:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الاثنين، سبتمبر 22، 2014

لوحة لها تاريخ

لوحة رافائيل "مادونا دير سان سيستو"، أو "عذراء كنيسة سيستين" كما تُسمّى أحيانا، اعتُبرت دائما ذات مكانة خاصّة بين الأعمال التشكيلية العالمية. وعلى مرّ القرون، أضفي على اللوحة طابع من القداسة والتبجيل، وكُتب عنها الكثير من المقالات والدراسات والأشعار.
وهناك العديد من الأساطير التي تحيط بهذه اللوحة. يقال مثلا أن رافائيل رسمها بعد أن رأى تفاصيلها في حلم، وأن بعض مرضى فرويد مرّوا بحالة من النشوة الدينية بعد أن رأوها. وكان للوحة تأثيرها على كلّ من غوته وفاغنر ونيتشه. كما اعتبرها دستويفسكي "كشفا مهمّا عن الروح الإنسانية".
في عام 1768، وكان غوته وقتها ما يزال طالبا يدرس القانون ولم يصبح بعد فيلسوفا وشاعرا مشهورا، دخل لأوّل مرّة إلى متحف الفنّ الجديد في دريسدن حيث توجد اللوحة. وقد وصف ما رآه هناك بقوله: الصمت العميق كان مخيّما على المكان. كان الأمر أشبه ما يكون بذلك الإحساس العميق بالهدوء والطمأنينة الذي ينتابك عندما تدخل دارا للعبادة. وهذا الشعور يتعمّق أكثر فأكثر كلّما تأمّلت الصورة التي على الجدار".
بالنسبة لغوته، كانت رؤية هذه الصورة نوعا من التجربة الدينية. ولا بدّ وأنه تعامل معها بقدر من القدسيّة والتأمّل الصوفي. كان يتأمّل مثل هذه القطع الفنّية في سياق الطقوس الدينية الفعلية. وبالنسبة له، لم تكن المادونا مجرّد عمل فنّي، بل كانت وقبل كلّ شيء صورة تعبّدية لها غايات طقوسية معيّنة.
ولكن، كيف اكتسبت اللوحة كلّ هذه الأهميّة بعد النسيان التام الذي عانته في سنواتها المبكّرة عندما كانت لوحة متواضعة في دير بإيطاليا؟!
لنبدأ القصّة من أوّلها..
ولد رافائيل "واسمه الأصلي رافائيلو سانشيو" في اوربينو، وهي مدينة تقع وسط ايطاليا. وقد درس الرسم على يد بييترو بيروجينو الذي منح رافائيل لقب معلّم واعتبره رسّاما ناضجا وهو لم يتجاوز الثامنة عشرة آنذاك.
بعد أن أصبح رافائيل مشهورا في جميع أرجاء ايطاليا، دعاه البابا جوليوس الثاني لزيارة روما وكلّفه برسم جدارية في مكتبته في قصر الفاتيكان.
كانت حظوظ رافائيل في روما أفضل من حظوظ ميكيل انجيلو الذي استغرق وقتا أطول قبل أن يعرفه الناس. ولهذا السبب، قيل إن ميكيل انجيلو كان يضمر شيئا من الحسد والكراهية لرافائيل، حتى قبل أن يقابله، بل لقد اتّهمه بالسرقة والتآمر ضدّه.

البعض يشبّه رافائيل بفيدياس النحّات الاثيني الذي أشرف على بناء معبد البارثينون، الرمز الباقي لليونان القديمة. الإغريق يرون أن فيدياس لم يبتكر شيئا من عنده، بل جمع ومزج كلّ ما ابتكره الذين أتوا قبله لينجز في النهاية مستوى عاليا من التناغم والإحكام. وهذا هو بالضبط ما حقّقه رافائيل في أعماله التي كانت تبدو جديدة ومبتكرة بالنسبة لمعاصريه.
في عام 1511، تلقّى رافائيل تكليفا من البابا جوليوس كي يرسم جدارية في دير سان سيستو في بياتشينسا، شرط أن تتضمّن شخصيّات مثل القدّيس سيستوس البابا السابع للكنيسة، والقدّيسة باربرا وهي امرأة عاشت في القرن الثالث للميلاد واستشهدت بسبب دفاعها عن معتقداتها، ويعرفها مسيحيّو الشرق باسم "باربارة" ولها عيد سنويّ باسمها.
وبالفعل بدأ الفنّان تنفيذ المهمّة، فرسم جدارية تظهر فيها المادونا وهي تمسك بطفلها بينما تقف على بساط من الغيم. ثم رسم على يمينها سيستوس وهو ينظر إليهما ويشير إلى الناظر، بينما تاجه المثلّث موضوع عند قدميه، في إشارة إلى تواضعه إذ يرفض رمزا من رموز السلطة.
من الأشياء اللافتة في هذه الصورة أن المادونا تبدو غير مبالية أو مكترثة بالناظر. ما من شكّ في أن ملامحها جميلة وأن الفنّان رسمها بطريقة ناعمة، غير أنها اقلّ الشخصيات في اللوحة إثارة للاهتمام.
ومن الأسئلة التي تثار دائما: لماذا المادونا وطفلها يبدوان في مزاج حزن وحداد؟ ربّما يكمن السبب في أن الطفل كان يرى موته وأن أمّه ستكون شاهدة على تلك النهاية الحزينة.
وإلى يمين اللوحة، تظهر القدّيسة باربرا ذات الملامح الجميلة والهادئة وهي تجثو على ركبتيها لتلقي نظرة على أروع شخصيات اللوحة، أي الملاكين الصغيرين عند قدميها.
الملاكان المجنّحان الصغيران يُعتبران لوحدهما قصّة مثيرة للاهتمام. وقد تحوّلا إلى أشهر ملاكين في تاريخ الرسم، وصارت لهما حياة خاصّة بمعزل عن اللوحة منذ أصبحا يُستنسخان لوحدهما على الورق والبورسيلين منذ نهاية القرن الثامن عشر. ويبدو أن الثقافة الحديثة جعلت الملاكين الصغيرين هما ما يربط الناس باللوحة. إذ يمكن العثور عليهما اليوم مطبوعين على الأدوات المكتبية والمنزلية وعلى ورق التغليف والسيراميك والصيني في العديد من الأماكن حول العالم.

لكن صورة الملاكين مطبوعة أيضا في عقول الكثيرين بنظراتهما الحالمة المتّجهة إلى السماء. ويقال أن رافائيل استلهمهما من صورة صبيّين رآهما في الشارع وهما يتسوّلان الطعام. لكن يقال أيضا أن الموديل التي قامت بدور القدّيسة كان لها طفلان وكانت تجلبهما معها إلى محترف الفنّان بينما كان يرسمها. النظرات الملولة على وجهيهما ربّما توحي بإحساسهما بالسأم وهما يريان أمّهما تجلس لساعات طويلة أمام الرسّام.
الأطفال الصغار بأجنحة يمكن رؤيتهم بوفرة في لوحات عصر النهضة وعصري الباروك والروكوكو. ووجود ملاك صغير في لوحة هو رمز للحبّ، سواءً كان حبّا إلهيا أو ذا طبيعة أرضية. وبطبيعة الحال، لا يمكن أن ترى ملاكا دميما، فهو دائما جميل جدّا لدرجة انك تريد أحيانا أن تحتضنه.
الأشخاص الثلاثة الرئيسيون في هذه اللوحة يظهرون في فراغ تخيّلي محاط بستارة ثقيلة تفتح على مشهد سماويّ. والثلاثة تجمعهم علاقة صورية متوازنة ومتناغمة، بينما يحتلّ كلّ منهم فضاءه الخاصّ. ونسب الوجوه الثلاثة محسوبة بعناية كي تنتج تأثيرا جماليّا، وهي سمة تعزّزها مهارة رافائيل في تمثيل درجات البشرة باستخدام تقنية "الكياروسكورو"، أو التباين القويّ بين الضوء والظلّ.
رداء القدّيس يتألّف من اللونين الذهبي والأبيض، أي لوني البابا والكنيسة. وفي الخلفية تظهر قلعة وراء الستارة، وهي إشارة إلى أن القدّيسة حُبست في قلعة بسبب إيمانها.
وهناك هالات حول رؤوس الشخصيات، لكنها لا تّرى إلا بالكاد بسبب بَهَتان وتقادم الألوان بعد مرور كلّ هذه السنوات الطوال. وهناك خلفية وراء الشخصيات رُسمت بنعومة ويظهر فيها ملائكة صغار وهم يمتزجون بالغيم.
أيضا تتبدّى براعة رافائيل في رسم الستائر المنسدلة. وألوان عصر النهضة توجّه اهتمام الناظر وتضيف دفئا وغنى إلى التوليف.
في عام 1754، أزيلت اللوحة من مكانها في دير سان سيستو وحُملت عبر جبال الألب لتستقرّ أخيرا في بلاط اوغستوس الثالث ملك بولندا ودوق ليثوانيا.
كان من المفروض ألا تُنقل اللوحة إلا عندما يحلّ فصل الربيع. لكن عندما تمّت صفقة البيع، لم تمنع ثلوج وأمطار جبال الألب وكلاء اوغستوس من المضيّ في مهمّة نقل اللوحة الثمينة.

