:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الجمعة، مارس 28، 2025

حياة أخرى


تنقل الكاتبة الصينية "سان ماو" عن بوذا قوله: يجب على شخصين أن يعيشا مائة حياة ليلتقيا في نفس القارب، وعليهما أن يعيشا ألف حياة لينتهي بهما الأمر إلى أن يصبحا زوجا وزوجة".
كتاب سان ماو "حكايات من الصحراء" يشبّهه بعض النقّاد بكتاب" ألف ليلة وليلة" بسبب تأثيره على آلاف القرّاء في أماكن كثيرة من العالم. وهو عبارة عن مجموعة من الانطباعات الشخصية لامرأة صينية تتناول فيها قصّة زواجها من رجل إسباني ومغامراتهما في الصحراء الكبرى أو ما كان يُعرف في السبعينات بالصحراء الإسبانية.
تقول الكاتبة في مستهلّ الكتاب أنها قرأت ذات يوم في أوائل سبعينات القرن الماضي مقالاً مصوّرا عن الصحراء الكبرى، وأدركت أنها يجب أن تذهب إلى هناك. وكتبت: لم أستطع أن أفهم الشعور بالحنين الذي أحسست به والذي لا يمكن تفسيره تجاه تلك الأرض الشاسعة وغير المألوفة. بدت لي كصدى من حياة سابقة".
وفي عام 1973، في سنّ الثلاثين، سافرت سان ماو بالفعل لتحطّ الرحال أخيرا في "العيون" عاصمة الصحراء التي طالما حلمت بها. وبعد وقت قصير، التقت شخصا اسبانيّاً يُدعى خوسيه. وعندما اكتشف خوسيه، الذي سيصبح زوجها المستقبلي، أن سان ماو أحضرت معها رزمة من المال هديّة من والدها، رمقها بنظرة طويلة ثم قال لها: لقد أردتِ أن تأتي إلى الصحراء لأنك رومانسية عنيدة، ولكنك سوف تملّين منها قريباً". ثم عرض عليها حلّاً وسطا: بمجرّد أن تري كل ما تريدين رؤيته وتنتهي من رحلتك هنا سنعود معا إلى إسبانيا".
كان خوسيه يعرف أن الصحراء هي حلم سان ماو وهوسها الكبير. لذا وافقت على وضع المال في البنك والعيش فقط على ما يمكن أن يجلبه خوسيه. ففي النهاية هي ليست هنا فقط لتنظر وتشاهد، بل أيضا لتعيش.
القصص التي ترويها سان ماو في كتابها تشكّل تضاريس نفسية لرحلة داخلية: الجدل مع الجيران، بيع الأسماك في الشوارع، الهروب من أيدي عصابة، المعاناة من حجر ملعون، مطاردة أجسام طائرة مجهولة. شهادة ثنائية لا تنفصل بين الحبّ والقسوة، بين المرأة والصحراء.

❉ ❉ ❉

بعض الناس ينكرون أن لنا -كبشر- جانبا وحشيّا أو فطريّا، ويفضّلون بدلاً من ذلك نعمة الوظيفة والراحة. إذن، ما الذي يدفع الانسان الى هذه الرغبة في التجوال ورفض الاستقرار في مكان واحد كما فعلت سان ماو؟ قدماء البدو الصينيين كانوا يترحّلون بحثا عن شيء ما، الانسجام والتسامي ربّما. ومع ذلك تصف سان ماو شغفها بالترحال، لا كمحاولة للعثور على شيء ما، بل "للعودة إلى الوطن".
يقول الفيلسوف الصيني تشوانغ تشو واصفا القلق: إنه طائر يمتدّ جناحاه إلى مسافات مستحيلة، ينظر إلى السماء الزرقاء اللانهائية، ويتساءل ما إذا كانت النهاية موجودة حقاًّ. الوحشية او الفطرية هي رفض للحدود ورفض للنهايات". في هذه الحياة لا يوجد شيء اسمه فرح خالص، ولكن لا يوجد أيضا الكثير من الحزن. والحياة التي لا تتغيّر تشبه خيوط المغزل، حيث تُنسج الأيّام والسنوات سطرا تلو آخر في نمط رتيب إلى الأبد.

