:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


السبت، أبريل 13، 2024

خواطر في الأدب والفن


  • لم أقرأ رواية ذئب البراري "أو ذئب السهوب" إلا متأخّرا نسبيّا. وقد وجدتها ممتعة وعميقة المعنى. كما أنها خفيفة وسهلة الفهم. ومن المزايا الأخرى التي قدّرتها في الرواية أنها لا تتضمّن شخصيات كثيرة تُربك القارئ وتشتّت تركيزه.
    بطل الرواية يسمّي نفسه ذئب البراري. وهو شخص مثقّف، منعزل، بلا علاقات تقريبا، ومتحفّظ في إظهار مشاعره، لا يؤمن بالكثير من افكار وقناعات مجتمعه ويساوره الحنين الى عصور سابقة.
    وهو في الرواية يتحدّث عن الكثير من رموز الحزن وضحايا سوء الفهم في هذا العالم، مثل نوفاليس ودستويفسكي وأتيلا وفاوست وموزارت وهاملت واوفيليا وغيرهم.
    كما يتحدّث بشغف عن ظواهر لا أشكّ انها تجذب اهتمام الكثيرين، من قبيل بعض الصور والأنغام والروائح التي تنقل الانسان الى عوالم مختلفة وتلحّ على ذهنه بين فترة وأخرى. وذئب البراري يصف عزلته بأنها "ساكنة سكون الفضاء البارد الذي تدور فيه النجوم في افلاكها".
    في هذه الرواية "علم نفس" كثير، ربّما أكثر ممّا ينبغي، مثل حديث الراوي عن ثنائية الانسان والذئب، وكيف يتغلّب الذئب على الانسان او العكس. وهو يُفرد لهذا صفحات كثيرة. وقد شعرت أن الإسهاب في هذا النوع من الحديث يبطّيء من وتيرة الرواية، أيّ رواية، لدرجة انه يمكن ان يصيب القارئ بالملل.
    من العبارات التي راقت لي والتي ترد على لسان البطل قوله: الانسان بَصَلة مكوّنة من مائة غلاف"، أو قوله في وصف موسيقى الجاز أن نصفها عابق بشذى العطور ونصفها الاخر همجيّ."
    ذئب البراري او السهوب رواية مختلفة. ولا بدّ وأن يجد الكثيرون في أنفسهم شيئا من شخصية البطل أو بعضا من سمات شخصيّته الغريبة. وللمؤلّف هيرمان هيسّه روايات أخرى أشهرها "سيدهارتا" و"ساعة بعد منتصف الليل" وغيرهما.

  • يرسم بعض الفنّانين بهدف إضافة مشهد ودراما إلى العالم، بينما يستخدم آخرون فنّهم لإضفاء نوع من الصمت. الرسّام الدنماركي وليام هامرشوي كان ينتمي للنوع الثاني.
    استثمر هامرشوي الكثير من المعنى في هدوء الغرف الفارغة التي كان يرسمها. ولوحاته تتكوّن من تصميمات داخلية نصف ضبابية تلفت انتباهنا إلى الفوائد البسيطة للوجود، حيث نتمكن من ملاحظة المزيد، وفي الوقت نفسه نجد ضجيجنا الداخليّ ونعمل على تهدئته.
    وصور الرسّام هي نقيض لصور السيلفي الحديثة. فبدلاً من أن تقول "انظر إليّ وما أفعله"، فإن هذه اللوحات ترفض ذلك الجزء من الطبيعة البشرية الذي يريد أن يهتمّ به الآخرون. وبدلاً من ذلك، فإنها تدعو الانسان للتأمّل والتواضع.
    لماذا نرغب في ان ننظر الى أريكة فارغة أو نافذة مضاءة بنور القمر؟ الإجابة التي تقدّمها هذه اللوحات ضمنا هي أن بعض اللقاءات الأكثر أهميّة هي تلك التي تحدث في لحظاتنا الأكثر حميمية وخصوصية.
    قال هامرشوي ذات مرّة: لطالما اعتقدت أن الغرف تحتوي على مثل هذا الجمال برغم خلوّها من أيّ أشخاص، بل ربّما وعلى وجه التحديد عندما لا يوجد بها أيّ أشخاص". لذلك فإن ما تراه في لوحات الفنّان هو رغبته في رؤية العالم كسلسلة من أوقات العزلة والتأمّل.
    ولد هامرشوي في كوبنهاغن بالدنمارك عام 1864، وقضى معظم حياته في المدينة التي ولد فيها. وقد تدرّب في الأكاديمية الملكية الدنماركية للفنون الجميلة، وتلقّى دروسا على يد الفنّان نيلز كيركغارد ابن عمّ الفيلسوف المعروف سورين كيركغارد.
    وقد أنجز هامرشوي العديد من لوحاته الأكثر شهرةً داخل منزله في كوبنهاغن، واختار أن تكون زوجته هي الجليسة التي تظهر في جميع لوحاته.


