:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


السبت، فبراير 03، 2018

عن الرياح والماء


إختر لباب بيتك لونا ازرق لأن الأزرق لون مهدّئ ومحفّز للطاقة. إدفع الأريكة في غرفة الجلوس قليلا إلى اليسار. حرّك النافورة الصغيرة في الحديقة قليلا جهة اليمين. اختر لصالة البيت مزيجا من الأخضر والأزرق الخفيفين لأن هذين اللونين يشيعان الدفء والطاقة.
هذا هو باختصار مفهوم علم الفينغ شوي الصينيّ. لكن هو علم حقّا؟
البعض يأخذون الفينغ شوي بجدّية، والبعض الآخر يعتبرونه ضربا من الخرافة، وقليلون هم من يعرفون تأثيره على الثقافات في الشرق والغرب.
وهذه الأيّام نسمع كثيرا عن الفينغ شوي باعتباره احد عناصر ما يُسمّى بحركة العصر الجديد. والناس خارج الصين يريدون أن يرووا عطشهم للتصوّف الشرقيّ والصينيّ، لذا يودّون معرفة المزيد عن الطبّ الصينيّ مثلا وعن الفينغ شوي.
في زمن ماو تسي تونغ، حاولت الصين الحدّ من استخدام الفينغ شوي وقصرت استخدامه داخل الصين. ثم لم يلبث ماو أن أطلق في منتصف ستّينات القرن الماضي حملة لتطهير الصين من تقاليدها القديمة وماضيها الرأسماليّ كي تتوافق مع نسخته الخاصّة من الشيوعية.
وكان نظام ماو يصوّر المثقّفين الصينيّين والنخبة الثريّة كأوغاد ويحمّلهم المسئولية عن كافّة علل وأمراض البلاد. في ذلك الوقت، هاجمت مجموعة من الطلاب المتحمّسين الذين يُسمَّون بالجيش الأحمر البورجوازيين وقتلوا كثيرين منهم ثم عاثوا الخراب في المواقع الثقافية القديمة في البلاد.
وقد دمّر هؤلاء العديد من المكتبات والمتاحف والمعابد. ولم تسلم من تخريبهم مقابر فلاسفة الصين العظام، بل وأحرقوا وطمسوا حتى قبور الأباطرة القدماء وأفراد عائلاتهم.
وكان ماو قد حدّد أربعة أشياء ينبغي تدميرها: التقاليد والثقافة والعادات والأفكار القديمة. وقد دمّر الجيش الأحمر ما استطاع تدميره منها، وكانت تلك جريمة خطيرة ارتُكبت بحقّ تاريخ الصين.
وكان من بين إجراءات ماو التطهيرية حظر ممارسة الفينغ شوي وغيره من التقاليد القديمة. واستمرّ حظره إلى أن انتهت الثورة الثقافية بموت ماو عام 1976.
كان ممارسو الفينغ شوي يعتقدون أن عناصر الطبيعة تؤثّر على تدفّق الطاقة إمّا سلبا أو إيجابا. والفينغ شوي يعني حرفيا "الرياح والماء". وهذان هما العنصران الأساسيان في الطبيعة. ويندرج تحتهما التربة والخضرة والصخور والطقس وضوء الشمس. وهناك تأثيران آخران لا يقلان أهميّة، هما الفلك واتجاه البوصلة.
قبل أكثر من ستّة آلاف عام، كان معلّمو الفينغ شوي القدامى يحدّدون الشمال والجنوب بالشمس والنجوم. ثم طوّروا نوعا من الاسطرلاب استُخدم خصيصا من اجل الفينغ شوي، وأوّل بوصلة مغناطيسية كانت تحمل علاماته.
