تخيّل نفسك واقفا على حافّة بحيرة هادئة سطحها أملس يشبه مرآة مثالية تعكس العالم بوضوح. لكن عندما تمدّ يدك لتلمس الماء البارد، فإن التموّجات تشوّه الصورة وتكشف عن العمق والألغاز المخفية أسفل.
هذه البحيرة تشبه الحياة نفسها، فما تراه على السطح غالبا ما يكون مجرّد انعكاس؛ نسخة مشوّهة من حقيقة أعمق. هل تتذكّر آخر مرّة شعرت فيها بالحرّية الحقيقية دون أن تثقل كاهلك همومك اليومية وتوقّعاتك؟ ربّما كانت لحظات قضيتها في الطبيعة، أو شاركت فيها ضحكة عفوية مع صديق حيث شعرت بتواصل حقيقي وحيوي. ذلك التعبير النقي عن الوجود هو ذاتك الحقيقية بحالتها التلقائية وغير المتصنّعة.
لكن في كثير من الأحيان فإن هذا الواقع تحجبه شبكة واسعة غير مرئية من الأوهام المنسوجة في خيوط الحياة اليومية. وهي مصمّمة لتشتيت انتباهك وخداعك وإقناعك بتقدير قيمة كلّ ما هو سطحي لكي تخاف من المجهول وتمتثل للقواعد الجاهزة. كما أنها هي التي تشكّل أفكارك ورغباتك ومخاوفك وتبني عالما يبدو حقيقيا ظاهريا، ولكنه غالبا ما يكون متحكّما فيه ومصطنعا.
هذا هو ملخّص فكرة فيلم "ميتريكس"، أو المصفوفة. وبينما يفترض الفيلم أننا جميعا موجودون في محاكاة كمبيوترية عملاقة، فإن قصّة "الأنقاض الدائرية" لبورخيس تثير احتمال أن نكون مجرّد أشباح في خيال الآخرين، وأن ذكريات وجودنا السابق قد تمّ محوها من أذهاننا.
وقصّة "الأنقاض الدائرية" يعتبرها النقّاد من أغنى القصص القصيرة الرمزية التي ألّفها الكاتب الأرجنتيني وواحدة من أقوى استكشافاته وأكثرها إيحاءً لطبيعة الواقع والأحلام. كما يمكن تفسيرها باعتبارها قصّة عن الإبداع الفنّي أو عن العالم ومكاننا فيه. أيضا تتميّز "الأنقاض الدائرية" باستخدام بورخيس المذهل للغة واختياره للكلمات وبنثره الذي يترك أثرا سحريّاً على القارئ.
وكما يشير العنوان، تدور القصّة حول مدرّج دائري لمعبد أثريّ قديم. وتبدأ بعبارة "وإذا توقّف عن الحلم بك"، وتتحدّث عن رجل عجوز، يُشار إليه أيضا باسم الغريب أو الساحر، يغادر منزله في الجنوب ويصل إلى ضفّة نهر، ومن ثم إلى معبد دُمّر بفعل حرائق قديمة، ويظلّ الرجل هناك "من أجل خلق إنسان بقواه السحرية".
في وسط المعبد الدائري يوجد تمثال حجري يخلّد ذكرى إله غامض. هناك يبني الغريب له مسكنا. ثم ينام ليجد نفسه في الصباح وقد شُفي من جروحه التي أصيب بها أثناء خروجه من مياه النهر الموحلة. ومن أجل تنفيذ رغبته، ينام الساحر بجوار الأطلال، عازما على أن يحلم برجل يظهر إلى الوجود. ونظرا لأنه غير قادر على الإجابة على أيّ أسئلة حول خلفيته وهدفه، فإن هذا المعبد هو أفضل موقع يمكنه العثور فيه على غرضه.
ثم يحلم الرجل بنفسه ويتخيّل عددا من الطلاب، بعضهم قريبون وبعضهم بعيدون، بملامح واضحة للعيان. ويلقي عليهم محاضرات عن التشريح وعلم الكون والسحر ويستمعون باهتمام من أجل الدخول إلى العالم الحقيقي من خلال حلمه.
ويستغرق الأمر عامين حتى يتحوّل الانسان الذي حلم به إلى حقيقة. ينظر إليه الساحر وكأنه ابن له. ومع ذلك، يأمره إله النار بإرسال الانسان الذي حلم به إلى معبد آخر، فيسمح له بالرحيل على مضض بعد أن محا ذاكرته أوّلاً. وبهذه الطريقة، لن يعرف الرجل أبدا أنه مجرّد نتاج لأحلام الساحر أو الغريب، بل سيصدّق أنه شخص حقيقي.
