باريس بعد ذلك الصخب مباشرة. لكنّه كان يصرّ دائما على أن البورتريه كان أفضل لوحة رسمها.
في ما بعد، أي في العام 1916، باع الرسّام اللوحة إلى متحف المتروبوليتان الذي ظلّت فيه إلى اليوم.



هذه اللوحة، البرتقالية كثيرا، يمكن أن تكون أكثر شهرة من الفنان الذي رسمها. كما أنها أشهر لوحات فريدريك ليتون نفسه وهي بنفس الوقت تجسيد لأسلوبه الكلاسيكي.
وهناك الكثير من نقاط الشبه التي تجمعها بلوحة الليل لـ مايكل انجيلو، والموجودة في كنيسة ميديتشي بـ فلورنسا.
وحسب كلام ليتون، فإن طريقة تصميم اللوحة لم تأت وفق تخطيط مسبق. بل جاءت بالصدفة عندما رأى موديله دوروثي دين وهي ترتاح على إحدى الأرائك بتأثير التعب والإرهاق.
دوروثي كانت ممثّلة انجليزية، وقد ظهرت لاحقا في العديد من لوحات الرسّام.
وهو كان يعتبرها المرأة التي تطابق ملامحها نموذجه المثالي.
وقد كانت معروفة بوصفها أجمل امرأة في انجلترا في نهاية القرن التاسع عشر.
ويشاع أن الرسّام كان على علاقة حبّ معها قبل وفاته. لكن لم يكن مقدّرا لهما أن يتزوّجا أبدا بسبب فارق السنّ بينهما. فـ ليتون كان في السبعين ودين في الثامنة والعشرين من عمرها.
وقد عُرضت هذه اللوحة للبيع في المزاد في ستّينات القرن الماضي، أي في وقت كان من الصعب أن تباع فيه لوحة من العصر الفيكتوري. لذا لم تحقّق سعر الحدّ الأدنى الذي حُدّد لها وهو 140 ألف دولار.
لكن اللوحة اكتسبت شعبية هائلة مع انتعاش الفنّ الفيكتوري. وقد نجت من النسيان عندما اشتراها متحف في بورتوريكو حيث ظلّت فيه إلى اليوم.



تصدّر هذا البورتريه الأخبار عام 2006 عندما بيع في مزاد بـ نيويورك بأكثر من 40 مليون دولار. وقد كان واحدا من سلسلة من خمس لوحات رسمها فان غوخ كإشادة بصديقه بول غوغان.
مدام جينو كانت تسكن في آرل وكانت متزوّجة من جوزيف جينو. كما كانت تمتلك مقهى مشهورا هناك كان فان غوخ يتردّد عليه أثناء إقامته في آرل.
كان ذلك في نفس الفترة التي قطع فيها الرسّام إحدى أذنيه.
وقد رسمها عندما كان يمرّ بحالة حزن شديد بعد انتهاء علاقته بـ غوغان وبعد أن اُدخل إلى المصحّة العقلية.



في هذا البورتريه يرسم سلفادور دالي زوجته وملهمته والمرأة التي كان يصفها بأنها وسيط بين عالم العباقرة والعالم الحقيقي.
كانت غالا تكبر دالي بعشر سنوات. ومع ذلك كان يعشقها كثيرا، وهذا واضح في لوحاتها التي رسمها لها في ثلاثينات القرن العشرين عندما كان يوقّع لوحاته باسمه واسمها معا.
عُرف دالي بحياته الخاصّة غير المستقرّة وبمغامراته العاطفية. وقد ذكر أكثر من مرّة أن غالا هي التي أنقذته من الجنون ومن الموت المبكّر في ذلك الوقت.
لكن السنوات الأخيرة من علاقتهما شابها كثير من المرارة بسبب مغامرات غالا الكثيرة التي لم تراع فيها حساسية دالي ووقوعه فريسة للشكّ والإحساس بعدم الأمان.
ومعظم لوحاته التي رسمها لها في ما بعد كان يرسمها بضوء معتم وغامض.
بورتريه غالا، هنا أيضا، ينقصه التعبير الطازج والعميق الذي ميّز لوحات دالي السابقة لزوجته.
ومع ذلك، تظلّ غالا المرأة التي ألهمت دالي رسم مجموعة من أفضل وأشهر لوحاته.



توصف هذه اللوحة بأنها موناليزا الشمال أو موناليزا الهولندية. وهي إحدى تحف فيرمير المشهورة. ونقطة الارتكاز فيها القرط اللؤلؤ الذي ترتديه الفتاة.
اللوحة ليست بورتريها بالمعنى المتعارف عليه، وإنما دراسة عن رأس امرأة.
الموديل الظاهرة في اللوحة غير معروفة. لكن يقال أنها ماريا ابنة فيرمير الكبرى، أو قد تكون ماغدالينا ابنة الرجل الذي كان يوفّر له الدعم والرعاية.
وفي بعض الأوقات راجت فكرة تقول إن فيرمير استخدم خادمة كموديل للوحة. وقد تكرّست هذه الفكرة أكثر بعد ظهور بعض الروايات الخيالية مؤخّرا، وأشهرها رواية تريسي شيفالييه التي حملت نفس اسم اللوحة وتحوّلت إلى فيلم.
لكن لا توجد حتى الآن أدلّة تاريخية تدعم هذه الفرضية.
ورغم أن فيرمير رسم 35 لوحة فقط، إلا انه يعتبر احد أعظم رسّامي العصر الذهبي الهولندي.
وأثناء حياته، لم يحقّق شهرة كبيرة، غير انه اكتسب احتراما وتقديرا واسعين بعد وفاته.
تقنيات فيرمير المبتكرة، وخاصّة براعته في استخدام الضوء، ألهمت الكثير من الرسّامين المعاصرين مثل دالي وغيره.



كانت فريتزا فون ريدلر واحدة من نساء كثيرات استخدمهنّ غوستاف كليمت في لوحاته التي هيمنت عليها فكرة المرأة المسيطرة.
المرأة في هذه اللوحة المشهورة تبدو في وضعية جلوس بينما ترتدي فستانا من الدانتيل الأبيض.
كان كليمت ابنا لرجل كان يشتغل بالمنقوشات الذهبية والفضّية. وقد استفاد كليمت من خبرة أبيه فأضفى على لوحاته عناصر زخرفية فخمة.
هذه اللوحة أيضا عامرة بالأشكال الهندسية المختلفة والموشّاة بالألوان الذهبية والفضيّة.
ورغم انه لا يُعرف الكثير عن فريتزا فون ريدلر، إلا أن اللوحة أصبحت في ما بعد واحدة من أشهر لوحات كليمت وأكثرها تأثيرا على معاصريه من الفنّانين الشباب. وهي موجودة اليوم في احد متاحف فيينا بالنمسا.



في هذه اللوحة، يرسم جيمس ويلسر والدته العجوز.
تقول بعض القصص إن الموديل التي كان الفنان ينوي رسمها لم تصل في موعدها فانتدب والدته للمهمّة.
وهناك قصّة أخرى تقول إن السيّدة ويسلر التي كانت آنذاك في السابعة والستين من عمرها كان يفترض أن تُرسم واقفة في اللوحة. غير أنها لتعبها فضّلت أن تجلس في الوقت المتبقي من الرسم.
استخدمت اللوحة كثيرا في الثقافة الشعبية وفي الروايات والسينما والعاب الفيديو وخلافه.
ويُنظر إليها كرمز متميّز للأمومة.
وفي أربعينات القرن الماضي ظهرت اللوحة على طابع بريدي مع شعار، احتفالا بالأمّهات الأمريكيات وتكريما لهنّ.



ارتبط بابلو بيكاسو بعلاقة حبّ مع ثيودورا ماركوفيتش، أو دورا مار، دامت عشر سنوات.
كانت مار مصوّرة وشاعرة على قدر كبير من الجمال. واشتهرت بكونها ملهمة بيكاسو الخاصّة ورفيقته وشريكة أفكاره.
كانت علاقتهما عاصفة وغير تقليدية. وقد عانت مار كثيرا من تقلّب مزاج بيكاسو وعصبيته. لكن حبّها له كان حبّا غير مشروط.
بيكاسو عُرف بدأبه على إيذاء عشيقاته. وقد رسم مار بأشكال غريبة وأحيانا مروّعة.
وكانت دورا مار غالبا ما تنفي حبّ بيكاسو الأثيري لها بقولها: إن جميع بورتريهاته لي هي محض أكاذيب. كلّها صور لـ بيكاسو ولا توجد بينها واحدة تمثلني".
إحدى صورها تلك كسرت كلّ الأرقام القياسية عندما بيعت في مزاد في لندن بمبلغ يربو على 95 مليون دولار أمريكي، ما جعلها إحدى أغلى اللوحات في العالم.



كانت اديل بلوكباور زوجة لـ فرديناند بلوكباور، وهو رجل صناعة ثريّ كان يرعى الرسّام غوستاف كليمت ويدعم أعماله.
وقد نشأت بين اديل وكليمت علاقة عاطفية بدأت العام 1899 واستمرّت عدّة سنوات.
ونتيجة لذلك، أصبحت سيّدة المجتمع الوحيدة التي رسمها كليمت مرّتين. كما استخدمها كموديل في اثنتين من لوحاته الأخريات.
هذه اللوحة تعتبر نموذجا لأسلوب كليمت الفنّي من حيث غلبة الطابع الزخرفي وكثرة المساحات الذهبية والفضيّة فيها.
وقد نهب النازيون اللوحة بعد غزوهم للنمسا ولم تعد إلى الورثة الشرعيين إلا منذ سنوات. وفي عام 2006 بيعت اللوحة إلى احد غاليريهات نيويورك بمبلغ 135 مليون دولار متجاوزة بذلك السعر الذي حقّقته لوحة بيكاسو بعنوان صبيّ مع غليون، أي 104 مليون دولار.