وبعد قرون، أصبحت مبادئ الفينغ شوي ذات أهميّة مركزية في المعمار وتخطيط المدن وترتيب الأثاث. فالأشياء التي تواجه الجنوب، مثلا، تجلب ضوء شمس أكثر وتوفّر منظرا أفضل من الأعلى. وأنت تنام بشكل أفضل في الأماكن الأكثر ظلمة وهدوءا. والألوان الخفيفة توفّر الراحة والاسترخاء أكثر من الألوان القاتمة. لكن كلّ هذه الأشياء بديهية ويعرفها معظم الناس.
ولكي نحلّل مدى صلاحية وصحّة الفينغ شوي، يجب أن نتساءل: هل الطاقة شيء ملموس؟ لا احد يملك إجابة مؤكّدة على هذا السؤال، وليس هناك من المعطيات ما يدفعنا لأن نعرف. فليس للطاقة تعريف وليس لها خصائص مادّية محدّدة، لأنه لا يمكن اختبارها أو قياسها أو كشفها.
ومعلّمو الفينغ شوي يزعمون بأنه شكل من أشكال الفلك. لكن حتى ما يقال عن ارتباط الفلك بمصير وحياة الإنسان فشلت كلّ الاختبارات العلمية في إثباته.
هل الفينغ شوي مفيد؟ هذا السؤال لا يمكن الإجابة عنه. فبما أن الطاقة مصطلح غائم ويستحيل تعريفه، فإنه من المستحيل أيضا البتّ في ما إذا كان الفينغ شوي نافعا أم لا.
إن من الصعب إخضاع الفينغ شوي للتجارب العلمية لإثبات صلاحيته من عدمها. لكنّ المؤكّد أن الناس مختلفون في تفضيلاتهم وأذواقهم عندما يتعلّق الأمر بتخطيط منازلهم أو اختيار نوعية أثاثها. لذا من السهل نفي الطاقة الغامضة التي تُعزى إلى الفينغ شوي.
ويمكن القول إن أهمّ عنصر في الفينغ شوي هو رحلته التاريخية والاجتماعية. الصينيّون، مثل غيرهم من الشعوب، كانوا قبل بزوغ نور العلم يبذلون كلّ ما بوسعهم لكي يفهموا العالم. لذا كانوا يوجّهون قبور موتاهم ناحية الشمال، وكانوا يعتقدون أن هذا نوع من التطوّر العلميّ.
لكن ما من شكّ في أن قصّة الفينغ شوي تثري قصّة التجربة الإنسانية كما أنها تضيف إلى معرفتنا عن تاريخ العلم. ولو لم يكن الفينغ شوي مهمّا، لما كان الناس يُضرَبون ويُسجنون ويُقتلون بسببه أو من اجله.
يقال أن جدّ ماو تسي تونغ كان مدفونا في قبر خاصّ يُسمّى بـ "عرين التنّين" وتتوفّر فيه عناصر قويّة من الفينغ شوي، لدرجة انه لا يوجد سوى اثني عشر موقعا في العالم تحمل نفس مواصفاته. وأُشيعَ أن والد ماو عندما توفّي أبوه، أي جدّ ماو، استأجر أعظم معلّم فينغ شوي في الصين وقتها وأسند إليه مهمّة تحديد أفضل مكان كي يواري فيه جثمان والده.
وقد دلّه المعلّم على مكان يقع فوق قمّة جبل يُدعى "استراحة النمر". وتنبّأ المعلّم أيضا بأن مستوى تدفّق الطاقة في ذلك المكان سيجعل ماو، الذي كان وقتها في سنّ الحادية عشرة، رجلا قويّا جدّا في الصين بعد ثلاثين عاما. وهذا ما تحقّق بالفعل.
لكن المفارقة انه على الرغم من تلك النبوءة التي بشّر بها معلّم الفينغ شوي ذاك وجلبت الحظّ السعيد لماو، إلا أن الرجل باشر في ذروة ثورته الثقافية في تدمير وحرق كلّ محلات الفينغ شوي في الصين. بل وأمر باعتقال كلّ معلّم يمكن أن يدلّ غيره على "عرين تنّين" آخر قد يهدّد مستقبله هو وينافسه في الحكم.