وفي وقت لاحق، يسمع الساحر أن الرجل الذي حلم بوجوده له القدرة على المشي على النار دون أن يحترق. وعندما يشبّ حريق في الغابة ويجتاح المعبد، يتقبّل الساحر الموت بصبر ويمشي وسط النيران، ويدرك أنه لم يصب بأذى وأنه، مثل "ابنه"، كان من نسج خيال شخص آخر وأنه ليس شخصا حقيقيّا.
وفجأة تصل تأمّلات الغريب إلى نهايتها. في البداية، "ظهرت غيمة بعيدة بعد جفاف طويل، بيضاء كطائر، على تلّ. ثم بالقرب من الجنوب، اتّخذت السماء لوناً وردياً كلون لثّة فهد، ثم جاءت غيوم الدخان التي ألقت بالصدأ على معادن الليل. ثم حصل فرار مرعب للحيوانات المتوحشة. ما حصل قبل مئات السنين، ها هو يتكرّر الآن".
كانت النار تدمّر خرائب حرم إله النار. وفي فجر بلا طيور، رأى الساحر المحرقة المستعرة تصل إلى الجدران. فكّر للحظة بالالتجاء إلى الماء، لكنه أدرك حينها أن الموت سيتوّج شيخوخته. مشى نحو خرَق اللهب المشتعل، لكنها لم تنهش لحمه، بل ربّتت عليه وغمرته دون حرارة أو إحراق. وبارتياح وخزي ورعب، أدرك أنه هو أيضاً، كان وهماً يحلم به إنسان آخر".
قصّة "الأنقاض الدائرية" تتناول المواضيع التي تتكرّر في أعمال بورخيس عادةً، وتستند الى مجموعة واسعة من التأثيرات الدينية. وقد لاحظ العديد من النقّاد أن القصّة تبدو وكأنها تكرار لفكرة التقليد الغنوصي المسيحي التي تقول بأن "وراء كلّ خالق يختبئ خالق آخر".
والشخصية الرئيسية للحالم أو الغريب تستخدم صراحةً لغة الزرادشتية، حيث تعتبر النار أنقى عنصر. كما لوحظ أيضا تشابه القصّة مع الأسطورة اليهودية الكابالية، حيث يتمكّن البشر الفانون من استعادة لحظة الخلق الإلهي للحياة. ويمكن القول كذلك ان القصّة تستند أيضا إلى الفكرة البوذية القائلة بأن العالم وهم.
هذه البحيرة تشبه الحياة نفسها، فما تراه على السطح غالبا ما يكون مجرّد انعكاس؛ نسخة مشوّهة من حقيقة أعمق. هل تتذكّر آخر مرّة شعرت فيها بالحرّية الحقيقية دون أن تثقل كاهلك همومك اليومية وتوقّعاتك؟ ربّما كانت لحظات قضيتها في الطبيعة، أو شاركت فيها ضحكة عفوية مع صديق حيث شعرت بتواصل حقيقي وحيوي. ذلك التعبير النقي عن الوجود هو ذاتك الحقيقية بحالتها التلقائية وغير المتصنّعة.
لكن في كثير من الأحيان فإن هذا الواقع تحجبه شبكة واسعة غير مرئية من الأوهام المنسوجة في خيوط الحياة اليومية. وهي مصمّمة لتشتيت انتباهك وخداعك وإقناعك بتقدير قيمة كلّ ما هو سطحي لكي تخاف من المجهول وتمتثل للقواعد الجاهزة. كما أنها هي التي تشكّل أفكارك ورغباتك ومخاوفك وتبني عالما يبدو حقيقيا ظاهريا، ولكنه غالبا ما يكون متحكّما فيه ومصطنعا.
هذا هو ملخّص فكرة فيلم "ميتريكس"، أو المصفوفة. وبينما يفترض الفيلم أننا جميعا موجودون في محاكاة كمبيوترية عملاقة، فإن قصّة "الأنقاض الدائرية" لبورخيس تثير احتمال أن نكون مجرّد أشباح في خيال الآخرين، وأن ذكريات وجودنا السابق قد تمّ محوها من أذهاننا.
