:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الثلاثاء، نوفمبر 22، 2011

بيتهوفن: الحبّ الخالد


بعد وفاة لودفيك فان بيتهوفن في منزله بـ فيينا القديمة عام 1827، تفحّص أصدقاؤه أشياءه ومقتنياته فوجدوا ثلاث رسائل مخبّأة بداخل احد أدراج مكتبه. كانت كلّ رسالة تتصدّرها عبارة كُتبت باللغة الألمانية تقول: إلى حبّي الخالد".
من هنا بدأ اللغز الذي لم يفلح احد في حلّه أبدا: من كانت تلك المرأة الغامضة التي كان بيتهوفن يعتبرها حبيبته وملهمته الخالدة؟
في أماكن أخرى من أوروبّا، كانت الأمور هادئة نسبيا. فقد توقّفت معركة نافارينو، وتوفّي جورج الثالث وبايرون ونابليون، فيما يدخل غوته الآن عامه الثامن والسبعين.
لم يكن هناك شكّ في أن تلك الرسائل كانت حقيقية وليست تدريبات لأوبرا أو سيمفونية ناقصة. لكنْ كان هناك سؤال حول ما إذا كانت تلك الرسائل قد أرسلت فعلا إلى وجهتها. ولماذا انتهى بها المطاف في مكتب بيتهوفن مرّة أخرى؟ بعض الكتّاب يشيرون إلى تقليد كان متّبعا في القرن التاسع عشر، إذ كانت رسائل الحبّ تعاد أحيانا إلى مرسليها عندما تنتهي العلاقة.
رسائل بيتهوفن الغامضة قد لا تندرج ضمن الكتابات الرومانسية العظيمة، وهو ما حاول خبراء بيتهوفن الترويج له دائما. لكنّها تشير إلى أنه كان كاتبا جيّدا وعلى وعي عال بأساليب التعبير عن المشاعر العاطفية دون الوقوع في صيغ لغوية مبتذلة. كما أن الرسائل ولّدت جدلا شغَل العشرات من الكتّاب والمؤلّفين على مرّ السنين. وقد تحوّلت تلك الرسائل في ما بعد إلى فيلم سينمائي بعنوان الحبيبة الخالدة (1994) قام بدور بيتهوفن فيه الممثل غاري أولدمان.
ترى من كانت تلك المرأة التي كان بيتهوفن يخاطبها بـ "حبيبته الخالدة"؟ البعض ذهب إلى أن الرسائل كانت محصّلة عملية غزل سريعة لم تنته إلى شيء. بينما أشار آخرون إلى أن بيتهوفن لا بدّ وانه رأى تلك المرأة مرارا في مرحلة ما من حياته. واستخدام بيتهوفن لوصف "الخالدة" يوحي بأن العلاقة التي ربطته بتلك المرأة كانت طويلة وممتدّة.
غير أن فريقا ثالثا رأى أن تلك الرسائل تتحدّث عن امرأة مثالية، أي ملهمة، وأن المرأة لم تكن أبدا إنسانا من لحم ودم.
في حوالي العام 1800، أتمّ بيتهوفن تأليف سيمفونيّته الأولى، ومن ثمّ أصبح موسيقيا مشهورا. كان وقتها في الثلاثين من عمره.
وفي ذلك الوقت، دخلت العديد من النساء الشابّات والجذّابات حياته عندما كنّ يتعلّمن عنده العزف على البيانو. من بين هؤلاء، هناك ثلاث نساء كلّ منهنّ تصلح لأن تكون مرشّحة للقب الحبيبة الخالدة: الكونتيسة جولييتا جوشياردي، وتيريز وجوزيفين برونزفيك ابنتي الكونت برونزفيك.
أنطون شيندلر، كاتب سيرة بيتهوفن، أشار إلى أن الحبيبة الخالدة كانت شابّة تُدعى الكونتيسة جولييتا جوشياردي التي اقتحمت حياة بيتهوفن فجأة عام 1800م. كانت آنذاك في السادسة عشرة وهو في الثلاثين من عمره.
كانت جولييتا شابّة جميلة ومفعمة بالحياة عندما وصلت مؤخّرا من ايطاليا مع عائلتها. ولأنها كانت معجبة كثيرا بعبقريّته الموسيقية، لم تهتمّ جولييتا بنظرات بيتهوفن القويّة ولا بهندامه غير المرتّب.
