:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


السبت، مارس 22، 2025

قصّة من الإلياذة


تروي ملحمة الإلياذة قصصا لآلهة وأنصاف آلهة يخوضون غمار المعارك جنبا إلى جنب مع أبطال من البشر. وبالنسبة لليونانيين القدماء، كانت الملحمة بمثابة الكتاب المقدّس عن الرجولة والشجاعة الذكورية.
وبينما تصف الملحمة مشاهد الحرب وتدخّلات الآلهة التي تثبت أن القدَر قوّة لا مفرّ منها، فإنها تحتوي أيضا على دروس أخلاقية عميقة من خلال تناولها موضوعات مهمّة، مثل الشرف وتحقيق المجد وقبول المرء لمصيره أو قدَره وفهم التكاليف الرهيبة للحرب.
وعلى الرغم من هذه السمات التي تميّز الإلياذة باعتبارها ملحمة أدبية ذات أبعاد إلهية، فإن قصيدة هوميروس هي أيضا قصّة إنسانية بعمق. ويصدق هذا الوصف خاصّة على قصّة هيكتور وأندروماشي المأساوية.
كان هيكتور، أمير طروادة، أعظم بطل بين الطرواديين خلال الحرب التي استمرّت عقدا من الزمن مع اليونانيين. أما أندروماشي فكانت أميرة وزوجة لهيكتور. وكان لديهما ابن رضيع. ويصف بعض المؤرّخين أندروماشي بأنها كانت ذات عينين لامعتين وقوام طويل، متواضعة وحكيمة وعفيفة وساحرة.
كانت هذه المرأة قد عانت من مآسٍ شخصية هائلة، حيث قُتل معظم أفراد عائلتها وأحبّائها على يد اليونانيين. وقُتل والدها وإخوانها السبعة على يد أخيل، المحارب الأكثر جسارةً في الجيش اليوناني.
وكانت أندروماشي خائفة من أن يواجه زوجها هيكتور نفس المصير. لذا ناشدته الابتعاد عن ميدان القتال بكلمات أصبحت مشهورة لأثرها العاطفي الكبير: إن كنتَ مهتمّا حقّا بحمايتي وحماية طفلنا، فابقَ. خذنا إلى مكان آخر حيث يمكننا البقاء معا كعائلة. إن قلتَ وداعا الآن فستكون تلك النهاية، وأنت تعلم أنها كذلك".
ثم تقول أندروماشي مخاطبةً هيكتور: إن اختيارك للموت المشرّف في الحرب هو اختيار أناني. ماذا تعتقد أنه سيحدث لنا حينها؟ هل تظنّ أن الذهاب إلى الحرب والموت سيعود علينا بأيّ فائدة؟ إن قرارك يعني المخاطرة بحياة ابنك واستعبادي مدى الحياة. لقد كان مستقبلي مرتبطا بك منذ البداية. ولم يكن أمامي خيار سوى خدمتك وتحقيق التوقّعات التي وُضعت على عاتقي، أي أن أصبح زوجة خاضعة تنجب لك ابناً وتخدمك. لذا من فضلك أشفق عليّ إذن وابقَ هنا كي لا تترك ابنك يتيما وامرأتك أرملة".
لكن هيكتور الذي يدفعه شرفه وحبّه لزملائه من أبطال طروادة لمواصلة القتال يجيب: كلّ هذه الأشياء في ذهني أيضا. ومع ذلك فإنني سأشعر بالعار أمام الطرواديين لو انزويت جانبا وأحجمت عن القتال كأيّ جبان".
وهيكتور، الذي يشعر بقلق كبير من المستقبل، يشارك أندروماشي مخاوفها من أن تسقط طروادة وتُساق هي كرقيق من قبل اليونانيين المنتصرين.


