:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الجمعة، مارس 09، 2012

فجر الإنسان

حدث هذا منذ آلاف السنين. وفي رواية أخرى منذ ملايين السنين. وبعض العلماء، واعتمادا على عدد وافر من الأبحاث والدراسات، يُرجِعون بداية القصّة الملحمية لوجود الإنسان على الأرض إلى ما قبل حوالي خمسة ملايين عام.
في البداية، لا نعرف سوى القليل جدّا عن أسلافنا من البشر الأوائل. لم نرَ صورهم ولا هيئاتهم. لكنْ في أعمق طبقة من طين تربة قديمة وُجدت قطع من عظامهم. كانت هذه القطع مدفونة وسط هياكل عظمية محطّمة لحيوانات أخرى اختفت منذ زمن طويل من على وجه الأرض.
وقد اخذ علماء الأنثروبولوجيا هذه العظام، واستطاعوا إعادة بناء هيئات أسلافنا الأوائل بدرجة معقولة من الدقّة.
الأجداد الأوّلون للجنس البشري كانوا صغار البُنية؛ اصغر بكثير ممّا نبدو اليوم. وقد لوّنت حرارة الشمس اللاهبة ورياح الشتاء اللاذعة جلودهم وأضفت عليها لونا بنّيا داكنا. كانت أصابعهم رفيعة جدّا، لكنّها قويّة. وكانت جباههم منخفضة وأسنانهم تشبه أنياب الحيوانات البرّية. لم يكونوا يرتدون ملابس، ولم يكونوا قد رأوا النار بعد، عدا لهب البراكين الهادرة التي كانت تملأ الأرض بالدخان والحمم البركانية.
كان أسلافنا الأوائل يعيشون في الغابات الشاسعة، مثلما يفعل أقزام أفريقيا حتى يومنا هذا. كان الإنسان القديم، عندما يشعر بآلام الجوع، يأكل أوراق وجذور النباتات أو يستولي على بيض الطيور ويطعمه لأطفاله الصغار. ومن حين لآخر، وبعد مطاردات طويلة ومضنية، كان يصطاد عصفورا أو كلبا أو أرنبا برّيا صغيرا. وكان يأكل لحمها نيئاً، لأنه لم يكن قد اكتشف بعد أن اللحم يصبح مذاقه أفضل عندما يتمّ طهيه.
وخلال ساعات النهار، كان الإنسان البدائي يطوف بحثا عن أشياء تصلح للأكل. وعند هبوط الليل، يخبّئ زوجته وأطفاله في جوف شجرة أو وراء صخرة ثقيلة. كان محاطا من كلّ جانب بالحيوانات الشرسة والفتّاكة. وعندما يحلّ الظلام، تهيم هذه الحيوانات على وجوهها باحثة عن شيء تأكله هي وصغارها.
كان العالم في ذلك الوقت محكوما بقانون واحد: إمّا أن تأكل أو تؤكل. وكانت الحياة تعيسة لأنها كانت مليئة بالبؤس والخوف.
في الصيف، كان الإنسان القديم يتعرّض لأشعّة الشمس الحارقة. وفي الشتاء كان أطفاله يتجمّدون حتى الموت بين ذراعيه. وعندما يتعرّض لجرح أو إصابة خطيرة، كان يموت ميتة رهيبة لأنه ما من احد كان يرعاه أو يهتمّ به.
ومثل كثير من الحيوانات التي تملأ حديقة الحيوان بضوضائها الغريبة، كان الإنسان الأوّل يحبّ الثرثرة. كان يكرّر نفس الصرخات والهمهمات غير المفهومة، لأنه كان يسعده أن يسمع صوته.
ثم أتى وقت تعلّم فيه الإنسان أن بإمكانه استخدام هذا الضجيج لتحذير زملائه من البشر الآخرين كلّما لاح خطر أو تهديد من قوى الطبيعة أو من الحيوانات المفترسة. وكان زملاؤه الآخرون يبادلونه بصرخات تؤشّر إلى أنهم على علم بمصدر الخطر وأن على الجميع أن يختبئوا أو يهربوا. وعلى الأرجح، كان هذا أصل اللغة. لكننا لا نعرف سوى النزر اليسير عن تلك البدايات.
لم يكن لدى الإنسان الأوّل أدوات. ولم يكن يستطيع أن يبني لنفسه بيتا. كان يعيش ويموت دون أن يترك أثرا يدلّ على وجوده، عدا بعض العظام القليلة وأجزاء من جمجمته.
هذه الأجزاء والقطع تخبرنا انه منذ آلاف السنين كان العالم مسكونا ببعض الثدييات التي كانت مختلفة تماما عن سائر الحيوانات.

