:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


السبت، ديسمبر 10، 2005

مذكرات عزيز نسين - 1 من 2

الذين قرءوا شيئا من أعمال الأديب التركي عزيز نسين القصصية لا شكّ لمسوا الأسلوب الجذاب والمعالجة العميقة والسخرية الفاقعة التي يستخدمها نسين في قصصه التي اختار موضوعاتها من الحياة السياسية والاجتماعية في بلده تركيا.
وعزيز نسين كاتب غزير الإنتاج، فقد ألف اكثر من مائة كتاب ما بين رواية ومسرحية وقصة قصيرة، كما ُترجمت أعماله إلى العديد من اللغات وبيعت كتبه في معظم بلدان العالم.
وبسبب انتقاداته للسلطات العسكرية في بلاده ودفاعه عن الأكراد، تعرّض نسين إلى السجن والملاحقة اكثر من مرة.
وبالإضافة إلى موهبته الأدبية الأصيلة، كان عزيز نسين إنسانا خيّرا، فقد أسّس قبيل وفاته في العام 1995 م مؤسسة خيرية لرعاية وتعليم الأطفال الفقراء والمعوزين. وما يزال الريع المتحصّل من بيع كتبه ومؤلفاته ُيصرف على أنشطة تلك المؤسّسة حتى اليوم. البروفيسور جوزيف جيكوبسون أستاذ اللغات في جامعة يوتا الأمريكية قام مؤخرا بإتمام الترجمة الإنجليزية للسيرة الذاتية للأديب التركي الكبير واختار لها عنوان "الاسطنبولي".
في ما يلي ترجمة – مع بعض التصرّف - لمقاطع من تلك المذكّرات التي يحكي فيها عزيز نسين بعضا من ذكرياته وتجاربه التي هي بشكل أو بآخر جزء من تاريخ تركيا الحديث. وأرجو أن تعجب القارئ مثلما أعجبتني..

1- مـلائكـة وشيـاطيـن!
يسألني الناس أحيانا: كيف تسنّى لك أن تكتب بمثل هذه الغزارة؟
ويقولون: إن بعض الفنانين لديهم ملائكة ينفخون الفنّ في آذانهم!
وعندما أستحضر صورة الملاك في ذهني أتصوّر شيئا أشبه ما يكون بحورية البحر نصفها الأعلى فتاة والأسفل على هيئة سمكة.
إنها هي التي تهمس الإلهام في أذن الفنان الذي تحطّ على كتفه!
أما أنا فليس عندي ملاك، لكن عندي شياطين وسحرة! ُعشر الواحد منهم إنسان والباقي وحش!
إنها تحط على كتفي وتتسلق فوق ظهري. وأنا أئنّ تحتها من فرط التعب والإنهاك!
ليس عندي شيطان واحد ولا ساحر واحد. عندي الكثير من السحرة والشياطين!
إذا نزل اثنان منهم عن ظهري صعد فوقه ثلاثة!
جمال الملائكة لا يجارى، وقبح السحرة والشياطين ليس له نظير.
الملائكة تداعب، والشياطين تضرب وتقرص وتعضّ!
الجنّي يتنفّس داخل أذن الفنان الذي يحط على كتفه ويزرع داخل نفسه الإلهام.
والسحرة والشياطين والوحوش الخرافية التي تقذف بنفسها فوقي تأمرني دون توقف، تدفعني وتعنّفني!
أكتب! لا تكتب! إستيقظ! ليس من حقك أن تنام! لا تجلس! انهض! ليس من حقّك أن تمرض! هيّا انهض!
شياطيني وساحراتي ووحوشي الخرافية هم من يطلب مني سداد الإيجار! هم الذين يأتونني في طلب المال! انهم، بمعنى ما، دائنيّ!
إذا لم اكتب فماذا عساي أن افعل؟
في كلّ هذا العالم لا شئ يلهم الفنان ويدفعه للعمل اكثر من ثقب في بطانة نعله!
ولو كان الأمر بيدي لطلبت من الهيئة العالمية لحقوق الإنسان أن تدرج هذا البند في إعلانها: "إن حقّ الإنسان في أن يمرض هو من أهمّ واقدس الحقوق وهو حقّ غير قابل للنقض أو التصرّف أو النقاش"!
لطالما حسدتُ أولئك الناس الذين يستطيعون أن يستلقوا على ظهورهم عندما يمرضون. فطوال حياتي التي امتدّت اكثر من نصف قرن لم استخدم حقّي في أن امرض ولو ليوم واحد!
شياطين وسحرة الإلهام لا تدعني وشأني! إنها معي في أحلام الليل وتهيؤات النهار! اكتب. فأكتب. اكتب اكثر. فأكتب اكثر.
وكلما نظرت إلى المروج الخضراء في الصباح، راودتني الرغبة في أن القي بنفسي فوق العشب. ولو استطعت أن أتجوّل هناك فوق تلك المروج الزمردية حافي القدمين فإن خمسين عاما من السأم ستتسرّب من قدميّ وتنسلّ سريعا تحت أديم الأرض.
لكنني يوما ما سأحظى بالراحة الأبدية، ومن المؤسف أنني عندها لن اعرف أنني ذاهب لأرتاح!
ولو قدّر لي أن أولد مرّة أخرى، وهو أمر لا أؤمن به على الإطلاق، فإنني لن اختار طريقا آخر!
أريد أن أنهك نفسي وان أتعب بنفس الطريقة.
لقد عملتُ بائعا متجوّلا وراعي أغنام وجنديا ورسّاما ومحاسبا وبائع صحف ومصوّرا وكاتبا وبقالا ومدانا بتهمة (هذه أيضا وظيفة بل إنها اصعب الوظائف على الإطلاق!) وعاطلا عن العمل وحلاقا..
إن ذكرياتي لا تنطوي على شئ من العظمة.
وادرك أنها لا تمثل أي أهميّة في ذاتها.
لكن.. لأنها انعكاس لحياة وصخب المجتمع الذي عشت فيه، فإنني سأروي لكم جانبا من تلك الذكريات دون تزييف أو خداع.
متمنيا أن تنال بعض اهتمامكم.