وقصّة "الأنقاض الدائرية" يعتبرها النقّاد من أغنى القصص القصيرة الرمزية التي ألّفها الكاتب الأرجنتيني وواحدة من أقوى استكشافاته وأكثرها إيحاءً لطبيعة الواقع والأحلام. كما يمكن تفسيرها باعتبارها قصّة عن الإبداع الفنّي أو عن العالم ومكاننا فيه. أيضا تتميّز "الأنقاض الدائرية" باستخدام بورخيس المذهل للغة واختياره للكلمات وبنثره الذي يترك أثرا سحريّاً على القارئ.
وكما يشير العنوان، تدور القصّة حول مدرّج دائري لمعبد أثريّ قديم. وتبدأ بعبارة "وإذا توقّف عن الحلم بك"، وتتحدّث عن رجل عجوز، يُشار إليه أيضا باسم الغريب أو الساحر، يغادر منزله في الجنوب ويصل إلى ضفّة نهر، ومن ثم إلى معبد دُمّر بفعل حرائق قديمة، ويظلّ الرجل هناك "من أجل خلق إنسان بقواه السحرية".
في وسط المعبد الدائري يوجد تمثال حجري يخلّد ذكرى إله غامض. هناك يبني الغريب له مسكنا. ثم ينام ليجد نفسه في الصباح وقد شُفي من جروحه التي أصيب بها أثناء خروجه من مياه النهر الموحلة. ومن أجل تنفيذ رغبته، ينام الساحر بجوار الأطلال، عازما على أن يحلم برجل يظهر إلى الوجود. ونظرا لأنه غير قادر على الإجابة على أيّ أسئلة حول خلفيته وهدفه، فإن هذا المعبد هو أفضل موقع يمكنه العثور فيه على غرضه.
ثم يحلم الرجل بنفسه ويتخيّل عددا من الطلاب، بعضهم قريبون وبعضهم بعيدون، بملامح واضحة للعيان. ويلقي عليهم محاضرات عن التشريح وعلم الكون والسحر ويستمعون باهتمام من أجل الدخول إلى العالم الحقيقي من خلال حلمه.
ويستغرق الأمر عامين حتى يتحوّل الانسان الذي حلم به إلى حقيقة. ينظر إليه الساحر وكأنه ابن له. ومع ذلك، يأمره إله النار بإرسال الانسان الذي حلم به إلى معبد آخر، فيسمح له بالرحيل على مضض بعد أن محا ذاكرته أوّلاً. وبهذه الطريقة، لن يعرف الرجل أبدا أنه مجرّد نتاج لأحلام الساحر أو الغريب، بل سيصدّق أنه شخص حقيقي.
وفي وقت لاحق، يسمع الساحر أن الرجل الذي حلم بوجوده له القدرة على المشي على النار دون أن يحترق. وعندما يشبّ حريق في الغابة ويجتاح المعبد، يتقبّل الساحر الموت بصبر ويمشي وسط النيران، ويدرك أنه لم يصب بأذى وأنه، مثل "ابنه"، كان من نسج خيال شخص آخر وأنه ليس شخصا حقيقيّا.
وفجأة تصل تأمّلات الغريب إلى نهايتها. في البداية، "ظهرت غيمة بعيدة بعد جفاف طويل، بيضاء كطائر، على تلّ. ثم بالقرب من الجنوب، اتّخذت السماء لوناً وردياً كلون لثّة فهد، ثم جاءت غيوم الدخان التي ألقت بالصدأ على معادن الليل. ثم حصل فرار مرعب للحيوانات المتوحشة. ما حصل قبل مئات السنين، ها هو يتكرّر الآن".
كانت النار تدمّر خرائب حرم إله النار. وفي فجر بلا طيور، رأى الساحر المحرقة المستعرة تصل إلى الجدران. فكّر للحظة بالالتجاء إلى الماء، لكنه أدرك حينها أن الموت سيتوّج شيخوخته. مشى نحو خرَق اللهب المشتعل، لكنها لم تنهش لحمه، بل ربّتت عليه وغمرته دون حرارة أو إحراق. وبارتياح وخزي ورعب، أدرك أنه هو أيضاً، كان وهماً يحلم به إنسان آخر".
قصّة "الأنقاض الدائرية" تتناول المواضيع التي تتكرّر في أعمال بورخيس عادةً، وتستند الى مجموعة واسعة من التأثيرات الدينية. وقد لاحظ العديد من النقّاد أن القصّة تبدو وكأنها تكرار لفكرة التقليد الغنوصي المسيحي التي تقول بأن "وراء كلّ خالق يختبئ خالق آخر".
