:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الثلاثاء، مارس 11، 2025

الأنقاض الدائرية


تخيّل نفسك واقفا على حافّة بحيرة هادئة سطحها أملس يشبه مرآة مثالية تعكس العالم بوضوح. لكن عندما تمدّ يدك لتلمس الماء البارد، فإن التموّجات تشوّه الصورة وتكشف عن العمق والألغاز المخفية أسفل.
هذه البحيرة تشبه الحياة نفسها، فما تراه على السطح غالبا ما يكون مجرّد انعكاس؛ نسخة مشوّهة من حقيقة أعمق. هل تتذكّر آخر مرّة شعرت فيها بالحرّية الحقيقية دون أن تثقل كاهلك همومك اليومية وتوقّعاتك؟ ربّما كانت لحظات قضيتها في الطبيعة، أو شاركت فيها ضحكة عفوية مع صديق حيث شعرت بتواصل حقيقي وحيوي. ذلك التعبير النقي عن الوجود هو ذاتك الحقيقية بحالتها التلقائية وغير المتصنّعة.
لكن في كثير من الأحيان فإن هذا الواقع تحجبه شبكة واسعة غير مرئية من الأوهام المنسوجة في خيوط الحياة اليومية. وهي مصمّمة لتشتيت انتباهك وخداعك وإقناعك بتقدير قيمة كلّ ما هو سطحي لكي تخاف من المجهول وتمتثل للقواعد الجاهزة. كما أنها هي التي تشكّل أفكارك ورغباتك ومخاوفك وتبني عالما يبدو حقيقيا ظاهريا، ولكنه غالبا ما يكون متحكّما فيه ومصطنعا.
هذا هو ملخّص فكرة فيلم "ميتريكس"، أو المصفوفة. وبينما يفترض الفيلم أننا جميعا موجودون في محاكاة كمبيوترية عملاقة، فإن قصّة "الأنقاض الدائرية" لبورخيس تثير احتمال أن نكون مجرّد أشباح في خيال الآخرين، وأن ذكريات وجودنا السابق قد تمّ محوها من أذهاننا.
وقصّة "الأنقاض الدائرية" يعتبرها النقّاد من أغنى القصص القصيرة الرمزية التي ألّفها الكاتب الأرجنتيني وواحدة من أقوى استكشافاته وأكثرها إيحاءً لطبيعة الواقع والأحلام. كما يمكن تفسيرها باعتبارها قصّة عن الإبداع الفنّي أو عن العالم ومكاننا فيه. أيضا تتميّز "الأنقاض الدائرية" باستخدام بورخيس المذهل للغة واختياره للكلمات وبنثره الذي يترك أثرا سحريّاً على القارئ.
وكما يشير العنوان، تدور القصّة حول مدرّج دائري لمعبد أثريّ قديم. وتبدأ بعبارة "وإذا توقّف عن الحلم بك"، وتتحدّث عن رجل عجوز، يُشار إليه أيضا باسم الغريب أو الساحر، يغادر منزله في الجنوب ويصل إلى ضفّة نهر، ومن ثم إلى معبد دُمّر بفعل حرائق قديمة، ويظلّ الرجل هناك "من أجل خلق إنسان بقواه السحرية".
في وسط المعبد الدائري يوجد تمثال حجري يخلّد ذكرى إله غامض. هناك يبني الغريب له مسكنا. ثم ينام ليجد نفسه في الصباح وقد شُفي من جروحه التي أصيب بها أثناء خروجه من مياه النهر الموحلة. ومن أجل تنفيذ رغبته، ينام الساحر بجوار الأطلال، عازما على أن يحلم برجل يظهر إلى الوجود. ونظرا لأنه غير قادر على الإجابة على أيّ أسئلة حول خلفيته وهدفه، فإن هذا المعبد هو أفضل موقع يمكنه العثور فيه على غرضه.