كان اوغستوس مصرّا على أن يضيف هذه اللوحة إلى مجموعته الفنّية. وكان بحوزته لوحات عديدة لرسّامين كثر. لكن كانت تنقصه لوحة لرافائيل. ويقال انه دفع مقابلها مبلغا كبيرا بمقاييس تلك الأيّام.
وصلت اللوحة إلى عاصمة اوغستوس الثالث في ديسمبر من عام 1754. وفي العام التالي، عُلّقت في غرفة منفردة في متحف دريسدن الملكيّ.
لكن عند عرضها لأوّل مرّة، كانت لوحة لأنطونيو دا كوريجيو مثار اهتمام الناس في ألمانيا وقتها. لذا تمّ تخزين لوحة مادونا دي سان سيستو بعيدا عن الأنظار طوال المائتي عام التالية. وقبل ذلك لم يكن احد، غير رهبان الدير، قد رأى اللوحة بعد أن أتمّ رافائيل رسمها في العام 1512. حتى جورجيو فاساري مؤرّخ حياة الرسّامين الايطاليين لم يكتب عنها في كتابه سوى سطر واحد يصفها فيه بأنها "عمل نادر وغير عاديّ".
ومع بداية القرن التاسع عشر، كانت اللوحة قد أصبحت مشهورة، بل وغدت أشهر المادونات جميعا وأشهر لوحة لرافائيل في أوربّا. وبين وقت وآخر، كانت تثير نقاشا لا ينتهي حول علاقة الفنّ بالدين.
وقد نجت اللوحة من القصف الذي تعرّضت له مدينة دريسدن أثناء الحرب العالمية الثانية، إذ كانت مخزّنة مع أعمال فنّية أخرى في نفق بسويسرا إلى أن عثر عليها الجيش الأحمر.
وفي عام 1946، أي بعد انتهاء الحرب، نُقلت المادونا إلى متحف بوشكين للفنون في موسكو. وفي عام 1955، أي بعد موت ستالين، قرّر الروس إعادتها إلى ألمانيا كبادرة حسن نيّة وبهدف تحسين العلاقات بين البلدين.
"لا مادونا دي سان سيستو" يمكن اعتبارها قطعة من التاريخ وتحفة فنّية من ذروة عصر النهضة الايطالي. وهي اليوم إحدى أكثر اللوحات المألوفة للعين، بالنظر إلى أنها استُنسخت عددا لا يُحصى من المرّات وكان لها تأثير على أجيال متعاقبة من مؤرّخي الفنّ وعلى الناس العاديين. وقد احتفل متحف دريسدن الألماني قبل عامين بذكرى مرور 500 عام على رسم اللوحة.

Credits
visual-arts-cork.com
historyofpaintings.com

الاثنين، سبتمبر 15، 2014

جبل النور: تاريخ

هناك قول مشهور مفاده أن الألماس يدوم إلى الأبد. ولهذا السبب أصبح هذا الحجر الثمين رمزا للحبّ الأبدي وللنقاء والقوّة. ويقال إن بعض الألماس الموجود على الأرض تشكّل قبل أكثر من 900 مليون عام.
وفي أنحاء متفرّقة من العالم توجد عدد من الماسات غير العاديّة والتي اكتسبت شهرة، إمّا بسبب نماذجها الممتازة التي تحاكي جمال الطبيعة، وإمّا بسبب المشاهير الذين ارتدوها أو اشتروها أو باعوها.
غير أن "جبل النور"، أو كوهي نور بالفارسية، تظلّ هي اكبر وأشهر ماسة معروفة في العالم. ويُعتقد أن موطنها الأصلي هو ولاية اندربراديش الهندية. لكنها موجودة الآن في برج لندن.
بالنسبة لحكّام المغول، كانت هذه الماسة تستحقّ أن تُخاض من اجلها المعارك والحروب. وتقول إحدى الأساطير أن الإله الهندوسي كريشنا استنقذها من إله الشمس. ولهذا اكتسبت الماسة قوّة روحية هائلة.
في هذا الكتاب بعنوان مطاردة جبل النور: رحلة على درب ماسة كوهي نور ، يتتبّع المؤلّف كيفين رشبي الطريق الدامي الذي سلكته هذه الماسة إلى أن استقرّت في مكانها الحالي. كما يضيء الكاتب بعض الزوايا المظلمة لعالم صناعة وتجارة المجوهرات في العالم.
في البداية يعطي الكاتب نبذة مفصّلة عن تاريخ هذه الماسة ويتناول رحلتها إلى قلب الثقافة الهندية وعالم المهرّبين والمحتالين. ويشير إلى أنها تزن حوالي 186 قيراطا وعمرها يمتدّ لأكثر من خمسة آلاف عام.
وقد تنقّلت الماسة بين قصور أباطرة المغول وضاعت أكثر من مرّة. ثم أصبحت ملعونة، فنشبت من اجلها حروب ونزاعات عدّة، ثم وصلت إلى السيخ في البنجاب، وانتهت إلى أيدي عملاء انجليز كانوا توّاقين لإدخال السعادة إلى قلب ملكة بريطانيا، الشابّة آنذاك، فيكتوريا.
اهتمام رشبي بتجارة الماس القديمة نشأ بعد لقاء بالصدفة جمعه مع احد مهرّبي الماس. والبحث عن الماسة قاده إلى عالم غريب من المدن الخفيّة والمناجم المفقودة والأماكن الغامضة والمجهولة. والمؤلّف يورد قصصا على ألسنة عمّال مناجم وفلاحين وكهنة ودبلوماسيين ومعلّمين روحانيين.
ماضي "جبل النور" غامض، كما يقول رشبي، وضوؤها يلمع في متاهة من المرايا المتخفّية في أساطير وأكاذيب وأسرار. وهو يتحدّث عن تجّار مجوهرات ذوي ثراء مجنون وعن مزارعين فقراء يكتشفون ثروات مخبوءة في حقولهم تنتهي في أيدي الجشعين وفي أسواق الماس السرّية حول العالم.

كتاب رشبي ليس مجرّد كتاب عن الألماس أو عن أشهر ماسة في العالم، بل يمكنك أن تعتبره تاريخا لرحلة واقعية عبر الثقافة الهندية الثريّة والغريبة. والمؤلّف هنا يتصرّف كما لو انه عين وأذن القارئ، فيحدّثك بإسهاب عن تفاصيل زياراته لأطلال قصور ملوك المغول ومهراجات الهند، ولقائه مع راهب بوذي، وذهابه بصحبة راجا سابق للبحث عن فصيلة من الأسود الآسيوية النادرة والمهدّدة بالانقراض.
وفي معرض حديثه عن سلسلة الطغاة المتعطّشين للدماء ممّن تقاتلوا ليظفروا بامتلاك هذه الماسة، لا يفوت المؤلّف أن يتحدّث أيضا عن الرمزية الصوفية والدينية وراء الشغف بالألماس في العديد من ثقافات العالم.
ملوك الهند وفارس والسيخ والأفغان والانجليز تقاتلوا على "جبل النور" بضراوة في مراحل مختلفة من التاريخ. وفي كلّ مرّة، كان يستولي عليها شخص أو طرف ما كغنيمة حرب. لكن الماسة انتهت أخيرا في يد شركة الهند الشرقية بعد أن استولت عليها من آخر مالك لها، وهو المهراجا السيخي دوليب سنغ.
وفي مرحلة تالية، وعقب انتصار الانجليز على السيخ في الحرب الثانية بين الطرفين، صادر الانجليز الماسة. ثم أصبحت جزءا من مجوهرات التاج البريطاني عندما نُودي بالملكة فيكتوريا إمبراطورة على الهند عام 1877. ويقال إن لعنة الماسة تلاحق أسرة وندسور الانجليزية منذ ذلك الحين.
وقبل عامين، تقدّمت عائلة تزعم بأنها من سلالة دوليب سنغ الذي كان آخر مالك للماسة والذي سبق للإنجليز أن نفوه، تقدّمت بالتماس يطالب الحكومة الهندية بتكثيف جهودها الدبلوماسية لاستعادة الماسة من بريطانيا. كما تريد العائلة عودة العرش الذهبي للمهراجا رانجيت سنغ كي يُحفظ في المعبد الذهبي؛ مركز الديانة السيخية في امريتسار بالهند.
الهنود السيخ يعتبرون نفي دوليب سنغ وإهداء "جبل النور" إلى الملكة فيكتوريا إهانة وطنية. وكانت الماسة قد مُنحت إلى والده المهراجا رانجيت سنغ من قبل حاكم أفغانستان المخلوع شجاع شاه دوراني كثمن لدعمه هذا الأخير كي يعود إلى السلطة في كابول.
أسطورة "جبل النور" تصلح مادّة لفيلم ضخم أو رواية تاريخية لا تخلو من الخيال. ومن الغريب أنها ظلّت فقط مثار اهتمام مؤلّفي كتب الأسفار والرحلات.
الكاتب كيفين رشبي عاش وعمل في السودان وماليزيا وتايلاند واليمن. كما عمل محرّرا في بعض الصحف مثل الديلي تلغراف والايسكواير. وممّا يُحسب للكاتب عينه الفاحصة وتمتّعه بروح الدعابة. وهناك أمر آخر، فهو لا يتحدّث في الكتاب عن نفسه ولا عن مشاكله الشخصية كما يفعل غالبية كتّاب السفر والرحلات اليوم، بل يصف الأماكن التي يزورها والأشخاص الذين يلتقيهم ويقدّم لك المعلومات التي تستطيع من خلالها أن تشكّل رأيك الخاصّ.
إن كنت من هواة اللعنات والأساطير القديمة فهذا الكتاب يناسبك. كما انه يروق للرحّالة والمؤرّخين وخبراء المجوهرات، بل ولأيّ شخص يريد أن يرى جانبا غير مألوف من تاريخ القارّة الهندية. والكتاب يذكّر بكتاب آخر لا يقلّ متعة عنوانه على الدرّاجة مع محمّد: رحلات إلى اليمن والبحر الأحمر للمؤلّف اريك هانسن.