ليس هناك الكثير مما يمكن أن يقال عن الموناليزا ممّا لا يعرفه معظم الناس.
ليوناردو هو الرسّام، لكن هويّة المرأة التي تصوّرها اللوحة ما تزال لغزا بالنسبة للكثيرين.
وهناك تكهّنات متطرّفة تقول إن السيّدة ما هي إلا ليوناردو نفسه في شكله الأنثوي.
غير أن أكثر النظريات قبولا هي تلك التي تقول إن المرأة ذات الابتسامة الغامضة هي ليزا جيرارديني زوجة فرانشيسكو بارتولوميو، الرجل الذي كلّف دافنشي برسم البورتريه.
من الحقائق شبه المؤكّدة أيضا انه عندما جلست جيرارديني أمام ليوناردو لرسمها كان عمرها 24 عاما وكانت أمّا لطفلين.
وجانب من شهرة اللوحة يعود إلى حقيقة أنها سُرقت من متحف اللوفر في باريس في عملية سطو مثيرة قام بها ايطاليون متعصّبون كانوا يطالبون بإعادتها إلى ايطاليا. غير أن اللوحة استعيدت بعد سنتين من تلك العملية.
السيّدة الغامضة ما تزال تقيم إلى اليوم في اللوفر وراء جدار زجاجي لا يخترقه الرصاص.
وقد صُممت للوحة غرفة بمواصفات خاصّة بلغ إجمالي تكلفتها أكثر من سبعة ملايين دولار.

موضوع ذو صلة: قائمة أغلى عشرين لوحة في العالم

الأربعاء، ديسمبر 09، 2009

التاريخ والسياسة والفنّ في لوحة

يجمع المؤرّخون ونقّاد الفنّ على اعتبار هذه اللوحة أعظم تحفة فنّية أنتجها العصر الذهبي للفنّ الاسباني. وقد امتدحها الكثيرون باعتبارها محصّلة لإبداع الفنّان وسعيه الدائم لبلوغ مكانة اجتماعية عالية في إطار ثقافة لم تكن تتعامل مع فنّانيها بما يكفي من التقدير والاحترام.

صورة لمحترَف رسّام هي دعوة للدخول إلى عالمه الخاصّ لاكتشاف تصوّراته عن العملية الإبداعية وكيف أن الفنّ في أعمق تجلّياته يمكن أن يتجاوز حدود المكان واللحظة التاريخية.
لوحة "وصيفات الشرف" لـ دييغو فيلاسكيز (أو فيلاثكيث كما ينطق اسمه بالاسبانية) معروفة بحجمها الكبير وإتقانها الفنّي وبمئات التحليلات النقدية التي تناولتها. وهي لوحة رُسمت داخل استديو وتنافست أعداد لا تحصى من الرسّامين، بمن فيهم بيكاسو ودالي وغويا، في تمثّلها وتقليدها.
كما ناقش كتّاب كثيرون الأسرار البصرية المغرية التي تختزنها هذه اللوحة وتناولوا الأسلوب الطبيعي الشفّاف الذي رُسمت به بالرغم من غموض موضوعها.
في العقود الأخيرة من حكم امبراطورية هابسبيرغ في اسبانيا قدّمت "وصيفات الشرف" لمحة بليغة عن عالَم الملك الاسباني العجوز فيليب الرابع، حيث كان الفنّ والإيهام يحجبان، في الكثير من الأحيان وبطريقة مبهرة، حقائق الواقع السياسي الذي كان يزداد كآبة وبؤسا.
بالومينو، كاتب سيرة فيلاسكيز، حدّد شخصيّات هذه اللوحة الذين ينتمون كلّهم إلى البيت الملكي. في الوسط، تقف انفانتا مارغاريتا الجميلة التي تظهر براءتها المشعّة من خلال ضربات الفرشاة الشفّافة والمتألّقة، محاطة بوصيفتيها الحريصتين اللتين تقومان على خدمتها.
والى اليمين، تظهر امرأتان قزمتان يُفترض أنهما تقومان، حسب ما تفرضه تقاليد البلاط، بملاعبة الأميرة الصغيرة والتسرية عنها. إحداهما، إلى أقصى يمين اللوحة، تبدو وهي تداعب بقدمها الكلب الضخم الجالس أسفل منها.
وخلفهما مباشرة تظهر إحدى وصيفات الملكة وهي تتحدّث مع رجل مجهول. ووراءهما يقف حاجب الملكة ممسكا بستارة باب يتسرّب منه الضوء إلى داخل الغرفة.
والى اليسار، يقف الرسّام نفسه حاملا بيده اليمنى فرشاة مجمّدة في الهواء وبالأخرى رقعة الألوان. ومن الواضح انه ينظر باهتمام إلى الخارج، على الأرجح باتجاه فيليب الرابع وزوجته ماريانا، فيما تنعكس ملامحهما على المرآة اللامعة المثبّتة في الجدار الخلفي.
من هذه النقطة بالذات تبدأ مفارقات الرسّام.
الزوجان الملكيان لا يبدو أنهما حاضران فقط بشخصيهما أمام فيلاسكيز، لكنهما أيضا واقفان على هذا الطرف من اللوحة معنا، أي مع المشاهدين.
لوحة الرسم لا تُرى إلا من الخلف. ومع ذلك فحوافّها الخشنة المحاطة بخيوط من الطلاء السميك تشدّنا أكثر إلى داخل المتاهة البصرية التي نصبها الفنّان.
هناك احتمال انه يرسم بورتريها بالحجم الطبيعي لـ انفانتا. وربّما كان يرسم "وصيفات الشرف"، أي اللوحة نفسها، وهو غرور عبقري يمكن أن يجعل اللوحة الحقيقية مرآة مجازية لعملية خَلقِها. ويحتمل أكثر أنها تصوّر الملك والملكة اللذين يتّخذان وضعية رسمية تحت الستائر ذات اللون الوردي.
لكن، إذا كانا هناك في الاستديو، لماذا يقتصر حضورهما على مجرّد الإعلان عن وجودهما؟
النظرة الآسرة لـ انفانتا التي يميل رأسها، مثل وصيفة الملكة، إلى اليسار توحي بأنهما وصلا للتوّ.
هذا الإدراك يبدو أن له تأثير الموجة على رفيقاتها في أرجاء الغرفة.
وضعياتهنّ الرزينة تشي بمعرفتهن بوجود فيليب وماريانا، وهو ما تؤكّده أيضا نظرات الملك الثابتة والمحدّقة وطريقة وقوف الرسّام المدقّقة والمتفحّصة.
هذه اللوحة ليست مجرّد سرد غامض. بل يمكن اعتبارها مثالا رائعا للمزاوجة بين عنصري السلطة والفنّ في لوحة.
لقد جادل الخبراء كثيرا في أن "وصيفات الشرف" كانت جهدا متعمّدا من فيلاسكيز كي يحصل على "وسام النُبل". وهي رتبة طالما سعى إليها، وكان يتمتّع بها الشعراء والفلاسفة الأسبان. لكنها نادرا ما كانت تُمنح للفنّانين الذين كان يُنظر إليهم كحرفيين متواضعي المكانة والقيمة.

detail

أقام فيلاسكيز منظره الغامض، ليس في محترفه الخاصّ والقريب، وإنما في القصر الملكي الذي شغله في الماضي الأمير بالتاسار كارلوس الذي كان قد مات قبل ذلك بعشر سنوات.
منذ أن زار الاسكندر الأكبر رسّامه "ابيلليس"، أصبح حضور ملك في ورشة رسّام علامة ثمينة تؤشّر إلى أن الرسّام بات يتبوّأ مكانة نبيلة وعالية.
في العام 1660 تحقّقت رغبة فيلاسكيز أخيرا.
فطبقا لما ذكره بالومينو، أمر فيليب برسم علامة الفروسية على السترة الرسمية للفنّان بعد وقت قصير من وفاته.
على الرغم من حجمها الهائل ومكانها البارز اليوم في غرفة طويلة ومزدحمة بمتحف برادو في مدريد، فإن "وصيفات الشرف" رُسمت في الأساس من اجل رجل واحد.
في البداية، عُلقت اللوحة في المكتب الخاصّ بالملك في شقّته الصيفية، كشهادة على انجازات فيلاسكيز وعلى رعاية الملك وتكريمه له.
في تلك الأثناء، كانت أوضاع اسبانيا في حال من التململ والارتباك، مع ازدياد احتمالات قرب انهيار الإمبراطورية الكولونيالية في آخر عهد فيليب الرابع.
كانت اسبانيا في بداية القرن السابع عشر اكبر قوّة في أوربا. وكانت إمبراطورية هابسبيرغ أقوى حتّى من روما القديمة.
لكن بحلول العام 1656، كان فيليب قد شهد تناقص عدد المستعمرات الاسبانية في أمريكا وأوربا وتآكل النظام الملكي وسقوط الشعب نفسه فريسة للشكّ والهزيمة.
وقد اختار الملك فيلاسكيز رسّاما للبلاط كي يعهد إليه بمهمّة حجب ذلك التراجع المقلق. ومن الملاحظ إن إنتاج الرسّام في تلك السنوات الأخيرة مرّ بحالة انكماش تحت ثقل إحساسه بتلك المهمّة العسيرة والشاقّة.
وقد عُرف عن فيليب تردّده في أن تُرسم له صور في تلك المرحلة الأخيرة من حياته التي أنهكتها الشيخوخة والملل من الحياة. وهو أمر يمكن أن يكون فيلاسكيز قد فطن إليه بذكاء.
في "وصيفات الشرف"، يشرِك فيلاسكيز راعيه العظيم في مرسمه ويقدّم له، ليس فقط الخلود، وإنما أيضا مكانا ودرسا أخلاقيا في التاريخ ملخّصه أن الواقع يمكن أن يكون هشّا ومراوغا ووهميا، تماما مثل اللوحة نفسها.