لم يكن الإنسان الأوّل يعرف معنى الوقت. ولم يكن يحتفظ بسجلات عن تاريخ الولادة أو الزواج أو الوفاة. ولم تكن لديه فكرة عن الأيّام أو الأسابيع أو حتّى السنوات. لكن بشكل عام، كان يحفظ مسار تبدّل المواسم لارتباطها بأوقات نضج الفاكهة وهبوب الرياح واستعداد الحيوانات للنوم الطويل في الشتاء.
لكن فجأة، حدث شيء مخيف وغير عاديّ. وكان له علاقة بالطقس.
قمم الجبال التي كان يغطّيها العشب أصبحت مغطّاة بطبقة ثقيلة من الثلوج. ثمّ، وفي صباح أحد الأيّام، هبطت من تلك القمم العالية مجموعات من البشر المتوحّشين الذين كانوا مختلفين عن غيرهم من المخلوقات التي كانت تعيش في الجوار. كانوا يبدون على درجة من الهزال ويتضوّرون من شدّة الجوع. وكانوا يطلقون أصواتا لم يكن باستطاعة احد أن يفهمها. لكن بدا أنهم كانوا يقولون إنهم جائعون. لم يكن هناك من الغذاء ما يكفي للسكّان القدامى والوافدين الجدد.
وعندما حاولوا البقاء لأيّام أطول، نشبت معركة ضارية بين الجانبين باستخدام أيد وأقدام كالمخالب وقُتلت على إثر ذلك عائلات بأكملها. وفرّ من نجا من القادمين الجدد باتجاه المنحدرات الجبلية. لكنّهم ماتوا في العاصفة الثلجية التي تلت ذلك.
وبرغم ما حصل، كان الخوف ما يزال يتملّك الناس في الغابة. بل إن خوفهم بات أعظم. أصبح النهار اقصر والليل أطول ممّا اعتادوه. وأخيرا، وفي فجوة بين تلّتين عاليتين، ظهرت بقعة صغيرة من الثلج المخضر. وازداد حجمها بسرعة. ثم انزلق نهر جليدي ضخم هبوطا عبر التلال. واندفعت حجارة كبيرة نحو الوادي. ومع زئير عشرات العواصف الرعدية ودمدمة السيول العارمة، هوت فجأة كتل من الثلج والطين والغرانيت وشقّت طريقها إلى حيث يعيش الناس في الغابة وقتلت الكثيرين منهم أثناء نومهم. وانسحقت أشجار ضخمة عمر بعضها مائة عام. بعد ذلك بدأت الأرض تُثلج. واستمرّ الثلج أشهرا. وماتت جميع النباتات وهربت الحيوانات بحثا عن الشمس في الجنوب.
الإنسان القديم هو أيضا كان يفكّر في الهرب إلى ارض أخرى يمكن أن يجد فيها ظروف عيش أفضل. لكنه كان يخشى هجمات المخلوقات المتوحّشة التي كانت أسرع منه وأشدّ فتكا.
واضطرّ إلى الاختيار بين التفكير السريع أو الموت السريع. ويبدو انه فضّل الخيار الأوّل. وقد تمكّن فعلا من البقاء على قيد الحياة خلال العصور الجليدية الرهيبة التي كانت تهدّد بقتل كلّ إنسان على وجه الأرض.