Credits
kohinoordiamond.org
internetstones.com

الأحد، أغسطس 31، 2014

عشرة أيّام في التلال/3

ترى، ماذا لو كانت السعادة، بما في ذلك السعادة الجنسية، فضيلة أخلاقية في حدّ ذاتها؟ في العصور الوسطى، كان الملل أو السبات الروحيّ أو الكآبة، تُُعتبر خطيئة. ويُفترض بك كإنسان أن تحبّ عالم الربّ. وهناك العديد من الأشياء والناس والحوادث في كتاب بوكاتشيو، من قبيل الأزهار التي ترفع وجوهها لأشعّة الشمس والسفن التجارية التي تمخر عباب البحار والراهبات اللاتي يتناوبن على ممارسة الجنس مع البستانيّ، والتي يمكن اعتبارها تأكيدات أو تمظهرات لهذا الحبّ. وشخصيّات بوكاتشيو، بحسب ألبيرتو مورافيا أيضا، خاصّة وحيوية جدّا وكما لو أن المؤلّف نفسه كان يغار منها.
في ديكاميرون أيضا هناك قدر كبير من التسامح والقناعة وحسن النوايا. الزوج المخدوع لا يعاني كثيرا. ومثال هذا قصّة فيروندو، الفلاح الثريّ. رئيس الدير يكتشف أن زوجة فيروندو رائعة الجمال، فيعطيه جرعة منوّمة ويحبسه في زنزانة. ثم يذهب لمغازلة واجتذاب الزوجة. وعندما يستيقظ فيروندو يخبره راهب أرسله رئيس الدير بأنه، أي فيروندو، موجود الآن في البرزخ ليقضي فترة عقوبة مؤقتة هناك.
وبعد عام تصبح زوجة فيروندو حاملا من رئيس الدير. ويتمّ إعادة فيروندو إلى بيته. وبعدها يحكي لجيرانه كيف كان الحال في البرزخ. وبينما يسألونه عن أحوال أقاربهم الذين التقاهم هناك، يروي لهم قصصا رائعة من نسج خياله وهم يؤمنون بما يقول. ومع مرور الأيّام، يصبح فيروندو رجلا مهمّا في بلدته. أما الزوجة ورئيس الدير فيواصلان لقاءاتهما الغرامية من وقت لآخر. ويصبح كلّ شخص قانعا بما عنده.
ويروي ديونيو "احد أبطال الرواية" قصّة أليبيك، وهي فتاة بسيطة وجميلة في الرابعة عشرة من عمرها تتمنّى أن تتفقّه في تعاليم المسيحية. لذا تذهب الفتاة إلى الصحراء للبحث عن ناسك يعلّمها كيف تخدم الربّ بأفضل طريقة. وفي الطريق يصدّها العديد من النسّاك لخوفهم من أن تغريهم وتوقعهم في الخطيئة. وأخيرا تعثر الفتاة على ناسك يُدعى روستيكو يقبلها ضيفة عنده "لأنه يريد أن يثبت لنفسه انه يتمتّع بإرادة حديدية تعصمه عن الوقوع في الخطيئة".
لكن في الليلة الأولى من إقامة الفتاة عنده، لا يستطيع أن يكبح رغبته، فيراودها عن نفسها. وعندما يكتشف أنها عذراء، يخبرها أن "أقدس ما يمكن أن يفعله هو أن يرسل الشيطان إلى الجحيم". ثم يعلّمها كيفية الاتصال الجنسي. في البداية تشعر أليبيك بشيء من الانزعاج، لكن سرعان ما تجد أن "إرسال الشيطان إلى الجحيم" أمر ممتع للغاية وأن روستيكو غير قادر على إشباع رغبتها المتزايدة.
ثم تموت عائلة الفتاة عندما يحترق بيتهم، وتُستدعى إلى المدينة كي تأخذ نصيبها من التركة، وتُزفّ إلى رجل موسر يدعى نيربال. غير أن أليبيك تتردّد في ترك "حياتها المقدّسة" رغم سعادة الناسك بالتخلّص منها.

وهناك حكاية أخرى عن رجل يُقنعه أصدقاؤه بأنه حامل، ويلوم زوجته لأنها تصرّ دائما على أن تركب فوقه أثناء الجماع، ويقول لها: لقد أخبرتك أن هذا سيحدث". ثم يدفع لأصدقائه مبلغا من المال كي يرتّبوا له عملية إجهاض. ويأخذون منه المال وينفقونه على وجبة لذيذة.
لكن ما علاقة هذه القصص بزمن الأزمة؟ السرد يجري في سنوات الطاعون، لكن ليست هناك إشارة في أيّ من هذه الحكايات إلى الأزمة. غير أن القصص جميعها تتحدّث عن حياة جديدة، عن البقاء، وعن النشاط الإنساني الذي سيملأ العالم من جديد. أما الدرس الأخلاقيّ المستفاد من هذه الرواية فهو أن الناس يمكن أن يكونوا سعداء ومبدعين حتى في أسوأ الأوقات، وأن لا شيء يمكن أن يطفئ جذوة الحياة.
الإيطاليون، قبل بوكاتشيو، كانوا يكتبون شكلا متطوّرا من النثر. وكان دانتي أوّل ممارس لهذا النوع من الكتابة. لكن عمله الضخم، الكوميديا الإلهية، مصاغ شعرا وليس نثرا. وقد ألّف دانتي كتابه بلهجة أهل فلورنسا. وكان بوكاتشيو يحبّه لدرجة العبادة.
في عام 1350، وبينما كان بوكاتشيو يكتب ديكاميرون، التقى بترارك الذي كان في ذلك الوقت الكاتب الأكثر شهرة في إيطاليا والممثّل الإيطاليّ لعصر النهضة الإنسانية، أي العودة إلى القيم القديمة والأدب القديم.
وتحت تأثير بترارك، أحسّ بوكاتشيو بالخجل من ديكاميرون. في إحدى الرسائل المتبادلة بينهما يقول بترارك انه لم يُتح له الوقت لقراءة أجزاء من ديكاميرون التي صادفها في طريقه. والحقيقة أنه لم يخصّص وقتا لقراءته، لأن الكتاب بدا له نتاج شباب بوكاتشيو ونتيجة سعيه للحصول على شعبية.
في الفترة الأخيرة من حياة بوكاتشيو، أي في سنوات ما بعد ديكاميرون، عاش في منزل صغير للأسرة في سيرتالدو، وهي بلدة خارج فلورنسا وربّما تكون مسقط رأسه. ومثل والده، لم يتزوّج قطّ، لكنه أنجب عددا من الأطفال غير الشرعيين. وقد اشتكى من عدم توفّر المال الكافي، وذهب في بعض البعثات الدبلوماسية ممثّلا لحكومة فلورنسا، وأنتج عددا من الكتب المرجعية باللاتينية. ولم يكتب مرّة أخرى أبدا قطعة كبيرة من الخيال النثري.
وابتداءً من عام 1350، أي بعد ديكاميرون، مرّ بأزمة دينية. وبحلول عام 1360، كان قد تلقّى "أوامر أو إشارات مقدّسة". ويقال انه أراد إتلاف ديكاميرون بعد أن أصبح يعتقد أنها شيء تافه وقذر. لكن، وقبل بضع سنوات من وفاته، قام بنسخ المخطوطة كلّها بخطّ يده. "وهذه هي النسخة المستخدمة الآن من قبل جميع المحرّرين والمترجمين". ويبدو انه كان ما يزال لديه بقيّة من اعتزاز بهذا الكتاب. وعلاوة على ذلك، لم يكن باستطاعته أبدا سحب الرواية من التداول، لأنها كانت قد أصبحت بالفعل مشهورة.
رواية بوكاتشيو تناولتها السينما في أكثر من عمل، منها فيلم من إخراج بيير باولو باسوليني، وآخر أنتج عام 2007 بعنوان أرض العذراوات . وهناك أيضا فيلم ثالث من عام 1953 بعنوان ليالي الديكاميرون ، ويتضمّن أجزاء متخيّلة من حياة بوكاتشيو مع ثلاث قصص. الفيلم الأخير يتخيّل بوكاتشيو وهو يتتبّع خطى فياميتا إلى الريف محاولا خطب ودّها. وهناك ينسج اثنتين من حكاياته: الأولى عن رجل عجوز يفضّل الفلك على الزواج، والثانية عن تاجر مسنّ يخسر زوجته الشابّة الجميلة في رهان.
في عام 1372، بدأ بوكاتشيو يعاني من مشاكل صحّية بسبب السمنة. وفي ديسمبر من عام 1375، توفّي في بيته بعد فترة قصيرة من وفاة صديقه بترارك.
بوكاتشيو مثال واضح على ذلك النوع النادر من الكتّاب الكبار الذين لا يؤلّفون سوى كتاب واحد عظيم. وديكاميرون يمكن النظر إليه على انه صورة تظهر فيها عشر نساء فلورنسيّات أنيقات بملابسهنّ المطرّزة بالحرير وحللهنّ القشيبة، وهنّ يُمسكن بأيدي بعضهنّ ويؤدّين رقصتهنّ الدائرية الجميلة المعروفة بالكارولا.
وفي منتصف الدائرة، هناك رهبان وتجّار ورسّامون وبغايا يتناولون العشاء ويمارسون الجنس ويركل بعضهم بعضا سقوطا في الحفر. وبعبارة أخرى، فإننا نرى عصر النهضة تحتويه العصور الوسطى مثل كوكب تدور حوله أقماره. انه مشهد جميل وغريب أيضا ونحن نراه من بعيد.