Credits
wsj.com

الثلاثاء، ديسمبر 08، 2009

فنّ معاصر للمنزل

يحلم العديد من الناس بشراء شيء من الفنّ المعاصر كي يزيّنوا به جدران منازلهم. وشراء بعض نماذج الفنّ الحديث يمكن فعلا أن يحسّن مظهر بيتك ويضفي عليه إحساسا بالانجاز والثقافة. لكن بالنسبة للكثيرين، فإن شراء قطعة فنّية يمكن أن يكون أمرا صعبا ومرهقا إلى حدّ ما.
إن عملية شراء فنّ معاصر لا يجب أن تكون تجربة مؤرّقة، بل يتعيّن أن تكون عملية ممتعة ومشوّقة. فهي توفّر لك الفرصة في أن تعاين ثم تشتري مجموعة واسعة من الأعمال الفنّية لرسّامين جدد وناشئين. لكن ما يضايق الكثير من الراغبين في اقتناء أعمال فنّية هو المفهوم المتعلّق بهذا السؤال: ما هو الفنّ الجيّد وما هو الفنّ الرديء؟ إذ لا احد يريد أن يُتهمّ بالاستثمار في فنّ لا قيمة أو أهمّية له.
الشيء المهمّ الذي يتوجّب عليك تذكّره عندما تفكّر في شراء فنّ معاصر هو انك تشتري قطعة لنفسك ولبيتك.
إننا عموما نشتري الفنّ الذي نرى فيه امتدادا لأنفسنا أو تمثيلا لطبيعتنا ولأفكارنا وتصوّراتنا عن ما هو مهمّ في حياتنا. وعندما تشتري فنّا معاصرا ينبغي أن تختار دائما تلك النوعية من الفنّ التي تُشعرك بالسعادة وتضيف أشياء جوهرية وذات معنى إلى جوّ منزلك.
وأفضل الطرق هي أن تتأكّد من أن الفنّ الذي تنوي شراءه يشكّل إضافة لمنزلك ويحتفظ بقيمة دائمة. لذا حاول أوّلا أن تُمضي بعض الوقت في النظر إلى فنّانين مختلفين وإلى أعمالهم. ثم اختر بضع قطع تحبّها فعلا وانظر ما إذا كان باستطاعتك أن تتعرّف على بعض الأشياء المشتركة في ما بينها.
قد يكون ما يجمع بينها شيئا واضحا مثل استخدام الألوان أو المَشاهد أو نوعية النسيج فيها. وقد تلاحظ انك منجذب إلى وسيط معيّن من الفنّ مثل لوحات الاكليريك أو الزجاج.
بهذه الطريقة ستتمكّن من تطوير ذائقتك الفنّية وتحديد اهتماماتك بشكل أفضل.
وعندما تفكّر في الاستثمار في شراء الفنّ، عليك أن تتأكّد أن القطع المختارة تناسب ذوقك وتفضيلاتك الفنّية. ولا يلزمك أن تشتري دائما من فنّان مشهور. فهناك الكثيرون اليوم ممن يفضّلون أعمال الرسّامين الجدد لأنها ارخص ثمنا وتتمتّع بقدر معقول من الجودة.
وإن كنت من الأساس تنوي تزيين منزلك بفنّ أصلي، فمن الأفضل قبل الشراء أن تجري عملية بحث بسيطة في الانترنت أو أن تحضر بعض معارض الفنّ المحلية.
أما إن كنت تنوي شراء فنّ معاصر بغرض الاستثمار، فعليك عندها أن تزور غاليريهات الفنّ الكبرى وأن تستشير خبيرا متخصّصا في الفنّ. الخبراء من هذا النوع يساعدونك في تحديد ذوقك وأسلوب حياتك، ومن ثمّ بناء رؤيتك الفنية واتّباع الأسلوب الصحيح للاستثمار في مجموعتك الفنّية.
وتذكّر أخيرا أن ما تريد شراءه يجب أن يتطابق مع ذوقك الفنّي ويمثّل نفسك أوّلا وأخيرا. لذا لا تدع الآخرين يحدّدوا ما هو جيّد أو سيّئ بالنسبة لك. "مترجم".

الاثنين، ديسمبر 07، 2009

أفق الكلمات

لو لاحظت إنسانا سعيدا حقّا، ستجده إمّا يصنع قاربا أو يكتب سيمفونية أو يعلّم ابنه أو يزرع زهرة أضاليا في حديقة منزله أو يبحث عن بيض الديناصورات في الصحراء الكبرى.
انه لن يبحث عن السعادة كما لو أنها زرّ في ياقة قميص ولن يسعى لها في حدّ ذاتها.
هو يعرف انه سعيد لأنه مشارك في سباق الحياة بفاعلية ويعيش أربعا وعشرين ساعة مزدحمة في اليوم.
- بيران وولف

البحر والمحيط والماء تمثّل الولادة والموت والانبعاث.
الماء هو القوّة التي تهب الحياة للأرض؛ السائل الأمينوسي الذي بدأت منه كلّ أشكال الحياة على الأرض.
والبحر هو هاوية الرحم العميقة؛ العنصر الذي لا يمكن السيطرة عليه والقوّة التي تقتل .. وتطهّر.
- أليشيا ليفان

كانت نسمات خفيفة تهبّ عبر النهر.. يخالطها صوت وحيد. كان العازف يتلو سطرا من قصيدة لـ أمير خسرو.
طفَت الكلمات لأعلى مصحوبة بنغمات أرغُن. ثم ردّدت النغم جوقة من ثلاثة أشخاص، بينما راح رابع يصفّق بيديه.
وتدريجيا ارتفعت وتيرة الغناء وغمر المنشدين إحساس بالنشوة، وبدءوا يتمايلون بأجسادهم على إيقاع الأنغام المرتفعة في السماء.
- قوّالي الصوفي

كل منّا يولد ومعه شخص في الظلّ. هذا الجزء من شخصيتّنا هو الذي نميل إلى قمعه. وهو نقيض للشخص الآخر الذي نستخدمه عادة.
ولكي تصبح شخصا أفضل يتعيّن عليك أن تواجه شخصك الذي في الظلّ.
قد تتصارع معه، قد تكرهه، وقد تتسامح معه أحيانا. لكنك في النهاية يجب أن تتقبّله كجزء من شخصيّتك.
التوازن هو الطريق الأمثل للسعادة والسلام الداخلي. النور الساطع جدّا لا يختلف في ضرره عن الظلمة الداكنة والمدلهمّة. وأشخاصنا الذين في الظلّ قد يكون لديهم الكثير مما يمكن أن يعلّمونا إيّاه.
- جينيفر ويلكينز

المحيط لا يسمح للأسماك بأن تخرج منه. ولا يسمح للحيوانات البرّية بالدخول إلى حيث تعيش الأسماك الحسّاسة والهشّة.
- جوليان ماكلين

النجوم تقوم دائما بوظيفة المرشد والدليل. البحّارة منذ القدم استخدموها في أسفارهم، والمزارعون استعانوا بها في تحديد الفصول، والمنجّمون في رسم مسار التاريخ.
عندما تغرب الشمس والقمر مظلم، بالتعبير السيكولوجي، أي عندما لا يوجد ضوء قمر أو شمس، فإن النجوم تصبح عندئذ دليلنا الهادي الوحيد. النجوم هي مجرّاتنا الداخلية. وهي هناك دائما، لكنّها غير مرئية في وهج الوعي.
عندما خرج دانتي من رحلته إلى الجحيم، كان أوّل ما رآه هو النجوم. وكانت تلك علامة جيّدة ترمز إلى الأمل وانبعاث الحياة.
- جون اوبسوس

منذ القدم استخدم الحكماء الطيور كرمز للتحوّلات والانتقال ما بين المادة "الأرض" والروح "السماء".
الطيور أصلها من الماء وهي تعيش على الأرض وتطير في الهواء. لذا فهي تشكّل حلقة وصل ما بين الأرض والسماء.
- بازيليوس

الرحلة إلى أعالي الواقع هي أيضا رحلة داخل الذات.
ومثلما لا يمكن للمرء أن يتسلّق المرتفعات ما لم يعالج أوّلا الركام المبعثر عند سفح التّل، فإنه لا يمكن أن يصل إلى تلك اللؤلؤة الثمينة، أي الروح، التي تكمن في أعماق كلّ منّا ما لم يتحكّم أوّلا في العناصر المظلمة في لاوعيه والتي تحجب النور الداخلي.
- مارتن ايزريل

السبت، ديسمبر 05، 2009

ربّات الإلهام

لمئات السنين، كان وجود الملهمات ضروريا لخلق الفنّ والإبداع.
وجه هيلين أميرة طروادة أطلق ألف سفينة حربية وأشعل حربا دامت عشر سنوات.
ساسكيا فان اويلينبيرغ ألهمت رمبراندت رسم الكثير من تحفه الخالدة.
هوميروس استدعى ملهمة وهو يخطّ أولى كلمات الإلياذة.
اليوم تغيّر الحال كثيرا. توقّف الشعراء والرسّامون والموسيقيون عن استدعاء الملهمات وأصبحوا يكتفون بالخمر والكافيين والابسنث.
الموضوع التالي يتناول تاريخ ودور الملهمات والتغيّرات التي طرأت على هذه الظاهرة عبر العصور المختلفة..