❉ ❉ ❉

تجارب سان ماو ملهمة ومحزنة في الوقت نفسه. فقد تقبّلها المجتمع الصحراوي في العيون، أحيانا بحماس وأحيانا بعدم ثقة. لقد فتنتها الصحراء باتساعها وقسوتها وعنادها. وهي تصف لحظات العزلة والوحدة، وكذلك لحظات الحبّ والحنان مع زوجها وأصدقائها الإسبان المغتربين وجيرانهم الصحراويين. ونثرُها في الكتاب وصفيّ للغاية، وغالبا ما يكون حزينا، مع إشارات عن الأساطير والأشباح.
تكتب: أحبّ الوحدة بالقدر المناسب. إنها اللحظات الأكثر تحرّرا للروح، ودائما ما أجد صعوبة في الاستمتاع بها مع الآخرين. في الحقيقة من الصعب مشاركة مثل هذا الكنز الشخصي مع أحد. إن الاستمتاع بليالٍ صافية وهادئة يجب أن يكون أمرا شخصيّا، على عكس تناول الطعام الذي يكون أكثر إمتاعا عند مشاركته مع الآخرين."
وتضيف: عندما نستيقظ في الصباح نكون مثقلين بعبء كلّ ما ينتظرنا خلال النهار. إن معرفة أننا يجب أن نواجه يوما مجهولاً يجعلنا نشعر بالتوتّر والحذر. الغروب مختلف، فهو مقدّمة لليلة دافئة، لحظة تحرّرية ومريحة تعلّمنا الاستمتاع بأجمل ما في الحياة."
وسان ماو تجد الجمال في كلّ شيء تقريبا: في قطع الخشب الطافي وأشجار البونساي الثمينة وفي الصحراء المضاءة بنور القمر ليلا. وفي غياب الزهور، تأخذ غصن كزبرة من المطبخ وتثبّته على قبّعتها، وتنطلق وزوجها عبر الكثبان الرملية.


كان خوسيه مثلها عرضة للأهواء، وكانت أهواؤه أحيانا أكثر خطورة. ذات يوم أحضر لها هديّة. تقول: مزّقت المغلّف بحماس وفتحت العلبة. وفوجئت بجمجمة تحدّق فيّ. كانت جمجمة جمل، عظامها بيضاء متناسقة مع صفّ ضخم من الأسنان المرعبة وثقبين أسودين كبيرين مكان العينين. وغمرتني السعادة. وضعت الجمجمة على رفّ الكتب وأنا أتنهّد فرحا وإعجابا".
وفي أحد أجزاء الكتاب تتساءل: ما الذي يجذبني إلى هذا المكان؟! اتّساع الأرض والسماء أم حرارة الشمس أم هبوب العواصف؟ هناك فرح ما في هذه الحياة المنعزلة وحزن في آنٍ واحد، لدرجة أنني أحبّ هؤلاء الجهلة وأكرههم بنفس الوقت، وهذا أمر مربك للغاية".
وتضيف: لقد وجدت الصحراء ساحرة جدّا، لكنها لم تعِرني أيّ اهتمام، وهذا ما ينبغي أن يكون. كلّ يوم مع غروب الشمس كنت أجلس على سطح البيت حتى تظلم السماء تماما فأشعر بوحدة هائلة في أعماق قلبي".
القصص القصيرة التي ترويها سان ماو في الكتاب تضع الحياة المنزلية والدنيوية على خلفية الصحراء الكبرى القاسية والخارقة للطبيعة. وبصفتها راوية وبطلة، تعمل بجدّ في المطبخ وتهتمّ بغسيل الملابس والأعمال المنزلية وتتنافس للحصول على رخصة سياقة.
وتتعامل الكاتبة مع الحوادث والعقبات على نحو هادئ، وتنظر الى الوحدة السائدة في الصحراء باعتبارها قوّة يجب أخذها في الحسبان بدلاً من التنازل عنها. ومع ذلك، هناك ومضات غريبة وتوقّعات مذهلة في بعض فصول الكتاب؛ لحظات تشير إلى حزن أعظم.
ورغم حبّها للثقافة المحلية، إلا أنها تشتكي بعبارات صريحة من بعض العادات المحلية وتستنكر ما تعتبره جهلا وقمعا في المجتمع الصحراوي، من قبيل الزواج القسري للفتيات في سنّ البلوغ أو ما قبله.