2- القـرآن وماكينـة الخيـاطة وأرجـوحة أختـي!
عندما أتيتُ إلى هذه الحياة فتحتُ عينيّ على مشهد النار!
وأولّ ما أتذكّره هو تلك السحب الداكنة من النار القرمزية وقد غطّت السّماء بالسواد!
لا أستطيع تذكّر كلّ شئ قبل تلك الحادثة. لكنّ تفاصيلها ما تزال تسكن مخيّلتي.
أيقظ الحريق أمّي. فتناولتْ قطعة القماش المطرّزة بخيوط الفضّة. كان القماش يحتوي على القرآن الكريم. قبّلت أمي المصحف الشريف ووضعته على جبينها لبرهة، ثم علقته في رقبتي.
بعد ذلك انتزعتْ أمي أختي الرضيعة من أرجوحتها.
من النافذة كنت أرى السماء وقد غطتها النيران الحمراء. ألسنة كثيفة من اللهب وشرر متطاير هنا وهناك على السقف وفوق الأرضيّة والجدران. كانت ألسنة اللهب الحمراء تتّسع وتنكمش. ووراء باب بيتنا سمعت رجالا يتمتمون. وفي الخارج كان هناك صراخ وزعيق. وبين الفينة والأخرى كان يقطع الزئير والصخب صراخ طفل هنا أو امرأة هناك.
رأيت شرر النار يصفق زجاج النوافذ فيكسرها بعنف. وفجأة ُكسر باب البيت عنوة وهرع عصبة من الرجال إلى الداخل وانتزعوا كل شئ طالته أيديهم ثم فرّوا مسرعين.
اعتقدتْ أمي انهم جماعة من الأخيار جاءوا لمساعدتنا وإنقاذ أغراضنا من الحريق!
بعد ذلك وضعتني أمّي تحت أحد ذراعيها فيما وضعت أختي تحت ذراعها الآخر ثم أخذتنا إلى اسفل الدرج وتركتنا هناك وعادت مسرعة إلى داخل البيت.
وبعد لحظات ازدحم البيت بأناس أتوا من الشارع وكلما خرجت مجموعة حاملة غنائمها دخلت أخرى.
وفي خضمّ المعمعة كان هؤلاء يدوسون بعضهم بعضا. وأسرعت أمي بالخروج وهي تحمل ماكينة الخياطة وأرجوحة أختي في يديها.
كل ما استطاعت أمي ذات الثمانية عشر عاما إنقاذه من الحريق كان طفليها والمصحف الشريف والأرجوحة.
كانت الماكينة مهرها الذي كسبت ثمنه بعد عمل مضن وشاق.
لكن الحادث لم ُيخفني على الإطلاق. وبالنسبة اليّ كانت تلك الليلة أشبه ما تكون بأمسية احتفالية أو ضربا من ضروب التسلية والترفيه!
بعد مشهد الباب الأمامي توقف الفيلم فجأة! ولا اذكر بالتحديد ما الذي حدث في ما بين تلك اللحظة ولحظة وصولنا إلى المدافن.
عندما استيقظت صبيحة اليوم التالي وجدت نفسي في المقبرة!
كان واضحا أننا قضينا الليل في العراء هناك. كانت المقبرة تغصّ بالفقراء مع أمتعتهم التي استنقذوها قبل أن يأتي عليها الحريق.
كان الناس مذهولين والأطفال يبكون. ورأيت أختي مستلقية في أرجوحتها بسلام. في ما بعد علمت أن بيتنا الذي احترق كان يقع فوق ميدان قاسم باشا في منطقة يقال لها النافورة الجديدة.
حدث هذا في العام 1919 م.
لم يكن والدي موجودا معنا آنذاك. إذ كان قد تركنا منذ وقت طويل وذهب إلى الأناضول للمشاركة في حرب التحرير..