في الأزمنة القديمة كانت الملهمات آلهة. كنّ بنات كبير الإلهة زيوس وزوجته منيموزين.
في البداية، كانت هناك ثلاث ملهمات فقط. الشاعر اليوناني هيسيود زاد عددهنّ إلى تسع.
كان الرومان البيروقراطيون هم الذين حدّدوا وظيفة وتخصّصا معيّنا لكلّ منهن. واحدة للرقص وأخرى للشعر وثالثة للكوميديا .. وهكذا.
في اليونان القديمة كانت الملهمات يقصدن كلّ شاعر واعد ويمنحنه ثلاث هدايا: غصن غار وصولجانا وصوتا جميلا يغنّي به قصائده.
غير أنهنّ كنّ قاسيات مع من يتحدّاهن. في إحدى المرّات طلب شاعر منافستهنّ فأصبنه بالعمى والبكم. وتقول أسطورة أخرى إن السيرانات، وهي مخلوقات خرافية تأخذ الواحدة منها شكل رأس امرأة وجسم طائر، حاولن أن يتنافسن مع الملهمات فهزمنهن. ونتيجة لذلك فقدن أجنحتهنّ وسقطن في البحر.
ملهمة بيكاسو، ماري تيريز والتر، كانت وراء فكرة لوحته الحلم وغيرها من اللوحات.
اوفيد في بداية كتاب "التحوّلات" استدعى جميع الملهمات التسع ثم هتف بأعلى صوته: ألهميني أيتها الآلهة"!
آريادني كانت ملهمة ودليلة في نفس الوقت عندما أعطت ثيسيوس الخيط الذهبي الذي يقود إلى داخل المتاهة حيث يفترض أن يقتل الوحش الأسطوري ثم يتبع اثر الخيط في رحلة عودته إلى النور.

دانتي في "الكوميديا الإلهية" تفوّق على الجميع ولم يكتف بالملهمات التسع بل استعان أيضا بـ مينيرفا إلهة الشعر والموسيقى ورئيسة الملهمات جميعا. لكن، في نهاية كتابه الضخم ضعُف حضور الملهمات بفعل أصوات موسيقى المجالات السماوية. الملهمات الوثنيات استُبدلن بالثالوث المقدّس. وهذا بدوره حرّر الإلهام الفنّي وسهّل البحث عن مصادر أكثر ارتباطا بالأرض.
مصدر الإلهام عند دانتي كان شخصا حقيقيا؛ فتاة اسمها بياتريس (أو بياتريتشا بالإيطالية) بورتيناري زعم الشاعر انه رآها لأوّل مرّة في شارع بـ فلورنسا عندما كان عمر الاثنين تسع سنوات. وقد وقع في حبّها، لكنها توفّيت في بداية العشرينات من عمرها. وألّف بعدها أشعارا تمجّد ذكراها. ثم أصبحت المرأة شخصية رئيسية في الكوميديا الإلهية. بياتريس كانت ترمز للحبّ الأرضي وللحقيقة السماوية. أي أن شهوة الشاعر تسامت وتحوّلت إلى شوق روحي.
معاصر دانتي وخليفته المباشر "بترارك" كتب 300 قصيدة إلى امرأة تسمّى لورا. لكنه تجاوز دانتي في مثاليّته عندما جعل ملهمته بعيدة المنال لسببين: الأوّل أنها كانت متزوّجة عندما قابلها. والثاني أنها توفّيت بعد ذلك بأحد عشر عاما. وبذا حرّر الشاعر نفسه من أعباء رغباته الجسدية.
الموت، مثل الأسطورة، يحمي الفنّان من المشاكل ومن هوسه بملهمته.

لكنّ هذا بدأ يتغيّر في عصر النهضة عندما ابتكر الرسّامون عادة تقديس الملهمة. وبينما كانت ملهمات القرن الرابع عشر يأخذن الطبيعة المقدّسة للمادونات اللاتي لا يمكن لمسهن، فإن ملهمات الرسّامين الايطاليين في القرنين الخامس عشر والسادس عشر كنّ مخلوقات أرضية في الغالب، أي نساءً حقيقيات كنّ يجلسن أمام الرسّامين الذين كانوا بدورهم يصوّرونهنّ كنموذج للأنثى البعيدة المنال.
الموديل التي استخدمها رافائيل في رسم اثنتين من أشهر لوحاته كانت ابنة خبّاز تدعى مارغاريتا وكانت على الأرجح عشيقة للرسّام.
والرسّام فرا ليبي دخل في علاقة اشدّ خطورة مع ملهمة. فقد أغوى راهبة شابّة اسمها لوكريتسيا وذهب ليعيش معها واستخدمها كموديل في العديد من بورتريهاته الدينية.
ثم أتى اندريا ديل سارتو الذي عايش أوّل تجربة سيّئة مع ملهمة في تاريخ الفنّ الغربي. كانت ملهمة سارتو، وزوجته في نفس الوقت، تجسّد الصورة المثالية في عقله. لذا رسم كلّ بورتريهاته الأنثوية على هيئتها. ومع ذلك فقد ضاق ذرعا بمطالبها الكثيرة وغيرتها القاتلة ومغامراتها العاطفية مع تلاميذه. لكنّ كمالها الجسدي هو الذي جعله يسامحها ويغفر لها كلّ شيء.

إحدى الملهمات التسع في الميثولوجيا اليونانية كان تخصّصها الشعر الملحمي. وقد ألهمت هوميروس كتابة ملحمتيه الاوديسا والإلياذة.
ايلينا ايفانوفنا كانت ملهمة الشاعر الفرنسي بول ايلوار. وهي نفسها "غالا" التي أصبحت في ما بعد ملهمة سلفادور دالي وزوجته. كان دالي مجنونا بحبّ تلك المرأة التي عذّبته بغزواتها العاطفية الفاضحة بعد ما قيل عن ميوله الماسوشية ونفوره من الجنس.
البعض يرى أن الملهمة ما هي إلا امتداد أنثوي للفنّان الذكر. وهناك من يقول إنها ليست سوى استمرار لوظيفة محظيّة البلاط وأحيانا عشيقة الملك، وما يرتبط بذلك من مظاهر اللهو والإغراء والإثارة والغموض وكلّ تلك الأشياء اللذيذة والممنوعة.
وفي كلّ هذه الحالات، لا يمكن وصف الملهمة بالعاهرة. كما أنها لم تكن زوجة بالمعنى التقليدي للكلمة.

آلما شيندلر كانت ملهمة الموسيقي الألماني غوستاف ماهلر وزوجته في ما بعد. كانت آلما مؤلّفة موسيقية هي الأخرى. وقد طلب منها ماهلر في بداية زواجهما أن تنحّي طموحاتها الموسيقية جانبا لأن بيت الزوجية لا يتّسع لأكثر من مبدع واحد. لكن المرأة لم تلبث أن دخلت في علاقات عاطفية مع عدد من الرسّامين، أشهرهم غوستاف كليمت. وكان ماهلر قد أهداها قبل ذلك إحدى سيمفونياته. وعندما هجرته صنع لها دمية على هيئتها ومقاسها وكان يأخذ دميتها معه أينما ذهب.
قصّة حياة آلما شيندلر وعلاقتها الغريبة بـ ماهلر كانت موضوعا للعديد من الأفلام السينمائية والكتب، أشهرها كتاب "عروس الريح" للكاتبة سوزان كيغان.
ملهمات عصر النهضة كنّ خاضعات لرسّاميهنّ وملتزمات بتلبية احتياجاتهم الجمالية والجنسية، بينما كان الفنانون أحرارا في تسلية أنفسهم في كلّ مكان ومع أيّ كان.
أكثر ملهمات العصر الحديث هنّ نساء قويّات، وغالبا مبدعات. جورجيا اوكيف، مثلا، لم تكن فقط مصدر الهام للمصوّر الفريد ستيغليتز، وإنما أثّرت أيضا في اتجاهه الفنّي بعد أن تعلّق بها وتزوّجها.
سوزان فاريل، الراقصة المشهورة وملهمة الفنّان جورج بالانشاين، سمحت له بأن يقع في حبّها بينما رفضت إغراءاته المتكرّرة بأن تمنحه نفسها. لكنها تزوّجت شخصا آخر في نفس اليوم الذي حصل فيه على ورقة الطلاق من زوجته.

بيكاسو قابل ماري تيريز والتر عام 1927 في احد شوارع باريس عندما كان عمرها سبعة عشر عاما. وفي الحال اتّخذ منها عشيقة. وأحيانا كان يأمر سائقه بالانتظار خارج مدرستها الخاصّة ليأخذها إلى محترفه حيث كان يستعين بها كموديل للعديد من لوحاته. وعندما حملت منه بطفلة رفض أن يتزوّجها.
غير أن ثيودورا ماركوفيتش "أو دورا مار" كانت حبّ بيكاسو العظيم. كانت صديقته وملهمته الخالدة التي أوحت له برسم أجمل وأشهر لوحاته.
والواقع أن الإنسان لا بدّ وأن يتساءل كيف وجد بيكاسو وقتا كافيا للرسم في ظلّ وجود هذا العدد الضخم من الملهمات والعشيقات من حوله.
ماري والتر لم تكن تفهم في الرسم كثيرا كما لم يكن بينها وبين بيكاسو نقاط اتفاق كثيرة. لكنها كانت مستعدّة لتلبية جميع طلباته. كانت تعرف شغفه الكبير بالجنس. وهو كان يعتبر نفسه رجلا فحلا وهي الأنثى الراغبة. لكن في اللحظة التي حملت فيها بطفلته الأولى فقدت جاذبيتها عنده كأداة جنسية.
إحدى ملهماته الأخريات كانت الرسّامة فرانسواز جيلو. تزوّجها بعد قصّة حبّ وأنجبت له ابنه كلود وابنته بالوما. لكنها تخلّت عنه بعد سوء معاملته لها. وبفضل علاقاته المهنية الكثيرة، تمكّن من حرمانها من عرض لوحاتها في جميع معارض باريس. بيكاسو كان مدمّرا كبيرا، ليس فقط لمفاهيم وأسس الرسم التقليدي، وإنما لزوجاته وملهماته أيضا. ومن بين نسائه الكثيرات، شنقت ماري تيريز والتر نفسها بعد موته. وعانت دورا مار من انهيار عصبي كامل وتجربة رهيبة مع العلاج. بينما قتلت جاكلين روك نفسها برصاصة في الرأس.