في البداية، كان من الضروريّ أن يكسو الإنسان القديم نفسه كي لا يتجمّد حتى الموت بسبب البرد. ثمّ تعلّم كيفية حفر الحفر وتغطيتها بفروع وأوراق الشجر. وبفضل تلك الحفر، استطاع الإنسان الإمساك بالدببة والضباع التي كان يقتلها باستخدام الحجارة الثقيلة ومن ثمّ يأكل لحمها ويستخدم جلودها كمعاطف تقيه وعائلته غائلة البرد.
ثم جاءت بعد ذلك مشكلة المأوى. ووجد لها الإنسان القديم حلا بسيطا. كانت العديد من الحيوانات معتادة على النوم في الكهوف المظلمة. وأصبح الإنسان الآن يقلّدها، فقام بإخراجها من بيوتها الدافئة واختصّ بها نفسه.
ومع ذلك، كان المناخ ما يزال يمثّل مشكلة كبيرة لمعظم البشر الأوائل. كان الكبار والصغار يموتون بمعدّلات عالية. ثم فكّر عبقريّ منهم باستخدام النار. ذات يوم، وبينما كان خارجا للصيد، وجد نفسه عالقا في حريق شب في غابة بفعل عاصفة رعدية. وتذكّر انه كاد يتفحّم حتى الموت بسبب اللهب المستعر. حتى ذلك الوقت كانت النار تُعتبر عدوّا.
قام الرجل بسحب شجرة متيبّسة إلى الكهف وأوقدها باستخدام فرع شجرة مشتعل جلبه معه من الغابة المحترقة. وتحوّلت المغارة إلى غرفة صغيرة دافئة. ومن يومها أصبحت النار صديقا للإنسان.
وفي إحدى الليالي سقطت دجاجة ميّتةً في النار. ولم يتمّ إنقاذها إلى أن تفحّمت تماما. واكتشف الإنسان أن مذاق اللحم يصبح أفضل بعد شيّه أو طهيه. وهكذا تخلّى الإنسان عن إحدى العادات القديمة التي كان يشترك فيها مع الحيوانات الأخرى. وبدأ يعدّ طعامه مستخدما النار.
ومرّت آلاف السنين والحال على هذا المنوال. فقط البشر الذين كانوا يستخدمون عقولهم هم من كُتب لهم البقاء. وكان على هؤلاء أن يكافحوا ليل نهار ضدّ البرد والجوع والخطر. واضطرّوا إلى ابتكار الأدوات، وتعلّموا شحذ الحجارة وتحويلها إلى فئوس ومطارق. ثمّ فطنوا إلى أهمّية تخزين كمّيات من الطعام لتأمين غذائهم طوال أشهر الشتاء الطويلة والقاسية. ثم اكتشفوا أن بإمكانهم أن يصنعوا من الطين الجرار وغيرها من الأدوات الخزفية بعد تعريضه لأشعّة الشمس.
وهكذا انتهت العصور الجليدية التي كانت تهدّد بتدمير وإفناء الجنس البشري. لكنّ تلك العصور أصبحت المعلّم الأكبر للإنسان، لأنها أجبرته على أن يستخدم عقله من اجل البقاء. "مترجم".

