:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الجمعة، سبتمبر 08، 2017

الفلسفة والسياسة في لعبة العروش


السمة المميّزة لمسلسل أغنية الثلج والنار أو "لعبة العروش"، عدا عن رغبة مؤلّفه في قتل الشخصيّات المهمّة، هي نظرته المختلطة إلى العالم. إذ لا يوجد خير بالكامل ولا يوجد شرّ بالمطلق.
والمسلسل يثير أسئلة فلسفية وسياسية وأخلاقية مثل: هل الشرف والفضيلة ضروريّان لتحقيق السعادة، أم أنهما أحيانا معوّقان؟ وهل البشر أحرار في أن يختاروا حياتهم، أم أنهم مجرّد أوراق تعصف بها رياح القدر؟ ولماذا تحدث أشياء سيّئة للناس الطيّبين؟ ولماذا الأشخاص الرديئون ينتصرون أحيانا في الحياة الواقعية؟ وهل يوفّر الحكم الوراثيّ ضمانا للحرّية أفضل مما يوفّره البارونات والأمراء المتصارعون؟
منذ بداية موسمه الأوّل، اجتذب مسلسل "لعبة العروش" أرقاما قياسية من المشاهدين ونال حتى الآن عددا كبيرا من الجوائز. وبعض منتقديه يأخذون عليه إغراقه بمشاهد العنف والعري. وهناك من قال إن مضمون المسلسل لا يعدو كونه تجسيدا لعبارة فيلسوف القرن السابع عشر الانجليزيّ جون هوبز الذي قال: إن الإنسان يعيش منذ الولادة حياة منعزلة وفقيرة وقذرة ومتوحّشة وقصيرة".
لكن هناك من امتدح المسلسل قائلا إن إحداثه وشخصياته والأفكار التي يثيرها، كالحرب والشرف والمعرفة والأخلاق والجندر، يمكن أن نجد لها صدى في كتابات وأفكار مشاهير الفلاسفة مثل ميكيافيللي وديكارت وأفلاطون وأوغستين وأرسطو وغيرهم.

❉ ❉ ❉

العالَم المتخيَّل الذي صاغه الروائيّ جورج مارتن في "لعبة العروش" مليء بالشخصيّات المركّبة التي تجد نفسها في حالة صراع مع ذواتها ومع الآخرين، وتواجه معضلات أخلاقية، وتتعامل مع حالات متطرّفة من الخداع وعدم اليقين والاضطرابات السياسية والاجتماعية.
وقد اختار الكاتب أن تجري أحداث روايته ذات الأجزاء الثمانية في قارّتين متخيّلتين، هما ويستيروس وإيسوس. وخطُّ السّرد يتمحور حول عرش الممالك السبع ويتتبّع شبكة التحالفات والصراعات بين مجموعة من السلالات التي تتنافس على امتلاك العرش أو تقاتل من اجل الاستقلال عنه.
وهناك من يقول إن أحداث المسلسل تذكّر بصراعات ملوك أوربّا في القرون الوسطى، حيث مؤامرات القصور والنظام الإقطاعيّ والقلاع والحصون ومغامرات الفرسان.. إلى آخره.
ومن بين المصادر الأخرى التي استلهمها الكاتب في الرواية الصراع الذي نشب في القرن الخامس عشر بين عائلتي لانكستر ويورك الانجليزيّتين، وملحمة الفايكنغ، وبعض قصص أباطرة المغول، وحرب المائة عام، وأسطورة اتلانتيس المفقودة وعصر النهضة الايطاليّ.
وجزء من الشعبية الكاسحة التي يتمتّع بها المسلسل تُعزى إلى نجاح المؤلّف في مزج كلّ هذه العناصر معا وتحويلها إلى تاريخ بديل ويمكن تصديقه.
ويبدو أن مارتن كتب روايته لأن جي توكين في رواية "سيّد الخواتم" ركّز على موضوع الصراع بين الخير والشرّ وأهمل مشكلات الحكم. ومارتن في "لعبة العروش" يركّز على الجانب الأخير. وهو يرى بأن الحكم المرغوب فيه هو وسط بين نهايتين متطرّفتين.
فمن ناحية، هناك فلسفة الحكم كما تراها عائلة ستارك. فـ إيدارد "نِد" ستارك وابنه الأكبر روب، كلاهما زعيمان مثيران للإعجاب بطريقة ما. وهما يتصرّفان بشرف ويلتزمان بالقواعد الأخلاقية. ورغم هذا فإنهما لا ينجوان من الكوارث. إذ يُقتل نِد في النهاية بسبب جهله السياسي وافتقاره للحزم، ولأنه لم يدرك أن الشرف والكرامة لا معنى لهما في غياب التبصّر والحكمة، ما يؤدّي في النهاية إلى دماره هو وعائلته وحاشيته.
وروب أيضا إنسان وقائد شريف. لكنه يقضي على نفسه وعلى والدته وأتباعه بسبب سذاجته عندما يأمر جيشه بالتخلّي عن مواقعه لكي يحضر جنازة. ثم يأمر بتنفيذ حكم الإعدام في احد أهمّ قوّاده لأنه ارتكب خطأ في ميدان المعركة. ثم لا يلبث أن يمنح ثقته لقائد آخر فتكون نهايته على يديه. والنتيجة هي أن القادة الشرفاء وغير الاستراتيجيين هم صفقة خاسرة وسيّئة في عالم مارتن الفانتازيّ.