❉ ❉ ❉

بالنسبة لجيل القرّاء الصينيين الذين خرجوا للتوّ من الثورة الثقافية ولديهم شغف جامح بالتجوال والهروب من الأعراف الاجتماعية الصارمة، كان لكتاب سان ماو أثر عميق. وفي تايوان، صنعت المؤلّفة لنفسها اسماً ككاتبة تتمتّع بصراحة ملحوظة وبفهم بارع للسرد، إلى جانب شخصية أكبر من الحياة. كانت تُعرف باسم المرأة المتجوّلة في الصحراء، القادرة على سحر الغرباء أو التفوّق عليهم في كلّ منعطف.
والكاتبة تقدّم نموذجا مختلفا تماما من المرأة الصينية والصور النمطية الشائعة عنها في ذلك الوقت. فهي بلا شكّ روح حرّة تتبع مسارها الخاص، سواءً كان في الحبّ أو السفر أو أسلوب العيش. وقد ألهمت جيلًا كاملاً من النساء الصينيات، اللاتي نشأن في ظلّ حالة من عدم اليقين السياسي والمعايير المحافظة.
أحد النقّاد يصفها بقوله: كانت سان ماو امرأة متحرّرة خالفت كلّ القواعد وفعلت ذلك بابتسامة مرحة ومشاكسة. وعند قراءة قصصها كان أكثر ما أغراني هو الجمع بين صوتها وروحها التي لا تُقهر، وهي الروح التي تمكّنت من التوفيق بين حلمها بأن تكون أوّل مستكشفة أنثى تعبر الصحراء الكبرى وواقع المشقّة المؤلمة لعيشها في أرض قاحلة."
وسان ماو تكتب بأسلوب يلامس جوهر الموضوع. لا تهدر الكلمات في تفاصيل غير ضرورية أو أوصاف مضخّمة، وتسرد الأحداث بإيجاز دون أن تؤثّر على فهم القارئ لما حدث. ورغم أن نثرها وشخصيّتها العامّة عرضة للانتقاد، فإن جاذبيتها أثبتت أنها دائمة. فقد عاش قراؤها في الصين في سبعينات وثمانينات القرن الماضي من خلال حكاياتها خلال حقبة سياسية لم يكن بوسع سوى قلّة من الناس السفر إلى أماكن بعيدة وواسعة.
كانت تمثّل قيم "الحرّية والفضول والإيمان باللطف الإنساني" بالنسبة لمعاصريها. وكانت الكتابة بمثابة البلسم لوحدتها ووسيلة لنقش المنطق والنظام على واقع مربك ومهين للإنسانية في بعض الأحيان.