والشخصية الرئيسية للحالم أو الغريب تستخدم صراحةً لغة الزرادشتية، حيث تعتبر النار أنقى عنصر. كما لوحظ أيضا تشابه القصّة مع الأسطورة اليهودية الكابالية، حيث يتمكّن البشر الفانون من استعادة لحظة الخلق الإلهي للحياة. ويمكن القول كذلك ان القصّة تستند أيضا إلى الفكرة البوذية القائلة بأن العالم وهم.
أيضا تتردّد في القصّة فكرة التكرار الدائري للتاريخ التي تناولها بورخيس مرارا. وقد سبق ان تحدّث في احدى قصص مجموعته "ألِف" عن طائفة قديمة كانت تعيش على ضفاف نهر الدانوب وادّعت أن التاريخ عبارة عن دائرة وأنه لا يوجد شيء لم يكن موجودا من قبل وأنه لن يكون هناك أيّ شيء جديد أبدا. وبالنسبة لتلك الطائفة فقد حلّت العجلة والثعبان مكان الصليب.
وفي الواقع، تمتلئ فصول العهد القديم بمثل هذه الفكرة. مثلا يبدأ "سفر الجامعة" بهذه الكلمات المحيّرة: لا معنى له، لا معنى له!، يقول المعلّم. لا معنى له على الإطلاق! كلّ شيء لا معنى له." ويورد العهد القديم كلاما مشابها لسليمان الحكيم: ما كان سوف يكون مرّة أخرى، ما فُعل سوف يُفعل مرّة أخرى، لا شيء جديد تحت الشمس".
وبورخيس ليس الكاتب الوحيد الذي قال بالتكرار الدائري للزمن. الفيلسوف ابن عربي أيضا يصف الزمن بأنه دائرة ليس لها بداية ولا نهاية وأن العالم يعاد خلقه باستمرار وأن الزمن يتقلّص إلى اللحظة الحالية، لأن الماضي والمستقبل مجرّد خيال. وبالتالي فإن الزمن، أو اللحظة الحالية، تسير في حركة دائرية متكرّرة مع إعادة خلق العالم. وبعبارة أخرى، وحسب ابن عربي، فإن الزمن يدور حول العالم باستمرار وبشكل متكرّر لخلقه وإعادة خلقه مرّة أخرى، وبالتالي فهو دائريّ "ودوريّ" من هذا المنظور الميتافيزيقي.
في عام 1977، ألقى بورخيس محاضرة ضمّنها بعض أفكاره عن البوذية. فقال إنها لا تعترف بحقيقة الجسد أو الروح، وروى قصّة بوذا، الذي كان اسمه في الأصل سيدهارتا أو غوتاما، الذي أصبح "المستيقظ"، وحصل على "النيرڤانا" بعد جلوسه تحت شجرة في بنارس. وأضاف بورخيس: أصبح غوتاما بوذا، المستنير أو المستيقظ، على عكس بقيّتنا الذين ظللنا نائمين نحلم بهذا الحلم العظيم الذي هو الحياة".
وبحسب بورخيس، فإن حياتنا حلم لأننا جميعا نحلم به، أو من الممكن أن يكون هناك شخص آخر يحلم بحياتنا. وفي نهاية قصّة " الأنقاض الدائرية "، يشعر الساحر أو الغريب أن شخصا آخر كان يحلم بحياته. وأثناء قراءة القصّة، يسيطر شعور بالحيرة على عقل القارئ. فمن الصعب التمييز فيها أين تنتهي الحقيقة وأين يبدأ الحلم. والقصّة تقدّم مزيجا ضبابيّا من الواقع والأحلام والخيال. ومن خلال هذا يجبر بورخيس قرّاءه على تبنّي سلوك متشكّك تجاه كتاباته، والذي يعتبره صفة أساسية لفعل القراءة الجيّدة.
في كتابات بورخيس، لا وجود للزمن. ولا يُفترض أن يكون أيّ شيء ثابتا. كما أنه يأخذ قارئه إلى حالة من اللازمنية، ولا يميّز بين الحقيقة والخيال، وهناك إزاحة مستمرّة للمعنى. وهذه السمة واضحة في "الأنقاض الدائرية" أيضا.