Credits
archive.org
newyorker.com

الجمعة، أغسطس 29، 2014

عشرة أيّام في التلال/2

انتهى الحديث أمس بانتقال بوكاتشيو مع والده من فلورنسا إلى نابولي. وفي نابولي حاول والده أن يعلّمه بعض الأنشطة التجارية. غير أن بوكاتشيو لم يجد تلك الأعمال ممتعة. ولهذا أوصاه والده المتسامح بالذهاب إلى الجامعة لدراسة القانون الكنسيّ. ولم يحبّ بوكاتشيو ذلك التخصّص أيضا.
لكن خلال تلك الفترة، كان الصبيّ يقرأ على نطاق واسع. ثم بدأ كتابة الحكايات الرومانسية شعرا ونثرا. وبفضل هذه المزايا الأدبية، بالإضافة إلى اتصالات وعلاقات والده، تمكّن بوكاتشيو من الدخول إلى بلاط نابولي. وقد قال لاحقا انه لم يكن يريد أن يكون أيّ شيء غير أن يصبح شاعرا. السنوات التي قضاها في نابولي كانت، ولا شكّ، أسعد سنوات حياته.
لكن في أواخر العشرينات من عمره، وصلت سعادة بوكاتشيو إلى نهايتها، عندما تعرّضت تجارة والده إلى نكسة. ونتيجة لذلك، عاد الأب وجيوفاني إلى فلورنسا، التي كانت في ذلك الوقت عاصمة للنزعة التجارية الإيطالية. ووجد بوكاتشيو نفسه فجأة يهبط من العالم الرفيع لآداب البلاط إلى طموح وواقعية طبقة التجّار. وغالبية حكايات الرواية هي عن أفراد هذه الطبقة والمهارات التي يتميّزون بها، كالذكاء والفطنة وحسن التدبير.
لكن الكتاب يتضمّن أيضا العديد من قصص الجنس، مثل قصّة بيرونيللا وجيانيللو التي يرويها فيلوستراتو. والقارئ الحديث قد لا يملك إلا أن يتعاطف مع الشباب في ديكاميرون. ففي ذلك الوقت، كانت معظم الزيجات مرتّبا لها من قبل العائلات. ويمكن أن يكون هذا احد أسباب كثرة قصص الزنا في هذا الكتاب. ورغم أنه يتضمّن قصصا غير لائقة، إلا أن اللغة المستخدمة فيه لا يمكن وصفها بالقذرة بأيّ حال.
وفي بعض هذه القصص، نجد أن ثمّة عقابا من نوع ما ينتظر الإنسان الخاطئ أو غير المتعفّف. أمير ساليرنو، مثلا، واسمه تانكريدي، يكتشف أن ابنته على علاقة غرامية مع احد خدمه، فيأمر بأن يُخنق الرجل وأن يُستلّ قلبه من جسده. ثم يضع القلب في كأس ذهبية ويرسله إلى ابنته. وعندما تصلها الرسالة الرهيبة، ترفع العضو الدامي بلا تردّد إلى فمها فتقبّله ثم تعيده مرّة أخرى في الكأس، ثم تصبّ فوقه سُمّا وتشربه وتموت.
وهناك في الكتاب نهايات رهيبة أخرى كالرمي من النافذة وقطع الرأس وبتر الأطراف. وفي الغالب لا يحسّ المذنبون الأوغاد بأيّ ذنب أو بتأنيب الضمير.
وبين حكاية وأخرى، يُلقي الأبطال العشرة خطبا فخمة ومليئة بالمحسّنات البديعية من القرون الوسطى. وقد تحسّ بالضجر من هذه البلاغيات وتتوق للعودة إلى الحكايات الجميلة والوقحة. لكن التوتّر بين هذين الوضعين سمة أساسيّة في ديكاميرون.
وفي الرواية صراع آخر له علاقة بالدين. فالشباب في بعض الأحيان يطلقون اعترافات حماسيّة تمسّ الإيمان. ومع ذلك لا يبدو بوكاتشيو خائفا من الاتهام بالتجديف. ورجال الدين عنده كسالى وأغبياء ولهم رائحة التيوس، وأحيانا يعيشون حياة تخلّع وفجور.

رسالة بوكاتشيو حول رجال الدين قد لا تكون مزدوجة حقّا. فالإيمان عنده، أو الدين، لا يؤخذ بجريرة من يمثّلونه.
لكن موقفه تجاه النساء محيّر بالفعل. والمرأة تحتلّ مكانة مركزية للغاية في ديكاميرون. هي سخيّة ومعطاءة وعفوية، وبذيئة في كثير من الأحيان. وهي ليست ضحيّة لشهوة الرجل، وليست عرضة لأن يخونها أو يستغلّها أو يتخلّى عنها. هذه الصفات غير موجودة في الرواية. والسيّدات فيها يعشن طويلا بعد موتهنّ، أي انه لولا بيرونيللا وأخواتها من شخصيات الرواية لما ظهرت في ما بعد شخصيات أدبية مثل روزاليند في مسرحية "كما تشاء" أو بياتريس في "جعجعة بلا طحن".
غير أن في الرواية أيضا إشارات كثيرة تتضمّن تشهيرا وتعريضا صريحا بالنساء. فهنّ "متقلّبات، مشاكسات، مشبوهات، ضعيفات وخائفات". والذي يقول هذا الكلام امرأة، هي فيلومينا. كما أنهنّ دائما شهوانيات بلا كلل. الرجال الأقوياء قد تتهدّد صحّتهم بسبب محاولتهم إشباع مطالبهنّ الجنسية. لذلك، من أجل أن تستمرّ الحياة بهدوء، يجب أن تخضع النساء للرجال. كما يجب عليهنّ، وقبل كلّ شيء، أن يكنّ عفيفات، وهو شيء تفتقده بطلات بوكاتشيو إلا في ما ندر. "النساء اللاتي لا يُطِعن أزواجهنّ ينبغي أن يُضربن". ومرّة أخرى، قائل هذا الكلام امرأة.
بعض التناقضات في هذه الرواية دفعت عددا من النقّاد لوصفها بأنها عمل لا أخلاقي. يقول إريك أورباخ، وهو مؤرّخ أدبيّ مرموق، انه بمجرّد أن يلامس بوكاتشيو أيّ شيء مأساويّ أو إشكاليّ، حتى يصبح الكتاب "ضعيفا وسطحيّا". وفي هذا الكلام بعض الحقيقة. فالعديد من القصص التي تتحدّث عن صفة الشهامة، مثلا، مملّة، بل وحتى سخيفة.
ومثال هذا قصّة صديقين في روما القديمة، هما تيتوس وغيسيبوس، وكلّ واحد منهما يحاول باستماتة أن يُصلب بدلا من الآخر، مع أن أيّا منهما لم يرتكب جريمة. هذا المشهد من الإيثار يتأثّر به المجرم الحقيقيّ، فيعترف بالجريمة. وعندها يأخذ تيتوس بيت غيسيبوس ويعطيه نصف ما يملكه بالإضافة إلى إحدى شقيقاته.
هل يمكن القول أن بوكاتشيو أخطأ عندما تنكّب الواقعية؟ هذا هو رأي ألبيرتو مورافيا الذي قال إن قيم بوكاتشيو كانت قيم فنّان ولم تكن قيم فيلسوف أخلاقي. ويضيف أن سرّ لمعان ديكاميرون يعود إلى عدم اكتراث الكتاب بالأخلاق وتركيزه حصريّا على الحقائق.
في حكايات بوكاتشيو، العالم يشبه مناظر الطبيعة الصامتة لبعض رسّامي القرنين الرابع عشر والخامس عشر. الفعل الخالص هو الذي يكتسب عمقا ووضوحا أكثر من الدرس الأخلاقي أو المعنى المقصود.
تخيّل، مثلا، تلك الرسومات من عصر النهضة التي تصوّر مدنا مرتفعة، مع رعاة وأغنام يظهرون من بعيد خلف شخص مريم العذراء أو القدّيسين، في إشارة إلى حبّ الدنيا. هؤلاء الرسّامون كانوا يحبّون الدنيا، هكذا يقول مورافيا، وكذلك أيضا أحبّها بوكاتشيو.
الجزء الثالث والأخير غدا..

الأربعاء، أغسطس 27، 2014

عشرة أيّام في التلال

"في عام 1348، ضرب فلورنسا، أجمل وأنبل مدن ايطاليا، وباء الطاعون القاتل. البعض يقولون إن المرض أرسل للبشر بتأثير من الأجرام السماوية. والبعض الآخر يعزونه إلى غضب الربّ على الإنسان بسبب جوره وشرّه".
هكذا يبدأ جيوفاني بوكاتشيو (1313-1375) روايته الشهيرة ديكاميرون، واصفا الطاعون، أو الموت الأسود، الذي اكتسح أوربّا ابتداءً من العام 1340 وقتل عشرات الملايين من البشر أو حوالي ستّين بالمائة من سكّان القارّة.
ثم يصف الكاتب آثار الوباء على مدينته فلورنسا فيقول: الكثير من الناس سقطوا موتى في الشوارع، بينما توفّي آخرون في منازلهم دون أن يجدوا من يرعاهم أو يهتمّ بهم من أسرهم. الأزواج والزوجات، خوفا من العدوى، كانوا يجلسون ويصلّون في غرف منفصلة، بينما تخلّت الأمّهات عن أطفالهنّ وأغلقن الأبواب.
ويضيف: حمل أهالي فلورنسا جثث المتوفّين حديثا خارج منازلهم ووضعوها بجوار الأبواب الأمامية، حيث يمكن لأيّ شخص مارّ، وخصوصا في الصباح، أن يراهم هناك بالآلاف. وعندما امتلأت المقابر عن آخرها، حُفرت خنادق هائلة في مقابر الكنائس، وُضع فيها القادمون الجدد بالمئات، وطبقة فوق طبقة مثل البضائع في السفن. المحلات التجارية فرغت، هي الأخرى، من البضائع كما أغلقت الكنائس أبوابها. وتوفّي حوالي ستّين في المائة من سكّان فلورنسا والمناطق الريفية المجاورة لها".
على هذه الخلفية تبدأ رواية ديكاميرون. سبع نساء شابّات وصديقات، هنّ بامبينيا وفيلومينا ونيفيلا وفياميتا وأليسا ولوريتا وإميليا، يجتمعن بعد قدّاس. أعمارهنّ تتراوح ما بين الثامنة عشرة والثامنة والعشرين، كما أنهنّ جميعا ينتمين لعائلات مرموقة. بامبينيا، أكبرهنّ، تقول للبقيّة: دعونا نخرج من هنا ونذهب إلى ضيعاتنا الريفية". وتوافق النساء الأخريات على الفكرة. لكنهنّ يعتقدن أن من الضروري أن يصطحبن معهنّ بعض الرجال.
وسرعان ما ينضمّ إليهنّ ثلاثة شبّان تربطهم بهنّ أواصر قربى أو مودّة. والرجال الثلاثة هم فيلوستراتو وديونيو وبانفيلو. ثمّ يشدّ الرجال والنساء العشرة رحالهم فجرا باتجاه الريف.
الرجال والنساء العشرة كانوا من بين مواطني المدينة الكثر الذين هجروها وغادروا بيوتهم إمّا إلى الريف أو إلى خارج البلاد. وبوكاتشيو يذكر في المقدّمة انه أبقى على أسماء الرجال والنساء سرّا لكي لا يتسبّب في إحراجهم أو أذاهم مستقبلا بسبب الحكايات التي ترد على ألسنتهم في الرواية.
وعندما يصلون إلى وجهتهم، يتّفقون على نظام محدّد للعيش. في الصباح وفي المساء، سيزاولون المشي ويؤدّون الأغنيات ويتناولون وجبات شهيّة مع نبيذ فاخر ذهبيّ وأحمر. وفي ما بين هذه الأنشطة، سيجلسون معا ويحكي كلّ منهم قصّة تتناول فكرة تُخصّص لذلك اليوم. وستتناول القصص مواضيع مثل الحبّ والكرم والتضحية والشهامة والذكاء والموت وما إلى ذلك.