❉ ❉ ❉

كانت سان ماو في الـ 31 من عمرها عندما قرّرت الانتقال إلى الصحراء وتبنّت اسمها المستعار الذي أصبحت تُعرف به كواحدة من أكثر الشخصيات أهمية في الأدب الصيني الحديث. ومما يُحسب لها أنها رغم استمتاعها بالاختلاف و"الآخر" في الصحراء، إلا أنها لم تغفل عن الفقر والقمع الاستعماري وعاصفة الاستقلال التي توشك أن تهبّ بقوّة.
تصف الكاتبة الأيّام الأخيرة لها ولزوجها في الصحراء بقولها: كان الجميع يتحدّثون عن الوضع السياسي بوعي أو من غير وعي. وعلى الطريق رأينا الكثير من القوافل العسكرية تتجه نحو المدينة. وكانت المباني الحكومية محاطة بالأسلاك الشائكة، بينما كان حشد من الناس يصطفّون بصبر أمام مكتب صغير للخطوط الجويّة. وفجأة أحدثت مجموعة من الصحفيين الذين لا أعرفهم ضجيجا باندفاعهم إلى الأمام مثل حفنة من المشاغبين. وألقى الضجيج المتوتّر بظلاله المشؤومة على هذه المدينة التي كانت مسالمة ذات يوم. وكانت هناك نذر عاصفة تلوح في الأفق".
وتضيف: عندما أعلن الإسبان رحيلهم عن الصحراء رسميا، احتفل الصحراويون باقتراب أملهم في تقرير المصير. لكن المغرب سرعان ما أعلن نيّته ضمّ الصحراء الغربية وزحَف نحو العيون بجيش قوامه مليونا جندي".
وبينما كانت سان ماو تراقب المقاتلين الصحراويين أزواج صديقاتها وهم يندفعون نحو حتفهم دفاعا عن حلم الاستقلال، اقتبست بضعة أسطر من كتاب صيني كلاسيكي تقول: المحبطون يهربون إلى أديرة رهبانهم، والمخدوعون يموتون بتعاسة كالطيور التي تلجأ إلى الغابة، تاركين الأرض خرابا".
وفي نهاية فترة وجودها هناك، وبينما كانت تشاهد الوضع يتدهور ويتحوّل إلى سفك دماء، كتبت: لا مكان في العالم يضاهي الصحراء. هذه الأرض لا تُظهِر عظمتها وحنانها إلا لمن يُحبّها".
وعندما ساءت الأمور أكثر، اضطرّت سان ماو وخوسيه للهرب إلى جزر الكناري التي تبعد حوالي ساعة بالطائرة عن البرّ الرئيسي الأفريقي. واستقرّا هناك لبعض الوقت. لكن حياتهما الهادئة على الجزيرة لم تستمرّ سوى بضع سنوات. فقد توفّي خوسيه في حادث غرق غريب في عام 1979، وعادت سان ماو في نهاية المطاف إلى بلدها تايوان وانهمكت في عملها بالتدريس الجامعي والترجمة من الإسبانية إلى الصينية.
لم يكن يدور بخلد سان ماو أن القدر يخبّئ لها أكثر من مفاجأة غير سارّة، وأن خوسيه الذي كان زوجا محبّا ومنبهرا بمواهبها سيغرق في البحر وأنها ستعيش بعده 12 عاماً أخرى في وطنها، تكتب وتحاضر، وأنها هي أيضاً ستغرق، ليس في البحر، بل في الهواء البارد المعقّم في جناح مستشفى.
ففي عام 1991 انتحرت الكاتبة في مستشفى في تايوان عن عمر يناهز 41 عاما فقط. وقيل ان السبب الذي دفعها لإنهاء حياتها شنقاً قد يكون الاكتئاب الناجم عن وفاة زوجها أو إصابتها بالسرطان في ذلك الوقت.
والغريب أن وفاة الزوج قبل ذلك كانت سبباً في ميلاد أسطورة سان ماو وخوسيه. إذ أصبح قبر الزوج في جزر الكناري والمزيّن دائما بالأزهار النضرة مزارا لقرّاء سان ماو والمعجبين بقصّتهما.
في اللغة الصينية، الكلمة الأكثر شيوعاً للموت هي "مغادرة هذا العالم". وفي تايوان، يستخدمون للموت مصطلحا بوذيّا يعني "نحو حياة أخرى". ومن الغريب والمؤلم أن سان ماو التي كانت تؤمن بالاختلافات الثقافية كانت امرأة مختلفة حتى في موتها.
وكتابها "حكايات من الصحراء" قصّة حميمية عن امرأة استثنائية وفترة مهمّة من تاريخ منطقة أثارت اهتمام العالم عديدا من السنوات. والكتاب مهم لمن يريد التعرّف على جزء من تاريخ وثقافة الصحراء الكبرى من خلال عيون كاتبة صينية استطاعت أن تكون جزءا من المكان بطريقتها الخاصّة.