  • عندما تسكب روحك وتهدر وقتك في نصّ ولا يقرؤه أحد، فقد يدفعك هذا لأن تشعر بالألم. والأمر يشبه أن تجرّد من جزء من هويّتك ككاتب وتبدأ في تقريع نفسك وتعنيفها. وربّما يجعلك هذا تتساءل عمّا إذا كنت قد خُلقت للكتابة حقّا، أو ما إذا كنت تحلم كثيرا أو تضيّع وقتك فيما لا طائل من ورائه.
    الشكوك التي طالما راودتك عن انعدام موهبتك واعتدتَ أن تبعدها تعود مجدّدا لتستقرّ على كتفيك وتهمس في أذنك نادبةً سوء حظك ولتخبرك أنها كانت على حقّ وأنك كنت مخطئا.
    لكن قد لا تكون هذه هي المشكلة. فإذا لم يجد أحد نصوصك جمهورا يقرؤه، فليس بالضرورة لأنه سّيء، بل قد تكون هناك أسباب أخرى خارجة عن إرادتك.
    هناك العديد من الكتّاب ممّن يربطون قيمة نصوصهم بعدد القراءات التي تحصدها تلك النصوص. ويشبه الأمر ربط كمّية المال بقيمة الشخص الذي يملكه، في حين أن المال لا يحدّد قيمة الانسان وعدد القراءات لا يحدّد قيمة النصّ.
    وواقع الحال أنك يجب أن تعتزّ بنصوصك المنعزلة، أي تلك التي لم تُقرأ بما فيه الكفاية. قد لا تكون جيّدة بما يكفي أو ربّما تكون بحاجة إلى جمهور من نوع ما يقدّرها ويستشعر ما فيها من تفرّد وجمال.
  • هذه القصّة المعبّرة ترد في العديد من الثقافات، مع بعض الاختلاف في التفاصيل.
    يُحكى أن أهل قرية شربوا من ماء نهر فأصيبوا بالجنون. فقط شخصان امتنعا عن الشرب من النهر، لذا استمرّا عاقلين.
    غير أن أهل القرية أصبحوا ينظرون إليهما نظرة دهشة وشفقة ظنّاً منهم انهما أصيبا بالجنون. ولكي يُبعد الرجلان شبهة الجنون عن نفسيهما، لم يجدا خلاصا سوى بالشرب من ماء النهر، فأصبحا مجنونَين!