يمكن للمرء أن يتكهّن بأن بيتهوفن لم يكن معلّما جيّدا. كان رأسه دائما مليئا بألحانه الخاصّة. وهو لم يكن يبدي إعجابا كبيرا بعزف تلميذاته الأكثر ثراءً.
لكن كيف تعامل مع جاذبية الفتاة الشابّة التي تجلس أمامه؟ وبماذا كان يفكّر؟ وهل من المفترض أن تتناقض الموسيقى مع الأفكار الإيروتيكية؟
لم يكن بيتهوفن يتمتّع بالمال ولا بالمنصب أو الجاه. ثم انه كان شخصا غريب الأطوار. لذا يمكن للمرء أن يفترض أن عائلة الفتاة ما كانت لتوافق على أيّ عرض منه بالزواج من ابنتهم.
شيندلر يذكر أن جولييتا لم تكن أكثر من فتاة لعوب ومغامرة مثل العديد من النساء في مثل سنّها. كانت تتمتّع بقوام جميل وملامح دقيقة، بالإضافة إلى مهارتها الفائقة في الغزل. ولم يكن هناك شكّ أبدا في أنها كانت ستجد لنفسها الزوج المناسب. ولهذا السبب، يُرجّح أنها لم تكن تريد بيتهوفن حقّاً. وهو نفسه كان يدرك ذلك جيّدا.
علاقة بيتهوفن بـ جولييتا تروق للرومانسيين. موسيقاه الجميلة سوناتا ضوء القمر التي أهداها لها تجسّد تماما طبيعة العلاقة التي كانت تربط بينهما. بإمكانك وأنت تستمع إلى هذه الموسيقى أن تتخيّل انعكاس ضوء القمر فوق مياه بحيرة متموّجة.
في شهر نوفمبر من عام 1801، كتب بيتهوفن إلى صديقه المقرّب ويغلر رسالة يقول فيها: لا يمكنك أن تتصوّر كم كانت حياتي مقفرة وحزينة خلال السنتين الأخيرتين. لقد بدأ سمعي يضعف بطريقة أصبحت تؤرقّني. صرت اهرب من الناس. وأشعر أنني ضئيل جدّا وكما لو أنني عدوّ للبشر. لكن تغييرا مهمّا طرأ على حياتي الآن بفعل عذراء فاتنة تحبّني وأحبّها. أخيرا، وجدت بعض لحظات السعادة. ولأوّل مرّة اشعر أن الزواج يمكن أن يجعلني إنسانا سعيدا. لكن لسوء الحظ، لا يبدو أننا متماثلان في الكثير من الأمور". العبارة الأخيرة رأى فيها بعض الكتّاب إشارة شبه مؤكّدة إلى جولييتا.


في الملاحظات التي كتبها بيتهوفن في ما بعد، تحدّث عن الصدام الذي كان يشعر به بين طموحاته الموسيقية وحبّه للنساء. فالموسيقى يجب أن تأتي دائما في المقام الأوّل. "بالنسبة لي، ليست هناك متعة أكبر من أن أمارس فنّي وأعرضه على الناس". ورغم أن النساء كنّ مصدر إلهام وثراء لموسيقاه، إلا أنهن أيضا كنّ عامل تعطيل وإلهاء.
تجربة بيتهوفن مع بدايات الصمم كانت نقطة تحوّل كبرى في حياته. في إحدى ملاحظاته يسجّل جوانب من معاناته وكيف انه كان يجد التسامي والراحة في الموسيقى. ويبدو أن هذا يتفق مع نظرته إلى الحرّية: الحرّية من الاضطهاد الطبقي، والحرّية من مظاهر الطغيان الموسيقيّ القديم، والتحرّر من الافتتان بالنساء.
تزوّجت جولييتا جوشياردي من الكونت غالينبيرغ في نوفمبر من عام 1803م. وبعد الزواج، تركا فيينا متّجهين إلى ايطاليا. كان الكونت موسيقيّا أيضا، ولكن ليس من مستوى بيتهوفن بالتأكيد. ويبدو أن الزواج لم يكن سعيدا جدّا. كان بيتهوفن وقتها منهمكا في تأليف إحدى أعظم سيمفونياته: البطولة أو السيمفونية الثالثة. ربّما يتعيّن علينا أن نشكر جولييتا بقدر ما أننا ممتنّون لـ نابليون بونابرت على هذه السيمفونية. كان بيتهوفن قد أطلق على هذه السيمفونية اسم "بونابرت" اعتقادا منه أن نابليون سيجلب الديمقراطية والاستنارة إلى كافّة أنحاء أوربا. لكنه في ما بعد غيّر الاسم إلى "البطولة" بعد أن علم بخبر تنصيب بونابرت نفسه إمبراطورا.