Credits
chinachannel.lareviewofbooks.org

الأربعاء، مارس 26، 2025

روح النوروز


ذات يوم، عندما كانت الأرض في بداية شبابها والآلهة ما يزالون يتجوّلون بين البشر، كان هناك ملك أسطوريّ عظيم يُدعى جمشيد. كان ملكا على بلاد فارس. وكان له أسلاف حكموا من قبله، لكن لم يجلب أيّ منهم السلام والرخاء للمملكة. وكان جمشيد رجلاً يتمتّع بطموح ورؤية لا مثيل لهما. ومنذ بداية حكمه، شرع في جعل بلاد فارس منارة للتقدّم والحضارة.
وفي عهده، أصبحت تلك البلاد أرضا للعجائب. وأمر ببناء قصور رائعة تلتمع مثل الجواهر في ضوء الشمس، وامتلأت مدنه بالحدائق التي تتفتّح فيها الزهور من كلّ نوع. لكن عظمته لم تقتصر على العالم المادّي. فقد كان جمشيد أيضا معلّما في العالم الروحي، وكانت لديه موهبة استشفاف المستقبل وفهم قوى الطبيعة.
وبينما كان جمشيد ينظر إلى النار المقدّسة في معبده طالبا التوجيه من الآلهة، استحوذت عليه رؤيا صوفية غامضة. فقد رأى الأرض تدور دورة عظيمة، والفصول تدور في تكرار لا نهاية له، وكلّ منها يجلب الحياة والموت بنفس القدر. ورأى أنه كما تتجدّد الأرض كلّ ربيع، يمكن أيضا تجديد قلوب وأرواح أفراد شعبه.
وهمست الآلهة لجمشيد بأن يستحدث يوما في السنة الفارسية يكون احتفالاً بالحياة والبعث، ووقتاً يجتمع فيه الناس معاً لتكريم دورات الأرض وتجديد الطبيعة والنور الذي ينتصر على الظلام. كما يفترض أن يكون ذلك اليوم وقتاً للفرح ومهرجاناً للبدايات الجديدة ورمزاً للتناغم الأبدي بين البشر والعالم الطبيعي.
كان الملك مملوءا بالرهبة والعزيمة. وكان يعلم أن هذه الرؤيا ستغيّر مملكته وشعبه، وتعهّد بجعل ذلك الاحتفال أعظم مهرجان شهده العالم على الإطلاق. ولم يهدر جمشيد أيّ وقت في تحويل رؤياه إلى واقع. فاستدعى مهندسيه وحرفييه وصنّاعه من كلّ ركن من أركان مملكته الشاسعة لتدشين احتفال يجسّد جوهر الربيع. وتحت إشرافه الدقيق، بدأت الاستعدادات للاحتفال بعيد النوروز.
وتزيّنت شوارع فارس بالزهور واللافتات والأضواء التي تتلألأ في نسيم الربيع. وعزف الموسيقيون ألحاناً تُردّد صدى أغاني الطيور العائدة من سباتها الشتوي. كان الناس مليئين بالإثارة والمتعة، وقد نظّفوا منازلهم وارتدوا أجمل الملابس وجهّزوا الولائم التي تجمع الأسر والأصدقاء في حشد بهيج.
وتولّى جمشيد بنفسه تنظيم هذا المهرجان، وحرص على أن تكون كلّ التفاصيل محكمة. وقرّر أن تصبح مائدة العيد محمّلة بسبعة عناصر رمزية من الأطعمة تمثّل احتفالات النوروز. وكلّ عنصر من هذه العناصر يمثل جانبا من جوانب الحياة كالصحّة والرخاء والسعادة والصبر والحكمة.
وفي ليلة عيد النوروز، وبينما كانت الاستعدادات تقترب من اكتمالها، أطلّ جمشيد على شعبه من شرفة قصره. كانت الأجواء مملوءة برائحة الأزهار وضحكات الأطفال والكبار.
وانبلج فجر النوروز في الأفق مع أوّل شعاع للشمس التي أضاءت الأرض بلونها الذهبي. وبدا وكأن السماء نفسها تبارك ذلك اليوم بألقها. وارتدى جمشيد ثيابا ملكية مطرّزة برموز الشمس والنجوم وقاد الناس في الترحيب بالعام الجديد.
واجتمعت المملكة كلّها في الساحة الكبيرة، حيث صُفّت الموائد الفخمة في المنتصف تحيطها الخضرة الوارفة والأزهار المتفتّحة. وهتف الناس بالدعاء بأن يكون العام القادم عام خير ونعمة.