ثم يحلم الرجل بنفسه ويتخيّل عددا من الطلاب، بعضهم قريبون وبعضهم بعيدون، بملامح واضحة للعيان. ويلقي عليهم محاضرات عن التشريح وعلم الكون والسحر ويستمعون باهتمام من أجل الدخول إلى العالم الحقيقي من خلال حلمه.
ويستغرق الأمر عامين حتى يتحوّل الانسان الذي حلم به إلى حقيقة. ينظر إليه الساحر وكأنه ابن له. ومع ذلك، يأمره إله النار بإرسال الانسان الذي حلم به إلى معبد آخر، فيسمح له بالرحيل على مضض بعد أن محا ذاكرته أوّلاً. وبهذه الطريقة، لن يعرف الرجل أبدا أنه مجرّد نتاج لأحلام الساحر أو الغريب، بل سيصدّق أنه شخص حقيقي.
وفي وقت لاحق، يسمع الساحر أن الرجل الذي حلم بوجوده له القدرة على المشي على النار دون أن يحترق. وعندما يشبّ حريق في الغابة ويجتاح المعبد، يتقبّل الساحر الموت بصبر ويمشي وسط النيران، ويدرك أنه لم يصب بأذى وأنه، مثل "ابنه"، كان من نسج خيال شخص آخر وأنه ليس شخصا حقيقيّا.
وفجأة تصل تأمّلات الغريب إلى نهايتها. في البداية، "ظهرت غيمة بعيدة بعد جفاف طويل، بيضاء كطائر، على تلّ. ثم بالقرب من الجنوب، اتّخذت السماء لوناً وردياً كلون لثّة فهد، ثم جاءت غيوم الدخان التي ألقت بالصدأ على معادن الليل. ثم حصل فرار مرعب للحيوانات المتوحشة. ما حصل قبل مئات السنين، ها هو يتكرّر الآن".
كانت النار تدمّر خرائب حرم إله النار. وفي فجر بلا طيور، رأى الساحر المحرقة المستعرة تصل إلى الجدران. فكّر للحظة بالالتجاء إلى الماء، لكنه أدرك حينها أن الموت سيتوّج شيخوخته. مشى نحو خرَق اللهب المشتعل، لكنها لم تنهش لحمه، بل ربّتت عليه وغمرته دون حرارة أو إحراق. وبارتياح وخزي ورعب، أدرك أنه هو أيضاً، كان وهماً يحلم به إنسان آخر".
قصّة "الأنقاض الدائرية" تتناول المواضيع التي تتكرّر في أعمال بورخيس عادةً، وتستند الى مجموعة واسعة من التأثيرات الدينية. وقد لاحظ العديد من النقّاد أن القصّة تبدو وكأنها تكرار لفكرة التقليد الغنوصي المسيحي التي تقول بأن "وراء كلّ خالق يختبئ خالق آخر".
والشخصية الرئيسية للحالم أو الغريب تستخدم صراحةً لغة الزرادشتية، حيث تعتبر النار أنقى عنصر. كما لوحظ أيضا تشابه القصّة مع الأسطورة اليهودية الكابالية، حيث يتمكّن البشر الفانون من استعادة لحظة الخلق الإلهي للحياة. ويمكن القول كذلك ان القصّة تستند أيضا إلى الفكرة البوذية القائلة بأن العالم وهم.