من الشخصيات الأخرى المثيرة والمؤثّرة في هذا المسلسل أفراد عائلة لانيستر الثلاثة، جيفري وتيوين وسيرسي، وكلّهم يتّسمون بالضَّعة والنذالة. وجيفري يّقتل في النهاية على يد سيّدة قويّة بسبب سوء أخلاقه. وتيوين يُقتل أيضا، ولكن على يد ابنته التي تنتقم منه بسبب سلوكه المهين لوالده.
كانت قبضة تيوين لانيستر على الحكم حديدية وقاسية وتقوم على تحقيق المكاسب وتعزيز السّلطة. ولهذا السبب فإن ميكيافيللي هو أوّل اسم يأتي إلى الذهن عند الحديث عن تيوين وحكمه. ولأنه يؤمن بأن الغاية تبرّر الوسيلة، فقد دخل بوّابة قصر الملك المجنون اريس تارغاريان متظاهرا بولائه له. لكنه في النهاية يستولي على مدينته ويقوم بنهبها بلا رحمة ثمّ يذبح أحفاده.
كان تيوين شخصا متوحّشا ومخطّطا داهية بالفطرة. وليس أدلّ على هذا من قوله وهو يخطّط لقتل روب ستارك في الزفاف الأحمر: بعض المعارك تُكسب بالسيوف والرماح، والبعض الآخر بالتآمر والدهاء". كان تيوين يرى أن ما فعله في الزفاف يحقن دماءً أكثر بكثير من تلك التي يمكن أن تُسفك فيما لو حسم الصراع في ميدان المعركة.
وعلى العكس منه، تقف دانيريز "داني" تارغاريان فوق أرضية أخلاقية عالية. فهي تحرّر العبيد وتكسر الأغلال، كما أنها امرأة تقيّة وخيّرة.
جان جاك روسّو بدأ كتابه "العقد الاجتماعيّ" بقوله: يولد البشر أحرارا لكنّهم يُستعبدون أينما ذهبوا". كان روسّو يتحدّث عن مجتمعه الذي جرّد الناس من حرّيّتهم وإنسانيّتهم. وكان يعتقد أن المِلكية الشخصيّة هي أساس ومنبع كلّ الشرور.
في رحلة دانيريز تارغاريان في إيسوس، تكتشف أن الأثرياء أناس أشرار وأنانيون، وهو ما لا يتّفق مع نظرتها المثالية إلى العالم. ومع أنها كانت تتبنّى قضية عادلة بمطالبتها باستعادة عرش عائلتها، إلا أنها تكتشف أن ذلك غير ممكن من دون اللجوء إلى القوّة.
وفي النهاية تقوم بذبح "السادة العظام" في "ميرين"، مع أنها لم تكن بحاجة إلى فعل ذلك. لكنها الغاية عندما تبرّر الوسيلة. كما أن إحساسها بالواجب والعدالة يتناقض مع شهوتها الجامحة للسلطة والتي تدفعها لإحراق أعدائها بنيران التنّين وهم أحياء.