بعد سنوات، أي في عام 1822، قابل بيتهوفن جولييتا مرّة أخرى عندما عادت إلى فيينا. في إحدى رسائله، يتذكّر ذلك اللقاء بقوله: إنها تحبّني أكثر من زوجها. لكن يبدو انه يحبّها أكثر من حبّي لها".
بعض الكتّاب يعتقدون أن حبّ بيتهوفن الخالد لم يكن سوى امرأة تُدعى تيريز برونزفيك. لكنّ حظوظ برونزفيك في أن تكون الحبيبة الخالدة انخفضت بعد اكتشاف رسائلها الخاصّة ونشرها في عام 1946م. في إحدى تلك الرسائل تشير بوضوح إلى أنها لم تحبّ بيتهوفن أبدا على الرغم من أنهما تبادلا الرسائل لسنوات. كانت تيريز تصفه بالإنسان الطيّب. وهو أمر صحيح على الأرجح. غير أن هذه ليست كلمات امرأة عاشقة.
ولو أردنا أن نختار لها إحدى مقطوعات بيتهوفن، لما كان هناك أفضل من القطعة المسمّاة إلى إليز. وقد وُجدت النوتة الموسيقية لهذه القطعة بحوزة تيريز فعلا بعد سنوات من تأليفها.
ومع ذلك، يمكن بناء قضيّة أفضل مع شقيقتها الكونتيسة جوزيفين فون برونزفيك. نحن هنا لا نتحدّث عن غزل سريع وعابر كما في حالة جولييتا، بل عن التزام عميق ودائم بين روحَي شخصين وحيدين.
وأفضل دليل على ذلك هو شهادة شقيقتها تيريز التي كتبت في مفكّرتها عام 1860 أن رسائل الحبيبة الخالدة أرسلت إلى جوزيفين التي كان بيتهوفن يحبّها بعمق". والحقيقة أن عددا ممّن سجّلوا سيرة حياة بيتهوفن يرجّحون هذا الاحتمال.
قابل بيتهوفن جوزيفين عام 1800م. لكن أمّها زوّجتها في تلك السنة إلى الكونت الخمسيني فون ديم. ولم يكن زواجهما سعيدا. فالزوج كان يكره الموسيقى. ولا بدّ وأن جوزيفين الشابّة كانت تجد بعض العزاء والإلهام في دروسها مع بيتهوفن. ولحسن الحظّ بالنسبة لها، فقد مات الكونت بعد ذلك بأربع سنوات. وهناك كتّاب كثر يعتقدون أن بيتهوفن وجوزيفين احتفظا بعلاقة وثيقة لسنوات بعد ذلك.
في صيف عام 1806، كان بيتهوفن يقضي إجازته في ضيعة ريفية بالقرب من بودابست عاصمة المجر. وهناك عمّق علاقته مع جوزيفين. لكن لا يوجد دليل على أيّ شيء أكثر من الحبّ الذي كانت تنطق به رسائلهما. كانت تلك البقعة تضمّ بحيرة واسعة تحيطها غابات ساحرة وآثار من العالم القديم. كان إيقاع الحياة في ذلك المكان هادئا ومريحا، بعيدا عن صخب فيينا وضوضائها.
ولو أردنا أن نختار قطعة موسيقية تمسك بجوهر جوزيفين، فلن نجد أفضل من سيمفونية الرعاة. ولا يهمّ إن كان بيتهوفن قد أهداها لها أو لشخص آخر. كان بيتهوفن معتادا على المشي لمسافات طويلة في غابات فيينا المشهورة. وكان القرويون يميّزونه بشعره المبعثر وملابسه الرثّة. وقد ولدت سيمفونية الرعاة أثناء مشاويره اليومية في الغابات.