وكان في قلب المهرجان طقس محدّد تَمثّل في إشعال النار المقدّسة. واقترب جمشيد، وهو يحمل شعلة من اللهب، من حفرة النار في وسط الميدان. ومع اشتعال النيران، انفجر الحشد بالهتافات. كانت النار ترمز إلى النقاء وانتصار النور على الظلام والتجدّد الأبديّ للحياة.
واستمرّت الاحتفالات سبعة أيّام، تبودلت خلالها الولائم وسُردت القصص وامتلأت الأجواء بالموسيقى. وتجمّعَ الناس من مختلف الفئات، الأغنياء والفقراء والشباب والكبار، للاحتفال معا توحّدهم روح النوروز. ولم يكن هناك تمييز بين الطبقات أو المكانة الاجتماعية، فقد كان الجميع متساوين في مقدم العام الجديد.
وامتلأ قلب جمشيد بالفخر عندما رأى شعبه مبتهجا. لم يكن هذا مجرّد مهرجان، بل كان ميلادا لتقليد سيبقى بعد وفاته ويستمرّ لآلاف السنين. لقد منحه الرّب هديّة وأعطاها لشعبه.
ولكن كما هو الحال مع كلّ الحكّام العظماء، لم يكن حكم جمشيد خالياً من التحدّيات. فرغم أن عيد النوروز جلب الفرح والوحدة لشعبه، إلا أنه أيضاً لفت انتباه الكارهين والحاسدين. وكان على رأس هؤلاء "أهريمان"، روح الفوضى والشرّ، الذي سعى لإفساد جمال المملكة وبهجتها.
كان "أهريمان" يغار من السلام والرخاء اللذين جلبهما عيد النوروز، فوضع نصب عينيه الملك جمشيد. وراح يهمس بالأكاذيب في آذان مستشاري الملك لزرع بذور الشكّ والخوف. وسرعان ما بدأ مستشارو جمشيد، الذين كانوا مخلصين له، في التشكيك في حكمته. وانتشرت الشائعات في جميع أنحاء المملكة بأن عيد النوروز ليس سوى إلهاءٍ للشعب عن أمور أكثر أهميّة.
وكان جمشيد، الحكيم على الدوام، يشعر بالغيوم المظلمة التي تتجمّع من حوله. كان يعلم أن نفوذ "أهريمان" الشرّير كان يتزايد، لكنه رفض أن يسمح للخوف بامتلاكه. ثم طلب المشورة من الآلهة مرّة أخرى، وسألها كيف يمكنه حماية مهرجان النوروز وشعبه من قوى الظلام.
واستجابت الآلهة بإعطاء جمشيد تعويذة قويّة من شأنها أن تحمي مملكته من الشرّ طالما ظلّ الناس متحّدين في قلوبهم. وأخذ جمشيد التعويذة وأخفاها في قلب مائدة النوروز المقدّسة، حيث ستحمي المهرجان إلى الأبد.
ومرّت الأعوام ورحل الملك جمشيد عن هذا العالم في نهاية المطاف. ومع ذلك، ظلّ إرث النوروز باقياً وأصبح أكثر من مجرّد احتفال بالربيع، بل صار رمزاً للتفاؤل والأمل ووقتاً يجتمع فيه الناس لتذكير أنفسهم بالدورات الأبدية للحياة والنور وتجدّد الطبيعة.
ورغم أن "أهريمان" وقواه المظلمة استمرّوا في التجوال في العالم، إلا أنهم لم يتمكّنوا أبدا من التغلّب على قوّة النوروز، لأنه لم يكن مجرّد يوم في التقويم، بل كان احتفالا بالروح وتذكيرا بأنه مهما أصبح العالم مظلما، فإن النور سيعود دائما.
وبعد مرور آلاف السنين منذ أشعل الملك جمشيد لأوّل مرّة نيران النوروز، ما يزال المهرجان تقليدا عزيزا في إيران وفي العديد من الثقافات حول العالم. وأصبح العيد وقتا للاحتفال بدورات الحياة وتكريم الأرض ومِنَحِها والتأمّل في العلاقة الأبدية بين البشر والطبيعة وفي الحقيقة الأزلية التي تقول إنه مهما كانت قسوة الشتاء فإن الربيع سيأتي دائما.