بورخيس يكتب متمتّعا بامتياز التحرّر من حدود الزمن. وهو لا يكتب وفقا للتسلسل الزمني، بل دون الانتباه إلى التمييز بين الماضي والحاضر والحلم والواقع. كما انه ينقل القارئ إلى عالم خيالي يدركه هو. ويبدو أن هذه الأفكار مرتبطة بنظرية آينشتاين. فوفقاً لآينشتاين فإن الزمن ليس موحّداً ومطلقاً. ويمكن للمرء أن يسافر إلى الماضي والمستقبل بسبب أنواع معيّنة من الحركة في الفضاء. وقد أعلن بعض الباحثين، بالإشارة إلى نظرية النسبية لأينشتاين، أن "لا شيء في قوانين الفيزياء يمنع السفر عبر الزمن. قد يكون من الصعب تطبيق هذه الفكرة، لكنها ليست مستحيلةً".
ويتجلّى تأثير فكرة السفر عبر الزمن في الكثير من كتابات بورخيس. وقصّة "الأنقاض الدائرية" تدور حول مدرج "دائري". وتقع جميع الأحداث المهمة في القصّة في الآثار "الدائرية" لمعبد. والسمة الرئيسية للدائرة هي أنها لا بداية لها ولا نهاية، وأنها لا نهائية. وكلمة "لانهائي" تسحر بورخيس، وهي مرادفة لكلمة "دائرة" أو "دائري".
ومن بين التفسيرات العديدة لـ "الأنقاض الدائرية" أنها تتحدّث عن الأبوّة الحرفية، إذ يأتي انسان بإنسان آخر يجب أن يعلّمه قبل إرساله ليشقّ طريقه في هذا العالم، مع إدراكه أيضا أنه هو نفسه كان والدا لإنسان آخر، وهو شيء يجب أن يتذكّره، لأننا غالبا ما نفقد التركيز على حقيقة أنه من أجل أن نكون هنا كان علينا أن يُحمل بنا وأن نُصنع من شخصين آخرين. وعلى الرغم من إدراكنا لهذه الحقيقة على مستوى ما، فإننا ندفع بها جانبا على مستوى آخر في حياتنا اليومية.
هل الآثار الدائرية التي ينام فيها الساحر مجرّد حلم أيضاً؟ لاحظ غلبة الصور الرمادية في القصّة، فالساحر نفسه يوصف بأنه رجل رمادي، في حين أن التمثال الحجري بتحوّله من النار يشبه الآن الرماد. وعلى مستوى ما، فإن الساحر في " الأنقاض الدائرية" هو فنّان "مثل الكاتب"، تساعده أحلامه في خلق وتوجيه فنّان آخر. لقد لاحظ بورخيس ذات يوم أن "كلّ كاتب يخلق أسلافه"، ولكن كلّ كاتب يساعد في خلق خلفائه أيضا.
وفي الواقع، تمتلئ فصول العهد القديم بمثل هذه الفكرة. مثلا يبدأ "سفر الجامعة" بهذه الكلمات المحيّرة: لا معنى له، لا معنى له!، يقول المعلّم. لا معنى له على الإطلاق! كلّ شيء لا معنى له." ويورد العهد القديم كلاما مشابها لسليمان الحكيم: ما كان سوف يكون مرّة أخرى، ما فُعل سوف يُفعل مرّة أخرى، لا شيء جديد تحت الشمس".
وبورخيس ليس الكاتب الوحيد الذي قال بالتكرار الدائري للزمن. الفيلسوف ابن عربي أيضا يصف الزمن بأنه دائرة ليس لها بداية ولا نهاية وأن العالم يعاد خلقه باستمرار وأن الزمن يتقلّص إلى اللحظة الحالية، لأن الماضي والمستقبل مجرّد خيال. وبالتالي فإن الزمن، أو اللحظة الحالية، تسير في حركة دائرية متكرّرة مع إعادة خلق العالم. وبعبارة أخرى، وحسب ابن عربي، فإن الزمن يدور حول العالم باستمرار وبشكل متكرّر لخلقه وإعادة خلقه مرّة أخرى، وبالتالي فهو دائريّ "ودوريّ" من هذا المنظور الميتافيزيقي.
في عام 1977، ألقى بورخيس محاضرة ضمّنها بعض أفكاره عن البوذية. فقال إنها لا تعترف بحقيقة الجسد أو الروح، وروى قصّة بوذا، الذي كان اسمه في الأصل سيدهارتا أو غوتاما، الذي أصبح "المستيقظ"، وحصل على "النيرڤانا" بعد جلوسه تحت شجرة في بنارس. وأضاف بورخيس: أصبح غوتاما بوذا، المستنير أو المستيقظ، على عكس بقيّتنا الذين ظللنا نائمين نحلم بهذا الحلم العظيم الذي هو الحياة".
