:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الأربعاء، نوفمبر 16، 2016

التذهيب: روحانية وعراقة


التذهيب كلمة عربية مشتقّة من الذهب، وتعني حرفيا تغطية شيء ما بالذهب. وفنّ التذهيب هو فرع من فنّ المنمنمات وجزء من فنّ تصميم الكتب. ويتضمّن رسم أنماط وأشكال جميلة من النباتات والأزهار والأشكال الهندسية على هوامش وحوافّ الكتب الدينية والعلمية والثقافية وكذلك المجموعات الشعرية.
في البداية، استُخدم الذهب المذاب في هذا الفنّ، وهذا هو السبب في تسميته بالتذهيب. لكن في ما بعد استُخدمت مع اللون الذهبيّ ألوان أخرى كالأزرق السماويّ والأخضر والقرمزي والفيروزي. ورغم دخول ألوان أخرى عليه إلا أن التذهيب ظلّ محتفظا باسمه القديم.
بعض المصادر تشير إلى أن التذهيب كفنّ بدأ في إيران، إذ يقال انه يعود إلى العصر الساساني، وقيل إلى الحقبة الاخمينية التي كانت سلالة قويّة اشتهر ملوكها برعايتهم واهتمامهم بالفنون.
وكتاب الافيستا الفارسيّ هو مثال على استخدام التذهيب لتزيين المخطوطات الدينية القديمة. ويقال أن ماني، النبيّ الفارسيّ القديم من القرن الثالث قبل الميلاد، زيّن كتابه المقدّس مستخدما الذهب والمنمنمات.
واليوم يمكن العثور على بعض جذور هذا الفنّ بوضوح في فنون فارس ما قبل الإسلام، خاصّة تحت حكم الساسانيين، متمثّلة في أعمال البلاط واستخدام أنماط من الأزهار والنباتات والمضلّعات النجمية.
إذن بدايات التذهيب تشير إلى انه كان يُستخدم لتزيين صفحات العنوان والعناوين الفرعية والحواشي في الكتب المقدّسة والقصائد الملحمية. لكن في فترة تالية ظهرت عناصره في السجّاد الفارسي والموزاييك أيضا.


لكنّ لهذا الفن جذورا في أفغانستان أيضا، وهذا واضح من التصاميم التي تزيّن دواوين الشعر وتلك المنقوشة على البلاط الذي يزيّن الأضرحة في مزار شريف وغيرها من مدن أفغانستان.
وبعد ظهور الإسلام، استُخدم التذهيب لتزيين المصحف الشريف ثم استخدمه الحكّام العرب والمسلمون، ليتحوّل من ثمّ إلى فنّ إسلامي. وجزء من هذا الفنّ عبارة عن رياضيّات والجزء الآخر فنّ. وفي الغالب لا ترى فيه صورا أو رسوما لأشخاص.
ومثل الرسم، فإن للتذهيب مدارسه الخاصّة من حيث الأفكار والفترات التاريخية. هناك مثلا التذهيب السلجوقي والبخاري والتيموري والصفوي والقاجاري .. إلى آخره.
والاختلافات بين كلّ مدرسة وأخرى واضحة في طريقة وضع وتوظيف الأشكال والأنماط. على سبيل المثال، التذهيب في مدرسة بخارى يمكن تمييزه بسهولة عن المدارس الأخرى، لأنه يستخدم اللون الأسود وغيره من الألوان القاتمة، بينما لا تستخدم المدارس الأخرى هذه الألوان.
وكلّ فترة من الفترات التي مرّ بها فنّ التذهيب تعبّر عن روح الناس الذين عاشوا في ذلك الوقت. في القرن الرابع مثلا كان التذهيب بسيطا، ثم صار أكثر تماسكا في القرنين الخامس والسادس، وأصبح معقّدا وباذخا جدّا في القرنين التاسع والعاشر للهجرة.