الحديث بين هيكتور وأندروماشي ذو عمق عاطفي، ويسلّط الضوء على حبّهما العميق لبعضهما البعض. كما أنه يكشف عن نقاط القوّة والضعف الداخلية لكلّ منهما ويرسم صورة معقّدة لزوجين عالقين بين العاطفة الشخصية والحقائق القاسية للحرب. كما أن علاقتهما تعدّ تذكيرا مؤثّرا بالكلفة البشرية للصراع وبالقوّة الدائمة للحب.
وتصوير هوميروس لهذا المشهد بين هيكتور وأندروماشي يحمل معنى عاطفيا أكبر، نظرا للمصير المأساوي الذي انتهيا إليه في ختام تلك الحرب. فقد قُتل هيكتور بالفعل على يد أخيل. وأندروماشي تتفاعل مع موت زوجها بحزن عفوي وشديد. ثم تقود نساء طروادة في طقوس الحداد والرثاء التقليدية. غير أن مصيرها هي لم يكن أقلّ مأساوية، وذلك بعد وقت قصير من مقتل زوجها.
فقد حاولت أندروماشي إخفاء رضيعها في قبر والده هيكتور. لكن اكتشفه اليونانيون الذين كانوا يشعرون بالقلق من احتمال أن ينتقم لأبيه متى بلغ سنّ الرشد. ولتجنّب ذلك، يقرّرون قتل الرضيع بإلقائه من فوق أسوار طروادة. ثم تؤخذ أندروماشي أسيرةً إلى اليونان، حيث تُجبر على الزواج من الرجل الذي قتل ابنها وتنجب منه ثلاثة أطفال.
وهذا الجزء من القصّة يعزّز الرسالة التي تدعو الى إعطاء صوت للطرف الذي لا يُسمع غالبا في الحروب، أي النساء؛ الطرف الذي يكره الحرب أكثر من غيره ويعاني حتى بعد الانتصار بسبب فقدان الأحبّة. كما يذكّرنا المشهد منذ البداية أن الحرب لها عواقب وخيمة بتدميرها الأسرة والحياة المدنية والسعادة التي لا تزدهر الا في أجواء السلام.
هيكتور يجسّد الطبيعة المأساوية للقدَر. فهو يقاتل بشجاعة دفاعا عن مدينته، مدركا أنه مقدّر له أن يموت. وشجاعته وشعوره بالواجب يجبرانه على مواجهة موته الحتمي. وموت هيكتور يُعتبر لحظة محورية في الإلياذة تعزّز فكرة أن القدَر لا يمكن منعه، بغضّ النظر عن مدى شرف الفرد أو شجاعته.
وعلى الرغم من البطولة التي يُظهرها هيكتور، فإن الإلياذة غالبا ما تتساءل عن الغرض النهائي من الحرب. وتشير دورة العنف والانتقام التي لا تنتهي في القصيدة إلى شعور بالعبث وفقدان الاتجاه. وموت هيكتور، ثم مصير أخيل الوشيك، ينقلان رسالة مفادها أن أيّ قدر من الشجاعة لا يمكن أن يبرّر المعاناة الهائلة التي تسبّبها الحرب.
وخاتمة الملحمة، التي تصوّر جنازة هيكتور، تقدّم لحظة من التأمّل الذاتي والإنساني وسط المذبحة وتؤكّد على الطبيعة العابرة للسلام والرغبة الدائمة في المصالحة حتى في أعقاب الدمار والخسارة والموت.

Credits
study.com

الخميس، مارس 20، 2025

بريغل: حصاد القشّ


في هذه اللوحة لـ پيتر بريغل الأب من عام 1565، يقوم عمّال بجمع الحبوب في حقل كبير، بينما يباشر آخرون مهمّة حصد الخضروات والتوت. الجميع، رجالا ونساءً وأطفالا، يعملون على جلب الطعام، لأن الشتاء لم يعد بعيدا، وسيوفّر التبن احتياجات الحيوانات من العلف في أشهر البرد الطويلة القادمة. كانت الماشية تلعب دورا محوريا في الزراعة، حيث توفّر السماد لتغذية المحاصيل وكانت مصدرا للغذاء.
معظم أراضي هولندا تقع تحت مستوى سطح البحر. لذا استخدم المزارعون منذ القدم السدود وأنظمة الصرف والقنوات لإدارة منسوب المياه واستصلاح الأراضي من البحر.
وكانت الزراعة تُمارس في الغالب من قِبل عائلات الفلّاحين الذين كانوا يزرعون قطعا صغيرة من الأرض. كما كانت هناك طبقة من مُلّاك الأراضي الأثرياء الذين كانوا يؤجرون أراضيهم لمزارعين صغار.
وأدّى نموّ المدن والبلدات إلى زيادة الطلب على المنتجات الزراعية بشكل عام. وكانت المحاصيل الرئيسية تتضمّن الحبوب كالشعير والشوفان والبقوليات. كما انتشرت زراعة اللفت والملفوف وبدأ القمح يكتسب أهميّة مع ازدياد الطلب عليه.
موضوع بريغل المفضّل هو رسم مناظر الطبيعة ومظهرها المتغيّر باستمرار. ويوليو وأغسطس هما الشهران اللذان تُحصد فيهما عادةً معظم المحاصيل الصيفية. والرسّام يصوّر جمع الطعام باعتباره نشاطا بشريّا أساسيا ويوضّح لنا كيف أن كميّة الطعام التي نتناولها على موائدنا تتحدّد بمعرفة الآخرين وعملهم وكدحهم.
كما أن تنوّع الأطعمة المتاحة لنا يتحدّد وفقاً لطبيعة الأرض. ولكي يتمكّن المزارع من الحصول على لقمة العيش من الأرض، يتعيّن عليه أن يفهم الأرض التي يعيش عليها وأن يعتني بها. كما يجب عليه أن يعرف المناطق التي تكون فيها التربة أفضل لكلّ محصول وأن يوظّف هذه المعرفة عند وضع خطّة لكيفية زراعة الحقول، إذ أن لكلّ محصول متطلّبات تغذية مختلفة.
في اللوحة، يُظهر لنا بريغل حكمة المزارعين ومعرفتهم التي لا يمكن الاستغناء عنها الى هذا اليوم. فهو يصوّر الطريقة التي يرتبط بها كلّ من يزرع ويجمع طعامنا بالأرض.
في عام 1565، تلقّى بريغل البالغ من العمر وقتها 40 عاما عمولة كانت الأكبر على الإطلاق. فقد طلب منه تاجر كبير وراع للفنون في أنتويرب، رسم ستّ لوحات كبيرة كي تزيّن جدران قاعة الطعام في مقرّ إقامته الريفي.