أيضا تتردّد في القصّة فكرة التكرار الدائري للتاريخ التي تناولها بورخيس مرارا. وقد سبق ان تحدّث في احدى قصص مجموعته "ألِف" عن طائفة قديمة كانت تعيش على ضفاف نهر الدانوب وادّعت أن التاريخ عبارة عن دائرة وأنه لا يوجد شيء لم يكن موجودا من قبل وأنه لن يكون هناك أيّ شيء جديد أبدا. وبالنسبة لتلك الطائفة فقد حلّت العجلة والثعبان مكان الصليب.
وفي الواقع، تمتلئ فصول العهد القديم بمثل هذه الفكرة. مثلا يبدأ "سفر الجامعة" بهذه الكلمات المحيّرة: لا معنى له، لا معنى له!، يقول المعلّم. لا معنى له على الإطلاق! كلّ شيء لا معنى له." ويورد العهد القديم كلاما مشابها لسليمان الحكيم: ما كان سوف يكون مرّة أخرى، ما فُعل سوف يُفعل مرّة أخرى، لا شيء جديد تحت الشمس".
وبورخيس ليس الكاتب الوحيد الذي قال بالتكرار الدائري للزمن. الفيلسوف ابن عربي أيضا يصف الزمن بأنه دائرة ليس لها بداية ولا نهاية وأن العالم يعاد خلقه باستمرار وأن الزمن يتقلّص إلى اللحظة الحالية، لأن الماضي والمستقبل مجرّد خيال. وبالتالي فإن الزمن، أو اللحظة الحالية، تسير في حركة دائرية متكرّرة مع إعادة خلق العالم. وبعبارة أخرى، وحسب ابن عربي، فإن الزمن يدور حول العالم باستمرار وبشكل متكرّر لخلقه وإعادة خلقه مرّة أخرى، وبالتالي فهو دائريّ "ودوريّ" من هذا المنظور الميتافيزيقي.
في عام 1977، ألقى بورخيس محاضرة ضمّنها بعض أفكاره عن البوذية. فقال إنها لا تعترف بحقيقة الجسد أو الروح، وروى قصّة بوذا، الذي كان اسمه في الأصل سيدهارتا أو غوتاما، الذي أصبح "المستيقظ"، وحصل على "النيرڤانا" بعد جلوسه تحت شجرة في بنارس. وأضاف بورخيس: أصبح غوتاما بوذا، المستنير أو المستيقظ، على عكس بقيّتنا الذين ظللنا نائمين نحلم بهذا الحلم العظيم الذي هو الحياة".
وبحسب بورخيس، فإن حياتنا حلم لأننا جميعا نحلم به، أو من الممكن أن يكون هناك شخص آخر يحلم بحياتنا. وفي نهاية قصّة " الأنقاض الدائرية "، يشعر الساحر أو الغريب أن شخصا آخر كان يحلم بحياته. وأثناء قراءة القصّة، يسيطر شعور بالحيرة على عقل القارئ. فمن الصعب التمييز فيها أين تنتهي الحقيقة وأين يبدأ الحلم. والقصّة تقدّم مزيجا ضبابيّا من الواقع والأحلام والخيال. ومن خلال هذا يجبر بورخيس قرّاءه على تبنّي سلوك متشكّك تجاه كتاباته، والذي يعتبره صفة أساسية لفعل القراءة الجيّدة.
في كتابات بورخيس، لا وجود للزمن. ولا يُفترض أن يكون أيّ شيء ثابتا. كما أنه يأخذ قارئه إلى حالة من اللازمنية، ولا يميّز بين الحقيقة والخيال، وهناك إزاحة مستمرّة للمعنى. وهذه السمة واضحة في "الأنقاض الدائرية" أيضا.
بورخيس يكتب متمتّعا بامتياز التحرّر من حدود الزمن. وهو لا يكتب وفقا للتسلسل الزمني، بل دون الانتباه إلى التمييز بين الماضي والحاضر والحلم والواقع. كما انه ينقل القارئ إلى عالم خيالي يدركه هو. ويبدو أن هذه الأفكار مرتبطة بنظرية آينشتاين. فوفقاً لآينشتاين فإن الزمن ليس موحّداً ومطلقاً. ويمكن للمرء أن يسافر إلى الماضي والمستقبل بسبب أنواع معيّنة من الحركة في الفضاء. وقد أعلن بعض الباحثين، بالإشارة إلى نظرية النسبية لأينشتاين، أن "لا شيء في قوانين الفيزياء يمنع السفر عبر الزمن. قد يكون من الصعب تطبيق هذه الفكرة، لكنها ليست مستحيلةً".
ويتجلّى تأثير فكرة السفر عبر الزمن في الكثير من كتابات بورخيس. وقصّة "الأنقاض الدائرية" تدور حول مدرج "دائري". وتقع جميع الأحداث المهمة في القصّة في الآثار "الدائرية" لمعبد. والسمة الرئيسية للدائرة هي أنها لا بداية لها ولا نهاية، وأنها لا نهائية. وكلمة "لانهائي" تسحر بورخيس، وهي مرادفة لكلمة "دائرة" أو "دائري".
ومن بين التفسيرات العديدة لـ "الأنقاض الدائرية" أنها تتحدّث عن الأبوّة الحرفية، إذ يأتي انسان بإنسان آخر يجب أن يعلّمه قبل إرساله ليشقّ طريقه في هذا العالم، مع إدراكه أيضا أنه هو نفسه كان والدا لإنسان آخر، وهو شيء يجب أن يتذكّره، لأننا غالبا ما نفقد التركيز على حقيقة أنه من أجل أن نكون هنا كان علينا أن يُحمل بنا وأن نُصنع من شخصين آخرين. وعلى الرغم من إدراكنا لهذه الحقيقة على مستوى ما، فإننا ندفع بها جانبا على مستوى آخر في حياتنا اليومية.
هل الآثار الدائرية التي ينام فيها الساحر مجرّد حلم أيضاً؟ لاحظ غلبة الصور الرمادية في القصّة، فالساحر نفسه يوصف بأنه رجل رمادي، في حين أن التمثال الحجري بتحوّله من النار يشبه الآن الرماد. وعلى مستوى ما، فإن الساحر في " الأنقاض الدائرية" هو فنّان "مثل الكاتب"، تساعده أحلامه في خلق وتوجيه فنّان آخر. لقد لاحظ بورخيس ذات يوم أن "كلّ كاتب يخلق أسلافه"، ولكن كلّ كاتب يساعد في خلق خلفائه أيضا.