وسوف يبقون معا لمدّة أسبوعين. ويجب أن يُخصّص يومان للالتزامات الشخصية، ويومان آخران للواجبات الدينية. والباقي سيكون عشرة أيّام، وفي كلّ يوم ستُروى عشر حكايات، أي انه ستكون لديهم في النهاية مائة حكاية. ومجموع هذه الحكايات، مع المقدّمات والهوامش، هي التي تشكّل رواية ديكاميرون.
العنوان نفسه، أي ديكاميرون، مستمدّ من اليونانية ويعني الأيّام العشرة "ديكا تعني عشرة وايميرا تعني يوم". وقد كان هذا الكتاب مصدر إلهام للكثيرين. شكسبير وتشوسر ومارتن لوثر وكيتس والعديد من الكتّاب الآخرين استعاروا بعض حكاياتهم منه.
ألّف بوكاتشيو روايته ما بين عامي 1348 و1352، عندما كانت قيم العصور الوسطى (البسالة والإيمان والنبل والسموّ) تتلاشى لتفسح المجال لقيم عصر النهضة (المتعة والتجارة والحقيقة). لم تكن العصور الوسطى بأيّ حال من الأحوال قد انتهت. فسيّدات بوكاتشيو الشابّات لا يجتمعن في مروج حقيقية، حيث يمكن للحشرات أن تزحف على ملابسهنّ.
إنهنّ يجتمعن في حقول مثالية، حيث الطيور تغنّي والياسمين يعطّر الأجواء. والحيوانات في هذه الأمكنة لا تعرف الخوف من البشر. الأرانب الصغيرة تأتي وتجلس وسط هذه المجموعة من الشباب. هذا هو المكان الجميل في الشعر الرعويّ القديم والذي يشبه جنّات عدن.
العلاقات الاجتماعية، أيضا، مثالية ومشبعة بأعراف الحبّ في القرون الوسطى. ورواية ديكاميرون ليس لها إطار واحد فقط، أي الشباب في الريف، وإنما لها إطاران. في الإطار الخارجيّ، يتحدّث بوكاتشيو إلى القارئ مباشرة. وهو يكتب هذا الكتاب، كما يقول، للسيّدات اللاتي أضناهنّ الحبّ. وفي العديد من القصص يقدّم لهنّ نصائح تساعدهنّ وتدلّهنّ على ما يجب فعله وما لا يجب لتجنّب آلام الحبّ. وموضوع الحبّ تتناوله العديد من حكايات الكتاب.
وكما في أغاني التروبادور، أو الشعراء المتجوّلين في القرون الوسطى، فإن الحبّ في هذه القصص يجعل الإنسان نبيلا. في إحداها، يقع شابّ يعرفه الأهالي باسم "الحمار الغبيّ" في الحبّ. وما أن يعيش التجربة حتى يبدأ في ارتداء الملابس الأنيقة ويدرس الفلسفة.
بوكاتشيو نفسه لم يكن نبيلا. كان واحدا من فئة الناس الجدد، أي من الطبقة الوسطى التجارية التي أدّى صعود أفرادها باطّراد منذ القرن الثاني عشر إلى إثارة خوف النبلاء واستنكارهم. والد بوكاتشيو، واسمه بوكاتشينو دي تشيللينو، كان تاجرا. وكان يتوقّع أن يترسّم جيوفاني خطاه فيلتحق بالتجارة.
كان جيوفاني بوكاتشيو ثمرة علاقة غير شرعية. لكن والده اعترف به وتعهّده بالرعاية. وعندما بلغ الصبيّ سنّ الثالثة عشرة، انتقلت تجارة الوالد من فلورنسا إلى نابولي، وأخذ ابنه معه ليتعلّم الأعمال التجارية، من قبيل استقبال الزبائن والإشراف على المخزون وما إلى ذلك.
في الغد يتواصل الحديث..

الأربعاء، أغسطس 20، 2014

ديغا والحياة الحديثة/2

كانت المقاهي جزءا مألوفا من الحياة الثقافية والاجتماعية في باريس منتصف القرن التاسع عشر. وكان المقهى المسمّى دي لا نوفيل أثينا، على وجه الخصوص، مكانا للقاءات المتكرّرة التي كانت تجمع الانطباعيين وغيرهم من الفنّانين الطليعيين.
إدغار ديغا كان، هو أيضا، في قلب ثقافة المقاهي الباريسية في ذلك الوقت. وكان الإدمان على الكحول، كما هو الحال اليوم، نوعا من الطاعون الاجتماعي الذي تعاني منه بشكل خاص الطبقات العاملة. وكان هناك نوع آخر من المشروبات الكحولية الأشدّ خطرا هو الأبسنث، وهو شراب مرّ المذاق مصنوع من مستخلص نبات الشيح.
كان هذا المشروب يُعتبر من المشروبات البغيضة جدّا لما له من آثار سلبية على الجهاز العصبيّ البشريّ. ولهذا السبب، تمّ حظر إنتاجه وبيعه من قبل الحكومة الفرنسية ابتداءً من العام 1914.
أوسكار وايلد وصف الابسنث ذات مرّة بقوله: بعد أوّل كأس ترى الأشياء كما تتمنّى أن تكون. وبعد الكأس الثانية تراها على خلاف طبيعتها. وأخيرا ترى الأشياء كما هي في الواقع، وهذا هو الشيء الأكثر رعبا في العالم".
من أشهر أعمال ديغا التي تصوّر حياة المقاهي هذه اللوحة بعنوان "الابسنث" أو "في المقهى". هذه الصورة الأحادية اللون تقريبا تصوّر العزلة العارية للإنسان وتسلّط الضوء على الجانب المظلم من الحياة الباريسية، أي أجواء الخواء والحزن واليأس والعزلة المثيرة للشفقة.
ديغا يرسم في اللوحة صديقه مارسيلان ديسبوتين، وهو كاتب وفنّان بوهيمي كان يتردّد بانتظام على مقهى دي لا نوفيل أثينا. وإلى يمين ديسبوتين تجلس امرأة اسمها ألين أندريه، وهي عارضة أزياء ظهرت كثيرا في لوحات ديغا ورينوار وكانت تطمح لأن تصبح ممثّلة مشهورة مثل سارة برنار.
ديسبوتين الذي يرتدي قبّعة ويتناول كوبا من شراب الابسنث يبدو منفصلا تماما عن رفيقته وغارقا في التفكير. عيناه تحدّقان في مكان ما خارج اللوحة. المرأة أيضا تعتمر قبّعة وترتدي زيّا رسميا بينما تحدّق إلى الأسفل في خواء. وهناك أمامها كوب مملوء بسائل أصفر.
وعلى الرغم من أن الاثنين يجلسان جنبا إلى جنب، إلا أنهما يبدوان في عزلة صامتة، عيونهما فارغة وحزينة، مع ملامح تشي بجوّ عامّ من الخراب. وعندما تتمعّن في الطاولات ستكتشف أن ليس لها أرجل. إنها فقط تحوم في الهواء دون أيّة وسيلة دعم مرئية.
نساء ديغا هنّ في كثير من الأحيان في وضع غير مواتٍ، سواءً كنّ يبحثن عن العزاء في المقاهي أو يرقصن أو يغسلن أو يكوين الملابس في ظروف دون المستوى المطلوب وبأجور هزيلة. كنّ يمرضن ويمُتن وهنّ في سنّ الشباب. ولكن من خلال حياتهنّ الباهتة وأزيائهنّ البسيطة ووجوههنّ البلا ملامح، استطاعت عين الفنّان المتفحّصة أن ترى؛ ليس فقط العزلة العاطفية التي كانت تشوب حياتهنّ الخاصّة، وإنما أيضا أسبابها الكثيرة، كالفقر والنبذ الاجتماعي والأمراض الكامنة، وليس أقلّها السلّ الذي كان مستشريا في زمانه.
هذه اللوحة تُعتبر اليوم من بين أعمال ديغا الأكثر شهرة. ومثل ما تقدّم، يمكن أن تكون تصويرا للعزلة الاجتماعية المتزايدة في باريس خلال المرحلة التي كانت فيها تشهد نموّا عمرانيا سريعا. كما يمكن أن يُنظر إليها على أنها نظرة في الجانب المظلم من الحداثة أو تحذير من مخاطر الابسنث الذي أصبح محظورا في وقت لاحق.
لكن في أوّل عرض لها عام 1876 هاجمها النقّاد بعنف ووصفوها بأنها قبيحة ومثيرة للاشمئزاز. وعندما عُرضت في انجلترا عام 1893 حقّقت شهرة كبيرة بسبب عاصفة الجدل الذي أثارته في الصحافة. وقد انقسمت الآراء حولها بشدّة وأثار النقاش قضايا أساسية حول المقبول وغير المقبول في الفنّ، بينما اعتبرها كثيرون بمثابة ضربة للأخلاق. كان النقّاد آنذاك يرون أن الفنّ يجب أن يقدّم دروسا أخلاقية ترفع مستوى المجتمع.
لكن نقّادا انجليز آخرين نظروا إلى اللوحة باعتبارها تحذيرا من الابسنث ومن الفرنسيين بشكل عام. ووصف احدهم المرأة فيها بقوله: يا لها من عاهرة"!
وقد أساءت اللوحة إلى سمعة الرجل والمرأة واضطرّ ديغا لأن يقول علنا أن الاثنين لم يكونا مدمنين على المشروبات الكحولية.
تأطير اللوحة يعطي الانطباع عن لقطة سريعة أخذها متفرّج من طاولة قريبة. لكن هذا الانطباع غير صحيح، لأنه جرى افتعال تأثير الحياة الحقيقية بعناية، أي أن الصورة رُسمت في الاستوديو وليس في مقهى.
لقد تغيّرت باريس كثيرا منذ رحل عنها ادغار ديغا. لم يعد الابسنث ذلك الشراب الذي يتوهّم بعض الناس انه يعدل المزاج أو يثير كوامن الإلهام. غير أن العزلة الشعورية والعاطفية زادت وتضاعفت مع ازدياد وتيرة التصنيع وغيره من مظاهر المدنيّة الحديثة.

