:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الأحد، سبتمبر 03، 2017

كهف أفلاطون


من طبيعة الكهوف أنها أماكن مظلمة وباردة، وأحيانا خطرة. وإذا وَجد إنسان نفسه محشورا داخل كهف يفتقر إلى مصدر للضوء، فإنه غالبا لا يستطيع أن يجد طريقا للخروج، وقد يتعرّض لخطر الموت إن لم يجد من يأخذ بيده وينقذه.
الفيلسوف اليونانيّ أفلاطون (427-347 قبل الميلاد) يورد في كتابه "الجمهورية" قصّة أراد من خلالها أن يوضح الفرق بين الحقيقة والوهم. والقصّة تتحدّث عن ثلاثة رجال عاشوا حياتهم كلّها، ومنذ أن ولدوا، داخل احد الكهوف.
كانوا مقيّدين إلى صخرة ولا يستطيعون رؤية شيء عدا الظلال المنعكسة على جدار الكهف من نار مشتعلة خلفه.
وكانوا مع ذلك يفاخرون بقوّة إبصارهم وبقدرتهم على تفسير الأشياء. لكنهم طوال الوقت كانوا ينظرون إلى الظلال التي لم تكن أكثر من نوع من الخداع البصريّ.
تخيّل انك احد هؤلاء الرجال الثلاثة. أنت مشدود الوثاق بحيث لا تستطيع أن تنظر خلفك أو إلى جوارك، فقط تنظر إلى الجدار الذي أمامك. وكلّ ما تستطيع أن تراه هو ظلال الأشياء التي يحملها الناس المارّون فوق باب الكهف المرتفع منعكسةً على الجدار. وإذا لم تكن قد رأيت أبدا الأشياء على حقيقتها فإنك ستظنّ أن ظلالها حقيقة.
تمضي القصّة فتقول إن احد الرجال الثلاثة، وبطريقة ما، تمكّن من الإفلات من قيده، ثم شقّ طريقه إلى خارج الكهف، وهناك اكتشف عالما جديدا بالمرّة.
السجين الهارب يُصدم من العالم الذي اكتشفه خارج الكهف. ولبعض الوقت، يعتقد بأن ما رآه غير حقيقيّ، لكنه عندما يعتاد عليه يدرك أن نظرته السابقة إلى الواقع كانت خاطئة. ثم يبدأ في فهم عالمه الجديد ويعرف بأن الشمس هي مصدر الحياة. ثم يباشر رحلة فكرية يدرك في نهايتها أن حياته الماضية كانت بلا جدوى أو غاية.
وعندما يعود إلى الكهف ليخبر زميليه عن العالم العجيب الذي رآه لأوّل مرّة خارج الكهف يرفضان كلامه بغضب. وعندما يحاول أن يحرّرهما من قيودهما يهدّدانه بالقتل.
كان أفلاطون يريد من خلال هذه القصّة المعبّرة أن يشير إلى حياة معلّمه سقراط الذي حكمت عليه أثينا بالموت سنة 399 قبل الميلاد لاعتراضه على أفكار اليونان القديمة. الرجل الذي خرج من الكهف ورأى الشمس لأوّل مرّة يرمز لسقراط. بينما الرجلان الآخران يرمزان لمجتمع أثينا في ذلك الوقت.
وعلى مستوى اشمل، فإن الكهف في القصّة يمثّل الأشخاص الذين يعتقدون أن المعرفة تأتي مما يرونه ويسمعونه في العالم، في حين أن ما يرونه أو يسمعونه قد لا يكون أكثر من ظلّ الحقيقة.
والسجين الهارب يمكن أن يمثّل الفيلسوف أو المفكّر الباحث عن المعرفة خارج الكهف أو خارج الحواسّ. بينما الشمس تمثّل الحقيقة والمعرفة الفلسفية. أما رحلة الرجل خارج الكهف فتمثّل رحلة الفيلسوف عندما يقرّر البحث عن الحكمة والحقيقة. وردّة فعل السجينين على زميلهما العائد تشير إلى أن الناس يخافون من معرفة الحقيقة ولا يثقون بالفلاسفة والمفكّرين.