اليزابيث سيدال كانت ملهمة وعشيقة للرسّام الانجليزي دانتي غابرييل روزيتي وظهرت في الكثير من لوحاته. كما استخدمها جون ميليه كموديل في لوحته المشهورة اوفيليا. وقد ماتت سيدال قبل الأوان. ويقال إن جزءا من مأساتها يتمثّل في أنها، هي أيضا، كانت تتوق لأن تصبح فنّانة.
بعد وفاة اليزابيث سيدال اتخذ روزيتي لنفسه ملهمة ورفيقة جديدة هي أليكسا ويلدينغ التي ستظهر في ما بعد في العديد من بورتريهاته ذات المزاج المتأمّل والمسحة الشاعرية.

لكن إذا كانت الملهمة تستطيع أن تنفخ نفحة من الهواء الإلهي في خيال الفنان، فإنها يمكن أيضا أن توقد في نفسه وروحه شعلة الاهتمام والعمل الجادّ.
الشاعر الانجليزي وليام بتلر ييتس ربطته بالثائرة الايرلندية مود غون علاقة الهام خالطها قدر كبير من التعاسة والخراب. كانت غون امرأة ذات جمال أخّاذ يميّزه شعر أحمر وملامح وجه دقيقة. وقد قابل ييتس المرأة عندما كان في الرابعة والعشرين من عمره. وعندما تعرّف عليها بدأت المشاكل تعرف طريقها إلى حياته.
رفضت غون جميع عروض الشاعر بالزواج منها على أساس انه لم يكن ثوريا حقيقيا ولا كاثوليكيا مخلصا. وبعد عشرين عاما، انتهى دورها كملهمة في اللحظة التي نامت في سريره لأوّل مرّة. وقد كتب ييتس بمرارة عن تلك العلاقة ووصف تأثيرها الفوضوي والمدمّر على حياته بعد أن مرّ وقت ليس بالقصير على لقاء الحبّ اليتيم بينهما.
الكاتبة الايرلندية الليدي كارولين بلاكوود تزوّجت على التوالي من رسّام وملحّن موسيقي وشاعر قبل أن تموت في سنّ السبعين. كانت بلاكوود نموذجا للأنثى القاتلة بجمالها النادر وعينيها الخضراوين الكبيرتين. لحظات صمتها الغامض كانت تثير الرجال وتدفعهم إلى ملء الفراغات التي كان يتركها هدوؤها الأنيق والمحيّر. اندرو هارفي الشاعر الذي تزوّجها في ما بعد وصفها بقوله: كانت تخلق أشياءها الخاصّة. كانت ملهمة ومحرّضة على الإبداع وكان قدرها أن تلعب ذلك الدور ببراعة".
سيرة حياة كارولين بلاكوود كانت موضوعا لكتاب الّفته نانسي شوبيرغر بعنوان "الملهمة الخطيرة".
يقول كارل يونغ العالم النفسي المشهور: الملهمة تمثّل توق الإنسان الذكر للخلود. وهي تتخفّى تحت الأسماء الكثيرة التي نعطيها للأفكار والدوافع الإبداعية.
فرجيل، من جهته، يرى أن الملهمات هنّ رمز للحقيقة واليقين. وهذا يوفّر للفنّان فرصة لأن يعرف نفسه أكثر ويوسّع وعيه وإدراكه.

الشاعر الفارسي عمر الخيّام كان معروفا بميله لحياة التأمّل والعزلة. ولم يكن يشغله سوى شيئين: ديوان شعره المسمّى بالرباعيّات وحبّه لـ جَهَان ملهمته وزوجته. في آخر الرباعيّات يخصّص الشاعر أبياتا حزينة يرثي فيها جَهَان التي تذكر بعض الروايات أنها ماتت مقتولة. ويقال إنها كانت هي الأخرى شاعرة.
الخيّام كان شاعرا عظيما، ولا بدّ وأن من ألهمته كتابة تلك القصائد الجميلة والخالدة كانت، هي أيضا، امرأة عظيمة.
لويز فون سالومي كانت امرأة روسية مثقّفة وكانت لها اهتماماتها بالأدب والفلسفة والتاريخ وعلم النفس. وقد اشتهرت بعلاقتها الحميمة مع الشاعر الألماني رينر فون ريلكا.
كانت صديقته وملهمته على الرغم من أنها كانت تكبره بخمس عشرة سنة. وقد علّمته اللغة الروسية كي يقرأ بها تولستوي ثم اصطحبته في ما بعد لزيارة روسيا.
وبحكم اهتماماتها الفكرية المتعدّدة، كانت ترتبط بعلاقات صداقة مع كلّ من نيتشه وفرويد والموسيقي ريتشارد فاغنر.

عالم الملهمات تقلّص اليوم كثيرا. ربّما لا يزال للعديد من الفنّانين ملهمات. لكن ذلك النوع من العلاقة الأسطورية لم يعد موجودا. قد يكون السبب شيوع الثقافة الفردية التي لا يقبل فيها احد بأن يكون زاداً أو صدى لمخيّلة إنسان آخر. وقد يكون لذلك علاقة برفض الحركات النسوية لأن تكون المرأة مجرّد سلعة أو متاع. ويمكن أن يكون هذا هو السبب في أن الملهمات العصريات اليوم يوجدن فقط كحضور عام.
دور الملهمة ربّما تلعبه اليوم، مع الفارق، المغنّيات والممثّلات وحتى عارضات الأزياء والمذيعات المشهورات اللاتي يظهرن على جماهير الناس ويستقطبن اهتمامهم وإعجابهم أحيانا. خذ، مثلا، انجيلينا جولي، نيكول كيدمان، بيونسي، اوبرا وينفري، جينيفر انيستون، باريس هيلتون، ايشواريا راي، بريتني سبيرز، جينيفر لوبيز .. إلى آخر القائمة.
ربّما يناسب هذا مزاج عصرنا الجديد الذي تتواضع فيه الأحلام وتتضاءل الطموحات.


Credits
theguardian.com
wsj.com

الثلاثاء، ديسمبر 01، 2009

مناظر من أركاديا

استوحى نيكولا بُوسان لوحاته عن أركاديا من الأدب الكلاسيكي. وأودع فيها صورا لجمال مثالي وخالد يظهر فيه الشخوص بهيئات نبيلة وبملامح تشبه شكل التماثيل القديمة.
وعندما تتأمّل صوره عن الطبيعة الرعوية، سرعان ما تكتشف سحرها وقوّتها التعبيرية الكبيرة والمزاج الشعري والحالم الذي تصوّره.
المقال التالي يلقي بعض الضوء على الرسّام وعلى بعض أعماله.