Credits
humanities.uci.edu

الاثنين، مارس 24، 2025

خواطر في الأدب والفن


  • لم يكن كونفوشيوس مهتمّا كثيراً بموضوع الأشباح في كتاباته. ويسجّل كتابه "المحاورات" أنه لم يناقش قَط الأمور غير العادية ومآثر القوّة والفوضى والكائنات الروحية. ومع ذلك، ووفقاً لممارسات عبادة الأجداد الكونفوشية، كان من المهم ضمان موت الشخص موتاً طيّباً وطبيعياً، وأن يتولّى أحفاده العناية بمتطلّباته بعد وفاته على النحو اللائق.
    وفي هذه الحالات، يصبح الشخص "سلَفاً" على مذبح العائلة بدلاً من أن يكون شبحاً. ولا يتحوّل إلى أشباح سوى أولئك الذين يموتون موتاً سيّئاً، أي في حرب أو بعيداً عن أرض الوطن.
    وكان هذا مقصودا. فالعبادة الكونفوشية للأسلاف هي عبادة أبوية بحتة، أي أن المرأة لا تستطيع كسب مكان على مذبح الأسرة إلا كزوجة أو أم. وفي هذه الحالة، فإن أيّ فتاة تموت دون زواج ستتحوّل بالتأكيد إلى شبح، لأنها "دخيلة" ولا يمكنها أن تدّعي أن لها أحفادا يعتنون بشؤونها بعد وفاتها. وهذا يفسّر غلبة الأشباح الأنثوية في الأدب الصيني.
  • ❉ ❉ ❉

  • احتفظ دائما بكوابح على لسانك، قل أقلّ ممّا تعتقد واحرص على أن يكون صوتك منخفضا ومقنعا. وتذكّر أن الطريقة التي تتحدّث بها أهمّ أحيانا ممّا تقوله. واحرص على تقديم الوعود باعتدال والتزم بها بأمانة مهما كلّفك ذلك. ولا تدع الفرصة تفوتك أبدا لقول كلمة طيّبة ومشجّعة لشخص ما أو عنه. امتدح العمل الجيّد بغضّ النظر عمّن قام به. وإذا كان النقد ضروريا، فانتقد بشكل مفيد وبعيدا عن الاساءة.
    اهتم بالآخرين وبأعمالهم وبمنازلهم وعائلاتهم. إفرح مع الذين يفرحون وتعاطف مع الذين يحزنون. ودع كلّ شخص تقابله، مهما كان متواضعا، يشعر بأنك تعتبره شخصا مهمّا. وحاول أن تكون مبتهجا قدر الامكان. ولا تثقل كاهل من حولك أو تحزنهم بالتفكير في آلامك وأوجاعك وخيبات أملك. وتذكّر أن كلّ شخص يحمل نوعا من العبء.
    احتفظ بعقل متفتّح، ناقش لكن لا تجادل. فقدرتك على الاختلاف دون أن تكون مزعجاً هي علامة على العقل المتفوّق. ودع فضائلك تتحدّث عن نفسها. وارفض الحديث عن رذائل الآخرين. ولا تخُض في نميمة، فهي مضيعة للوقت الثمين وقد تكون مدمّرة للغاية.
    وأخيرا، لا تكترث للتعليقات المسيئة عنك. وتذكّر أن حامل الرسالة قد لا يكون أمينا أو دقيقا. وعش ببساطة بحيث لا يصدّق أحدٌ المغتاب، فالأعصاب المضطربة وسوء الهضم سببان شائعان للغيبة والنميمة.
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • درس رينيه ماغريت قصّة أفلاطون الرمزية عن الكهف بتفصيل كبير. وتحكي تلك القصة، كما هو معروف، عن أشخاص يعيشون مقيّدين داخل كهف لا يرون فيه سوى ظلال الأشياء المنعكسة على جداره بفعل النار الموجودة خلفهم.
    إنهم لا يعرفون ولا يرون شيئا ممّا هو خارج الكهف، ومن هنا ينظر أولئك الأسرى الى الظلال على أنها الحقيقة الوحيدة. وعندما يُطلق سراح أحدهم، ينبهر بالضوء ولا يرى أيّ شيء من العالم الخارجي حقيقيّا باستثناء ما يعرفه، أي ظلاله.
    وقد تناول ماغريت رمزية الكهف بشكل ملفت في لوحته "الحالة الإنسانية"، التي كانت رابع لوحة تحمل نفس العنوان رسمها بين عامي ١٩٣٣ و١٩٣٥. تُصوّر جميع التوليفات الأربعة لوحةً داخل لوحة، وهذا كان موضوعا مفضّلا عند ماغريت.
    في هذه الصورة، نرى حامل رسم يدعم لوحة بلا إطار أمام منظر طبيعي عبر فتحة كهف. هنا يبدو أن ساكن الكهف قد تحرّر بالفعل، وهو ينظر إلى فتحة الكهف من الداخل. وبجواره مباشرة تحترق نار، وهي فكرة أخرى مكرّرة. اللوحة ليست انعكاسا للعالم، بل تقليد للواقع. والظلّ، ومن ثمّ اللوحة، هما شكله الخاص من الحقيقة.
  • ❉ ❉ ❉

