:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الأربعاء، نوفمبر 18، 2009

اللوحة الكاملة

هذه اللوحة تختصر كلّ معاني الكمال. "امرأة شابّة مع إبريق ماء" هي نموذج للوحة الكاملة، بتوليفها المحكم وتنفيذها البديع والرائع.
حتى أفضل النسخ منها لا يمكن أن تنقل لنا الإيقاع الدقيق لضوئها الأزرق والأبيض الجميل. بل وحتى أكثر الكلمات المختارة بعناية لا يمكن أن تصف جمال هذه اللوحة الصامت والمدهش.
ومن الواضح أن قوّة اللوحة لا تتناسب مع حجمها. إذ لا توجد قطعة قماش مغطّاة بالأصباغ وعلى هذا النحو من الصغر يمكن أن تكون أكثر إثارة للإعجاب من هذه اللوحة.
الكلام هنا لا لزوم له. فما الذي يمكن أن يقال عن شيء هو كامل في ذاته؟
أتذكّر عبارة قالها نيتشه في كتابه "أفول الأصنام" عن أيّ شخص يحاول الكتابة عن الفنّ العظيم. قال: أيّا تكن الكلمات التي عندنا، فإن الواقع يتجاوزها".
في لوحة فيرمير نرى كيف أن الاعتيادي والمألوف يسمو إلى درجة الشِعر بما يتجاوز الكلمات. ثمّة جمال وغموض هنا لا نستطيع أن نلمسه. الصيغة البلاغية القديمة صحيحة: الكلمات تفشل. وهي حالة غير مريحة للشخص الذي ينوي الكتابة عن الرسم.
عندما نواجه المطلق أو اللانهائي يمكن أن نستسلم للصمت أو نصاب بالجنون. الأمران معا حدثا لـ نيتشه. والبديل هو أن نستمرّ في الحديث في محاولة للفهم.
إن غموض لوحة فيرمير لا يمكن فصله عن غموض الرجل. فنحن لا نعرف الكثير عن الرسّام. وما زلنا لا نعرف شيئا مهمّا عنه؛ شيئا قد يساعدنا على أن نفهم لوحاته. إن الباب إلى حياة فيرمير موصد، وسيظلّ كذلك طالما لا يُعرف عنه وعن حياته الكثير. لذا يجب أن نقبل غموض الرسّام ونتحوّل إلى لوحاته محاولين فهمها.
لوحة "امرأة شابّة مع إبريق ماء" هي عبارة عن سوناتا بالمفتاح الأزرق. كتبت هذه الكلمات في دفتر ملاحظاتي في ظهيرة احد الأيّام بينما كنت أقف في مواجهة اللوحة. تلك الكلمات لا أقلّ ولا أكثر. رغم أنني وقفت هناك حوالي ثلاثين دقيقة.
اللوحة مشبعة بضوء أبيض وأزرق بارد هو الذي يحدّد طابع اللوحة بأكملها، ويثير في النفس صورة رائقة عن صباح يوم ربيعي صافٍ. الضوء يمرّ عبر نافذة ذات زجاج ازرق ليضرب ثوب المرأة الأزرق الداكن ثم يسقط على كومة القماش الأزرق وعلى الشريط الأزرق الرفيع الذي ينبثق من علبة المجوهرات.
هذه الألوان المسيطرة يقابلها اللون الأصفر الذي يقطع اللوحة في الاتجاه المعاكس. الخارطة الصفراء تُوازن النافذة الزرقاء وتتناغم مع واجهة صندوق المجوهرات الأصفر. الإبريق النحاسي يعكس صفرته على سترة المرأة وصولا إلى القطاع العمودي من ضوء الشمس الذي يصبغ حافة إطار النافذة بالأصفر.
القماش الأحمر الدافئ فوق المائدة يحتوي بوضوح على أزهار زرقاء وصفراء في تصميمه. لذا يمكن النظر إليه على انه رمز للتناغم الكلّي للألوان التي تربط اللوحة بعضها ببعض.
وبالمثل، فإن الانعكاسات على حوافّ الإبريق الخارجية وعلى الماء يبدو أنها تحتوي على كامل اللوحة وتعكس كلّ ألوانها البيضاء والزرقاء.
لكنّ أوضح وأهمّ عنصر تناغم وانسجام في اللوحة هو المرأة نفسها. ملابسها الزرقاء والصفراء توحّد اللونين في شكل واحد. بينما ياقتها الشفّافة البيضاء تقع فوق هذا المزيج من الأزرق والأصفر، تماما مثلما تستقرّ كامل اللوحة على طبقة الضوء المكوّنة من الأزرق والأبيض.