يُعزى الفضل لـ نيكولا بُوسان في إضفاء مسحة كلاسيكية على الرسم في فرنسا. ومن اجل تلك الغاية، ذهب إلى روما وأقام فيها سنوات طوالا. هناك، وضع رسم الباروك في قلب العالم القديم. لكنه اظهر الجانب المظلم من أركاديا عندما شكّك في التصوّرات القديمة عن بساطة الحياة الرعوية والريفية في اليونان القديمة. كان يرى العالم القديم عالما متخيّلا وكان ينظر إلى أركاديا كمكان ساذج أكثر من كونه مكانا مثاليا.
وكان منافسه في رسم الطبيعة آنذاك هو مواطنه كلود لورين الذي جعل ضوء الشمس نفسه فكرة كلاسيكية.
الطبيعة كانت وسيلة بُوسان المفضّلة للتعبير عن أفكاره وقناعاته. وقد كان يرسمها كي يؤكّد على إحساسه بالمكان. وتكثر في لوحاته مشاهد الرعاة والبحيرات والجبال والأشجار والأوراق التي تطوّحها الريح. وبعض شخوصه يصوّرهم بعضلات كثيرة، لكنهم يبدون كما لو أنهم يفتقرون إلى هياكل عظمية صلبة.
وفي لوحاته، كلّ عنصر له وظيفته. حتى الظلال لها شخصيّتها المستقلّة داخل البناء العام للوحة. كما أن كلّ شيء يبدو في حالة حركة. فالطبيعة عند الرسّام هي تعبير عن حركة الإنسان وعن عقله الواعي والنشط.
والغابات في بعض لوحاته تخلو من الطيور والحيوانات ما لم يكن لها دور تلعبه في حياة الإنسان.
والكثير من الرسّامين الذين أتوا بعده حاولوا اقتباس بعض رؤاه الشاعرية عن الريف الايطالي وضمّنوها في أعمالهم.
بعض لوحات بُوسان تُظهر جبالا عظيمة يجلس فوقها أو حولها أشخاص يعزفون الناي ويُخيّل لمن يراهم أنهم هناك منذ آلاف السنين.
حتى الأشياء الساكنة والمملّة لها لغتها الخاصّة في لوحاته. الأفاعي لها ذكاء الإنسان. والأشجار تنمو وتمدّ أوراقها وأغصانها في الجوّ مسرورة بالمطر وفخورة بالشمس.
لوحته الطوفان يعتبرها بعض النقّاد أجمل لوحة في العالم تصوّر طبيعة تاريخية. فكلّ شيء في هذه اللوحة مرسوم في مكانه المحدّد بعناية وبطريقة متناغمة مع بقيّة العناصر.
وفي صور بُوسان سمة أخرى لا نراها في لوحات غيره، تتمثّل في هذه المزاوجة المتوتّرة والغريبة بين السماوات الزرقاء والعواصف، وبين الحبّ الحميم والموت العنيف. ومشاهده عن العواصف لا تصوّر فقط غضب الطبيعة بل يمكن اعتبارها تأمّلات فلسفية عن جوانب الحياة التي يصعب التنبّؤ بها.
النحّات الايطالي المشهور جيان لورنزو بيرنيني رأى بعض لوحات بُوسان وشبّه تأثيرها بأثر الخطبة العظيمة التي يستمع إليها المرء باهتمام ثم يبتعد عنها في صمت بينما لا يزال مستمتعا بصدى تأثيرها داخل نفسه.
استلهم بُوسان لوحاته عن الطبيعة الأركادية من أشعار أوفيد وفرجيل ومن رحلاته العديدة في ريف روما.
في ذلك الوقت كان كتاب التحوّلات لـ أوفيد احد أشهر الكتب وأكثرها رواجا في أوربّا. والكتاب يتضمّن قصصا عن حبّ الآلهة وعن تَحوّل عشّاقها من البشر إلى نباتات وحيوانات. وكثيرا ما تُفسّر نصوص أوفيد على أنها استعارات مجازية عن دورات الطبيعة.
وهذا النوع من القصص هو الأساس الشعري الذي أقام عليه بُوسان فنّه.
في بعض مناظره تبدو السماء مظلمة والموت متربّصا في كلّ مكان. الموت الذي يكتشفه الرعاة على شاهد قبر كما لو أنهم لم يسمعوا به من قبل. حتى الأساطير التي كان يقدّسها الرسّام تنتهي بالموت دائما.
لوحته المسمّاة "طبيعة ورجل قتلته أفعى" أصبحت موضوعا لكتاب ألّفه الناقد والمؤرّخ الفنّي تيموثي كلارك بعنوان "مشهد الموت" استعرض فيه جماليات اللوحة والاستعارات المضمّنة فيها.
ويقال إن بُوسان استوحى موضوع هذه اللوحة من مكان موبوء بالأفاعي والحيّات السامّة في منطقة بجنوب شرق روما. واللوحة عبارة عن دراسة عن الخوف الذي يثيره مرأى جثّة إنسان ميّت، كما أنها تصوّر، بمعنى ما، انتصار الطبيعة على الإنسان.
رسومات بُوسان عن الطبيعة تدلّ على قوّة ملاحظته. وقد كان يؤمن بأن البشر والطبيعة شيء واحد، لأن كلّ منظر طبيعي يحمل دلالة إنسانية.
كما عُرف بمقدرته الكبيرة على أن يخلق لكلّ لوحة جوّاً ومزاجا خاصّا. ولا بدّ وانه استفاد كثيرا من براعته في استخدام اللون والظل والشكل.

بعض لوحات بُوسان فاتنة وجميلة ومدهشة بما لا يوصف. ولا يبدو أن هناك من ينافسه في استخدام الضوء الذهبي في لوحته إلهام شاعر التي أرادها أن تكون تخليدا لذكرى شاعر راحل، ولا في رسمه الأخّاذ لإحدى الحوريّات وهي تعصر العنب من يدها لتتساقط قطراته في فم ملاك صغير أسفل منها.
صور الرسّام ومواضيعه مختارة بعناية. وهي تشبه نهرا من الأفكار الجميلة التي تمرّ عبر العقل وتستثير الفكر لمحاولة فهمها وحلّ رموزها.
في لوحته "طبيعة يشوبها هدوء" نرى منظرا آخر من أركاديا: ريف، مياه صافية، وأغنام ترعى. الظلّ يتحرّك من الأشجار باتجاه البحيرة المنعكسة على مائها الساكن صور المباني في الخلفية. حتّى في أركاديا يمرّ الوقت سريعا والنهار يتلوه ليل والليل يعقبه نهار. مزاج هذه اللوحة رائق وناعم مع أن فيها لمسة حزن خفيفة.
إن مناظر بُوسان هي نوع من الاحتفال بالحياة والحبّ والشعر. وهو كان يطلب من جمهوره دائما أن يقرأ اللوحة كما يقرأ القصيدة.
رآه أحد أصدقائه ذات يوم وهو يتجوّل على ضفاف نهر التيبر ويرسم المناظر الطبيعية التي كان يحبّها. ونظر إلى منديله فرآه مملوءا بالحجارة الصغيرة وبالأزهار التي كان يأخذها معه إلى البيت ليتأمّلها ويرسمها.
في لوحة أخرى، يرسم بُوسان زواج اورفيوس ويوريديسي. المكان بقعة أخرى من أركاديا. ملابس الأشخاص جميلة وزاهية. غير أن المبنى الظاهر في خلفية الصورة يبدو حديثا ومألوفا. وهو معلم من معالم روما كان قائما زمن الرسّام. والمبنى في اللوحة ينفث الدخان ويبدو كما لو انه يطير في الهواء. الفكرة هنا هي أن هذه المدينة خالدة. لكن حتّى الأشياء الخالدة نفسها لا تدوم إلى الأبد ومصيرها في النهاية إلى زوال.
في بداياته رسم بُوسان لوحات يظهر فيها الأشخاص في حالة من التوق والتطلّع وأحيانا التأمّل الصامت أو الحزين.
غير انه في أواخر حياته رسم مشاهد مظلمة يصعب فهمها أو تفسيرها. حتّى النقاد لم يستطيعوا فكّ شيفرتها مع أنها جميلة وتروق للعين.
لكنّ بعض المؤرّخين يقولون إنها انعكاس لإحساس الرسّام بكراهية الشرور التي كان يراها على الأرض. ورسائله في تلك المرحلة تمتلئ بالتعليقات المريرة والغاضبة وهو يرى الاضطرابات السياسية تعمّ أوربا ولا توفّر حتّى بلده فرنسا.
يقول في إحدى تلك الرسائل: لقد هجر الناس الفضيلة والضمير والدين. ولا وجود الآن سوى للخداع والرذيلة والمصالح الخاصّة. لقد ضاع كلّ شيء وفقدت الأمل في وجود الربّ. فالشرّ كامن في كلّ مكان وفي كلّ شيء".
كان بُوسان يرسم الأفكار. لذا يقال انه أكثر الرسّامين شاعرية. كما كان يؤمن بأفكار الفلسفة الرواقية التي تدعو إلى كبت الأهواء والانفعالات العاطفية وإخضاع الرغبات لحكم العقل. وقد عُرف عنه حبّه للعمارة خاصّة عندما تكون في حالة خرائب وأنقاض.
ولم يكن مستغربا أن يتأثّر به الرومانسيون وفي مقدّمتهم الشاعر الانجليزي جون كيتس الذي كان يعتبره رسّامه المفضّل.

السبت، نوفمبر 28، 2009

على العشاء مع ليوناردو

"العشاء الأخير" لوحة مشهورة ومألوفة كثيرا. وقد تناول النقّاد هذا العمل بالشرح والتحليل من أكثر من زاوية ومنظور.
عمر اللوحة أكثر من خمسمائة عام. وبسبب عوامل التقادم وكثرة عمليات الترميم، فقدت اللوحة جزءا كبيرا من تفاصيلها وألوانها.
بعض أصحاب الخيال الواسع حاولوا إعادة بناء اللوحة من خلال البرامج الرسومية وافترضوا أن هذه كانت صورتها الأصلية عندما فرغ ليوناردو من رسمها. والبعض الآخر أضافوا إليها عنصرا طريفا أو خلعوا عليها حلّة عصرية.
في المقال المترجم التالي يتحدّث "جون فاريانو" عن اللوحة من منظور مختلف.