Credits
borges.pitt.edu
dokumen.pub

الأحد، مارس 09، 2025

ثورو والسكّان الأصليون


كان هنري ديفيد ثورو مهتمّاً طيلة حياته بالثقافات الأمريكية الأصلية. وشغفه الطويل بالهنود الحمر ما يزال موضوعا متكرّرا ومصدرا دائما للنقاش. كان لديه اهتمام عميق بتاريخ وثقافة السكّان الأصليين، وكان يُنظر إليه من قبل العديد من معاصريه، مثل رالف إيمرسون وناثانيال هوثورن، على أنه "أشبه بالهنود من جيرانه البيض".
في شبابه، كان ثورو يمسح الأرض بعينيه بحثاً عن شظايا حجرية صغيرة خلّفتها الثقافات القديمة. وعندما زار جزيرة إنديانا، موطن أمّة البينوبسكوت الهندية، كتب الوصف التالي: أخذتنا العبّارة إلى الجزيرة. وعندما غادرنا الشاطئ، لاحظت هنديّاً قصير القامة رثّ المظهر يشبه عاملة غسل الملابس. وهذه الصورة كافية لوضع تاريخ الهنود أمام أعيننا".
وبدا أن ثورو كان مؤهّلاً لأن يفهم بشكل حدسي الصلة العالمية بين البشر. كان الهندي برأيه يمثل الحالة الطبيعية للإنسان. ولذا اختار أشخاصا من الهنود لمرافقته وإرشاده في رحلاته عبر الغابات، لأنه كان يريد أن يتعرّف على أفكارهم عن كثب. وفي كتابه "غابات مين"، أخبر ثورو قرّاءه أن كلمة "متوحّش" مشتقّة من كلمة لاتينية تعني "الغابات". ومن هنا نعرف سرّ انجذاب ثورو الدائم والطبيعي للغابات والحياة البرّية.
ومثل غيره من أبناء عصره، كان ثورو يعتقد أن ثقافة الأمريكيين الأصليين في انحدار. وقد خاب أمله فيما تبقّى من مجتمع البينوبسكوت الذي رآه في عام 1846 وكتب يقول: السياسة أصبحت الآن رائجة بين السكّان الأصليين، حتى أنني تصوّرت أن صفّاً من الأكواخ الخشبية، مع رقصة باو واو، وسجين يُعذّب على المحك، سيكون أكثر احتراماً من هذا". كان يرى أن شعب بينوبسكوت يفقدون تلك الصورة الرومانسية للرجل النبيل المتوحّش ويستبدلونها بالسياسة.
ثورو كان أيضاً مكتشفاً. وقد وجد "فكرة" الهنود مثيرة للاهتمام. يقول روبرت ساير في كتابه "ثورو والهنود الأميركيون": أدرك هنري ثورو أن الهنود هم أناس قضوا حياتهم في الطبيعة، وفيها طوّروا معرفتهم التي كانت متفوّقة على معرفة الرجل الأبيض". ونشأت "فكرته" الأوّليّة عنهم من مجموعة من الأسماء والنظريات المغلوطة التي جمعها مكتشفون آخرون قبله.
وقد أدرك في وقت لاحق من حياته، وبعد تجاربه في الغابات مع الهنود، أن الهنود أنفسهم كانوا متجذّرين في التقاليد ويرفضون التغيير. وربّما كان هذا أحد أسباب تناقصهم. ولا بدّ أن هذا قد أثار مشاعر مختلطة في نفسه. فمن أجل أن توجد البرّية الحقيقية في البشر، لا بدّ أن يكون البشر غير مروّضين، وأن يكونوا إلى جانب الطبيعة إن لم يكونوا جزءاً منها.
ويحلّل ساير الصور النمطية الرئيسية عن الهنود كما يلي: كانوا صيّادين منعزلين وليسوا مزارعين، ملتزمين بالتقاليد وغير قابلين للتحسين، أبرياء يشبهون الأطفال وقد أفسدتهم الحضارة، وثنيين خرافيين ومحكوما عليهم بالانقراض".