الأربعاء، ديسمبر 07، 2005

محطّات

❉ ❉ ❉

صلاة للروح الأعظم


أيها الروح الأعظم!
يا من أسمع صوتك في دمدمة الرياح
ويا من تبعث أنفاسك الحياة في كلّ العوالم
إستمع إلى ندائي!
فأنا الصغير الضعيف في أمسّ الحاجة إلى قوّتك وحكمتك
دعني أسير على دروب الجمال
بارك عينيّ كي تبصرا السحاب الأحمر والغروب الأرجواني
لتحترم يدايَ كل ما خلقته،
وليصبح سمعي مرهفاً كي ألتقط نغمات صوتك
هب لي الحكمة حتى أفهم الأشياء التي علّمتها لآبائي وأجدادي
دعني أتعلم الدروس التي أودعتها في كلّ صخرة وكل نبتة وورقة
أسألك القوّة
لا لأستقوي على أخي،
بل لأقهر عدوّي اللدود: نفسي!
ألهمني الأفكار النظيفة وساعدني على أن أعمل بنيّة طيّبة
ساعدني كي أقف بجانب الآخرين وأمدّ لهم يد العون
ألهمني كي أكون دائماً على أهبة الاستعداد لمقابلتك بيدين نظيفتين
وعينين غير منكسرتين
بحيث عندما تخبو جذوة العمر،
مثلما يتلاشى الشفق،
تنطلق روحي إليك بكلّ ثقة
وبلا حسرة أو ندامة.
- مارتن شوت، شاعر أمريكي "ترجمة محمود مسعود"

❉ ❉ ❉

استراحة موسيقية


❉ ❉ ❉

كاناليتو و فينيسيا


تخيّل لوحة تفصيلية لـ تايمز سكوير عشيّة رأس السنة الجديدة، أو منظرا مماثلا لتنصيب رئيس إحدى الدول من خلال لوحة زيتيّة.
كلّ شيء يجب أن يُرسم بتفصيل دقيق، من باعة الطعام في المقدّمة إلى تجمّعات الرجال والنساء في الخلفية. ولو كانت اللوحة كبيرة جدّا، فإن المهمّة تصبح عندئذ أكثر صعوبة، على الأقلّ بالنسبة لرسّامي القرن العشرين.
طبعا هذه الأيّام، ومع وجود التصوير الضوئي، لا يبدو أن ثمّة مشكلة. فاستخدام الصور الفوتوغرافية سيجعل المهمّة اقلّ صعوبة بكثير.
لكن هناك رسّاما واحدا، هو الرسّام الفينيسي جيوفاني انتونيو كانال المعروف اختصارا بـ كاناليتو، استطاع أن ينجز مثل هذا العمل على أفضل وجه من خلال لوحته المسمّاة حوض سان ماركو في يوم الصعود.
رسم كاناليتو هذه اللوحة عام 1730م. ولم ينجح في إظهار كافّة التفاصيل فحسب، وإنما أنجز لوحة فريدة من نوعها. لقد بنى هذا الرسّام مهنته الناجحة كلّها على حقيقة انه كان يولي التفاصيل في لوحاته عناية فائقة.
هذه اللوحة ضخمة، لكنّها مزدحمة بالتفاصيل الرائعة مثل الديكورات الزخرفية والإحساس الرائع بالحركة والنشاط.
التأثير هنا يحبس الأنفاس. كلّ التفاصيل، البنايات والمكتبة والكاثدرائية وقصر الدوق، جميعها تتوهّج تحت ضوء الشمس المبهر.
هذا فقط في الخلفية. العمل الحقيقي هو على الماء. فمركب الدوق يتحرّك على طول القنال الكبير مصحوبا بعدد من قوارب الغندول المزخرفة والمعبّئة بالمجدّفين والأمراء. وكلّ شخص له ملامحه الخاصّة وملابسه المزركشة كما انه منهمك في نشاط ما.
في الحقيقة كلّ شيء هنا يبدو وكأنّه يتحرّك. الأعلام تخفق والماء يتلألأ والقوارب تلمع في جوّ كرنفالي بديع.
وكلّ تفصيل في اللوحة أنجز في عين المكان. مع أن المنظور بأكمله وضعه كاناليتو من مخيّلته. ولا يوجد مبنى أو رصيف لم يرسمه الفنّان بطريقة احتفالية فخمة.
اليوم تُعتبر فينيسيا دون شكّ أكثر المدن رومانسية في أوربّا، وربّما في العالم بأسره.
وحتى إن لم يكن هذا الرسّام مسئولا لوحده عن إظهارها بهذا الشكل، فإنه يمكن القول انه على الأقل لعب دورا عظيما في تعزيز وتكريس هذه الصورة عن المدينة.