أعمال التذهيب في القرون الماضية تثبت بوضوح تأثير التذهيب الفارسي على البلدان الأخرى مثل الهند والإمبراطورية العثمانية والبلدان العربية. فقد انتقل الفنّانون الفرس إلى الهند في الفترة الصفوية المبكّرة وأسّسوا هناك مدارس رسم إيرانية وهندية. والأعمال الفنّية التي ظهرت إبّان الحقبة المغولية في الهند تتميّز بجمالها وروعتها وتشير إلى أنها استمرار لمدارس الرسم الهندية والإيرانية.
الأتراك العثمانيون كانوا هم أيضا بارعين في التذهيب. والفنّانون الإيرانيون هم من نقلوا هذا الفنّ إلى هناك وأنشئوا له مدارس مستقلّة.
الأوربّيون أيضا لديهم أسلوبهم الخاصّ في التذهيب والذي يختلف تماما عن التذهيب الإيراني والتركي والعربي والهندي. وكانوا يستخدمون أغصان العنب وأوراق الأشجار الملوّنة في التذهيب، وفي بعض الأحيان كانوا يضيفون الطيور والحيوانات والوجوه البشرية والمناظر الطبيعية.
وتجدر الإشارة إلى أن التذهيب يستخدم إطارات مختلفة من المربّعات المستطيلات والدوائر، وكلّ واحد من هذه الأنواع له سماته الخاصّة والجميلة.
الفنّانون القدامى كانوا يستخدمون الألوان الطبيعية المستخلصة من اللازورد والنحاس وغيرها من الموادّ. ولأنها كانت طبيعية فإنها كانت تروق للناس. كما كانوا يستخدمون فُرَشا مصنوعة من الشَعر الطبيعي ويمضون ساعات طوالا كي يبلغوا أعلى درجات الإتقان.


والتذهيب يتطلّب عملا مضنيا وطويلا يمكن أن يستغرق عشرات الساعات لإنجاز قطعة صغيرة. ومجرّد ارتكاب خطأ صغير من شأنه أن يُتلف الصفحة، ويتعيّن على الرسّام بعدها أن يبدأ عمله من نقطة الصفر.
اللون الذهبيّ كان يحظى دائما باحترام البشر الذين طالما اعتقدوا أن له علاقة قويّة بالشمس والسماء، وهذا هو السبب في استخدامه لتزيين الكتب الدينية. واللون الذهبيّ أيضا هو لون الأفكار السامية والحكمة والاستنارة والمعرفة والروحانية ورمز الوفرة والرخاء والمكانة والقيمة والأناقة والترف. ومنذ القدم كان الناس يؤمنون بتأثير الشمس على الذهب، بل ويعتقدون بأن الذهب يأتي من الشمس وأن له خصائص روحانية.
ومع انتشار الإسلام إلى البلدان الأخرى، ظهرت فكرة كتابة وتزيين القرآن الكريم بالذهب. ومع تطوّر الأنماط والتصاميم والتقنيات الموظّفة في التذهيب، أصبح له جماليّاته الخاصّة.
في معظم الحالات، يبدأ التذهيب بخلق نمط رئيسيّ في منطقة الرسم ثم تكراره. ويتعيّن على الفنّان أو المذهِّب أن يرسم أوّلا بضعة منحنيات وأشكال لولبية وفق نسق معيّن.
وهذه المجموعة الأولى من المنحنيات والأشكال هي الجزء الأساسيّ من العمل. ويمكن للفنّان بعد ذلك أن يستخدم أنماطا تجريدية متداخلة وسلسلة من الدوّامات والتصاميم الزهرية كعناصر زخرفية في التذهيب.
الجدير بالذكر أن التذهيب شهد تراجعا على مرّ قرون، لدرجة انه أصبح على وشك الانقراض. لكن بفضل بعض الفنّانين المخلصين تمّ إحياء الشغف بهذا الفنّ واستعادة بعض من أمجاده الغابرة كشكل من أشكال التعبير. وعودته إلى دائرة الاهتمام مجدّدا هو عمل من أعمال السلام والوحدة وتجديد الارتباط بتقاليد عريقة من الإيمان والجمال التي هي جزء من التراث الإسلامي والإنساني.

Credits
patterninislamicart.com