هناك أيضا دروس إضافية يمكن استخلاصها من القصّة. فأفلاطون أراد الحديث عن قصور نظرتنا إلى العالم وحاجتنا لأن نتخيّل أكثر مما نراه. إذ أننا في الكثير من الأحيان ننظر فقط إلى ظلال الأشياء التي يتشكّل منها العالم. ورفيقا الرجل لم يصدّقاه لأنهما لم يكونا يتخيّلان عالما آخر وراء الظلال التي تخيّم على وجودهما. وهنا يمكن أن تكون القصّة استعارة قويّة عن أهميّة التفريق بين الجهل والاستنارة.
ويمكن أن تكون القصّة وصفا جيّدا للتلفزيون والإعلام. إذ نحتاج أيضا لأن نعرف سادة الظِّلال الذين يحرّكون الأشياء بخلق ظلال خادعة تُوهم المتلقّي بأن ما يراه أو يقرؤه هو حقيقة. لكن إذا ما شاهدنا أو قرأنا بحذر وفكّرنا بطريقة نقدية، فإن فهمنا للإعلام وأفكارنا عن العالم من حولنا ستزداد اتساعا، ومن ثم ستعتمد معرفتنا على الجوهر وليس على الظلّ أو ما نراه على السطح.
أيضا من الرسائل القويّة التي توصلها هذه القصّة أن من السهل على الإنسان تبنّي ايديولوجيا دينية أو سياسية معيّنة، خاصّة عندما لا يتحدّث إلا إلى الأشخاص الذين يتّفقون معه أو يوافقونه في أفكاره. لكن هذا يحرمه من الاستفادة ممّا لدى الآخرين من أفكار مختلفة ومغايرة.
لاحظ أن السجين الهارب ووجه بالرفض القاطع، بل والتهديد بقتله من قبل زميليه. وهذا يثبت أن الحوار المفتوح غير مُجدٍ، بل وغير وارد، عندما تكون العقول مغلقة. ويستتبع هذا ضرورة أن نحافظ على حياتنا وسلامتنا في ما نقوله أو نفعله، خاصّة إن كان لا يوافق السّلطة الأبويّة ونظرة العوامّ أو أفكار القطيع.
من الدروس الأخرى أيضا أن البشر يميلون بطبعهم إلى مقاومة التغيير ويرتاحون أكثر للأفكار الجاهزة والأعراف الراسخة. وأحيانا هم غير قادرين على معرفة الحقيقة، لأن العلاقات والأواصر القويّة تكبّلهم وتمنعهم من أن يديروا رؤوسهم ويلتفتوا حولهم.
وهناك درس آخر تُعلّمنا إيّاه القصّة وهو أن الناس، لكي يتعلّموا، ينبغي أوّلا أن يتحرّروا من أغلالهم وسجونهم الخاصّة، كالجهل وضيق الأفق والتحامل والمكابرة والعناد والتباهي الأجوف.
والدرس الأخير هو أن البحث عن الحقيقة يمكن أن يستمرّ حتى في البيئات المعادية أو غير المواتية. حتى في الكهوف المظلمة أو التي لا يتوفّر فيها سوى ضوء بسيط، يمكن أن يستمرّ التفكير رغم أن الناس هناك قد يتبنّون أفكارا دوغمائية أو مطلقة.
أمثولة كهف أفلاطون فتنت أجيالا من الفلاسفة والعلماء والروحانيين على مرّ العصور وحرّضتهم على تجاوز ما هو ظاهريّ وسطحيّ إلى البحث عن الجوهريّ والحقيقيّ. وواقع الحال هو أن كلّ واحد منّا يقضي وقتا طويلا داخل كهفه الخاصّ، لذا فإننا نحتاج من وقت لآخر لأن ننظر خارج الكهف وباتجاه الضوء.
لاحظ أيضا كيف أن أفلاطون يشير إلى أن الرجال الثلاثة مسجونون في الكهف منذ طفولتهم، وكأنه يوحي بأن الظرف الإنسانيّ نفسه هو عبارة عن ظلام دائم منذ الولادة، لأن المجتمع عادةً يقمع الفردانية ويصرّ على صهر الأفراد في قالب واحد ونسخ متطابقة.
صحيح أن بعض الناس يصعب عليهم العيش مع حالات الجدل والنقاش والمحاورة، غير أن أسلوب المحاججة وإثارة الأسئلة يظلّ أفضل بكثير من العيش داخل كهف مظلم إلى ما لا نهاية.

Credits
eduref.org