❉ ❉ ❉

المؤلّف جورج مارتن لا ينظر إلى القرون الوسطى برومانسية كما فعل توكين، وهذا شيء يُحمد عليه. لكن ليس من الواضح ما إذا كان سبب ذلك انه يحبّ العالم الحديث أكثر. والمرجّح انه يرى العالم كلّه كظلال متعدّدة من الرماديّ، لذا لا يستطيع أن يصف أيّ جزء من هذا العالم برومانسية واضحة.
وهو يرى أيضا أن بعض الرجال لا يمكن أن يمارسوا السلطة لأنهم يفتقرون إلى النظرة الميكيافيلية في علم السياسة. كما انه يعتقد بأن المرء لا يحتاج لأن يكون طيّبا أو سيّئا لكي يحكم بفاعلية. وما يحتاجه فقط هو أن يفهم كيف يعمل العالم.
ويبدو أن مارتن يدعو إلى نمط وسيط من القيادة. وهو ذلك الذي يجسّده تيريان لانيستر، فهو مفكّر استراتيجيّ ولديه القدرة على توقّع تصرّفات الآخرين وقراءة سلوكيّاتهم مسبقا. لكنه أيضا رجل طيّب من الأساس ويضع مصالح الآخرين في اعتباره.
وهناك شخص آخر في المسلسل ينتمي إلى هذه الفئة هو فاريز، الذي برغم كونه استرتيجيّا بارعا إلا انه يُبدي اهتماما كبيرا بالسلام والعدالة. وربّما هذا هو المطلوب في عالم اليوم: قادة يسعون لتحقيق الأهداف النبيلة والترويج لها بطريقة فعّالة حتى لو اضطرّوا أحيانا للتضحية بقيم اقلّ لضمان تحقيق قيم اكبر. العالَم من منظور مارتن لا يحتاج لقادة استراتيجيين ومُقنِعين ولكنهم في الوقت نفسه أشرار وعدوانيون، ولا يحتاج لقادة شعورهم بالشرف مبالغ فيه وفي نفس الوقت فاشلون في فهم العالم.


أحيانا وأنت تشاهد "لعبة العروش" تنسى انك أمام قصّة صراع سياسيّ لكثرة العناصر الأسطورية في المسلسل، مع أنها جزء لا يتجزّأ من قصّة ويستيروس والعالم.
وأهمّ المخلوقات في المسلسل هو التنّين. والمؤلّف يفترض انه قبل نشوب حرب الملوك الخمسة بآلاف السنين، لم تكن مخلوقات التنّين مخيفة، فقد استطاع أهالي فاليريا استئناسها وتسخيرها كأدوات في الحرب مكّنتهم من الاستيلاء على كلّ العالم المعروف آنذاك.
لكن فجأة وقع حادث سُمّي وقتها بـ "هلاك فاليريا" وغيّر كلّ شيء. فقبل حرب الملوك بحوالي أربعمائة عام، تسبّب ثوَرَان بركان هائل في غمر امبراطورية الفاليريين وأباد كلّ العائلات النبيلة فيها ما عدا عائلة تارغاريان وثلاثة حيوانات تنّين كانوا يملكونها. وهذه الحيوانات الناجية سمحت مرّة أخرى للإمبراطورية بأن تسيطر على الآخرين عندما وحّد آغون الأوّل الممالك السبع في ويستيروس قبل أن تموت تلك الحيوانات وتنقرض.
لكن هذه الحال تغيّرت مرة أخرى عندما أهديت لدانيريز تارغاريان ثلاث بيضات متجمّدة لتنّين، ومن ثم فقست بما يشبه المعجزة. وقد قامت الملكة الشابّة برعاية التنّينات الصغيرة إلى أن كبرت. ثم استخدمتها كأسلحة فتّاكة في الحرب وفتحت بها مدنا بأكملها ودمّرت جيوشا وأساطيل كثيرة.