detail

التركيز. هذه الكلمة بكلّ ما تحويه من معنى هي المفتاح لفهم هذا العمل. كلّما ركّزنا على اللوحة، كلما قدّرنا الكيفية التي استجمع بها فيرمير كلّ قواه الصُوَرية كي يركّز اهتمامنا على المرأة الشابّة في وسط اللوحة.
إن قصّ الطاولة والخريطة والنافذة يفتح اللوحة ويضيف إليها إحساسا بعدم الاستقرار؛ إحساسا بأن هذه الأشياء ممتدّة خارج الإطار وأبعد من المدار الذي تشغله المرأة.
هذه اللوحة التي تبدو مستقرّة إلى الأبد هي في الحقيقة قريبة وبشكل خطير من الذوبان. والشيء الوحيد الذي يواجه حالة عدم الاستقرار هذه هو الحركة الغامضة للمرأة.
غير أن أحدا لا يعرف على وجه اليقين ما الذي تفعله هذه المرأة بإبريق الماء. هل ستغسل بالماء يديها؟ شعرها؟ تسقي بعض الأزهار خارج النافذة؟
قد لا تكون الإجابة متاحة لنا. غير أنها موجودة بالتأكيد بذهن شخص هولندي عاش في القرن السابع عشر.
من منظور التوليف، فإن حركة المرأة في اللوحة يمكن تفسيرها بسهولة. فهي عامل ربط بين جميع عناصر اللوحة. ومثلما أن رداءها يخلق تناغما بين الألوان الرئيسية، فإن حركتها تعطي اللوحة توازنا محكما. المرأة هنا عنصر استقرار وتهدئة في حركة انسياب وجريان الحياة في المشهد.
هناك أيضا التناغم بين المنحنيات والأطراف والزوايا والظلال في كلّ جزء من هذه اللوحة. القوّة الحقيقية لهذا العمل هو الجمال الذي لا مثيل للحظة عاديّة تمّ الإمساك بها ورفعها إلى مستوى الفنّ. امرأة، مائدة، زاوية وغرفة. انه "نثر" الحياة عندما يتحوّل إلى شعر حقيقي.
والتوازن هنا هشّ للغاية. الكمال شيء حسّاس. لو حُرّك أيّ عنصر في هذه اللوحة من مكانه بضعة سنتيمترات فسيضيع كل شيء. وهذا النوع من الفنّ مسألة سنتيمترات وثوانٍ. إن وضع كل شيء من هذه الأشياء في مكانه الدقيق منفّذ بحساسية عالية لا نظير لها سوى عنصر الإيهام المتمثّل في محاولة الإمساك بلحظة متجمّدة في الزمن قد لا تتعدّى جزءا من الثانية.
أعمال فيرمير ليست مرايا منصوبة على العالم. إنها أشبه ما يكون بالانعكاسات الظاهرة على إبريق وصحن السيّدة الشابّة.
فيرمير يرينا الواقع مصفّى، تماما مثلما يعكس الإبريق القماش الأزرق في هيئة خطوط عمودية تجريدية من الأحمر والأزرق.
مارسيل بروست كان سيّد الكيمياء التي تحوّل الواقع إلى فنّ. كان يحبّ فيرمير كثيرا. وكان يعتبر منظر لـ ديليفت اللوحة الأجمل في العالم. وإحدى رحلاته النهارية النادرة جدّا في أخريات حياته كانت رحلته إلى معرض للوحات فيرمير في باريس.
إحدى شخصيات روايته الضخمة "البحث عن الزمن الضائع" ينهار ويموت في معرض للوحات الفنية. هنا يقوم الراوي باصطحاب القارئ في رحلة تأمّل عن الخلود والفنّ.
إن خلود الكاتب لا تحقّقه روحه الأثيرية، بل كتبه والمنتجات المادّية لفنّه. وروح الفنان قد توجد أو لا توجد، قد تخلّد وقد لا تخلّد. لكن كتب بروست ولوحات فيرمير ومسرحيات شكسبير يمكن رؤيتها ودراستها والتحقّق منها. إن الحياة الطويلة للأثر أو العمل الفنّي هي النوع الوحيد من الخلود الذي يمكن أن يعرفه الفنّان.
الحياة قصيرة والفنّ يعيش طويلا. لكنّ الفنّ نفسه لا يعيش إلى الأبد. فقد ظهرت على امرأة فيرمير الشابّة بعض آثار التقدّم في السنّ. وقبل أكثر من عشر سنوات، لاحظ بعض المختصّين علامات تحلّل في بعض أجزاء هذه اللوحة، فتغيّرت بعض طبقات الطلاء وبهتت بعض التفاصيل. هل هذا كثير على لوحة يزيد عمرها عن 360 عاما؟
قد لا تكون مظاهر التقادم والبلى التي لحقت باللوحة واضحة جدّا اليوم. لكن بعد مائة عام ستكون واضحة بما يكفي لأن تشكّل تهديدا جدّيا لجمال هذا العمل وقوّته.
الأعمال الفنّية قابلة للفناء، تماما مثل البشر. لكن وتيرة اضمحلالها أبطأ من تلك التي للإنسان.
سيّدة فيرمير الشابّة هي لحظة عابرة تحوّلت إلى وهم بالخلود. والمعنى الكامن في اللوحة هو أن مثل لحظات الكمال هذه موجودة في كلّ مكان حولنا، في الزوايا وفي الردهات والغرف. لكن قد لا يلحظها احد. وهي تشبه إلى حدّ كبير بُنيان ذاكرة بروست حيث الفطائر المغمّسة بالشاي تنتظر مجيء الراوي كي يأخذ منها قضمة.
هذا هو التفاؤل الذي تشيعه صورة فيرمير، والوعد الذي تقدّمه واحدة من أفضل لوحاته. ولو تعلّمنا أن ننظر إلى الحياة بعينيه، فإن من شأن ذلك أن يجعلنا نمشي في عالم من الصور والرموز والتجليّات الشفّافة.
لوحة فيرمير هي صورة عن الجمال الذي يتخطّى الكلمات، سلام وتناغم كامل، موسيقى متجمّدة، سوناتا توقّفت في الزمن.

Credits
essentialvermeer.com
metmuseum.org