:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الأربعاء، نوفمبر 01، 2017

سِرّ ستراديفاري


في إحدى الروايات الصادرة حديثا، يعثر البطل على آلة كمان أسطوريّ له قوى غامضة وخصائص نادرة تشبه خصائص آلات الكمان التي صنعها الايطاليّ انطونيو ستراديفاري في القرن الثامن عشر وأصبحت تُسمّى باسمه.
كان ستراديفاري (1644-1737) حِرَفيا عظيما صنع أكثر من ألف آلة وترية، ما بين كمان وفيولا وتشيللو وهارب وماندولين وغيتار. ويُعتقَد أن ما بقي منها إلى اليوم حوالي ستمائة آلة.
وأفضل هذه الآلات هي التي صنعها ستراديفاري في عصره الذهبيّ، أي في الفترة ما بين عامي 1700 و1725. وآلات الكمان تلك، والتي أصبحت تُسمّى اختصارا بـ "ستراد"، تُصنّف بأنها الأفضل في العالم. وغالبا فإن هذه الآلات لا يملكها سوى مؤسّسات كبيرة أو رُعاة أثرياء.
ولمئات السنين ظلّ أفضل عازفي الكمان يقولون إنهم يفضّلون دائما استخدام آلات كمان من صنع ستراديفاري. وبعض أعظم العازفين على هذه الآلة اليوم يعتبرون أنفسهم محظوظين لأنهم يستخدمون آلات من صنعه. ومن أشهر هؤلاء آن صوفي موتر ويو- يو ما وجوشوا بيل وسيلفاتوري اكاردو.
الكمان الواحد من صنع ستراديفاري يمكن أن يكلّف ملايين الدولارات. ومؤخّرا بيعت آلة فيولا من صنعه في المزاد بخمسة وأربعين مليون دولار أمريكي.
قبل ستراديفاري، كان الكمان يُعزف فقط في الحفلات الصغيرة وفي موسيقى الغرفة. لكنه طوّر الآلة، فأصبح صوتها ضخما وأنغامها نقيّة وصار ممكنا استخدامها في الأماكن الكبيرة. وإلى ستراديفاري أيضا يعود الفضل في ابتكار شكل الآلة الجميل كما نعرفها اليوم.
ورغم أن ستراديفاري عاش في عصر ازدهرت فيه صناعة الكمان وظهر خلاله صنّاع ايطاليون مشهورون آخرون مثل أماتي وغارنيري وبيرغونزي، إلا أن أيّا منهم لا ينافس ستراديفاري في شهرته وحرفيّته.
وحتى اليوم، ما يزال العلماء والباحثون يُخضعون آلات الكمان التي صنعها لفحوصات الأشعّة والتحاليل الكيميائية وأجهزة المحاكاة الاليكترونية في محاولة لاكتشاف بعض أسرارها التي ما تزال غامضة. نوعية الأنغام الفريدة والأصوات المحكمة التي تُعزى فقط إلى آلات هذا المعلّم ما تزال مثارا للكثير من التكهّنات.
وبعض الخبراء والعازفين يصفون الأنغام التي تُصدِرها هذه الآلات بأنها ثريّة وذات نوع جهوريّ، كما أن ذبذباتها عالية لدرجة أن أنغامها يمكن أن تَنفذ إلى الأذن من مسافة بعيدة.
وقد حاول العديد من صنّاع الكمان تقليد حرفية ستراديفاري، فاستنسخوا نفس نوعية الخشب التي كان يستخدمها ووظّفوا هندسته وأسلوب بنائه للآلات. لكن لا احد استطاع خلق نفس نوعية الأنغام الفريدة ولا الصوت المثاليّ والمحكم الذي يُعزى فقط للآلات التي صنعها المعلّم قبل أكثر من ثلاثمائة عام.
والسؤال المثار: ترى ما هو سرّ ستراديفاري؟ وبعبارة أخرى: ما الذي يجعل آلة كمان من صنعه مذهلة وذات صوت خاصّ؟ هل هو الورنيش؟ الغراء؟ التصميم؟ الخشب نفسه؟ أو الطريقة التي كان يُقطع بها الخشب ويُجفّف؟
تقول بعض الدراسات إن سرّ نوعية الصوت المتميّز قد يكون في نوعية الخشب المستخدم في هذه الآلات أو في عمر الخشب نفسه المقدّر بقرون.