❉ ❉ ❉

لا يمكن الحديث عن "لعبة العروش" دون أن نطرح هذا السؤال: إلى أين تتّجه البوصلة الأخلاقية في هذا المسلسل/الرواية؟
بعض النقّاد وجدوا فيه جنسانية مبتذلة وذكورية مغالية وترويجا لنظرية تفوّق العرق الأبيض. بل إن هناك من رأى فيه صدى لأفكار دونالد ترمب واليمين المتطرّف، وحتى محاولة لإضفاء هالة من الجمال على النزعة الاستعمارية كما تجسّدها شخصيّة دانيريز تارغاريان.
لكن المدافعين عن المسلسل يرون أن كاتبه نجح في ما اخفق فيه "سيّد الخواتم" و"هاري بوتر". ففي عالم توكين ورولينغ، يوجد بشر محض أخيار في مقابل بشر أشرار بالمطلق. والمرء يعرف مسبقا من سينتصر في النهاية.
لكن في "لعبة العروش" فإن كلّ تصرّف أو حدث محمّل بالمضامين الأخلاقية النسبية. والمؤلّف لا يرى أن القضيّة تكمن في انعدام وجود رجال نبلاء أو أخيار أو أبرياء في روايته، بل في وجود حكّام قابلين لأن يكونوا طغاة وفاسدين.
وكلّ شخصية في "لعبة العروش" تحتوي على الخير والشرّ معا. ولهذا السبب تتحوّل شخصيات المسلسل على طول أجزائه من أوغاد إلى أبطال وبالعكس. والمؤلّف واثق من أن المشاهد سيلاحظ هذه التحوّلات بوضوح.
وأحد دروس "لعبة العروش" هو انه على الرغم من أن من الحماقة أن تكون إنسانا طيّبا مثل نِد ستارك، إلا أن الحكّام الطيّبين يمكن أحيانا أن يصطنعوا لأنفسهم أعداءً اقلّ ويصوغوا تحالفات أقوى، وبذا يتجنّبون المصير المشئوم الذي آل إليه البطل.
لقد قُتل نِد ستارك لأنه أسَرّ إلى الملكة بخططه رغبةً منه في مساعدتها في إنقاذ أطفالها. لكن الطريقة الوحيدة لإنقاذهم كانت أن تستولي هي على العرش، وهذا ما فعلته. كان ستارك إنسانا شريفا، لكن كان مقتله بسبب طيبته وسذاجته السياسية وافتقاره للحدّ الأدنى من الميكيافيلية السياسية.
وأخيرا، من الأشياء اللافتة في روايتَي/مسلسلَي "سيّد الخواتم" و"هاري بوتر" أن الخلاص فيهما إما حتميّ أو مستحيل أو غير مرغوب فيه. أما في كون جورج مارتن الخياليّ، فإن الخلاص، ببساطة، هو غاية لا يتمّ بلوغها إلا من خلال المكابدة والتضحية.