Credits
thespruce.com

الاثنين، يناير 29، 2018

السُّلطان الأخير


عندما تنظر إلى هذه اللوحة، لن تحتاج لكثير وقت كي تستنتج انك أمام شخصية ملوكية مهمّة. ملامح الوجه ونظرات العينين تنبئ عن فطنة ومهابة. ولباس الحرير المرصّع بالذهب والفضّة والمجوهرات الباذخة يكشف عن ثراء وترف.
المفارقة أن كلّ هذا المجد والهيلمان سيتلاشى بعد ثمان سنوات فقط من تاريخ رسم هذه الصورة، وسيصبح هذا الرجل واحدا من أكثر الشخصيات مأساوية في التاريخ. ومع انتهاء فترة حكمه، ستتحوّل أمجاد الإمبراطورية المغولية في الهند إلى مجرّد ذكرى غابرة.
الفنّان الذي رسم هذه اللوحة للسُّلطان بهادور شاه ظفر، آخر سلاطين الهند المغولية، اسمه اوغست شوافت المولود في المجر في عام 1809 لأبوين ألمانيين.
كان شوافت شخصا محبّا للأسفار والمغامرة. ومثل الكثير من الرسّامين الاستشراقيين في زمانه، قرّر أن يتخلّى عن حياته الهادئة في بودابست ويبدأ مغامرة كبرى ستأخذه إلى تركيا ومصر وبلاد فارس والعراق وسوريا.
في عام 1838، وصل شوافت إلى الهند وذهب إلى لاهور التي كانت آنذاك عاصمة لمملكة السيخ ويحكمها المهراجات.
وهناك تعرّف إلى عدد من رجالات البلاط الذين قرّبوه منهم بعد أن عرفوا عمله ثم كلّفوه برسم بورتريهات للمهراجات وعائلاتهم.
وعند عودته إلى دلهي، توقّف في امريتسار وزار المعبد الذهبيّ المشهور فيها كي يرسمه. لكن حرّاس المعبد الأشدّاء أوشكوا على أن يفتكوا به بعد أن ظنّوا انه ينوي تدنيس معبدهم.
وعندما وصل اوغست إلى دلهي، كُلّف برسم هذا البورتريه للسّلطان ظفر. كان ظفر نسيج وحده بين الحكّام، إذ لم يسبق له أن قاد جيشا ولم يشارك في معركة. لكنه أصبح، على غير رغبة منه ربّما، زعيما رمزيّا لثورة وحّدت المسلمين والهندوس معا لأوّل مرّة ضدّ الاستعمار البريطانيّ.
ولأكثر من مائة عام بعد وفاته، ظلّ ظفر منسيّا تماما تقريبا. لكن العثور على قبره بالصدفة عام 1991 ساعد على إعادة اكتشاف تراث رجل كان يُنظر إليه باحترام كمتصوّف مسلم وكأحد أفضل شعراء اللغة الأوردية.
عندما لفظ السّلطان بهادور ظفر أنفاسه الأخيرة في بيت خشبيّ رثّ في رانغون عاصمة بورما عام 1862، لم يكن هناك حوله سوى نفر قليل من أقاربه. وقد دفنه الانجليز في قبر بلا علامات في مجمّع قريب من معبد شويداغون البوذيّ المشهور.
وكان ظفر قبل وفاته قد أصبح شخصا مهزوما ومحبطا، وكانت تلك نهاية مؤلمة لرجل كان أسلافه من المغول قد حكموا، طوال ثلاثمائة عام، منطقة واسعة كانت تضمّ أراضي الهند وباكستان وأجزاءً كبيرة من أفغانستان وبنغلاديش.
ورغم انه لا يمكن مقارنته بأسلافه العِظام مثل اكبر وأورانغ زيب، إلا أن ظفر أصبح الرمز الذي اجتمعت حوله الانتفاضة الهندية الفاشلة عام 1857، عندما ثار جنود من الهند المقسّمة ضدّ شركة الهند الشرقية البريطانية. وبعد أن خسر المنتفضون معركتهم، حوكم السّلطان ظفر بتهمة الخيانة العظمى ثم نفاه الانجليز إلى بورما أو ما تُسمّى اليوم بميانمار.