وإحدى النظريات الرائجة تتحدّث عن علاقة ما بالمناخ. فقد شهدت مناطق أوربّا في الفترة ما بين عامي 1550 و 1850 ما سُمّي بالعصر الجليديّ الصغير الذي جلب معه شتاءات باردة جدّا ونشاطا شمسيّا منخفضا بشكل غير معهود.
وكانت تلك الفترة تغطّي الامتداد الزمنيّ الذي عاش فيه صانعو الآلات الوترية العظماء في ايطاليا. ونوعية الخشب الذي كان يستخدمه ستراديفاري وزملاؤه في صناعة آلاتهم الموسيقية كان أكثر صلابة، لأن نموّه كان بطيئا بسبب أجواء البرد القارس آنذاك.
وطبقا لتجربة أجريت على آلتي كمان من صنع ستراديفاري، ظهرت أدلّة على أن خشبها خضع لمعالجة كيميائية من نوع ما، ووُجدت عليه آثار ألمنيوم ونحاس وكالسيوم. وقد يكون الصوت المتفرّد لهذه الآلات مردّه مزج هذه الموادّ بالخشب.
وربّما عمد عمّال الغابات في ايطاليا إلى غمر أخشابهم المقطوعة في المعادن والأملاح لتصليبها ومنع تسرّب الفطريات والعثّة إليها قبل بيعها. ومعروف أن بعض المعادن تمتصّ الرطوية من الخشب، أي أن الآلات الوترية القديمة تحتوي على نسبة ماء اقلّ ممّا تحتويه الآلات المصنوعة هذه الأيّام.
أيضا عند تحليل الخشب الذي صُنعت منه تلك الآلات، وُجِد أن جزيئات النسيج فيه متباعدة عن بعضها، وأن قرونا من الاهتزازات نتيجة العزف قد تكون عاملا إضافيا مَنَح هذه الآلات مستوى أعلى من التعبير. وما يرجّح هذه الفرضية أن عددا من عازفي الكمان الكبار يشعرون بأن آلات ستراديفاري تهتزّ بحرّية أكثر، ما يسمح لهم بالتعبير عن مجموعة اكبر من الأحاسيس والمشاعر أثناء العزف.
إذن ثمّة احتمال بأن ستراديفاري وزملاءه استخدموا خشب أشجار أصبحت اليوم منقرضة من العالم. وهؤلاء عاشوا في مناخ بارد جدّا، والأشجار من حولهم كانت تنمو بشكل مختلف وخشبها كان أشدّ صلابة، مع خصائص صوتية أفضل. وهي ظروف لم تتكرّر في العالم منذ ذلك الوقت.
وقد يكون ستراديفاري وزملاؤه استخدموا أخشاب الكنائس القديمة أو أضافوا إلى خشب الغابات موادّ غامضة أو وظّفوا طرقا وأساليب مبتكرة نُسيت مع مرور الزمن.
وقبل خمس سنوات، أعلن خبير سويسريّ في علم الموادّ انه طوّر علاجا يحمي الخشب من الفطريات ويزيد صلابته، بما يجعله أكثر شبها بخشب العصر الجليديّ الصغير في أوربّا.
وقد أجرى هذا العالم تجربة عزف خلالها أحد الموسيقيين على آلة كمان صنعها ستراديفاري عام 1711. ثم عزف نفس الموسيقيّ على آلة كمان أخرى حديثة مصنوعة من الخشب الجديد المعالَج. وكانت النتيجة أن جميع الحاضرين، وبينهم خبراء موسيقى وعازفون كبار، لم يلاحظوا أيّ فرق وظنّوا أن الكمان الأخير هو من صنع ستراديفاري.
غير أن صنّاع الكمان اليوم لا تروق لهم مثل هذه النظريات والتجارب. فهم يحصرون نوعية الكمان وجودة صوته إلى عامل واحد فقط، هو عبقرية الصانع ستراديفاري نفسه.
البعض يشبّه آلات الكمان التي صنعها ستراديفاري باللوحات الايطالية القديمة، فهذه الآلات هي أيضا أعمال فنّية وتحف تاريخية نادرة يجب المحافظة عليها.
لكن المؤسف أن هذه الآلات الموجودة حتى اليوم لن تدوم إلى الأبد. فخشبها في حالة تآكل مستمرّ، ما سيُفقدها نوعيّتها الصوتية الفريدة خلال المائة عام القادمة على أكثر تقدير.

Credits
cmuse.org