وبحسب بورخيس، فإن حياتنا حلم لأننا جميعا نحلم به، أو من الممكن أن يكون هناك شخص آخر يحلم بحياتنا. وفي نهاية قصّة " الأنقاض الدائرية "، يشعر الساحر أو الغريب أن شخصا آخر كان يحلم بحياته. وأثناء قراءة القصّة، يسيطر شعور بالحيرة على عقل القارئ. فمن الصعب التمييز فيها أين تنتهي الحقيقة وأين يبدأ الحلم. والقصّة تقدّم مزيجا ضبابيّا من الواقع والأحلام والخيال. ومن خلال هذا يجبر بورخيس قرّاءه على تبنّي سلوك متشكّك تجاه كتاباته، والذي يعتبره صفة أساسية لفعل القراءة الجيّدة.
في كتابات بورخيس، لا وجود للزمن. ولا يُفترض أن يكون أيّ شيء ثابتا. كما أنه يأخذ قارئه إلى حالة من اللازمنية، ولا يميّز بين الحقيقة والخيال، وهناك إزاحة مستمرّة للمعنى. وهذه السمة واضحة في "الأنقاض الدائرية" أيضا.
بورخيس يكتب متمتّعا بامتياز التحرّر من حدود الزمن. وهو لا يكتب وفقا للتسلسل الزمني، بل دون الانتباه إلى التمييز بين الماضي والحاضر والحلم والواقع. كما انه ينقل القارئ إلى عالم خيالي يدركه هو. ويبدو أن هذه الأفكار مرتبطة بنظرية آينشتاين. فوفقاً لآينشتاين فإن الزمن ليس موحّداً ومطلقاً. ويمكن للمرء أن يسافر إلى الماضي والمستقبل بسبب أنواع معيّنة من الحركة في الفضاء. وقد أعلن بعض الباحثين، بالإشارة إلى نظرية النسبية لأينشتاين، أن "لا شيء في قوانين الفيزياء يمنع السفر عبر الزمن. قد يكون من الصعب تطبيق هذه الفكرة، لكنها ليست مستحيلةً".
ويتجلّى تأثير فكرة السفر عبر الزمن في الكثير من كتابات بورخيس. وقصّة "الأنقاض الدائرية" تدور حول مدرج "دائري". وتقع جميع الأحداث المهمة في القصّة في الآثار "الدائرية" لمعبد. والسمة الرئيسية للدائرة هي أنها لا بداية لها ولا نهاية، وأنها لا نهائية. وكلمة "لانهائي" تسحر بورخيس، وهي مرادفة لكلمة "دائرة" أو "دائري".
ومن بين التفسيرات العديدة لـ "الأنقاض الدائرية" أنها تتحدّث عن الأبوّة الحرفية، إذ يأتي انسان بإنسان آخر يجب أن يعلّمه قبل إرساله ليشقّ طريقه في هذا العالم، مع إدراكه أيضا أنه هو نفسه كان والدا لإنسان آخر، وهو شيء يجب أن يتذكّره، لأننا غالبا ما نفقد التركيز على حقيقة أنه من أجل أن نكون هنا كان علينا أن يُحمل بنا وأن نُصنع من شخصين آخرين. وعلى الرغم من إدراكنا لهذه الحقيقة على مستوى ما، فإننا ندفع بها جانبا على مستوى آخر في حياتنا اليومية.
هل الآثار الدائرية التي ينام فيها الساحر مجرّد حلم أيضاً؟ لاحظ غلبة الصور الرمادية في القصّة، فالساحر نفسه يوصف بأنه رجل رمادي، في حين أن التمثال الحجري بتحوّله من النار يشبه الآن الرماد. وعلى مستوى ما، فإن الساحر في " الأنقاض الدائرية" هو فنّان "مثل الكاتب"، تساعده أحلامه في خلق وتوجيه فنّان آخر. لقد لاحظ بورخيس ذات يوم أن "كلّ كاتب يخلق أسلافه"، ولكن كلّ كاتب يساعد في خلق خلفائه أيضا.
Credits
borges.pitt.edu
dokumen.pub
borges.pitt.edu
dokumen.pub