الأربعاء، مارس 07، 2012

خطوط وألوان

بوريس كستودييف، زوجة التاجر، 1918

صورة جميلة لامرأة روسية حسناء تضجّ ملامحها بعلامات الصحّة والعافية. الألوان الصفراء والزهرية والزرقاء للخلفية الطبيعية في اللوحة تبدو متناغمة مع بشرة المرأة وملابسها ذات الألوان البنفسجية والبيضاء.
تفاصيل اللوحة، بما فيها الشاي والسماور والكعك والفاكهة والقطّة، هي عبارة عن مهرجان باذخ من الألوان البهيجة والساطعة.
المرأة الشابّة تجلس قبالة الناظر بينما ترتدي فستانا من البنفسج يزيّن أطرافه العلوية شريط من الدانتيل الفاخر. وفي الخلفية يظهر منظر من مدينة روسية مع قباب وكنيسة وأشجار.
ملامح ومظهر المرأة يشيان بخلفيّتها الاجتماعية. بشرتها البضّة تشعّ على المائدة. إنها غضّة ونضرة مثل الفاكهة التي أمامها. وهي لا تنظر مباشرة إلى المتلقّي، بل تبدو في حالة تأمّل بينما ترتشف الشاي في هذا الركن الهادئ من شرفة المنزل.
أدوات وأواني الشاي المتعدّدة على المائدة هي من الملامح التي تميّز هذه اللوحة. المعروف أن الشاي دخل روسيا في بداية القرن السابع عشر عندما قام احد خانات المغول بإهداء القيصر ميخائيل رومانوف بعض أعشاب الشراب. ومع مرور الوقت ترسّخت عادة شرب الشاي في روسيا. واليوم يُعتبر الروس ثاني أكثر شعوب العالم استهلاكا للشاي.
أمّا السماور الذي يُغلى بداخله الماء لتجهيز الشاي فقد عرفه الروس قبل أكثر من مائتين وسبعين عاما. كان يُصنع من الحديد أو من الفضّة والبلاتين والبورسلين ويُزيّن بأساليب شتّى. ومع الأيّام أصبح يرمز للروح الروسية. كما انه يتمتّع بمكانة خاصّة بين الأدوات المنزلية.
ولد الرسّام بوريس كستودييف في استراكان بـ روسيا. ومات والده وهو بعدُ شابّ. ثم انتقلت المسئولية عن إعالة الأسرة إلى والدته. واستأجر بوريس جزءا صغيرا من منزل تاجر موسر. في ذلك المكان تشكّلت الانطباعات الأولى للصبيّ الصغير عن أسلوب حياة طبقة التجّار. وقد احتفظ بتلك الأفكار طوال سنوات الطفولة. وعندما كبر استحضرها في لوحاته المتعدّدة.
زوجة التاجر، التي تظهر في اللوحة، كانت امرأة طيّبة وعطوفة. وقد رسمها كستودييف مرارا بعد أن أضاف إليها روحا مرحة وأحيانا ساخرة.
في هذه اللوحة إحساس بالتفاؤل والبهجة وحبّ الحياة. وفيها أيضا نلمس الثراء الشرقيّ للألوان الذي كان الرسّام يرى فيه جزءا لا يتجزّأ من تراثه.


هانز غود وأدولف تايدماند، موكب عرس في هاردنغر، 1848

ولد الرسّام النرويجي هانز غود قبل حوالي 183 عاما. وتعاون عام 1848م مع زميله الرسّام الدنماركي ادولف تايدماند في رسم هذه اللوحة التي تحتفل بالحياة في الريف ويعتبرها البعض أشهر عمل رومانسي نرويجي.
وقد رسم غود الطبيعة بينما رسم تايدماند الأشخاص.
في اللوحة نرى عريسا وعروسه بصحبة مجموعة من أقاربهما وهم يبحرون في قارب وسط طبيعة باردة في غرب النرويج، بينما تظهر الجبال في الخلفية وقد كلّلتها الثلوج.
عمل هانز غود كأستاذ للرسم في ثلاث أكاديميات وعلّم ثلاثة أجيال من رسّامي الطبيعة النرويجيين. وقد تلقّى وسام الفروسية الأول في النرويج مكافأة له على اجتهاده وموهبته. كان رسّاما يحظى بالاحترام والتقدير. لكن بعض النقّاد يعيبون عليه جمود طبيعته التي تبعث على الملل ونادرا ما تشعر الإنسان بالدفء.
زميله تايدماند معروف بلوحاته التي يصوّر فيها حياة الريف والمزارع. وقد رفضته أكاديمية الفنّ الدنماركية في البداية ثم قبلته في ما بعد. ولم يلبث أن ذهب إلى النرويج ليصبح احد أشهر رسّاميها.
هانز غود عزّز شهرته في اسكندينافيا وأوربّا بصوره القويّة عن جبال النرويج. كان بارعا على وجه الخصوص في رسم الجبال العالية والمحتشدة بطريقة تثير إحساسا بالسموّ والفخامة.
وعدد من لوحاته توجد اليوم في غاليريهات دوسلدورف بألمانيا وكريستيانا بالنرويج . وقد عاش الاثنان، غود وتايدماند، معا واشتركا في رسم خمس لوحات كلّها تصوّر أشخاصا في بيئة بحرية.