كان الرسّام في ذلك الوقت في ذروة شهرته. وقد أكمل السلسلة كلّها، والمعروفة الآن باسم "الفصول"، خلال عام. وتضمّنت تلك السلسلة لوحته المشهورة "صيّادون في الثلج". كان حصاد القشّ الأوروبّي، الذي يتمّ في أوائل الصيف، متزامنا مع الانقلاب الصيفي وكان القشّ يُجمع لإطعام الحيوانات طوال فصل الشتاء.
في لوحة بريغل، بدءا من أسفل اليسار، نرى رجلاً يشحذ منجله الطويل وهو جالس بجوار سياج على مسار ترابي يؤدّي إلى المستوى الأدنى من الحقل. كما نرى مجموعة من ثلاث نساء من أعمار مختلفة وهنّ يرتدين قبّعات من القشّ ويمشين على طول المسار ويحملن مجارف. المرأة الصغرى في الوسط تدير رأسها وتحدّق في الناظر مباشرة بعينين لامعتين.
وهناك أيضا مجموعة أخرى من أربعة أشخاص، نراهم من الخلف وهم يسيرون بعيدا عنّا باتجاه أسفل التلّ، حاملين على رؤوسهم سلالا كبيرة مليئة بغلّات الربيع. وإلى اليمين تظهر امرأة تركب حصانا أبيض وتسحب زلّاجة بها سلّتان كبيرتان محمّلتان بالغلال. وفي أقصى اليمين تقف شجرة تؤطّر أغصانها وأوراقها المشهد، وهي تنتشر عبر جزء كبير من أعلى اللوحة.
وعند مستوى الحقل الشاحب، يشارك الناس في مجموعة متنوّعة من الأنشطة. فالنساء يجرفن العشب المقصوص باتجاه تلال صغيرة، بينما يقوم الرجال بنقله بالمذراة على عربة تجرّها الخيول. ومن بعيد، نرى قرية وادعة تقوم على جرف صخري ضخم. وعلى أرض القرية الخضراء يظهر مجموعة من الأشخاص وهم يطلقون السهام على هدف موضوع على رأس عمود. ووراءهم يمتدّ الريف بعيدا في مدى أزرق، بينما تمتدّ التلال والمدينة ونهر واسع نحو الأفق تحت سماء ضبابية مكتسية باللون الأزرق.
المعروف أن بريغل تأثّر في لوحاته بأسلافه من الرسّامين. لذلك، لم يكن تقليد اللوحات المخصّصة لفصول السنة المتغيّرة مفهوما جديدا، بل كان ولفترة طويلة سمة مشتركة لما يُسمّى بكتب الساعات، وهي نصوص دينية تتضمن أدعية وصلوات مزيّنة برسوم توضيحية صغيرة. وكانت هذه الكتب المصوّرة شائعة بين العائلات الأرستقراطية والاقطاعية.
ولا بدّ أن بريغل كان على دراية بمثل تلك الكتب ذات المضمون الديني. لكنّه أضاف العديد من الابتكارات لهذا النوع. ولم يفصل اللوحات عن سياقها الديني فحسب، بل زاد أيضا من حجمها بشكل كبير وقدّم مجموعة متنوّعة من المهام التي تُصوّر في كلّ عمل وخلَق شعورا أكبر بالواقعية وأضاف لمسة من روح الدعابة.
وما من شك في أن بريغل كان متأثّرا أيضا بأعمال الفنّان الفلمنكي يواكيم باتينير الذي كان له تأثير كبير على كيفية رسم مثل تلك اللوحات. ومن الواضح أن لوحات بريغل الأخرى من هذا النوع تشترك في نسق أفقي ونقطة نظر مرتفعة ومزيج من مقدّمة صفراء وشريط أفقي أخضر يبدو من مسافة وشريط سماء أزرق وجبال أو بحر بعيد. وكلّ هذه الخصائص شائعة في أعمال باتينير أيضا، على الرغم من أن بريغل لا يتبنّى موضوعات الأخير التوراتية.
بعض النقّاد ينظرون الى سلسلة لوحات "الفصول" على أنها ذروة عمل بريغل في حياته، وأنها تمثّل علامة فارقة في تطوّر رسم المناظر الطبيعية الأوروبيّة. وهذه اللوحات تعكس احترام الرسّام للعمل الشاقّ للفلاحين وكرامة عملهم والدور المركزي للطبيعة في حياتهم وسبل عيشهم.