لم تستمرّ علاقة بيتهوفن وجوزيفين فون برونزفيك طويلا. وقد توقّفا عن تبادل الرسائل بانتظام بعد عام 1805م. ترى، هل انتهت تلك العلاقة لأن بيتهوفن لم يكن ينوي الزواج فعلا، أم بسبب ضغوط عائلة جوزيفين، أم لأن المرأة كانت تريد أبا حقيقيا لأطفالها الأربعة؟
أيّا كان السبب، فإن ممّا لا شكّ فيه أن الفترة من 1807 إلى 1809 كانت من اسعد فترات حياة بيتهوفن. أما جوزيفين فقد تزوّجت ثانية عام 1810م. ومرّة أخرى، لم يكن ذلك الزواج سعيدا. فقد واجه زوجها مشاكل مالية أسهمت في توتير علاقتهما. وأخيرا ترك الزوج البيت نهائيا في يونيو من عام 1812م. وطبقا للعديد من الكتّاب، فإن رسائل الحبيبة الخالدة كُتبت في تلك الفترة بالذات. وهذا يساعد في تفسير سبب اهتمام بيتهوفن بـ جوزيفين واهتمامها هي به في ذلك الوقت.
كانت شقيقتها غير المتزّوجة تيريز تقوم على رعاية أطفالها أثناء وجودها في فيينا. وفي عام 1813 أنجبت جوزيفين طفلا. ومن الواضح أنها كانت تنام مع رجل. والبعض يقول انه ربّما كان بيتهوفن. غير أن بعض المؤرّخين يستبعدون هذا الاحتمال. ومهما تكن الحقيقة، فإن ممّا لا شكّ فيه أن هذه العلاقة الوثيقة والطويلة بين الاثنين تجعل من جوزيفين مرشّحة ممتازة للقب الحبيبة الخالدة.


الذين كتبوا سيرة حياة بيتهوفن ربّما أفرطوا في الحرص على الدفاع عن شرف بطلهم. لكن الحقيقة أن هناك مرشّحات أخريات يمكن أن ينطبق عليهنّ وصف الحبيبة الخالدة. من هؤلاء الكونتيسة آن ماري ايردودي، وتيريز مالفاتي، وأماليا سيبالد، ودوروثيا فون ايرتمان. والقائمة لا تقف هنا. فهناك أيضا بيتينا برينتانو التي قدّمته إلى غوته، بالإضافة إلى ماغدالينا ويلمان وهي مغنّية شابّة من بون.
الكونتيسة ايردودي كانت تملك ضيعة قرب كلوستنبيرغ. وقد بدأ بيتهوفن في التقرّب إليها بعد أن خاب أمله في جولييتا جوشياردي. كانت في السابعة والعشرين من عمرها وقد مضى على انفصالها عن زوجها حوالي ستّ سنوات. بيتهوفن وقتها كان في السابعة والثلاثين. أي انه يمكن القول أنهما كانا قرينين مناسبين.
كان من عادة الكونتيسة أن تستضيف حفلات موسيقية في منزلها. وقد كلّفت بيتهوفن بالترفيه عن ضيوفها. ألا يُحتمل أن تكون اسعد سنوات حياته هي التي قضاها برفقة هذه الكونتيسة؟ الكتّاب من النساء اللاتي تحدّثن عن بيتهوفن يتبنّون هذه النظرية. وقد امتدّت علاقته بالمرأة لعدّة سنوات. لكنّها تُعتبر أكثر نساء بيتهوفن غموضا، إذ لا يُعرف عن حياتها سوى النزر اليسير. وقد أهداها بيتهوفن ثلاثيته المعروفة بـ الشبح. وهي قطعة تناسبها كثيرا لأنها تتحدّث عن أشباح ماكبث. الكونتيسة ايردودي انتهت حياتها بطريقة مأساوية. فقد قُتلت في ذروة عمليات القمع التي قام بها ميترنيك ضدّ الألمان من ذوي الأصول الهنغارية.
في عام 1812، التقى بيتهوفن تيريز مالفاتي ابنة أحد أطبّائه. كانت وقتها في الثامنة عشرة من عمرها. وهناك احتمال أنه تقدّم لخطبتها. لكنّ عائلتها رفضته. ونعرف انه كتب لها على الأقل رسالة رقيقة واحدة. في تلك الرسالة يطلب بيتهوفن من مالفاتي أن تغفر له "سلوكه الوحشي" معها، دون أن يوضّح ما يقصده. ثم يقول: تأكّدي أن لا احد يتمنّى لك حياة سعيدة وحرّة أكثر منّي، أنا خادمك وصديقك المخلص بيتهوفن". من الواضح أنهما لم يكونا منسجمين. وحديثه عن السلوك الوحشي يوحي بأنه حاول استمالتها بطريقة فجّة، فصدّته. وقد غادرت مالفاتي البلاد بعد فترة وجيزة وتزوّجت عام 1816م.