Credits
winteriscoming.net
georgerrmartin.com

الأحد، سبتمبر 03، 2017

كهف أفلاطون


من طبيعة الكهوف أنها أماكن مظلمة وباردة، وأحيانا خطرة. وإذا وَجد إنسان نفسه محشورا داخل كهف يفتقر إلى مصدر للضوء، فإنه غالبا لا يستطيع أن يجد طريقا للخروج، وقد يتعرّض لخطر الموت إن لم يجد من يأخذ بيده وينقذه.
الفيلسوف اليونانيّ أفلاطون (427-347 قبل الميلاد) يورد في كتابه "الجمهورية" قصّة أراد من خلالها أن يوضح الفرق بين الحقيقة والوهم. والقصّة تتحدّث عن ثلاثة رجال عاشوا حياتهم كلّها، ومنذ أن ولدوا، داخل احد الكهوف.
كانوا مقيّدين إلى صخرة ولا يستطيعون رؤية شيء عدا الظلال المنعكسة على جدار الكهف من نار مشتعلة خلفه.
وكانوا مع ذلك يفاخرون بقوّة إبصارهم وبقدرتهم على تفسير الأشياء. لكنهم طوال الوقت كانوا ينظرون إلى الظلال التي لم تكن أكثر من نوع من الخداع البصريّ.
تخيّل انك احد هؤلاء الرجال الثلاثة. أنت مشدود الوثاق بحيث لا تستطيع أن تنظر خلفك أو إلى جوارك، فقط تنظر إلى الجدار الذي أمامك. وكلّ ما تستطيع أن تراه هو ظلال الأشياء التي يحملها الناس المارّون فوق باب الكهف المرتفع منعكسةً على الجدار. وإذا لم تكن قد رأيت أبدا الأشياء على حقيقتها فإنك ستظنّ أن ظلالها حقيقة.
تمضي القصّة فتقول إن احد الرجال الثلاثة، وبطريقة ما، تمكّن من الإفلات من قيده، ثم شقّ طريقه إلى خارج الكهف، وهناك اكتشف عالما جديدا بالمرّة.
السجين الهارب يُصدم من العالم الذي اكتشفه خارج الكهف. ولبعض الوقت، يعتقد بأن ما رآه غير حقيقيّ، لكنه عندما يعتاد عليه يدرك أن نظرته السابقة إلى الواقع كانت خاطئة. ثم يبدأ في فهم عالمه الجديد ويعرف بأن الشمس هي مصدر الحياة. ثم يباشر رحلة فكرية يدرك في نهايتها أن حياته الماضية كانت بلا جدوى أو غاية.
وعندما يعود إلى الكهف ليخبر زميليه عن العالم العجيب الذي رآه لأوّل مرّة خارج الكهف يرفضان كلامه بغضب. وعندما يحاول أن يحرّرهما من قيودهما يهدّدانه بالقتل.
كان أفلاطون يريد من خلال هذه القصّة المعبّرة أن يشير إلى حياة معلّمه سقراط الذي حكمت عليه أثينا بالموت سنة 399 قبل الميلاد لاعتراضه على أفكار اليونان القديمة. الرجل الذي خرج من الكهف ورأى الشمس لأوّل مرّة يرمز لسقراط. بينما الرجلان الآخران يرمزان لمجتمع أثينا في ذلك الوقت.
وعلى مستوى اشمل، فإن الكهف في القصّة يمثّل الأشخاص الذين يعتقدون أن المعرفة تأتي مما يرونه ويسمعونه في العالم، في حين أن ما يرونه أو يسمعونه قد لا يكون أكثر من ظلّ الحقيقة.
والسجين الهارب يمكن أن يمثّل الفيلسوف أو المفكّر الباحث عن المعرفة خارج الكهف أو خارج الحواسّ. بينما الشمس تمثّل الحقيقة والمعرفة الفلسفية. أما رحلة الرجل خارج الكهف فتمثّل رحلة الفيلسوف عندما يقرّر البحث عن الحكمة والحقيقة. وردّة فعل السجينين على زميلهما العائد تشير إلى أن الناس يخافون من معرفة الحقيقة ولا يثقون بالفلاسفة والمفكّرين.