مارتا داهليك، سماء ومظلّة، 2007

مارتا داهليك فنّانة بولندية تعيش في وارسو وتبلغ من العمر خمسة وعشرين عاما. هوايتها تصميم اللوحات الرقمية. وهي تعشق لوحات غوستاف كليمت والفونس موشا وتحاول باستمرار، كما تقول، أن تتعلّم من طريقة استخدامهما للألوان والرموز في أعمالهما.
وقد اشتهرت لوحتها هذه وانتشرت في الكثير من المواقع عبر الانترنت. وازداد رواج الصورة بعد أن اختارتها مجلة اكزوتيك كي تضعها على غلافها.
الذي يرى اللوحة لأوّل وهلة يصعب عليه أن يتخيّل أنها أنجزت بلا فرشاة ولا ألوان بالمعنى التقليدي، وإنما باستخدام بعض برامج الرسوميات مثل كوريل بينتر وأدوبي فوتوشوب.
عنوان اللوحة مأخوذ من أغنية لـ فرانك سيناترا. والألوان والتفاصيل فيها مدهشة. التمثيل الدقيق للبشرة والوجه والأطراف والشعر والمظلّة يجعلها أشبه ما تكون بالصورة الفوتوغرافية.
التطوّر المطّرد لتكنولوجيا الكمبيوتر في السنوات الأخيرة احدث تغييرا جذريا في عالم الفنّ، خاصّة الرقمي. أصبحنا الآن نسمع عن الرسم الرقمي والفرشاة والألوان الاليكترونية بفضل برامج الرسوميات التي تتطوّر باستمرار.
أكثر لوحات مارتا داهليك تصوّر نساءً في عوالم فانتازية وأوضاع مختلفة. وتصوير الأفكار السوريالية يُفسّر أحيانا على انه محاولة للهروب من الواقع.
منذ سنوات والنقاش لا ينقطع عن مدى صلاحية الفنّ الرقمي كشكل من أشكال الفنّ. البعض يصف الأعمال الرقمية بأنها مجرّد عمل ميكانيكي يخلو من المشاعر والانفعالات. لكن لنتذكّر أن هذا الوصف قيل من قبل عن التصوير الضوئي. واليوم أصبح التصوير فنّا معترفا به ويحظى بالاحترام والتقدير في كلّ مكان.