وقد توفّي السّلطان هناك وحيدا وبعيدا عن المدينة التي أحبّها عن عمر ناهز السابعة والثمانين. لكنْ بقيت أشعاره التي كان يكتبها باسم مستعار هو "ظفر" الذي يعني "انتصار". وكان معاصرا لعدد من شعراء الهند الكبار مثل ميرزا غالب ومؤمن خان وغيرهما.
كانت إمبراطورية المغول العظيمة قد فقدت معظم أراضيها ونفوذها في نهاية عام 1700. ومثل سلاطين المغول الآخرين، يقال أن ظفر متحدّر من نسل حكّام المغول الكبار من أمثال جنكيز خان وتيمورلنك.
وعندما أتى إلى العرش عام 1737، كانت سلطته لا تتعدّى حدود دلهي وضواحيها. لكن بالنسبة لرعيّته فقد ظلّ دائما هو "البادشاه" أو الملك.
أثناء الانتفاضة، اتُّهِم الطرفان بارتكاب عمليات قتل بلا تمييز، وقام الثوّار بقتل نساء وأطفال من الانجليز، بينما نفّذ الانجليز عمليات إعدام جماعية لآلاف الثوّار مع أنصارهم.
وقد انتهت الانتفاضة رسميّا في يوليو من عام 1858. وفي نفس تلك السنة، تمّ إلغاء شركة الهند الشرقية وأصبحت الهند تُدار مباشرةً من قبل الحكومة البريطانية.
عندما توفّي ظفر، عمد الانجليز إلى دفنه في قبر مجهول لكي يبعدوا عنه أتباعه. وقد استغرق وصول خبر وفاته إلى الهند أسبوعين، ومرّ الخبر دون أن يلاحظه احد تقريبا. ولأكثر من قرن كامل، تلاشت صورة هذا الرجل من الذاكرة تماما.
لكن في العقود الأخيرة، تجدّد الاهتمام به وبإرثه. وبحسب المؤرّخ الانجليزيّ وليام دالريمبل مؤلّف كتاب "المغوليّ الأخير"، كان ظفر خطّاطا وشاعرا بارزا ومعلّما روحانيّا، وكان يقدّر عاليا قيمة التعايش بين أتباع الأديان المختلفة.
ورغم انه لم يكن زعيما ثوريّا أو "بطلا" بالمعنى التقليديّ، إلا انه ظلّ رمزا جذّابا للحضارة الإسلامية في ذروة تسامحها وانفتاحها. والبعض يعزو انفتاحه وتسامحه إلى حقيقة أن والده كان مسلما، بينما كانت أمّه أميرة هندوسية من ولاية راجبوت.
ضريح السّلطان ظفر الكائن في شارع هادئ في رانغون هو تذكير صامت ومزعج بنفس الوقت بواحدة من أكثر الفترات اضطرابا في تاريخ الهند. والضريح متواضع البناء، والطابق الأرضيّ منه يُؤوي رفات زوجته "زينات محلّ" وابنته الكبرى "رونق زماني". وقد أصبح الضريح مزارا لسكّان رانغون من المسلمين الذين يعتبرون ظفر من الأولياء ويأتون إلى قبره للتأمّل والصلاة.
والناس اليوم يتذكّرون السّلطان بسبب كتاباته الشعرية. وكثيرا ما تُحوّل غزليّاته عن الحبّ والحياة إلى أغانٍ، أو تُتلى على الملأ في المناسبات الاجتماعية والأدبية.
ربّما يكون السلطان بهادور شاه ظفر قد فقد حكمه وحكم عائلته. لكنه نجح في كسب عقول وقلوب الكثيرين بتسامحه الذي ما يزال ذا صلة بعالم اليوم الذي يعاني من شرور القوميات والأصوليات المتطرّفة.

Credits
ancient-origins.net