أماليا سيبالد كانت مغنّية موهوبة من برلين. وقد قابلها بيتهوفن في منتجع يقع اليوم في جمهورية التشيك. كان في الثانية والأربعين، وكانت سيبالد في الرابعة والعشرين من عمرها. وقد كتب إليها سبع رسائل يعتذر فيها منها لكونه مريضا. العلاقة بينهما كانت تبدو سطحية وبلا اتجاه. كما أنها تصفه في إحدى رسائلها بـ "الطاغية"، وهي إشارة ليست جيّدة على كلّ حال.
يبدو مرجّحا أن الحبيبة الخالدة كانت متزوّجة. هل يمكن أن تكون هي المرأة التي يشير إليها بيتهوفن في هذه الرسالة التي كتبها إلى صديقه وتلميذه فرديناند رايس في مارس من عام 1816؟ يقول: كلّ التمنيّات الطيّبة لزوجتك. للأسف ليس لديّ زوجة. لم أجد سوى امرأة واحدة، ولن امتلكها أبدا. لكن ذلك لم يجعل منّي رجلا كارها للنساء".
لودفيك فان بيتهوفن سيصبح في ما بعد مادة مفضّلة لـ سيغموند فرويد. وبعض من أتوا بعد فرويد، أي أصحاب مدرسة التحليل النفسي، رسموا للموسيقيّ صورة رجل عجوز وفظّ كان يطارد النساء الشابّات بأسلوب عقيم وقديم وكان يعرف انه محكوم بالفشل.
في سنواته الأخيرة، جاهر بيتهوفن بمعارضته لدولة ميترنيك البوليسية. لكن الشرطة السرّية تركته وشأنه لأنه اعتُبر دائما شخصا مشهورا وغريب الأطوار جدّا لدرجة انه لا يمكن اعتباره تهديدا جدّياً للدولة.
ما أغفلته الكتب التي تناولت سيرة حياة بيتهوفن هو انه كان صاحب ضحكة صافية وعفوية. كان يستمتع بالحياة عندما يريد. وهذا الإحساس بالبهجة تعبّر عنه أفضل قطعه الموسيقية.
اهتمام الناس والكتّاب بقصّة الحبيبة الخالدة ربّما يعود في جزء منه إلى الفضول والتوق لمعرفة طبيعة العلاقة الخفيّة بين مشاهير الرجال والنساء، خاصّة على صعيد الحبّ والعواطف. ويمكن القول أيضا أن افتتان المؤرّخين وكتّاب السير بـ بيتهوفن ونسائه لا يختلف كثيرا عن انجذاب الناس لما تنشره الصحف الشعبية هذه الأيّام من أسرار وفضائح تتناول الحياة الخاصّة لكبار النجوم والمشاهير.
عاش بيتهوفن حياته كلّها بلا زواج. وقبل وفاته بسبع سنوات، فقد السمع نهائيا. كان تأثير تلك المأساة عليه هائلا ومدمّرا. كتب آنذاك يقول: سأقاوم القدر بكلّ ما استطيع. لن اسمح له أن يهزمني بسهولة. آه لو كان بوسع الإنسان أن يعيش أكثر من حياة".
وقد توفّي في فيينا في السادس والعشرين من مارس عام 1827م أثناء عاصفة رعدية. كان عمره وقتها يناهز الخامسة والسبعين.

Credits
lvbeethoven.com
all-about-beethoven.com

الأحد، نوفمبر 20، 2011

لوتريك وأفريل: الرسّام وملهمته


اقترن اسم جان افريل بالرسّام الفرنسي هنري دي تولوز لوتريك. كان الاثنان قد التقيا في أوائل عام 1890م، عندما بدأت افريل تقديم رقصاتها المبتكرة في المولان روج. وقد رسمها في العديد من لوحاته وأفرد لها جانبا مهمّا من مجموعة أعماله التي يصوّر فيها حلبات الرقص وقاعات الموسيقى وحياة النوادي الليلية. كانت افريل صديقة لوتريك المقرّبة وملهمته الخاصّة. ولوحاته التي رسمها لها لا علاقة لها بالأجواء المبهجة والصاخبة التي تطبع أعماله عموما.