  • لا نعرف كيف تُسبّب طاقة خفيّة تدفّق العصارة في شجرة.
    أو كيف تخرج الدجاجة من البيضة.
    قد نكتفي بمراقبة العملية.
    لا عالم أحياء يعرف ماهيّة الحياة.
    ولا عالم نفس يعرف ماهيّة العقل.
    ولا فيلسوف يعرف ماهيّة الواقع.
    ولا عالم لاهوت يعرف حقيقة الله.
    ومع ذلك، إذا جمعنا كلّ هذه الأمور معاً، فهذا هو ما تعنيه كلمة "حياة".
  • ❉ ❉ ❉

  • أحيانا، في الغرب الأمريكي، كانت العواصف تتسبّب في خسائر فادحة. تبدأ بأمطار جليدية وتنخفض درجات الحرارة إلى ما دون الصفر. ثم تبدأ الرياح القارسة بتكديس كمّيات هائلة من الثلج. وتدير معظم الماشية ظهورها للهبّات الجليدية وتبدأ بالتحرّك في اتجاه الريح حتى تصطدم بسياج الأسلاك الشائكة ثم تتراكم على السياج وتموت بالعشرات.
    لكن سلالة واحدة من الماشية كانت تنجو دائما. كانت أبقار الهيرفورد تتجه غريزيّا بشكل مضادّ لاتجاه الريح ثم تقف جنبا إلى جنب ورؤوسها محنيّة في مواجهة العواصف.
    ذات مرّة، قال أحد رعاة البقر: في أكثر الحالات، بعد مرور العاصفة، نجد قطعان هذه الأبقار على قيد الحياة وبصحّة جيّدة. وأعتقد أن هذا أعظم درس تعلّمته في البراري: واجه عواصف الحياة".
  • ❉ ❉ ❉

  • تأثير تيندال Tyndall effect، ويُعرف أيضا بتشتّت تيندال، هو ظاهرة فيزيائية كيميائية تحدث بسبب خصائص الضوء. فعندما يمرّ الضوء عبر نظام التشتّت فإنه يتبعثر ويبدو مساره متوهّجا حتى عند النظر إليه قطريا أو جانبيا.
    في اللغة اليابانية، لا تعدّ هذه ظاهرة فيزيائية فحسب، بل هي أيضا مفردة تستدعي مشهدا دافئا مغمورا بأشعة الشمس المتسرّبة من خلال الأشجار. وهذا الوصف ياباني جدّا ولا يخلو من أناقة. والذين يعيشون مثل هذا الدفء عمليا طوال حياتهم كاليابانيين، يصبح هذا الإحساس متأصّلا داخلهم دون وعي.

  • Credits
    renemagritte.org
    artuk.org