كارلوس شواب، موت حفّار القبور، 1895


كانت الرمزية أسلوبا في الشعر والفنّ نشأ في فرنسا وروسيا في نهاية القرن التاسع عشر، كردّ فعل على الواقعية والطبيعية اللتين تصوّران الحياة العادية والأفكار البسيطة.
كارلوس شواب رسّام سويسري درس فترة في فرنسا وطوّر إحساسه الخاصّ بالرمزية. وقد رسم هذه اللوحة بعد وفاة احد أصدقائه. ثمّ نما عنده الاهتمام برسم مناظر الموت والحداد.
ولوحته هذه هي جزء من الحركة الرمزية السويسرية. هناك عدد من الأفكار الرمزية الحاضرة في اللوحة. الموت هو الرمز الكبير. الملائكة أيضا طالما كانت عنصرا آخر مألوفا عند الرمزيين.
الملاك في اللوحة يمثّل الموت. وربط الموت بالملائكة وبالجمال كان من الأفكار الفريدة في ذلك الوقت. والفكرة مستوحاة من بعض قصائد بودلير التي يربط فيها الجمال بالفناء.
المشهد في لوحة شواب يجري داخل مقبرة مغطّاة بطبقة رقيقة من الثلج. وفيها يقف حفّار قبور عجوز داخل قبر وينظر إلى امرأة على هيئة ملاك ترتدي ملابس سوداء وتحمل بيدها ضوءا أخضر ينعكس على وجهها وعنقها. العجوز يضع يده على قلبه وهو يراها. الضوء الأخضر ربّما يرمز لروحه التي ستأخذها الملاك.
هذا المشهد مليء بالدراما. المجرفة تسقط من يد الحفّار العجوز. والملاك ترفع يديها وتخفض عينيها باتجاه الرجل المحتضر. وكلّ منهما يحدّق في عيني الآخر. لكن احدهما يبدو هادئا والآخر في حالة هلع وكرب.
المشهد يُظهر كيف أن الموت يأتي فجأة وبشكل غير متوقّع ولا يستثني حتى حفّاري القبور الذين اعتادوا رائحة الموت والحياة في المقابر.
صحيح أن هذه اللوحة هي عن الموت. لكن هناك حياة تحيط بالشخصين على شكل براعم صغيرة تنمو من الأرض الثلجية في المقدمة. وفي الخلفية تبدو المقبرة هادئة والثلج لم يُمسّ. وضعية الشخصين، أي الرجل والملاك، تُظهِر الانفعالات التي يكشف عنها كلّ منهما. وتصوير وفهم المشاعر الداخلية هو احد الملامح الأساسية في الرمزية.
اختار الرسّام للوحة موضوعا كئيبا. لكنه منفّذ بطريقة محكمة. والمنظر يثير الفضول أكثر مما يبعث على الحزن أو الخوف. لاحظ مثلا كيف أن جناحي الملاك الكبيرين يحيطان بالرجل وكأنها يحتضنانه بحنوّ وألفة.
شواب كان يولي أهميّة كبيرة للمرأة في لوحاته. فهي عنده رمز للموت والمعاناة، وأحيانا للإبداع والهداية. وليس مستغربا انه أعطى الملاك في اللوحة ملامح زوجته.

