:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الخميس، أغسطس 06، 2009

في البحث عن معنى

ينفرد الإنسان من بين كافة المخلوقات بقدرته على التخيّل. وقد دفعته قوّة مخيّلته إلى الاعتقاد بأنه يستطيع تغيير الواقع وأن يخلق ظروفا غير تلك الظروف التي يعيش ضمنها من اجل الوصول إلى حالة أفضل وأكثر مثالية.
قوّة المخيّلة عند الإنسان هي التي مكّنته من تحقيق الكثير من الابتكارات والانجازات التي غدت الحياة بفضلها أسهل وأكثر راحة واسترخاءً. غير أن التحدّي الأكبر الذي واجهه خيال الإنسان دائما كان توقه لأن يكسر سجنه الأرضي وأن يوسّع نطاق حركته وتأثيره ليشمل الفضاء. والخيال كان القوّة المحرّكة التي ألهمت الإنسان أن يصل إلى الزوايا البعيدة للكون في محاولة لاكتشاف ما تخبّؤه العوالم البعيدة المجهولة من أسرار وغموض.
إن الإنسان عندما يفكّر في هذا الكون الواسع الذي لا تحدّه حدود، وعندما يتأمّل هذا المعمار البديع الذي ينهض عليه الكون بكلّ ما يحتويه من مخلوقات وموجودات لا بدّ وأن يتخيّل أن من صاغه وأحكم صنعه شاعر مبدع يقدّس الجمال ويقدّره حق قدره. وقد يكون في طبيعة هذا الصانع العظيم الذي يخلع على كلّ شيء هويّة ومعنى شيء من صفات الأنوثة والرّقة. شيء ما قريب ممّا يقول به المتصوّفة في وصفهم لذات الله. إنه مختلف كثيرا عن ذلك الإله الغاضب المنتقم الذي يدكّ الجبال ويسيّر الرياح المدمّرة وليس له من همّ إلا إرسال البرق والصواعق ليصبّها على رؤوس المذنبين الخاطئين من عباده الضعفاء قبل أن يحشرهم في حمأة النار التي لا تبقي ولا تذر.
إن من يتأمّل حال الأديان اليوم سرعان ما يدرك حجم التغيير والتحوّل الذي تمرّ به. فقد أصبح الدين الآن اقلّ ركونا إلى ما تقوله المؤسسات الدينية التقليدية. ولم يعد يعتمد كثيرا على الأفكار والمبادئ الدوغماتية بل أصبحت له تمظهرات جديدة تستند إلى التجارب الصوفية والباطنية التي تجد في التأمّل وسيلة مناسبة لفهم طبيعة الوجود والبحث عن معان فلسفية وروحية للأشياء والظواهر بعيدا عن التفسيرات اللاهوتية الحرفية والجامدة.
ذات مرّة أثناء دراستنا في الجامعة سأل طالب أستاذ الفلسفة: أين تقع الجنّة في هذا الكون؟ دلّني على المكان الذي توجد فيه لكي تهدأ نفسي ويتقوّى إيماني. قال الأستاذ: دعني أولا أسألك عن عدد الكواكب في الكون، وكم كوكبا استطاع الإنسان أن يصل إليها ويكتشف ما بداخلها؟ في البداية تفاجأ الطالب بالسؤال واحتار كيف يجيب. لكنه قال بعد أن استجمع بعض معلوماته البسيطة: حسنا، البشر تمكّنوا من الذهاب إلى زحل والقمر والمشتري والمرّيخ لكنهم لم يجدوا هناك لا ماء ولا أكسجين ولا شجر. فقط صخور وأتربة وبراكين وزلازل وغبار وصمت وبرد وسكون قاتل. قال الأستاذ: في مجرّتنا وحدها، التي يسمّيها العلماء درب التّبانة، هناك أكثر من أربعمائة مليون نجم. وفي الكون أكثر من مائة بليون مجرّة. وهذا العدد يمثل فقط تلك المجرّات التي نستطيع رصدها من على الأرض. أمامك إذن عملية رياضية معقّدة لتحسب كم عدد النجوم والكواكب التي يحتويها الكون. ومن المؤكد انك ستحصل على رقم من عدّة تريليونات في النهاية.
ولو افترضنا أن هناك حياة عاقلة في كوكب واحد من كل بليون كوكب فلا بد وأن