  • Credits
    bruun-rasmussen.dk

    الأربعاء، أبريل 10، 2024

    الحصان الجَموح


    في عام 1862، رأى فتى هنديّ أحمر يُدعى "تاسونك" فيما يرى النائم منظرا لبحيرة صغيرة ساكنة. ومن زرقتها الهادئة انبثق حصان مع فارسه صعودا ثم خرجا عبر سطح البحيرة الى الأرض. كان الفارس نحيفا ذا شعر منسدل، بينما رُبط خلف أذنه اليسرى حجرٌ بنّي مُحمرّ ورُسمت علامة البرق على أحد جانبي وجهه. وعلى صدره العاري كان هناك وشم لقطرات برَد زرقاء.
    وبينما الفارس وحصانه يركضان، ظهرت خلفهما غمامة داكنة متدحرجة أخذت ترتفع شيئا فشيئا الى أعلى. ومن السحابة دوّت قعقعة رعد عميقة ووميض برق. كان الحصان قويّاً وسريعاً، وكانت ألوانه تتغيّر من الأحمر الى الأصفر الى الأسود الى الأبيض والأزرق.
    وفجأة دوّى رصاص وتطايرت سهام في الهواء، وانحرف بعضها باتجاه الحصان والفارس، ومرّت قريبا منهما لكن لم تلمسهما. وعلى مقربة منهما طار صقر ذو ذيل أحمر وأطلق صرخة في الفضاء. ونهض رجال من كلّ مكان وأمسكوا بالفارس ثم سحبوه إلى الأسفل من الخلف. وانتهى الحلم.
    روى الصبيّ الحلم لوالده وربّما لآخرين. ومنذ ذلك اليوم أصبح يلقّب بالحصان الجموح. ابن عمّه الملقّب "الأيل الأسود" وصف الحلم فيما بعد بقوله:
    رأى الحصان الجموح حلما ذهب به إلى عالم لا يوجد فيه سوى الأرواح، أرواح كلّ الأشياء. وهذا هو العالم الحقيقي الذي يقف خلف هذا العالم، وكلّ ما نراه هنا هو مجرّد ظلّ لذاك. كان يمتطي حصانه في ذلك العالم. وبدا أن كلّ شيء هناك يطفو: الأشجار والعشب والحجارة وكلّ شيء. كان حصانه يرقص كأنه مصنوع من الظلّ. ولم يكن الحصان مجنونا أو جامحا، ولكن كان في الحلم يرقص في كلّ مكان بهذه الطريقة الغريبة.
    كان ذلك الحلم هو الذي منحه قوّته العظيمة، لأنه عندما كان يشتبك في قتال، كان عليه فقط أن يفكّر في ذلك العالم الموازي ليكون فيه مرّة أخرى، وليتمكّن من تجاوز أيّ خطر دون أن يلحق به أذى".
    كان الحصان الجموح (1840 – 1877) محاربا من قبائل السيو The Sioux الهندية وزعيم فرقة من المقاتلين. ويعتبر من بين أعظم المدافعين عن أراضي السيو ضدّ قوات الحكومة الأمريكية في القرن التاسع عشر. كما أنه أحد أشهر شخصيات الهنود الحمر الأمريكيين في التاريخ ومن بين أبطال السيو الأكثر تكريما.
    وقد كرّس الحصان الجموح نفسه لمعارضة الجيش الأمريكي في وقت مبكّر من حياته، خاصّة بعد مذبحة غراتن والمذبحة التي تلتها في معسكر ليتل ثندر عام 1855 على يد العقيد ويليام هارني. وواصل مقاومته على مدى السنوات الإحدى عشرة التالية وحارب في العديد من المعارك، أشهرها معركة جسر نهر بليت وحرب السحابة الحمراء ومعركة البرعم الوردي وغيرها.
    في أغسطس 1854، دخلت بقرة كانت قد خرجت من قطار عربة للمورمون إلى معسكر الزعيم الهندي "الدبّ المنتصر". ولأن الإمدادات الغذائية التي وعدت بها حكومة الولايات المتحدة لم تصل فقد جاع الناس وذبحوا البقرة وأكلوا لحمها.
    وأبلغ حزب المورمون عن أن البقرة فُقدت وأن من سرقها كانوا من قبائل السيو. فاتصل الملازم هيو فليمنغ بالزعيم الدبّ المنتصر وطلب منه تسليم الشخص الذي سرق البقرة. فعرض عليه الدبّ تعويضا، لكن العرض رُفض.
    ثم قاد الملازم جون غراتن مجموعة من الجند إلى معسكر السيو للقبض على الرجل الذي زعموا أنه سرق البقرة. وقد رفض الدبّ المنتصر تسليمه فتصاعد الموقف وأصيب الدبّ بالرصاص ما أدّى الى مقتله. وردّ رجال السيو بقيادة الحصان الجموح بإطلاق النار، ما أسفر عن مقتل جميع الجنود البالغ عددهم 31 جنديّا.
    وبعد ذلك قام الجيش الأمريكي بقيادة العقيد هارني بالانتقام، حيث ذُبح المئات من الهنود. وقد عثر الحصان الجموح على الجثث المذبوحة في معسكر ليتل ثندر حيث أنقذ هناك امرأة كانت الناجية الوحيدة. ويقال أن حربه مع الغزاة الأوربيّين قد بدأت فعليّا في معركة غراتن التي كانت بداية لحرب السيو الأولى (1854-1856)، وقيل إن الحصان الجموح كان كلّما دخل معركة رسم على خدّه شرر برق مثل الذي رآه في حلمه وهو صغير.