Credits
pieter-bruegel-the-elder.org

الثلاثاء، مارس 18، 2025

قصّة الغراب والثعبان


تشكّل القصص أساس المجتمع البشري. فمنذ أقدم الأزمنة، كان البشر يتبادلون القصص من خلال الكلمات والأغاني والصور. والقصص تسافر وتشقّ طريقها عبر تاريخ الناس والأماكن والأزمنة وتنتقل عبر اللغات والثقافات والأديان والحدود السياسية وتصل إلى القلب والعقل والذاكرة.
وكتاب "كليلة ودمنة" يُعتبر من أكثر كتب القصص الرمزية انتشاراً وتأثيراً في العالم. وهو يقدّم مثالاً غنيّاً ورائعاً لكيفية انتقال القصص وكيف تتخذ أشكالاً ومعاني مختلفة وكيف يتمكّن الناس من فهم وخلق العالم من حولهم. وقصص الكِتاب نفسها تعلّمنا الكثير عن كيفية فهم الناس والمواقف وتكوين الصداقات والتعامل مع الصراعات واكتساب الحكمة وكيفية التعامل مع عواقب الغيرة والكبرياء والتصرّفات غير المدروسة.
ومن أجمل قصص هذا الكتاب قصّة الغراب وابن آوى والثعبان. ظاهرياً، هؤلاء الثلاثة يبدون مختلفين الى الحدّ الذي يمنعهم من التوافق. لكنهم سرعان ما يدركون قيمة كلّ منهم ويتواصلون إلى تفاهم متبادل ويتغلّبون على التهديد الذي يواجه أحدهم بالعمل معا، مجسّدين القاعدة الأخلاقية التي تقول إن الصداقات الحقيقية تتعزّز في مواجهة الشدائد.
تقول الحكاية إن غرابا كان له وكر في شجرة فوق جبل. وكان بالقرب منه جحر ثعبان. وكان الغراب إذا فرّخ، عمد الثّعبان إلى فراخه فأكلها. وبلغ ذلك من الغراب وأحزنه، فشكا ذلك إلى صديق له من أبناء آوى. وقال له: أريد مشاورتك في أمر قد عزمت عليه".
سأله ابن آوى: وما هو"؟
قال الغراب: قد عزمت أن أذهب إلى الثّعبان إذا نام فأنقر عينيه فأعطبهما لعلّي أستريح من شرّه". قال ابن آوى: بئست الحيلة التي احتلت، فالتمس أمرا تصيب به بغيتك من الثّعبان من غير أن تغرّر بنفسك وتخاطر بها. وإيّاك أن يكون مثلك مثل العلجوم "وهو طائر" الذي أراد قتل السرطان فقتل نفسه".
فسأله الغراب: وكيف كان ذلك"؟
قال ابن آوى: زعموا أن علجوما عشّش في بحيرة كثيرة السّمك، فعاش بها فترة طويلة، ثمّ كبر في السّن ولم يعد قادرا على أن يصطاد، فأصابه جوع وجهد شديد، فجلس حزينا يلتمس الحيلة في أمره. فمرّ به سرطان فرأى حالته وما هو عليه من الكآبة والحزن فدنا منه وسأله: أيّها الطّائر! ما لي أراك هكذا حزينا مغموما"؟
فقال له العلجوم: وكيف لا أحزن وقد كنت أعيش من صيدي الوفير هنا من السّمك. وقد رأيت اليوم صيّادَين مارّين بهذا المكان، فقال أحدهما لصاحبه: إن ههنا سمكا كثيرا، أفلا نصيده أوّلا"؟