Credits
theartstory.org
artchive.com

الاثنين، أغسطس 18، 2014

ديغا والحياة الحديثة

ما أن يُذكر اسم إدغار ديغا حتى تخطر في الذهن تابلوهاته الفخمة التي تصوّر فتيات صغيرات يتحرّكن كالفراشات وهنّ يتعلّمن فنّ رقص الباليه.
كان ديغا محبّا لمظاهر الحياة الحديثة. وقد رسم النساء كثيرا في لوحاته، وخاصّة نساء الطبقة العاملة وهنّ يمارسن الأعمال المنزلية اليومية من غسيل وتنظيف وكوي وخلافه. وهؤلاء النساء لم يكنّ من طبقته هو. كان هو محسوبا على الطبقة البورجوازية الباريسية آنذاك.
ورسوماته عن الطبقات الاجتماعية والمهن والسلوكيات المرتبطة بها تُعتبر من بين أفضل الأعمال التشكيلية التي تؤرّخ لتلك الفترة، أي نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
على المستوى الشخصي، كان ديغا شخصا عصبيّا بطبيعته. وكان نظره قصيرا جدّا لدرجة أنه كان يخاف من فقدان البصر. لكن، وربّما لهذا السبب بالذات، كان مخلوقا متقبّلا للآخرين وذا حساسية عالية، بحسب ما كتبه عنه الكاتب والناقد الفنّي الفرنسي إدمون دو غونكور.
كان ديغا يعرف طبيعته الصعبة. وقد اعترف ذات مرّة لزميله الرسّام بيير أوغست رينوار بقوله: لديّ عدوّ واحد رهيب لا يمكنني التوافق معه. هذا العدوّ، بطبيعة الحال، هو نفسي".
وقد عَرف ديغا من خلال أولئك الذين ارتبطوا به كيف يضبط مشاعره الانفعالية. "على العشاء، سيكون هناك طبق مطبوخ لي من دون زبدة. لا زهور على الطاولة، ومع القليل جدّا من الضوء. عليك أن تُخرس القط، وليس لأحد أن يجلب معه كلبا. وإذا كان هناك نساء بين الحاضرين، فاطلب منهنّ أن لا يضعن على أنفسهنّ روائح. لا لزوم للعطور عندما تكون هناك أشياء لها رائحة طيّبة كالخبز المحمّص مثلا. ويجب أن نجلس إلى المائدة في تمام الساعة السابعة والنصف".
صرامة ديغا وانضباطيّته العالية دفعت كلّ أصدقائه تقريبا لأن يهجروه، بحسب رينوار. "كنت واحدا من آخر الذين كانوا يزورونه، ومع ذلك حتى أنا لم أستطع البقاء حتى النهاية".
كان البعض يعتبر ديغا شخصا كارها للنساء، رغم أن قائمة أصدقائه كانت تضمّ الرسّامتين ميري كاسات وبيرتا موريسو، بالإضافة إلى كبار مغنيّات الأوبرا وراقصات الباليه في زمانه. وعندما اتّهم بأنه شخص منعزل نفى ذلك. "لست كارها للبشر، بل أنا ابعد ما أكون عن هذه الصفة، ولكن من المحزن أن تعيش محاطا بالأوغاد".
وعلى الرغم من شخصيّته غير المهادنة، إلا أن ديغا كان يحظى بالاحترام من أقرانه الذين كانوا يخشونه. وكانت شعبيّته عالية لدى نقّاد الفنّ ومشتري الأعمال الفنّية. "كنت، أو هذا ما بدا لي، صارما مع الجميع وذلك بسبب ميلي لنوع من الخشونة التي تداخلت مع شكوكي ومزاجي السيّئ".
ولد إدغار ديغا في باريس خلال نفس العقد الذي ولد فيه إدوار مانيه وبول سيزان وكلود مونيه. وكانت لديه العديد من الفرص. كانت سنواته الأولى متميّزة على الرغم من الحزن الذي شابها ورافقه طوال حياته. "كنت عابسا مع العالم كلّه ومع نفسي". وتحت ضغط والده وافق على دراسة القانون. ولكن سرعان ما تخلّى عن ذلك وقرّر أن يدرس الفنّ بحماس أقنع والده بدعمه.
كانت أعمال ديغا المبكّرة عبارة عن لوحات تاريخية رسمها بالأسلوب الكلاسيكي. وفي بدايات تدريبه استوعب أساليب أوغست دومينيك آنغر وأوجين ديلاكروا وغوستاف كوربيه. وكان يطمح لأن يرسم مثل ميكيل أنجيلو ورافائيل.
ولكن بدءا من 1861، تخلّى عن رسم المواضيع التاريخية وبدأ يرسم مشاهد من الحياة اليومية. وبينما كان يستنسخ أعمال فيلاسكيز في متحف اللوفر، التقى مانيه الذي أصبح صديقه والذي أدخله إلى دائرة الرسّامين الانطباعيين. وعلى الرغم من أن ديغا عرض معهم بعض أعماله، إلا انه لم يقدّم نفسه كفرد من أفراد الحركة. "ما أفعله هو نتيجة دراسة أعمال الرسّامين العظام، وأنا لا اعرف شيئا عن الإلهام والعفوية والمزاج".
وعلى عكس أصدقائه الانطباعيين، كان إدغار ديغا رسّام مناظر حضرية وكان يحبّ رسم الأماكن المغلقة مثل العروض المسرحية والأنشطة الترفيهية وأماكن المتعة. ولم يكن مهتمّا بآثار الضوء في المناظر الطبيعية، بل كان يفضّل رسم الأشخاص ويمقت الرسم في الهواء الطلق. "يجب على رجال الدرك أن يطلقوا النار على حوامل اللوحات التي يراها الناس مبعثرة في أنحاء الريف".
كان ديغا يسعى دائما إلى الكمال. كان يعيد رسم كلّ صورة ويدرس ويكرّر التفاصيل حتى يتقنها ويحفظها. وقد جرّب العديد من الوسائط، من بينها الباستيل الذي كان يخفّفه على البخار إلى أن يصبح عجينة. وكان يكره تألّق ولمعان الألوان الزيتية. ولهذا السبب كان يزيل الزيت ويستخدم بديلا عنه التربنتين المستخرج من أشجار الصنوبر. وغالبا ما كان يرسم على الورق بدلا من القماش.
للحديث تتمّة غدا..

الجمعة، أغسطس 08، 2014

المرّيخ واحد/2

في الجزء الأوّل تناولنا بعض الأسباب التي يسوقها المعترضون على مشروع Mars One(أو المرّيخ واحد) الذي يهدف إلى إرسال مركبة مأهولة إلى المريخ. وفي هذا الجزء نستعرض حجج مؤيّدي المشروع والتي يمكن تلخيصها في الأمور التالية:
  • الكثير من الأنشطة التي يمارسها البشر لا تخلو بطبيعتها من عنصر مخاطرة. الطيّار يخاطر عندما يقود طائرة غير مفحوصة. والمستكشف يخاطر عندما يذهب إلى مناطق مجهولة. والجنود يخاطرون إذ يذهبون إلى مناطق صراع. وأيضا روّاد الفضاء يخاطرون بذهابهم إلى الفضاء البعيد. والمجتمعات لا تتطوّر من دون أشخاص يخاطرون بأنفسهم وحياتهم.
    وهؤلاء الأشخاص الذين يريدون الذهاب إلى المرّيخ إنما يبادلون حياتهم بمكان عظيم في كتب التاريخ بخدمتهم العلم ومستقبل البشرية. ويجب ألا يحال بينهم وبين تحقيق ذلك.
  • في ماضي الأرض السحيق، كان هناك نشاط بركانيّ عنيف دفع بالغبار والصخور التي تحتوي على ميكروبات إلى الفضاء الخارجي، ووصل بعض ذلك الركام إلى المرّيخ. وبعض العلماء يعتقدون أن ملايين الأطنان من تربة الأرض موجودة على ارض المرّيخ. وإذا وُجد في ذلك الكوكب حياة فقد جاءت أساسا من الأرض.
    والإشعاع لن يكون مشكلة كبيرة مقارنة بالأخطار الأخرى. فمركبة كيوريوسيتي قامت مؤخّرا بقياس مستويات الإشعاع في المرّيخ، ووجدت أن البقاء على أرضه لعام واحد يزيد فرصة الإصابة بالسرطان بحوالي خمسة بالمائة فقط. ولو كنت تدخّن السغائر هنا على الأرض فإن هذا يزيد فرص إصابتك بالسرطان بحوالي 20 بالمائة. لذا لا داعي لرسم صورة سوداوية عن طبيعة الحياة على المرّيخ، إذ قد يجد فيه البشر ضالّتهم المنشودة بعد أن افسدوا كوكبهم الصغير.
  • هل الأرض جنّة فعلا؟! هي بالتأكيد ليست كذلك. فهناك على الأرض أماكن لا يتمنّى أيّ إنسان أن يذهب أو يهاجر إليها مطلقا. ومع ذلك عاش فيها الناس لملايين السنين. الأرض، في أكثر أوقاتها وأماكنها، لم تكن أبدا جنّة. وبقاؤنا عليها يعتمد على التكنولوجيا إلى حدّ كبير. في شمال الأرض، مثلا، الجوّ ابرد بكثير من جنوبها، وعليك أن ترتدي ملابس أثقل. ونفس الشيء ينطبق على المرّيخ.
    وهناك أناس غادروا أوربّا ولم يعودوا إليها وكان كلّ شيء على ما يرام. وطبيعة المرّيخ طبعا أقسى من استراليا وأمريكا. كما أن شواطئ استراليا أو كوبا أو البرازيل ليست صحراء قاحلة تنوء تحت ثقل المطر الإشعاعي. لكن الرحلة ستوفّر فرصة للإجابة على سؤال كبير كان الإغريق القدماء يطرحونه دائما: هل نحن لوحدنا في الكون؟!
  • أوّل شرط للاستيطان في المرّيخ هو تعديل تضاريس الكوكب أو ما يُسمّى بـ "التيرافورمنغ"، ثم تغيير مسارات المذنّبات التي تصطدم بأرض الكوكب، ثم وجود ماء ومعادن وغلاف جوّي مؤقّت. ولتعديل تضاريس المرّيخ، يحتاج الأمر لمئات وربّما آلاف السنين.
    والبديل الأسلم لمثل هذه الرحلة غير الآمنة هو أن تُرسل بعثة إلى هناك مع نيّة العودة إلى الأرض. الاستيطان الدائم منذ المحاولة الأولى محض جنون. لا يمكن تأسيس حياة مستقرّة هناك إلا بعد عدّة رحلات وبعد أن توضع البنية التحتية اللازمة.
  • لنفترض أن عمر كلّ واحد من المشاركين 30 عاما وأنه سيتدرّب على مدى سبع سنوات، وإذا نجح سيكون عمره 38 عاما عندما يهبط على المرّيخ. في الواقع يجب إرسال أشخاص لا تتجاوز أعمارهم الثلاثين. هذا مشروع استيطان. فكيف سيتناسلون هناك إذا كانوا فوق الأربعين؟! إن أهم سبب في أنهم ذاهبون هو توسيع فصيلتنا وضمان وصولنا وانتشارنا إلى داخل الفضاء.
    وأكثر المشاكل التي يتوقّع البعض حصولها يُحتمل أن تحدث لو افترضنا أن المستعمرة التي سيقيمها طاقم الرحلة لن تتطوّر بعد أن يصلوا. ولكي يظلّوا على قيد الحياة، يجب شحن أطنان من الموادّ والمؤن إليهم كلّ عام. ولا يجب أن ننسى أن تكاليف الإطلاق من وإلى المريخ مكلّفة للغاية.
  • الشيء الوحيد الذي يمكن أن يمنع حدوث هذه المغامرة هو كلفتها العالية جدّا. لكن ما أن تصل البعثة إلى الكوكب حتى تضع البنية الضرورية لدعم الحياة هناك لسنوات ودون حاجة لانتظار مساعدة خارجية. يجب أن تكون بيئتهم الواقية داخل كهوف المرّيخ حيث تتوفّر لهم حماية طبيعية من ضربات الشمس والإشعاع الكوني.
    لكي يعيش بشر في المرّيخ، يجب حفر مستوطنات تحت أرضه لأن الحياة على سطحه شبه مستحيلة. فهناك مذنّبات وإشعاع وعواصف غبار قويّة. والعيش تحت أرض الكوكب سيمنع كثيرا من تلك المشاكل. لذا يتعيّن أوّلا إرسال معدّات حفر ثمّ بناء أحياء تحت الأرض. وهذا سيستغرق عشرات السنين، لكنّه سينجح في النهاية.
  • هناك من يقول إن فرص نجاح مثل هذه الرحلة هي من واحد إلى صفر. ويجب أن تكون الغاية من ورائها ليس أن يُترك الأشخاص هناك، بل أن يبتكروا وسائل اتصال سريعة للسفر من وإلى الكوكب، وفي نفس الوقت أن يعملوا على تعديل تضاريسه.
    وهناك اعتقاد بأن المرّيخ يمكن أن يعاد إلى وضعه الطبيعي من خلال تعديل تضاريسه. لكن هذه ستكون عملية طويلة ومعقّدة ومصحوبة بمشاكل عديدة. غير أنها ستتحقّق في النهاية.
    وآخر الاكتشافات تقول بوجود ماء في معظم تربة الكوكب وأن استخراج الماء هناك ضروري. أما بالنسبة للطعام فيمكن زراعته في بيوت زجاجية. وأشعّة الشمس هناك قويّة بما يكفي لتحقيق هذا الغرض. كما يمكن الاستعانة بالألواح الشمسية لتوليد طاقة كهربائية.
  • كلّ إنسان بإمكانه أن يظلّ في بيته وأن يستمتع بحياته هنا على الأرض بهدوء. لكن لا يجب أن يكون مبلغ همّنا إحباط وتيئيس كلّ من أراد أن يحاول اكتشاف ما وراء التلّة أو رؤية ما خلف انثناءة النهر. نحن البشر مثل الأطفال. ومهدنا هو الأرض. والطفل الرضيع لا يمكن أن يبقى في مهده إلى الأبد.