    وعندما اكتُشف الذهب في مونتانا عام 1863، تقاطرت على المنطقة فرق من عمّال المناجم والمستوطنين. وأرسلت حكومة الولايات المتحدة العقيد كارينغتون لبناء حصون هناك، فأعلن الحصان الجموح وقادة آخرون الحرب. ثم شنّوا هجمات على العمّال الذين كانوا يجمعون التبن والخشب للحصون.
    واستمرّ الحصان الجموح وقادة الحرب الآخرون من الهنود في ضرب التفاصيل المدنية والمسافرين والبؤر الاستيطانية واستولوا على أعداد من الخيول والماشية وتسبّبوا في وقوع إصابات كبيرة.
    وفي ديسمبر 1866، هاجم الحصان الجموح مجموعة من الحطّابين، وخرج الكابتن فيترمان لقتاله، فقام الحصان باستدراجه وجنوده إلى واد حيث نصبوا لهم كمينا، ما أسفر عن مقتل جميع الجنود البالغ عددهم 81 جنديا فيما أصبح يُعرف فيما بعد باسم مذبحة فيترمان.
    وفي عام 1874، اكتُشف الذهب في بلاك هيلز، وهو موقع مقدّس عند قبائل السيو. وبدأ وصول المستوطنين الى هناك بأعداد كبيرة في انتهاك واضح لمعاهدة فورت لارامي لعام 1851 التي اعترفت بمطالبات السكّان الأصليين بأراضي أجدادهم واعتبرتها "أراضي هندية خالصة". وأدّى إخلال حكومة الولايات المتحدة ببنود تلك المعاهدة الى إشعال فتيل حرب السيو العظمى في الفترة من 1876 الى 1877.
    وردّ الجيش الأمريكي بسرعة، ما أدّى إلى تشتيت قبائل شايان وأراباهو والسيو الهندية وحلفائهم. وهرب بعض قادتهم إلى كندا، بينما قاد الحصان الجموح شعبه بعيدا عن قوّات المستعمرين الاوربيين.
    وعلى الرغم من أن الحصان الجموح لم يُهزم في معركة وولف ماونتن في 8 يناير 1877، إلا أنه انسحب من الميدان ولم يقاتل مرّة أخرى. وبعد أن قامت حكومة الولايات المتحدة بذبح الجاموس بشكل جماعي، وهو مصدر الغذاء الرئيسي لهنود السهول، اضطرّوا إلى الاعتماد على الإمدادات التي يقدّمها المقاولون المدنيون، رغم انها كانت متاحة فقط في المحميات التي أنشأتها الحكومة. لكن الحصان الجموح رفض الخضوع لحياة المحميات.
    كان الحصان يتجوّل مع شعبه، وكثيرا ما كان يتضوّر جوعا طوال الأشهر الأولى من عام 1877. وفي مايو 1877، وصل مع فرقته إلى فورت روبنسون في نبراسكا للتفاوض على شروط الاستسلام.
    لكن أمرا كان قد صدر باعتقاله، وأثناء مقاومته للحرّاس في فورت روبنسون تعرّض للطعن بحربة في ظهره سدّدها حارس. وكان الجرح نافذا فتوفّي في تلك الليلة من سبتمبر عام 1877 عن عمر لا يتجاوز الـ 37 عاما.
    وأخذ والداه وأقاربه جثّته ودفنوها في مكان لم يُكشف عنه. وكتب صحفي معلّقا على مقتله: هكذا مات أحد أقدر وأصدق الهنود الأمريكيين. كانت حياته مثالية وسجلّه نظيفا. اذ لم يشارك أبدا في أيّ من المذابح العديدة التي وقعت، وكان قائدا عمليا في كلّ معركة مفتوحة. ويستحقّ الشرف مثل أيّ شخص تنفّس هواء الله في هذه المساحات الواسعة".
    وفيما بعد، وعلى إثر استيلاء الاوربيين على المزيد من أراضي الهنود بقوّة السلاح، هرب العديد من أفراد قبائل السيو المتناثرين إلى إقليم داكوتا أو إلى كندا. أما من بقي منهم في مانكاتو مينيسوتا فقد أصدر الرئيس أبراهام لنكولن قرارا بشنقهم في أكبر عملية إعدام جماعي في التاريخ الأمريكي.
    وبعد فترة ليست بالقصيرة، استخدم الجيش الأمريكي المدفعية لإطلاق النار على عدد من الرجال والنساء والأطفال الهنود الذين كانوا يحاولون الفرار من المذبحة. وقُتل أكثر من 250 شخصا، بما فيهم الزعيم المسمّى بالقدم الكبيرة. وانتهت بذلك حرب استمرّت حوالي 40 عاما خاضها أفراد قبائل السيو للاحتفاظ بأراضيهم وطريقة حياتهم.
    وقد أجبرت الحكومة القبائل على إرسال أبنائهم إلى مدارس داخلية. وأُخذ الأطفال من عائلاتهم واُلبسوا ملابس أمريكية واُعطوا أسماء إنغليزية وقُصّت شعورهم ومُنعوا من التحدّث بلغاتهم او ممارسة دياناتهم أو إحياء احتفالاتهم.
    كانت تلك المدارس مكتظّة ومرافقها الصحيّة سيّئة، ما أدّى الى انتشار الأمراض المعدية، فهرب الطلاب منها او ماتوا. وفي عام 1934، شجّعت الحكومة الهنود على كتابة دساتير قبلية وسنّ قوانين لإدارة شؤونهم بأنفسهم.
    مرّت سنوات على مقتل الحصان الجموح ازداد خلالها ذيوع سمعته كزعيم شجاع ومقاتل من أجل حرّية شعبه. وفي عام 1982، أصدر مكتب البريد الأمريكي طابعا تكريما له. لكن حكومة الولايات المتحدة لم تعالج بعد القضايا التي ناضل من أجلها هو وغيره من قادة الهنود الحمر. ومع ذلك، فإن اسم الحصان الجموح لا يزال يلهم أولئك الذين يواصلون معركته الى يومنا هذا.