هناك احتمالا لوجود حياة ما في أكثر من خمسة أو ستة بلايين كوكب في هذا الكون. أفلا يُحتمل والحالة هذه أن هناك مكانا ما في مجرّة نائية متوارية في إحدى زوايا هذا الكون الفسيح يمكن أن يكون المكان الذي اختاره الله كي يكون الفردوس أو الجنّة التي وعد بها عباده الصالحين؟
والحقيقة أن كلّ ما في هذا الكون ليس أكثر من افتراضات وتكهّنات غيبية وميتافيزيقية مستمدّة ممّا تقوله الأديان وعلم الفلك والفيزياء. وبالتالي فإن فكرتنا عن طبيعة الكون والوجود ليست سوى جزء من تخيّلاتنا وتصوّراتنا الخاصّة.
وما من شك في أن ما يخفّف على الإنسان عبء المشاكل الكثيرة التي تنوء بها الأرض انه يربطها لا إراديا بالقوّة الكونية الغامضة. ومن ثمّ فكلّ شيء يعمل بحساب ووفق قوانين مقرّرة سلفا. وهذا الإحساس يريح الإنسان كثيرا ويزيح عن كاهله ثقل التفكير في ما سيحصل له غدا أو بعد أن يموت.
يقول بعض العلماء أن في "لاوعي" الإنسان حاجة لتصوّر كون منطقي يمكن فهم قوانينه واستيعابها. وهذا التصوّر مردّه أن الكون الحقيقي الذي نعرفه يسمو فوق المنطق وهو أكثر واشدّ تعقيدا من قدرة العقل الإنساني على "مَنْطَقَته" وفهمه.
لنتوقّف عند بعض المعطيات والأرقام التي تصيب الإنسان بالرعشة وتبعث القشعريرة في العظام:
الشمس اكبر من الأرض بمليون وثلاثمائة ألف مرّة. وهج الشمس طوله أكثر من مليون كيلومتر. وعمر الشمس أكثر من خمسة آلاف مليون سنة. المسافة بين الأرض والشمس حوالي 150 مليون كيلومتر. الضوء يحتاج إلى ثلاث عشرة ساعة كي يقطع المسافة بيننا وبين أبعد كوكب في المجموعة الشمسية. أقرب النجوم إلينا خارج المنظومة الشمسية، واسمه النجم القطبي، يبعد عن الأرض أربعة آلاف سنة ضوئية. مجرّة درب التبانة التي يقع كوكبنا على تخومها البعيدة هي عبارة عن جزيرة هائلة يحيط بها فراغ لانهائي من السديم والثلج. لو ابتلعت الشمس الأرض، وهذا ما يتنبّأ العلماء بحدوثه بعد بلايين السنين وعلى الأرجح عندما لا يعود هناك بشر على سطح هذا الكوكب، لتبخّر كلّ شيء على وجه الأرض في ظرف ثانية واحدة فقط.
النجوم التي نراها تلمع فوق قبّة السماء ونبالغ في التغزّل بجمالها في قصائدنا وأغانينا اكتشف العلماء أنها أكثر فظاعة من أشرس الوحوش التي يمكن أن نتخيّلها.
كيف؟
درس العلماء طويلا طبيعة النجوم وفضاءاتها الداخلية واكتشفوا أنها عبارة عن مغارات هائلة وحفر عميقة جدّا في السماء يستعصي على العقل تصوّرها. تخيّل انك تمشي في طريق طويل وإلى يمينك ويسارك ثمّة هاوية إثر أخرى ويتعيّن عليك أن تتحاشى الوقوع في أيّ منها وأنت تمرّ في ما بينها.
يقول أحد الشعراء أو لعلّه مفكّر أو عالم روحاني قديم: عندما أموت ستواصل الرياح هبوبها والنجوم التماعها. المكان الذي أشغله على هذه الأرض لن يدوم. لن يدوم أكثر من الماء الذي تمتصّه الرمال وتجفّفه رياح البراري في لمح البصر.
تريليونات النجوم والكواكب. بلايين المجرّات والعوالم الغريبة التي تحتويها السماء البعيدة. وكلّ هذا يُشعِر الإنسان كم هو صغير وضئيل. لكن هذا الشعور قد يكون أيضا مبعث ارتياح للإنسان عندما يتصالح مع حقيقة انه مجرّد قشّة في مهبّ الريح وانه جزء صغير جدّا من الخطّة الكبرى التي وضعها خالق الكون.

مواضيع ذات صلة:
على أجنحة الغيم
تأمّلات وجوديـة