    Credits
    community.mars-one.com
    universetoday.com
  • المرّيخ واحد

    لا بدّ وأن بعض القرّاء تابعوا قبل فترة خبر قيام إحدى الشركات الهولندية العاملة في مجال أبحاث العلوم والفضاء برصد مبلغ ستّة مليارات دولار لتسيير رحلة مأهولة إلى كوكب المرّيخ في بداية عام 2023م.
    وفي التفاصيل أن المكوك الفضائي الذي سيذهب إلى الكوكب الأحمر سيحمل على متنه بضعة متطوّعين وسيقطع مسافة تُقدّر بمائتي مليون كيلومتر على مدى سبعة أشهر.
    الرحلة إلى المرّيخ ستكون ذهابا بلا عودة، أي أن المسافرين إلى هناك لن يعودوا إلى الأرض أبدا، بل سيتركون مساكنهم للبعثة التي ستخلفهم بعد أن يموت آخرهم. وستُنقل وقائع الرحلة التاريخية في بثّ مباشر عبر الأقمار الاصطناعية. والغاية من المشروع، كما تقول الشركة الراعية، هي محاولة استكشاف عالم آخر غير الأرض يمكن أن يعيش فيه الإنسان.
    وهناك الآن آلاف المتطوّعين لهذه الرحلة من بينهم عرب. ومن هؤلاء طيّار سعوديّ في الثامنة والثلاثين من عمره. الطيّار، واسمه عبدالله الزهراني، تحدّث للصحافة عن قراره بالمشاركة في الرحلة وقال: أتمنّى أن أكون الطيّار المسلم الوحيد المشارك فيها". طبعا أكبرت في الزهراني إقدامه وجسارته، لكنّي لم افهم سبب إشارته إلى الدين في هذا السياق، أو لماذا يريد أن يكون "المسلم الوحيد" في الرحلة.
    هل السبب يكمن في الإحساس بأن إسهامات العرب في الحضارة المعاصرة تكاد تكون صفرا وأن أوطاننا لا تنتج سوى العنف والتطرّف الديني؟ وأكيد لا يمكن تخيّل أن يأتي صيني أو كوري ويقول: أتمنّى أن أكون المشارك الوحيد من أتباع كونفوشيوس أو بوذا!
    الطريف أن زوجة الطيّار السعودي ترفض حتى الآن مشاركته، إلا انه يأمل أن تغيّر رأيها لأنه يريد من خلال مشاركته خدمة البشرية.
    تعليقات بعض القرّاء على قرار الزهراني لم تكن تخلو هي الأخرى من طرافة، إذ أشاروا إلى أن غياب الزوج عن زوجته لأكثر من سنتين لا يجوز "لأن من حقّها أن تستمتع بمعاشرته ويتمتّع بمعاشرتها". ولحسن الحظّ، فإن الزهراني لا يفكّر بهذه الطريقة، ومن المؤكّد أن حدود مشاغله واهتماماته أوسع من هذا بكثير.
    لكن لنعد الآن إلى الرحلة/المغامرة. هناك من يمتدحها باعتبارها نقلة كبيرة ومهمّة في تاريخ العلم والإنسانية. وهناك من يرى أن المشروع عبثي وأنه سينتهي بمأساة. ويتساءل بعض هؤلاء: كيف يعطي المشاركون موافقتهم على تجربة ستنتهي بموتهم؟!
    المؤيّدون لفكرة الذهاب إلى المرّيخ لهم حججهم، والمعترضون على الفكرة لهم أسبابهم أيضا. ولنبدأ أوّلا بالمعترضين الذين يمكن إجمال وجهة نظرهم في النقاط التالية:
  • الأفراد الذين سيشاركون في الرحلة لن يعودوا إلى الأرض أبدا، أي أن الأمر أشبه ما يكون بأن تحبس شخصا داخل منزل دون أن يفقد عقله. وعلى المشاركين في الرحلة أيضا أن لا يمرضوا أبدا طوال السنوات التي سيقضونها على المرّيخ.
    وإذا عانوا من ضغط أو سكّر أو مرض في القلب، فسيكونون في حالة حرجة جدّا. وإن كانوا محظوظين وكُتبت لهم النجاة من الإشعاع الذي سيقصفهم طوال الرحلة، فسيموتون بعد وقت قليل من وصولهم إلى هناك. وإذا أفهموا كلّ هذه الأمور ثم أصرّوا على الذهاب، فليكن ذلك على مسئوليّتهم.
  • بيئة المرّيخ لا تدعم الحياة البشرية، وعليه فإن هؤلاء الأشخاص سيعيشون طوال ما تبقّى لهم من عمر داخل بيئة مكيّفة واصطناعية. والأسوأ من ذلك أن لا شيء ممّا يؤمّلونه سيصمد أو يتحقّق في أجواء الكوكب القاسية. وكلّ ما سيحتاجونه من طعام يجب أن يُزرع في محميّات. وسيحتاجون إلى معدّات لا يمكن صنعها في المرّيخ في المستقبل المنظور، بل لا بدّ من شحنها من الأرض ثم ضمان إصلاحها وصيانتها هناك، وهذا يتطلّب تكاليف مادّية طائلة.
  • من الواضح أن هؤلاء الأشخاص الذين ينوون الذهاب إلى المرّيخ، لا يدركون فعلا ما هم مقدمون عليه. هل يعرفون، مثلا، أنهم سيقضون بقيّة حياتهم دون أن يستنشقوا عبير زهرة أو يداعبوا طفلا أو يأكلوا وجبة شهيّة أو يمشوا في غابة أو يشعروا بالنظافة والحيوية بعد حمّام دافئ؟ المرجّح أنهم سيقضون بقيّة أعمارهم محبوسين داخل علبة قصدير ومحاطين بصحراء جافّة وقارسة البرد لا هواء فيها ولا حياة، بل غبار سامّ سيقتلهم ببطء في النهاية.
    المتطوّعون للمشاركة في الرحلة، وقبل أن يغادروا إلى المرّيخ، سيُطلب منهم التوقيع على ورقة تقول إن كلّ ما ستؤول إليه الرحلة سيكون على مسئوليّتهم الخاصّة. وهذه الورقة هي أشبه ما تكون بالإقرار الذي يوقّع عليه المريض قبل دخوله غرفة العمليات.
  • لماذا يذهب هؤلاء الناس أصلا، ولماذا يغادرون جنّة الأرض إلى جحيم المرّيخ؟ الذي يريد أن يذهب بلا عودة يجب أن تكون وجهته كوكبا شبيها بالأرض؛ قارّة بدائية محتفظة بنقائها مثل الأمريكتين فيها هواء يمكن استنشاقه ونباتات وحياة. على ارض المرّيخ، لن ينفعك مسدّس ولا محراث. والإثارة في هذه المغامرة ستتلاشى تماما عندما يصلون إلى المرّيخ. وكلّ ما سنراه بعد ذلك هو وقائع موت بطيء ومعلن على الهواء في بيئة معادية وغير مضيافة إطلاقا.
  • بالتأكيد هناك من هؤلاء مَن سيندم على قراره بالذهاب بعد سنة أو اثنتين من وصوله إلى الكوكب الأحمر، هذا على افتراض أنهم سيصلون إلى هناك بسلام. انتاركتيكا، أو حتى الصحراء الكبرى، تُعتبر جنّة مقارنة بالمرّيخ.
    وهؤلاء الأشخاص يتنافسون على أيّ منهم سيُختار لكي يرسل إلى منفى بعيد، وإلى موت مبكّر على الأرجح. ومتابعتهم وهم يموتون ببطء ليس ممّا يريد أن يراه الإنسان على شاشة التلفزيون. إن محاولة استكشاف الكواكب الأخرى شيء، وأخذ الناس ليُتركوا هناك كي يموتوا شيء آخر.
  • على أرض المرّيخ لا توجد نباتات تؤكل ولا حيوانات يمكن صيدها. وأيّ شخص يرغب في الذهاب إلى هناك في رحلة بلا عودة لا بدّ وأن يكون إنسانا مجنونا أو ذا نزعة انتحارية. لذا لا يجب أن يُسمح لهؤلاء الأشخاص بالذهاب.
    تخيّل رحلة طولها عام كامل عبر فضاء بارد ومظلم في صندوق مع بضعة أشخاص آخرين. ستنتهي صلاحيتهم حتى قبل أن يصلوا. هذا اسمه انتحار لا اقلّ ولا أكثر. وبدلا من ذلك لماذا لا يوجّه كلّ منهم مسدّسا إلى رأسه ثم يضغط على الزناد وهو في مكانه؟!
  • كيف يمكن تصوّر أن يعيش إنسان محاصرا داخل علبة بقيّة حياته؟! تحتاج لهواء منعش وفراغ تتمشّى فيه. إن من الجنون أن تذهب إلى صحراء المرّيخ. وهؤلاء الأفراد سيصرخون طلبا للنجدة بمجرّد أن يهبطوا على أرضه ولن يجدوا من ينقذهم. أرضنا جنّة ولا يمكن أن تجد كوكبا مماثلا لها.
    إن أطول مدّة عاشها إنسان داخل كبسولة كانت لبضعة أشهر. ومحطّة الفضاء الدولية ما تزال تعمل إلى الآن بفضل المؤن التي تأتيها بانتظام من الأرض. يجب أن نستيقظ من هذه التهويمات وننظر بجدّية إلى ما يتعيّن علينا أن نفعله لكوكبنا الرائع الجميل الذي يمكن إنقاذه بشيء من المحافظة والانضباط. نحن نستخدم الأرض كمرحاض. فلنترك أوساخنا هنا على الأرض إلى أن نجد طريقة نغيّر بها من أنفسنا.
    تتمّة الموضوع غدا..
  • الأربعاء، يوليو 16، 2014