ويعلّق على ذلك بقوله: لكن الوحشية لم تكن وصفا دقيقا للواقع. فلم تكن تستند الى وصف سكّان أميركا الأصليين لأنفسهم، بل إلى الوصف الذي أعطاه لهم الغزاة والمبشّرون والرحّالة الأوربيّون".
ولم يكن ثورو، باعتباره مكتشفا في القرن التاسع عشر، مبرّأً من الموقف الوحشي. كان هذا الموقف هو الخلفية التي شكّلت موضوع الهنود في ذهنه وشكّلت التاريخ الذي بدأ منه بحثه عن "الهندي".
وبرأي ساير أن ثورو لم يتحرّك خارج حدود الرؤية المحدودة للوحشية الا بعد تأليفه كتابه "غابات مين" الذي يصفه ساير بانه أهم كتاب له، لأنه "مكتوب عن الهنود" بالفعل. ثم يروي ساير جانبا من مغامرة ثورو في ولاية مين عام 1853. في هذه الرحلة الاستكشافية، كان مرشد ثورو هو جو ايتون، وهو هندي اختير بعناية. وقد أصبح ايتون موضوعا لمراقبة ثورو ودراسته المكثّفة. ويشعر ساير أنه خلال تلك الرحلة، حقّق ثورو خطوات كبيرة تتجاوز الوحشية.
كانت رحلة لا تقدّر بثمن بالنسبة لتطوّر ثورو، لأنه في ذروة تلك الرحلة تمكّن أخيراً من التمييز بين خشونة الهنود والبيض". واختار أن يقضي الليل في معسكر ثلاثة من الهنود بدلاً من معسكر بعض الحطّابين البيض، وأمضى تلك الليالي في التحدّث مع الهنود تحت السماء وعلى العشب البارد. وبعد الرحلة "شعر ثورو بالراحة في صحبة الهنود وأدرك أهمية الحفاظ على البرّية التي يعتمد عليها الشعراء والهنود".
وبدا أنه كلّما زاد اتصال ثورو بمرشدي امّة بينوبسكوت، رأى فيهم بشرا وليس مجرّد "هنود". ولم يتزعزع شغفه بالأمريكيين الأصليين أبدا. وقد غيّرت رحلاته إلى غابات مين من تصوّراته لما يعنيه أن تكون أمريكيّا أصليّا في عالم سريع التغيّر.
ومن خلال اتصاله بأشخاص من شعب البينوبسكوت، اكتشف ثورو وجهة نظر جديدة وأكثر استنارة عن الأمريكيين الأصليين، وانتقل من افتراضاته الساذجة سابقا إلى فهم ينطوي على الاحترام والتبجيل.
وقد قارن البعض ثورو بالهنود وقالوا إن قدرته على المشي في الطبيعة بين الطيور والأشجار والتحدّث بلغة الحيوانات كانت خارقة. كان الهندي استعارة حيّة لثورو. ولعلّه كان يأمل أن يدفعه تماهيه الشخصي مع أسلوب الحياة "الهندي" إلى مواصلة بحثه عن المقدّس في الحياة. ويُقال إن الكلمات الأخيرة له وهو على فراش الموت كانت: "هندي"، و"موس" وهو نوع من الأيائل المرتبطة بحياة الهنود.
لكن البعض يلوم ثورو لأنه لم يفعل الكثير للاحتجاج على التهجير المنهجي للسكّان الأصليين. وقد هاجم البعض هذا التناقض متسائلين: كيف يمكن لثورو أن يُظهر احتراما عميقا لمعتقدات الهنود الحمر، وفي نفس الوقت يظلّ صامتا إلى حدّ كبير إزاء الإبادة الجماعية التي حدثت لهم طوال حياته.

Credits
thoreau-online.org
archive.vcu.edu