رقصات افريل الغريبة ولوحات لوتريك التي تظهر فيها بتعابير جامدة وملامح حزينة كانت جزءا من التوتّرات الثقافية التي شهدتها باريس في نهايات القرن قبل الماضي.
ترى، ما الذي رآه لوتريك في وجه جان افريل؟ ولماذا فضّل أن يرسم شخصيّتها الخاصّة بعيدا عن حياة الرقص والليل؟

في مايو من عام 1894، كان شابّ فوضوي يُدعى اميل هنري يغادر غرفته الصغيرة في حيّ مونمارتر باتجاه شوارع الموضة القريبة من سان لازار في باريس. دخل الشابّ الغاضب والعاطل عن العمل مقهى تيرمينوس الأنيق بينما كان يخبّئ تحت معطفه قنبلة.
وفي الداخل، قام بإشعال الفتيل وألقى بالقنبلة وسط المقهى. وقد انفجرت وسط جموع الناس المنهمكين بالشراب والأحاديث، ما أسفر عن مقتل شخص وإصابة ما يقرب من عشرين شخصا آخرين بجروح.
كانت باريس في ذلك الوقت قد شهدت عددا من التفجيرات على أيدي عناصر فوضوية. لكن هذا الهجوم كان غير مسبوق، لأنه استهدف مدنيين وليس رجال شرطة أو مسئولين حكوميين. وقد تمّ القبض على هنري وحوكم بسرعة ثم اُعدم بالمقصلة. وطبقا للمؤرّخة ماري ماكوليف، لم يعتذر هنري عن جريمته. وعندما وبّخه القاضي على إيذائه أناسا أبرياء ردّ قائلا: لا يوجد برجوازيون أبرياء".
في ذلك الربيع، كان هناك انفجار آخر في فرنسا على هيئة راقصة تُدعى جان افريل. كانت تلك المرأة النحيلة قد بدأت للتوّ أداء رقصاتها النشطة والفريدة في المولان روج. كانت افريل ذات شعر احمر داكن. وهيئتها تشبه إلى حدّ ما صُور نيكول كيدمان في فيلم المولان روج الذي أنتج قبل حوالي عشر سنوات.
انجذاب تولوز لوتريك إلى أماكن الترفيه الناشئة التي تعرض ضروبا من التسلية المنحلّة، مثل الكباريهات وقاعات الرقص، يعود في جانب منه إلى مكانته الهامشية في المجتمع الباريسي. كان هذا الفنّان قد ولد لأسرة أرستقراطية. لكن مرضا أصابه في طفولته فشوّهه وجعله يبدو صغير الهيئة وضئيل الجسم.
كان لوتريك يواجَه في الكثير من الأحيان بالرفض في تلك الأماكن التي كان مفترضا أن ترحّب به نظرا لمكانة عائلته. وقد دفعه إحساسه بالنبذ لأن يحوّل اهتمامه إلى عالم باريس السفلي الذي جعله موضوعا لفنّه الفريد. وكان النقّاد غالبا يلمّحون إلى تشوّهاته الجسدية للنيل من عمله والانتقاص من موهبته.
فنّ تولوز لوتريك يشير إلى رجل عانى الكثير خلال حياته. وقد وجد أخيرا طريقة ينتقم بها من المجتمع الذي ظلمه وهمّشه. قال عنه احد النقّاد آنذاك: إن المرء لا بدّ وأن يفاجأ بمناظر القبح التي يمجّدها لوتريك في لوحاته التي يستعير شخصياتها من قاعات الرقص والأحياء الفقيرة في الشوارع الخلفية".
لوحات لوتريك تتميّز بأسطحها المستوية وضربات الفرشاة السريعة فيها والتي تشبه لوحات معاصرَيه فان غوخ وسيزان. كانت صالونات الفنّ الرسمية في باريس ترفض أعماله باستمرار. وكان الكثيرون يعتبرونها علامة على انحلال باريس في ذلك الوقت.