هناك أيضا دروس إضافية يمكن استخلاصها من القصّة. فأفلاطون أراد الحديث عن قصور نظرتنا إلى العالم وحاجتنا لأن نتخيّل أكثر مما نراه. إذ أننا في الكثير من الأحيان ننظر فقط إلى ظلال الأشياء التي يتشكّل منها العالم. ورفيقا الرجل لم يصدّقاه لأنهما لم يكونا يتخيّلان عالما آخر وراء الظلال التي تخيّم على وجودهما. وهنا يمكن أن تكون القصّة استعارة قويّة عن أهميّة التفريق بين الجهل والاستنارة.
ويمكن أن تكون القصّة وصفا جيّدا للتلفزيون والإعلام. إذ نحتاج أيضا لأن نعرف سادة الظِّلال الذين يحرّكون الأشياء بخلق ظلال خادعة تُوهم المتلقّي بأن ما يراه أو يقرؤه هو حقيقة. لكن إذا ما شاهدنا أو قرأنا بحذر وفكّرنا بطريقة نقدية، فإن فهمنا للإعلام وأفكارنا عن العالم من حولنا ستزداد اتساعا، ومن ثم ستعتمد معرفتنا على الجوهر وليس على الظلّ أو ما نراه على السطح.
أيضا من الرسائل القويّة التي توصلها هذه القصّة أن من السهل على الإنسان تبنّي ايديولوجيا دينية أو سياسية معيّنة، خاصّة عندما لا يتحدّث إلا إلى الأشخاص الذين يتّفقون معه أو يوافقونه في أفكاره. لكن هذا يحرمه من الاستفادة ممّا لدى الآخرين من أفكار مختلفة ومغايرة.
لاحظ أن السجين الهارب ووجه بالرفض القاطع، بل والتهديد بقتله من قبل زميليه. وهذا يثبت أن الحوار المفتوح غير مُجدٍ، بل وغير وارد، عندما تكون العقول مغلقة. ويستتبع هذا ضرورة أن نحافظ على حياتنا وسلامتنا في ما نقوله أو نفعله، خاصّة إن كان لا يوافق السّلطة الأبويّة ونظرة العوامّ أو أفكار القطيع.
من الدروس الأخرى أيضا أن البشر يميلون بطبعهم إلى مقاومة التغيير ويرتاحون أكثر للأفكار الجاهزة والأعراف الراسخة. وأحيانا هم غير قادرين على معرفة الحقيقة، لأن العلاقات والأواصر القويّة تكبّلهم وتمنعهم من أن يديروا رؤوسهم ويلتفتوا حولهم.
وهناك درس آخر تُعلّمنا إيّاه القصّة وهو أن الناس، لكي يتعلّموا، ينبغي أوّلا أن يتحرّروا من أغلالهم وسجونهم الخاصّة، كالجهل وضيق الأفق والتحامل والمكابرة والعناد والتباهي الأجوف.
والدرس الأخير هو أن البحث عن الحقيقة يمكن أن يستمرّ حتى في البيئات المعادية أو غير المواتية. حتى في الكهوف المظلمة أو التي لا يتوفّر فيها سوى ضوء بسيط، يمكن أن يستمرّ التفكير رغم أن الناس هناك قد يتبنّون أفكارا دوغمائية أو مطلقة.
أمثولة كهف أفلاطون فتنت أجيالا من الفلاسفة والعلماء والروحانيين على مرّ العصور وحرّضتهم على تجاوز ما هو ظاهريّ وسطحيّ إلى البحث عن الجوهريّ والحقيقيّ. وواقع الحال هو أن كلّ واحد منّا يقضي وقتا طويلا داخل كهفه الخاصّ، لذا فإننا نحتاج من وقت لآخر لأن ننظر خارج الكهف وباتجاه الضوء.
لاحظ أيضا كيف أن أفلاطون يشير إلى أن الرجال الثلاثة مسجونون في الكهف منذ طفولتهم، وكأنه يوحي بأن الظرف الإنسانيّ نفسه هو عبارة عن ظلام دائم منذ الولادة، لأن المجتمع عادةً يقمع الفردانية ويصرّ على صهر الأفراد في قالب واحد ونسخ متطابقة.
صحيح أن بعض الناس يصعب عليهم العيش مع حالات الجدل والنقاش والمحاورة، غير أن أسلوب المحاججة وإثارة الأسئلة يظلّ أفضل بكثير من العيش داخل كهف مظلم إلى ما لا نهاية.

Credits
eduref.org