"العشاء الأخير" تصوّر أشهر مائدة في التاريخ. ومع ذلك، قد لا يلاحظ الكثيرون طبيعة الطعام وأصناف الغذاء الموضوعة فوق المائدة أمام المسيح وحواريّيه.
كان رسّامو عصر النهضة يهتمّون برسم الأحداث التاريخية التي تتضمّنها النصوص المقدّسة.
وكانوا أحيانا يضمّنون لوحاتهم عناصر من عندهم ولغايات فنية قد لا يكون لها علاقة بما تذكره النصوص الدينية.
وبعض الرسّامين كانوا يضعون القصّة في سياق زماني معاصر، كأن يُلبسوا الشخصيات ثيابا حديثة تعكس عادات وثقافة عصرهم.
ليوناردو في "العشاء الأخير" كان مهتمّا بالطعام بشكل خاص.
يذكر جورجيو فاساري، كاتب سيرة ليوناردو، أن الرسّام كان واقعيا وهو يرسم خطوط وتفاصيل مائدة "العشاء الأخير".
غير أن العديد من تلك التفاصيل كانت قد اختفت من اللوحة عندما شرع فاساري في كتابة سيرة ليوناردو. والسبب هو انهماك الرسّام في استكشاف وتجريب المزيد من تقنيات الطلاء ومزج الألوان.
في عام 1566، كنت مظاهر التلف التي لحقت باللوحة الأصلية في ميلانو أكثر وضوحا.
لكن الإنذار الحقيقي عن الخطر الذي يتهدّد "العشاء الأخير" لم يصدر إلا في عام 1901 عندما تحدّث غابرييل اونونتزيو عمّا اسماه "موت تحفة فنية".
غير أن "العشاء الأخير" لم تمت. فقد خضعت اللوحة للكثير من عمليات الترميم والتجديد. وأحيانا أعيد رسمها فأصبحت، لكثرة الترميمات، تخفي أكثر ممّا تكشف.
وقد استمرّ التدهور في اللوحة إلى أن ظهرت الخطوط والاسكتشات الأوّلية التي وضعها ليوناردو فيها عند رسمها. والغريب أن هذا التطوّر، رغم سلبيّته، هو الذي سمح للفنيين بالتعامل مع كلّ جزء وتفصيل في توليف اللوحة. كما انه سمح وللمرّة الأولى برؤية التفاصيل الصغيرة في اللوحة والتي كانت غائبة عن الأعين.
واتضح أن أدوات المائدة تحتوي على عدد من الصحون والسكاكين وأواني الماء وزجاجات النبيذ وقوارير الملح. كما لوحظ وجود قارورة ملح وُضعت أمام يهوذا المتآمر بوضع مقلوب، ربّما في ذروة اللحظة الدراماتيكية للقصّة.
قماش المائدة أيضا ظهر مكويّا ومرتّبا بعناية وعليه نقوش مستوحاة من الأقمشة الايطالية التي كانت شائعة في ذلك الوقت.
في الماضي، لم يكن احد على علم بطبيعة الأطعمة المصفوفة على المائدة. وتأكّد الآن انه لم يكن هناك خروف على المائدة مثل ما قيل.
هناك أيضا ثلاثة صحون كبيرة وُضع الأوّل منها أمام شخص المسيح بينما وُضع الاثنان الآخران عن يمنيه ويساره. كما يمكن رؤية طبق آخر مليء بالسمك المقلي مع شرائح البرتقال.
على المائدة أيضا تظهر أنواع أخرى من الفاكهة كالرمّان وبعضه ما يزال بأوراقه. وهناك النبيذ، وهو السرّ المقدّس الوحيد في كلّ لوحة تناولت قصّة العشاء الأخير.
صحيح أن ليوناردو لم يرسم نفسه في اللوحة. لكن صدى ملامحه واضح في كتاباته النظرية. و"العشاء الأخير" ربّما تعكس بعض عاداته الغذائية.
يقال انه كان نباتيا. ويمكن الاستدلال على هذه الجزئية من دفاعه عن الحيوانات وحديثه عن قدسيّة الحياة.
كما يمكن الاستشهاد بما كتبه رحّالة ايطالي زار الهند في ذلك الوقت وكتب عن أهلها واصفا إيّاهم بقوله: الهنود شعب مهذّب لا يتغذّى على أيّ طعام فيه دم. كما أنهم لا يسمحون لأحد باصطياد الكائنات الحيّة، تماما مثل ليوناردو دافنشي عندنا".
في كرّاس ملاحظاته المكوّن من أكثر من خمسة آلاف صفحة، يشير ليوناردو إلى شرائه خبزا وسمكا ومشمشا وفاصوليا وفاكهة. كان عنده دائما تلاميذ وخدم في بيته. وهو يشير إليهم بأسمائهم في كتاباته.
تقديم شرائح البرتقال مع السمك كان تقليدا رائجا في ايطاليا آنذاك، كما كان طبقا ثابتا في المطبخ الايطالي.
أسقف ميلانو، مثلا، ذكر البرتقال وأنواعا أخرى من الحمضيات التي كانت تُقدّم كزينة لمجموعة من أطباق السمك.
ويمكن القول إن "العشاء الأخير" تحكي عن التقاليد والثقافة الايطالية بمثل ما أنها عمل فنّي مشهور.
عندما بدأ ليوناردو رسم اللوحة عام 1494 كان من الشائع أن تُرسم تلك القصّة على جدران الأديرة. والذين رسموا الموضوع قبل ليوناردو اختاروا أن لا يهتمّوا بتصوير اللحظة التي يحرّك فيها المسيح الخبز والنبيذ باتجاه يهوذا كإشارة إلى إعلانه المفاجئ عن الخيانة.
اندريا ديل كاستانيو، مثلا، ركّز على تصوير ردود فعل الأتباع والحواريّين على ما حدث وجعل ذلك ذروة المشهد.
ومن الواضح أن ليوناردو رسم اللوحة من نقطة عالية، ما يسمح برؤية المائدة ومن ثمّ الطعام نفسه.
ولو كان مهتمّا بالدّقة التاريخية، لكان وضع على المائدة خروفا وأعشابا مُرّة بدلا من السمك، لأن ذلك يتفق مع الروايات التاريخية عن الحادثة.
لكنه اختار أن يعيد النظر في نوعية الطعام كي يتناسب مع ذوق عصر النهضة أو ذوق ليوناردو نفسه، ولكي يضيف إلى اللوحة مسحة من الواقعية والمعاصَرة. وهو أمر يبدو غريبا إلى حدّ ما.


Credits
gastronomica.org

الأربعاء، نوفمبر 25، 2009

ورق سولوفان

منذ أيّام، سمعت القصّة التالية من عامل كهربائي يشتغل بأحد محلات السباكة والكهرباء.
قال: جاءني في المحلّ قبل يومين شخص طلب منّي أن اذهب معه لإصلاح عطل هاتفي في منزل كفيله. وفعلا ذهبت مع الرجل إلى المكان الذي وصفه.
وفي الطريق حدّثني عن عمّه فقال انه من أعيان المجتمع وأن الله آتاه رزقا وافرا وانه ينفق من ثروته على بناء المساجد داخل البلاد وخارجها. وأضاف انه لا يكاد يمرّ شهر دون أن تنشر الصحف خبرا عن بناء مسجد أو جامع جديد في هذا البلد أو ذاك على نفقة ذلك الرجل التقيّ الورع.
كنت اسمع هذا الكلام بكثير من الارتياح والفرح. وقلت في نفسي: جزى الله هذا الرجل الصالح خيرا على غيرته على الدين وحرصه على إعلاء كلمة الله في كلّ الأماكن والأصقاع.
المهم، بعد مسيرة نصف ساعة وصلنا إلى المنزل الذي كانت هيئته تشي بمكانة الرجل وأهميّته وقيمته الاجتماعية العالية.
وأخذني العامل إلى حيث يجب أن أباشر إصلاح الخلل. وبعد حوالي ساعتين من الجهد المضني الذي تطلّب تفكيك "السويتش بورد" وترتيب المفاتيح والخطوط والوصلات والأسلاك لإعادتها إلى وضعها الصحيح، اصطحبني العامل إلى الشيخ كي يعطيني أجري. وعندما رآني قال: كيف العمل؟ قلت: تمام، الآن أصبح كلّ شيء على ما يرام.
ثم سألني: كم تريد أجرا؟ وقبل أن أجيب قاطعني قائلا: عشرة ريالات؟! قلت: اجري خمسون ريالا. ثم اخرج من جيبه عشرة ريالات وأعطاها للعامل كي يناولني إيّاها. ولاحظت أن العامل تردّد في اخذ الورقة وكأنه يريد إفهام الرجل أن المبلغ قليل وغير كاف. لكنه لم يكترث. فتدخّلت قائلا: خلاص، أنا متنازل عن حقّي. حتى العشرة ريالات لا أريدها وبإمكانك أن تحتفظ بها ورزقي على الله. لكن الرجل لم يحرّك ساكنا ولم يلبث أن تركنا وانصرف. بعدها غادرت المكان وأخذت تاكسيّا أعادني إلى المحلّ".
انتهى العامل من سرد قصّته وأخذت أفكّر في مغزى ما سمعته. هذا الرجل يملك الملايين وربّما المليارات وهو يبني المساجد في كلّ مكان كما قيل. أي انه يحبّ عمل الخير. ومع ذلك لا يتردّد في هضم حقوق الآخرين لدرجة انه يستكثر أن يدفع لعامل فقير مبلغا تافها مقابل الخدمة التي أدّاها له.
وتأكّد لي مرّة أخرى صدق ما ترسّخ لديّ من انطباع، وهو أن كثيرا من مظاهر التديّن والتقى التي نراها من حولنا ليست في واقع الأمر سوى أقنعة برّاقة يضعها أصحابها التماسا للوجاهة والبروز الاجتماعي ومن اجل الضحك على الآخرين وخداعهم.
ثم تذكّرت ملاحظة أبداها لي صديق قبل فترة عندما قال انه لكثرة ما أصبحَت المظاهر الدينية نوعا من البيزنس وطريقا للتسلّق والظهور وحيلة لممارسة النصب والاحتيال فإنه صار يفضّل التعامل مع حليقي الوجوه ويثق بهم أكثر من الأشخاص الذين تبدو عليهم مظاهر التديّن السطحية من لحية وثوب قصير وزبيبة ومسواك وما إلى ذلك.
وبالتأكيد، فإن لكلّ قاعدة شواذّا. فهناك أناس متديّنون شكلا ومضمونا وسلوكهم يتسمّ بالصدق والنزاهة والاستقامة.
لكنّهم للأسف قليلون ونادرون هذه الأيّام.