المحافظون المدافعون عن التقاليد كانوا يتعاملون مع كلّ شيء جديد بالاعتراض والرفض. وكانوا يحاذرون ممّا يعتبرونه فوضى ثقافية. وبدا أن هؤلاء كانوا يستهدفون، على وجه الخصوص، الفنّ الحديث وانحطاط حفلات الرقص في مونمارتر. وفي هذا المناخ، ظهرت قضيّة دريفوس لتزيد هيجان المشاعر الوطنية والمعادية لليهود.


كان لوتريك يركّز في لوحاته على تصوير مشاهد الترفيه والتسلية بأسلوب لا يخلو من التخلّع والمجون. وحدها جان افريل صوّرها لوتريك بشكل مختلف. فملامحها وتقاطيع وجهها تعكس حالات من الاستلاب والحزن. وهي بالتأكيد لا توحي بأيّ شعور بالفرح أو الابتهاج.
في إحدى أشهر لوحاته بعنوان جان افريل تغادر المولان روج، يرسم لوتريك افريل المتعبة والمنبوذة. تعابير وجهها تحمل حزنا لا يُصدّق. وأنت تتمعّن في هذه الصورة لا بدّ وأن تحسّ بضجر هذه المرأة الشابّة التي ترقص لإمتاع الآخرين، بينما تساورها رغبة خفيّة لأن تهرب من هذا الوجود الذي يطلب منها ما لا تستطيع تحمّله.
كانت جان افريل امرأة تتصف بالذكاء الممزوج بشيء من العصبية. وعندما رسم لها لوتريك هذا البورتريه لم يكن عمرها يتجاوز الرابعة والعشرين. ومع ذلك صورّها بشفتين مشدودتين ووجه منقبض، كما لو أنها امرأة في الخمسين.
حياة افريل المبكّرة تختلف كثيرا عن التنشئة الارستقراطية لـ تولوز لوتريك. فقد تعرّضت منذ الصغر لسوء معاملة أمّها، ما دفعها لمغادرة البيت وهي في سنّ الثالثة عشرة. كانت تعاني من مرض تصلّب العضلات. وقد أدخلت مستشفى متخصّصا في علاج الهستيريا واضطرابات الجهاز العصبي عند النساء.
إحدى وسائل العلاج في ذلك المستشفى كانت إلباس المرضى ثيابا خاصّة وجعلهم يؤدّون أنواعا من الفنون أمام جمهور من أفراد الطبقة المتوسطة. وبعد سنتين من العلاج، غادرت افريل المستشفى بعد أن تراجعت آثار الاضطراب العصبي وأصبحت تؤدّي رقصاتها في المولان روج الذي كان قد افتتح حديثا في ذلك الحين.
نجاح افريل على المسرح كان مبنيّا في جزء منه على جاذبية اختلالاتها وصِفاتها الغريبة. وقد ألهمت طريقتها في الرقص عددا من الكتّاب الذين كانوا يرون فيها جزءا من ثقافة أوسع. الفضول لمعرفة أشياء خارج نطاق المظهر الطبيعي كان ظاهرة سيطرت على المشهد الفنّي والثقافي في باريس مطلع القرن الماضي. كان الناس مفتونين وقتها بالجماليات غير التقليدية وبكلّ ما هو بدائي ومجنون.
لوتريك لم يعامل فنّانة بمثل التكريم والاحترام اللذين كانا يخصّ بهما جان افريل. كان حريصا على أن يُبرز في لوحاته وجهها الطويل والجميل وملابسها المحكمة والأنيقة.
وهو لم يكن يرسمها كنجمة لامعة، وإنما كامرأة حزينة ووحيدة ويائسة. والسخرية الكاريكاتيرية التي تطبع لوحاته عادة يستبدلها بتعاطفه وإعجابه بموهبة هذه المرأة محاولا إظهار عزيمتها وشجاعتها المعنوية.
المكانة الهامشية كانت عاملا مشتركا بين كلّ من افريل وتولوز لوتريك.
ويبدو أن الاثنين تشرّبا القواعد البرجوازية وتمثّلاها جيّدا. وقد أنتج كل منهما قيما جمالية جديدة غطّت على تقاليد وحساسيات تلك الفترة.
وبينما توفّي تولوز لوتريك بسبب إدمان الكحول في عام 1901 وقبل بلوغه السابعة والثلاثين، غادرت جان افريل المسرح نهائيا بعد موته بوقت قصير وتزوّجت وعاشت حياة هادئة نسبيا إلى حين وفاتها في العام 1943م. "مترجم".