    Credits
    legendsofamerica.com

    الأحد، أبريل 07، 2024

    شاعر الطبيعة


    نتوق أحيانا إلى ما لا نستطيع بلوغه؛ إلى ما هو جميل ومثالي وبعيد المنال. في الشتاء، مثلا، قد تتطلّع الى أن تجد المتعة في مشهد خريفي ليس هذا أوانه. ومع ذلك ربّما لا يأتي الخريف بأكثر مما تمنحنا إيّاه هذه اللوحة "الى فوق"، والتي يصوّر فيها الرسّام الروسي إيساك ليڤيتان نهرا تصطفّ على جانبيه بعض الأشجار في أعماق الريف الروسي.
    كان ليڤيتان (1860 - 1900) يُضفي على رسوماته للطبيعة أمزجة متنوّعة مع مسحة روحانية تصبح انعكاسا للظرف الانساني. وبعض صوره الأخيرة التي رسمها قبيل وفاته كانت تنبض بالضوء، مع غيوم داكنة في السماء. كما كانت مشبعة بالتجارب والمشاعر الإنسانية الذاتية من حزن وسلام ومرح وابتهاج وما إلى ذلك.
    وكان أيضا يصوّر الكثير من المشاعر في اعماله متبنّيا نوعا من الواقعية القاسية الممزوجة بشيء من روح الشعر الواهب للحياة. ولهذا يصبح وجود البشر في المنظر غير ضروريّ بل وحتى زائدا عن الحاجة.
    التنظيم الذهني الجيّد والشكّ والضعف والمزاج الكئيب الذي تعكسه بعض صوره يعكس قدرة ليڤيتان الرائعة على النفاذ الى عمق الطبيعة الروسية السرّية والناعمة ممّا لم يستطع فعله رسّام آخر قبله أو بعده.
    ومناظر القرى الفقيرة مع طبيعتها القاسية، لكن الجميلة، التي نراها كثيرا في لوحاته سبق أن تغنّى بها شاعر روسي عاش في القرن التاسع عشر ويُدعى تيوتشيف، الذي كان أحد الشعراء المفضّلين لدى ليڤيتان. ومما يُنقل عن هذا الشاعر قوله: المكان الذي ولدت فيه كان اللون الغالب فيه هو الرمادي، ودروبه المتعرّجة تذكّر بعواء العواصف الثلجية".
    أحد معاصري ليڤيتان كان الرسّام ليونيد باسترناك الذي يقول: في روسيا لا يوجد منظر طبيعيّ لا يستحقّ أن تسجّله فرشاة رسّام". وكان يصف مناطق شمال روسيا "بالشمال العظيم الكئيب". لكن ليڤيتان نفسه لم يكن يعتبر الطبيعة الروسية متجهّمة ولا فقيرة.
    وقد سافر إلى خارج روسيا ثلاث مرّات، حيث رأى طبيعة أكثر حيوية في فرنسا وإيطاليا، وأكثر وقارا في جبال سويسرا. لكن تلك المناظر لم تحرّك مشاعره، بل ظلّ غير مبالٍ ومرهقا وملولا. وكتب رسالة حزينة يقول فيها: أستطيع أن أتخيّل جمال روسيا الآن بعد أن فاضت الأنهار وعادت الحياة الى مجراها. لا يوجد بلد أفضل من روسيا! فقط هناك يمكن أن يوجد منظر طبيعيّ حقيقيّ".