الأحد، مارس 04، 2012

رسالة حبّ إلى لوحة

بعض اللوحات ترفض أن تبقى ساكنة على الحائط. الأشخاص فيها ينزلقون إلى خارج الإطار، يلغون اللحظة الثابتة في الصورة ويدفعوننا إلى تخيّل أحوالهم وقصص حياتهم.
وعلى غرار رواية ايريس موردوك عن لوحة تيشيان الحبّ المقدس والحبّ الدنيوي، ورواية تريسي شيفالييه عن لوحة فيرمير الفتاة ذات القرط اللؤلؤي، تتتبّع مؤرّخة الفنّ كارولا هيكس في كتابها فتاة بفستان اخضر، تاريخ إحدى أكثر اللوحات في العالم شهرة وغموضا.
وهيكس تستخدم مهارتها في الطبّ الشرعي في محاولة لفكّ غموض هذه اللوحة وتروي كيف أنها نجت، طوال أكثر من أربعة قرون، من الحرائق والمعارك والرحلات البحرية الخطرة. كما تتحدّث عن دور اللوحة بوصفها مرآة تعكس ثقافة وتاريخ الزمن الذي ظهرت فيه.
بورتريه الزوجين ارنولفيني للرسّام الهولندي يان فان آيك يحيّر كلّ من يراه. الخبراء والعامّة، على حدّ سواء، يتساءلون عن معنى هذا الجوهرة المؤرّقة من فنّ القرون الوسطى. الزوجان الغامضان في اللوحة يبدو أنهما ينقلان لنا رسالة من وراء القرون. لكن ما هي؟ هل اللوحة احتفال بالزواج أو الحمل؟ محاولة لإحياء ذكرى زوجة شابّة توفّيت أثناء ولادتها لطفلها؟ بيان عن الموضة في ذلك الزمان؟ أم أنها رمز للمكانة أو الوجاهة الاجتماعية للرجل والمرأة الظاهرين فيها؟
الزوجان ارنولفيني كان لهما حياة أخرى حافلة بالأحداث في الخيال. فقد كانا دائما موضوعا لسجالات النقّاد وسخرية رسّامي الكاريكاتير. احد الكتّاب افترض أن الفتاة ذات المظهر الرقيق تخبّئ خلف طيّات ثوبها طفلا. وقال آخر إن اللوحة ربّما تتحدّث عن زواج بالإكراه. وكانت آخر مرّة ظهرت فيها اللوحة في المسلسل المعروف زوجات يائسات.
كارولا هيكس تلخّص هذا التاريخ اللزج للوحة، ولكنها لا تضيف إليه الشيء الكثير. غرضها في الأساس هو أن تتحقّق من مضامين اللوحة، وتدقّق في ديكورها الذي رسمه الفنّان بدقّة فائقة. كما ترصد المؤلّفة مسار اللوحة خلال أربعمائة عام انتقلت خلالها بين عدد من البيوت المالكة الأوروبية ونُهبت كغنيمة حرب، قبل أن تصل أخيرا إلى ملاذها الآمن بالقرب من ساحة الطرف الأغرّ في لندن.
تقول هيكس: الفنّ بحاجة إلى مال. كما انه يتبع السلطة. ولهذا السبب سرعان ما أصبحت لوحة فان آيك لعبة ملكية. في البداية، كانت اللوحة جزءا من تراث عائلة هابسبيرغ. ثم وقعت في يد فيليب الثاني ملك اسبانيا الذي كان يفضّل هيرونيموس بوش على فان آيك.
سليل فيليب، أي كارلوس الثالث، وضع اللوحة في مخزن مهجور. لكنّها انتُشلت في ما بعد، أو على الأصح اشتُريت من قبل أحد جنود ويلينغتون بعد معركة فيتوريا عام 1813.
وبهذه الطريقة جُلبت اللوحة إلى لندن. وقد ابتاعها الناشيونال غاليري، الوليد آنذاك؛ أي عام 1842م، بمبلغ ستّمائة جنيه، وهو سعر زهيد نسبيّا.
ومن هناك ترسّخت شهرة اللوحة بعد أن احتفى بها الرسّامون ما قبل الرافائيليين. ولم يمضِ وقت كثير حتى دخلت اللوحة حيّز الوعي الفنّي الأوسع.
الكاتبة تنقل الحقائق المعروفة كما هي. لكنّها لا تقدّم كشوفا أو تفسيرات جديدة. كما أنها لا تشير إلى السبب الذي جعلها تختار هذه اللوحة بالذات لكتابها، ولا ما الذي تعنيه لها اللوحة وما الذي يجعلها عملا أيقونيّا.
ماذا عن الزوجين ارنولفيني؟ ما هو سرّ تقطيب الرجل الذي تشبه ملامحه ملامح فلاديمير بوتين؟ من هم ضيوف الزوجين الذين نلمح صورهم منعكسة في المرآة على الحائط الخلفي؟ وما سرّ وجود سرير في غرفة الاستقبال؟
من الواضح أن كارولا هيكس تعشق هذه اللوحة كثيرا. ويصحّ اعتبار كتابها هذا رسالة حبّ إلى اللوحة. لكنّ المؤسف أن المؤلّفة رحلت عنّا في سنّ صغيرة نسبيّا وقبل أن تكمل كتابها الذي يبدو انه لم يُطبخ تماما.
وهذا الكتاب، في النهاية، هو تذكير لنا بأننا لا نعيش داخل بيت هذا التاجر، أي ارنولفيني، الذي يشبه عالم بيت الدمية الذي لا يمكن بلوغه أو سبر أسراره.
صحيح أن الكتاب يتضمّن الكثير عن التاريخ اللاحق للوحة. لكنه لا يتحدّث سوى عن القليل جدّا من أسرارها الداخلية. "مترجم".