الأربعاء، نوفمبر 18، 2009

اللوحة الكاملة

هذه اللوحة تختصر كلّ معاني الكمال. "امرأة شابّة مع إبريق ماء" هي نموذج للوحة الكاملة، بتوليفها المحكم وتنفيذها البديع والرائع.
حتى أفضل النسخ منها لا يمكن أن تنقل لنا الإيقاع الدقيق لضوئها الأزرق والأبيض الجميل. بل وحتى أكثر الكلمات المختارة بعناية لا يمكن أن تصف جمال هذه اللوحة الصامت والمدهش.
ومن الواضح أن قوّة اللوحة لا تتناسب مع حجمها. إذ لا توجد قطعة قماش مغطّاة بالأصباغ وعلى هذا النحو من الصغر يمكن أن تكون أكثر إثارة للإعجاب من هذه اللوحة.
الكلام هنا لا لزوم له. فما الذي يمكن أن يقال عن شيء هو كامل في ذاته؟
أتذكّر عبارة قالها نيتشه في كتابه "أفول الأصنام" عن أيّ شخص يحاول الكتابة عن الفنّ العظيم. قال: أيّا تكن الكلمات التي عندنا، فإن الواقع يتجاوزها".
في لوحة فيرمير نرى كيف أن الاعتيادي والمألوف يسمو إلى درجة الشِعر بما يتجاوز الكلمات. ثمّة جمال وغموض هنا لا نستطيع أن نلمسه. الصيغة البلاغية القديمة صحيحة: الكلمات تفشل. وهي حالة غير مريحة للشخص الذي ينوي الكتابة عن الرسم.
عندما نواجه المطلق أو اللانهائي يمكن أن نستسلم للصمت أو نصاب بالجنون. الأمران معا حدثا لـ نيتشه. والبديل هو أن نستمرّ في الحديث في محاولة للفهم.
إن غموض لوحة فيرمير لا يمكن فصله عن غموض الرجل. فنحن لا نعرف الكثير عن الرسّام. وما زلنا لا نعرف شيئا مهمّا عنه؛ شيئا قد يساعدنا على أن نفهم لوحاته. إن الباب إلى حياة فيرمير موصد، وسيظلّ كذلك طالما لا يُعرف عنه وعن حياته الكثير. لذا يجب أن نقبل غموض الرسّام ونتحوّل إلى لوحاته محاولين فهمها.
لوحة "امرأة شابّة مع إبريق ماء" هي عبارة عن سوناتا بالمفتاح الأزرق. كتبت هذه الكلمات في دفتر ملاحظاتي في ظهيرة احد الأيّام بينما كنت أقف في مواجهة اللوحة. تلك الكلمات لا أقلّ ولا أكثر. رغم أنني وقفت هناك حوالي ثلاثين دقيقة.
اللوحة مشبعة بضوء أبيض وأزرق بارد هو الذي يحدّد طابع اللوحة بأكملها، ويثير في النفس صورة رائقة عن صباح يوم ربيعي صافٍ. الضوء يمرّ عبر نافذة ذات زجاج ازرق ليضرب ثوب المرأة الأزرق الداكن ثم يسقط على كومة القماش الأزرق وعلى الشريط الأزرق الرفيع الذي ينبثق من علبة المجوهرات.
هذه الألوان المسيطرة يقابلها اللون الأصفر الذي يقطع اللوحة في الاتجاه المعاكس. الخارطة الصفراء تُوازن النافذة الزرقاء وتتناغم مع واجهة صندوق المجوهرات الأصفر. الإبريق النحاسي يعكس صفرته على سترة المرأة وصولا إلى القطاع العمودي من ضوء الشمس الذي يصبغ حافة إطار النافذة بالأصفر.
القماش الأحمر الدافئ فوق المائدة يحتوي بوضوح على أزهار زرقاء وصفراء في تصميمه. لذا يمكن النظر إليه على انه رمز للتناغم الكلّي للألوان التي تربط اللوحة بعضها ببعض.
وبالمثل، فإن الانعكاسات على حوافّ الإبريق الخارجية وعلى الماء يبدو أنها تحتوي على كامل اللوحة وتعكس كلّ ألوانها البيضاء والزرقاء.
لكنّ أوضح وأهمّ عنصر تناغم وانسجام في اللوحة هو المرأة نفسها. ملابسها الزرقاء والصفراء توحّد اللونين في شكل واحد. بينما ياقتها الشفّافة البيضاء تقع فوق هذا المزيج من الأزرق والأصفر، تماما مثلما تستقرّ كامل اللوحة على طبقة الضوء المكوّنة من الأزرق والأبيض.

detail

التركيز. هذه الكلمة بكلّ ما تحويه من معنى هي المفتاح لفهم هذا العمل. كلّما ركّزنا على اللوحة، كلما قدّرنا الكيفية التي استجمع بها فيرمير كلّ قواه الصُوَرية كي يركّز اهتمامنا على المرأة الشابّة في وسط اللوحة.
إن قصّ الطاولة والخريطة والنافذة يفتح اللوحة ويضيف إليها إحساسا بعدم الاستقرار؛ إحساسا بأن هذه الأشياء ممتدّة خارج الإطار وأبعد من المدار الذي تشغله المرأة.
هذه اللوحة التي تبدو مستقرّة إلى الأبد هي في الحقيقة قريبة وبشكل خطير من الذوبان. والشيء الوحيد الذي يواجه حالة عدم الاستقرار هذه هو الحركة الغامضة للمرأة.
غير أن أحدا لا يعرف على وجه اليقين ما الذي تفعله هذه المرأة بإبريق الماء. هل ستغسل بالماء يديها؟ شعرها؟ تسقي بعض الأزهار خارج النافذة؟
قد لا تكون الإجابة متاحة لنا. غير أنها موجودة بالتأكيد بذهن شخص هولندي عاش في القرن السابع عشر.
من منظور التوليف، فإن حركة المرأة في اللوحة يمكن تفسيرها بسهولة. فهي عامل ربط بين جميع عناصر اللوحة. ومثلما أن رداءها يخلق تناغما بين الألوان الرئيسية، فإن حركتها تعطي اللوحة توازنا محكما. المرأة هنا عنصر استقرار وتهدئة في حركة انسياب وجريان الحياة في المشهد.
هناك أيضا التناغم بين المنحنيات والأطراف والزوايا والظلال في كلّ جزء من هذه اللوحة. القوّة الحقيقية لهذا العمل هو الجمال الذي لا مثيل للحظة عاديّة تمّ الإمساك بها ورفعها إلى مستوى الفنّ. امرأة، مائدة، زاوية وغرفة. انه "نثر" الحياة عندما يتحوّل إلى شعر حقيقي.
والتوازن هنا هشّ للغاية. الكمال شيء حسّاس. لو حُرّك أيّ عنصر في هذه اللوحة من مكانه بضعة سنتيمترات فسيضيع كل شيء. وهذا النوع من الفنّ مسألة سنتيمترات وثوانٍ. إن وضع كل شيء من هذه الأشياء في مكانه الدقيق منفّذ بحساسية عالية لا نظير لها سوى عنصر الإيهام المتمثّل في محاولة الإمساك بلحظة متجمّدة في الزمن قد لا تتعدّى جزءا من الثانية.
أعمال فيرمير ليست مرايا منصوبة على العالم. إنها أشبه ما يكون بالانعكاسات الظاهرة على إبريق وصحن السيّدة الشابّة.
فيرمير يرينا الواقع مصفّى، تماما مثلما يعكس الإبريق القماش الأزرق في هيئة خطوط عمودية تجريدية من الأحمر والأزرق.
مارسيل بروست كان سيّد الكيمياء التي تحوّل الواقع إلى فنّ. كان يحبّ فيرمير كثيرا. وكان يعتبر منظر لـ ديليفت اللوحة الأجمل في العالم. وإحدى رحلاته النهارية النادرة جدّا في أخريات حياته كانت رحلته إلى معرض للوحات فيرمير في باريس.
إحدى شخصيات روايته الضخمة "البحث عن الزمن الضائع" ينهار ويموت في معرض للوحات الفنية. هنا يقوم الراوي باصطحاب القارئ في رحلة تأمّل عن الخلود والفنّ.
إن خلود الكاتب لا تحقّقه روحه الأثيرية، بل كتبه والمنتجات المادّية لفنّه. وروح الفنان قد توجد أو لا توجد، قد تخلّد وقد لا تخلّد. لكن كتب بروست ولوحات فيرمير ومسرحيات شكسبير يمكن رؤيتها ودراستها والتحقّق منها. إن الحياة الطويلة للأثر أو العمل الفنّي هي النوع الوحيد من الخلود الذي يمكن أن يعرفه الفنّان.
الحياة قصيرة والفنّ يعيش طويلا. لكنّ الفنّ نفسه لا يعيش إلى الأبد. فقد ظهرت على امرأة فيرمير الشابّة بعض آثار التقدّم في السنّ. وقبل أكثر من عشر سنوات، لاحظ بعض المختصّين علامات تحلّل في بعض أجزاء هذه اللوحة، فتغيّرت بعض طبقات الطلاء وبهتت بعض التفاصيل. هل هذا كثير على لوحة يزيد عمرها عن 360 عاما؟
قد لا تكون مظاهر التقادم والبلى التي لحقت باللوحة واضحة جدّا اليوم. لكن بعد مائة عام ستكون واضحة بما يكفي لأن تشكّل تهديدا جدّيا لجمال هذا العمل وقوّته.
الأعمال الفنّية قابلة للفناء، تماما مثل البشر. لكن وتيرة اضمحلالها أبطأ من تلك التي للإنسان.
سيّدة فيرمير الشابّة هي لحظة عابرة تحوّلت إلى وهم بالخلود. والمعنى الكامن في اللوحة هو أن مثل لحظات الكمال هذه موجودة في كلّ مكان حولنا، في الزوايا وفي الردهات والغرف. لكن قد لا يلحظها احد. وهي تشبه إلى حدّ كبير بُنيان ذاكرة بروست حيث الفطائر المغمّسة بالشاي تنتظر مجيء الراوي كي يأخذ منها قضمة.
هذا هو التفاؤل الذي تشيعه صورة فيرمير، والوعد الذي تقدّمه واحدة من أفضل لوحاته. ولو تعلّمنا أن ننظر إلى الحياة بعينيه، فإن من شأن ذلك أن يجعلنا نمشي في عالم من الصور والرموز والتجليّات الشفّافة.
لوحة فيرمير هي صورة عن الجمال الذي يتخطّى الكلمات، سلام وتناغم كامل، موسيقى متجمّدة، سوناتا توقّفت في الزمن.

Credits
essentialvermeer.com
metmuseum.org