    كان من عادة الفنّانين الرمزيين أن يرسموا حالة الطبيعة في المساء أو الليل. وكانوا يعتقدون أنه عند الغسق أو في ضوء القمر يبدو العالم غامضا وشبحيّا ومبهما. وبدوره اكتشف ليڤيتان أن في حبّه القويّ للطبيعة الروسية الصاخبة والمتواضعة في آن شيئا ما روحانيّا أو مقدّسا وأن فيها الكثير من الشعر المتسامي.
    في بعض مناظره المسائية، تبدو الألوان صامتة والخطوط العريضة مهزوزة وغير واضحة في ضوء القمر الناعم. أما السماء فتظهر بلون أزرق وردي، مع سحابة مزرقّة تحجب جزءا من ضوء القمر وضبابٍ خفيف منتشر على الأرض ومجسَّد بطريقة رائعة وبارعة.
    في عام 1887، ذهب إيساك ليڤيتان إلى منطقة نهر الفولغا. رحلته الأولى الى هناك لم تُثر إعجابه كثيرا. وقد كتب إلى صديقه الكاتب المسرحيّ أنطون تشيكوف يقول: رأيت شجيرات وجبالا شديدة الانحدار. كنت أتوقّع أن يثير مرأى نهر الفولغا في نفسي انطباعات فنّية قويّة، ولكن كلّ ما رأيته كان سماءً رمادية ورياحا قويّة".
    وسرعان ما عاد الرسّام إلى موسكو ليرسم لوحته "المساء على نهر الفولغا". وبعد مرور عام، عاد إلى منطقة الفولغا مرّة أخرى، ولكن هذه المرّة مع فنّانة تُدعى صوفيا. واستقرّا في بلدة صغيرة ذات جمال خلاب على ضفّة النهر. وهناك رسم العديد من اللوحات مثل "الفناء المتهدّم" و "الخريف" و"البنفسج الليلي" وغيرها.
    قضى ليڤيتان العام الأخير من حياته في منزل الكاتب أنطون تشيكوف في شبه جزيرة القرم. وتوفّي في أغسطس من عام 1900 وهو في سنّ الأربعين بعد أن عانى من مرض عضال.
    كانت أعماله الأخيرة تمتلئ بالضوء بشكل متزايد وتعكس هدوء وجمال الطبيعة في قرى روسيا النائية. وقد عُرف الرسّام بحبّه الشديد لأزهار الليلك. ويقال إنه عندما توفّي تفتّحت أزهار الليلك مرّتين في ذلك العام، وبدا الأمر اشبه ما يكون بالأعجوبة.

    Credits
    russianartgallery.org