فقال الآخر: إنّي قد رأيت في مكان كذا سمكا أكثر من هذا، فلنبدأ بذاك فإذا فرغنا منه جئنا إلى هذا فأفنيناه". فانطلق السّرطان من ساعته إلى جماعة السّمك فأخبرهنّ بذلك، فأقبلن إلى العلجوم فاستشرنه وقلن له: إنّا أتيناك لتشير علينا، فإن ذا العقل لا يدع مشاورة عدوّه". قال لهم العلجوم: أمّا مكابرة الصّيّادين فلا طاقة لي بها، ولا أعلم حيلة إلاّ المسير إلى غدير قريب من ههنا، فيه سمك ومياه عظيمة وقصب، فإن استطعتنّ الانتقال إليه كان فيه صلاحكن وخيركن".
فقلن له: ما يمنّ علينا بذلك غيرك".
فصار العلجوم يحمل في كلّ يوم سمكتين حتّى ينتهي بهما إلى بعض التلال فيأكلهما. حتّى إذا كان ذات يوم، جاء لأخذ السّمكتين فجاءه السّرطان وقال له: إنّي أيضا قد أشفقت من مكاني هذا واستوحشت منه، فاذهب بي الى ذلك الغدير". فحمله وطار به، حتّى إذا دنا من التّلّ الذي كان يأكل السّمك فيه، نظر السّرطان فرأى عظام السّمك مجموعة هناك، فعلم أن العلجوم هو صاحبها وأنه يريد به مثل ذلك. فقال في نفسه: إذا لقي الرّجل عدوّه في المواطن التي يعلم فيها أنّه هالك سواءً قاتلَ أم لم يقاتل، كان حقيقا أن يقاتل عن نفسه كرما وحفاظا". ثم أهوى بكلّابتيه على عنق العلجوم حتّى مات، وخلص السّرطان إلى جماعة السّمك وأخبرهن بما حدث.
قال ابن آوى: وإنّما ضربت لك هذا المثل لتعلم أنّ بعض الحيلة مهلكة للمحتال. ولكنّي أدلّك على أمر إن قدرت عليه كان فيه هلاك الثّعبان من غير أن تُهلك به نفسك وتكون فيه سلامتك".
قال الغراب: وما ذاك"؟
قال ابن آوى: تنطلق فتبصر في طيرانك لعلّك أن تظفر بشيء من حليّ النّساء فتخطفها، فلا تزال طائرا بحيث تراك العيون حتى تأتي جحر الثّعبان فترمي بالحليّ عنده، فإذا رأى النّاس ذلك أخذوا حليّهم وقتلوا الثعبان وأراحوك من شرّه".
فانطلق الغراب محلّقا في السّماء، فرأى امرأة من بنات العظماء فوق سطح منزل تغتسل وقد وضعت ثيابها وحليّها جانبا، فانقضّ واختطف من حليّها عقدا وطار به، فتبعه النّاس. ولم يزل طائرا بحيث يراه كلّ أحد حتّى انتهى إلى جحر الثّعبان فألقى العقد عليه والنّاس ينظرون إليه، فلمّا أتوه أخذوا العقد وقتلوا الثّعبان.
العبرة من هذه القصّة: لكي تتغلّب على عدوٍّ قوي، يجب انتظار اللحظة المناسبة وتنفيذ خطّة ملائمة. وقد انتظر الغراب الى أن ظفر بخطةٍ جيّدة للتخلّص من الثعبان. كان يعلم أنه لا يستطيع مهاجمته مباشرةً، لذا تحلّى بالصبر والذكاء للقضاء على عدوّه. في الحياة، قد نواجه مصاعب وأعداءً خطرين. وفي مثل هذه المواقف، علينا التحلّي بالصبر وطلب المشورة من العقلاء والتصرّف في الوقت المناسب والابتعاد عن التعجّل والانفعال والتصرّفات غير المدروسة.

Credits
bedtimeshortstories.com