    بورتريه لـ كارل يونغ

    ما تزال الإشادة بكارل يونغ مستمرّة إلى اليوم باعتباره عالما ثوريّا استطاع أن يغيّر أفكارنا عن علم النفس وقدّم للغرب الروحانية الشرقية وعرّف الناس بعدد من المفاهيم المهمّة.
    الكاتبة والمؤلّفة كلير دون تتحدّث في هذا الكتاب بعنوان "مُداوي الأرواح العليل: بورتريه لكارل يونغ" عن رحلة يونغ لاكتشاف الذات، منذ طفولته إلى بدايات مراهقته وحتى بلوغه ورجولته، بما في ذلك إعادة اكتشافه للروحانية في منتصف عمره.
    كما تتناول المؤلّفة العلاقة الصاخبة التي ربطت يونغ بمعلّمه في احد الأوقات، أي سيغموند فرويد، والدور الهام لتلميذه توني وولف، والرؤى الكاشفة التي خَبِرها يونغ بعد مواجهة عن قرب مع الموت.
    ويضمّ الكتاب أيضا مجموعة من الصور ليونغ وزملائه والبيئات التي عاش وعمل فيها، بالإضافة إلى عدد من اللوحات الفنّية القديمة والمعاصرة التي تعكس تعاليم وأفكار يونغ.
    الفكرة التي تتردّد في أكثر من مكان من الكتاب هي أن مهارة كارل يونغ كمداوٍ ومعالج كان من أهمّ أسبابها اهتمامه المباشر بجروح الآخرين وبجروحه هو.
    وفكرة عنوان الكتاب، "أي المداوي العليل"، اقتبسته المؤلّفة من الأسطورة اليونانية القديمة التي تحكي عن شيرون الذي كان طبيبا يُضرب به المثل في براعته. وقد تعرّض لسهم مسموم أطلقه عليه هرقل. لكن لأنه لم يستطع أن يداوي نفسه، فقد عانى بعد ذلك من جرح لم يندمل أبدا. والعنوان يشير أيضا إلى أن الأذى الذي يتعرّض له الطبيب نتيجة معايشته لمعاناة الناس هو الذي يمنحه جزءا من قدرته على مشافاة جراح الآخرين.
    تقول المؤلّفة في مقدّمة الكتاب إن أمنية حياتها كانت أن تكتب سيرة لحياة كارل يونغ لأنه كان وما يزال بالنسبة لها صديقا قديما وكثيرا ما تلتقي به في الأحلام.
    وتضيف أن رسائله أداة مهمّة للكشف عن شخصيّته. وبعض تلك الرسائل مباشرة ومرحة وغنيّة ومحلّقة. كما أنها تحتوي على خلاصة أفكاره وتكشف عن شخصيّة رجل روحانيّ ومتجذّر في الأرض. ويمكن أن يقال نفس الشيء عن سيرته الذاتية وعن كتاباته العلمية. ومن كلّ هذه الكتابات تستطيع أن تتعرّف على كفاح يونغ وكيف وصل إلى ما وصل إليه.
    كان كارل يونغ يحبّ الطبيعة ورحلات القوارب والنحت والرسم. وجميع هذه الاهتمامات كانت تتعايش جنبا إلى جنب مع المداوي الروحاني الرائد والمفكّر والعالم.
    في الثلاثينات من عمره، بدا كما لو أن يونغ جمع الامتيازات كلّها: وظيفة مرموقة، وصداقة مع فرويد تشبه علاقة الأب بابنه، ورئاسته لرابطة علماء النفس العالمية، وأيضا تمتّعه بحياة زوجية هادئة ومستقرّة.
    وفي سنّ الأربعين، أي بعد انفصاله المؤلم عن فرويد، بدأ استكشافاته ودراساته عن الأحلام ومستويات الروح والحدس.

    كان كارل يونغ يقول عن نفسه: أنا صراع المتضادّات". فقد كان متزوّجا من امرأتين بنفس الوقت وعاش معهما على الملأ لأربعين عاما. وقد وصفه احد الكتّاب في أوقات ضعفه وقوّته بأنه كان الإنسان العظيم الوحيد الذي عرفه.
    وتشير المؤلّفة إلى أن يونغ كتب كثيرا عن الظلّ والشخص النقيض وعن تحليل الأحلام وعملية الخيال النشط. وهي كلّها محطّات على الطريق إلى قبول أنفسنا كما هي. وقد استمدّ أفكاره من تجاربه ومن مرضاه ومن اكتشافه للثقافات والكتابات القديمة.
    أسفاره إلى أفريقيا والهند وأمريكا كانت مهمّة بالنسبة له. وقد استفاد منها، كما استفاد من دراساته للغنوصيّة "أو اللاأدرية" والخيمياء وسخّرها لتأليف كتاب عن اليوغا الصينية.
    كان يونغ يرى في الكبت الروحي مرض العصر والمشكلة الكبيرة لمرضاه الذين هم في منتصف العمر. وكان يعتقد أن لا احد يمكن أن يُشفى حقّا ما لم يستعد موقفه الديني، الذي لا علاقة له بالعقائد أو الانتماء إلى الكنيسة. كما ناقش قضايا فلسفية، مثل الخير والشرّ والمسيحية والجانب المظلم من فكرة الإله والانصهار الصوفيّ.
    وقد أثارت أفكاره جدلا واسعا ونقاشا مع العديد من رجال الدين والمفكّرين من الشرق والغرب. والكاتبة تورد أمثلة عن تلك السجالات، وتنقل عن يونغ قوله ذات مرّة بحنق: هؤلاء يريدون أن يحرقوني كزنديق من القرون الوسطى".
    كان يونغ يردّد أن الربّ هو سرّ الأسرار وأن الحضور الإلهي محسوس في كلّ شيء. وذات مرّة سأله صحفيّ بريطاني: هل تؤمن بالله؟ فأجاب: لا احتاج لأن أؤمن وأنا اعرف". شاهد الرخام على قبره صمّمه هو بنفسه ونقش عليه هذه العبارة: الربّ حاضر سواءً نودي أم لم يُنادى".
    تقول المؤلّفة كلير دون إنها ترى في يونغ نموذجا لإنسان صيغ من اجل زماننا هذا. وتعيد إلى الأذهان قوله انه لا يريد من احد أن يتخذه مثالا. "أريد من كلّ إنسان أن يكون هو نفسه. ولو أراد إنسان في يوم من الأيّام أن يصنع لي مدرسة أو نهجا، فمعنى هذا أنني فشلت في كلّ ما حاولت أن أفعله".
    بالقرب من نهاية حياته، لم يكن كارل يونغ مجرّد عالم نفس ولا فنّان رؤيوي، ولكنه كان إنسانا حكيما فهم ارفع وأسمى ما فينا كبشر.
    ومن عباراته المشهورة قوله إن الوحدة لا تعني عدم وجود أشخاص حول الإنسان، بل تعني عجزك عن إيصال الأشياء التي تعتبرها مهمّة، وعدم قدرتك على المجاهرة بوجهات نظر معيّنة يعتبرها الآخرون غير مقبولة.
    المؤلّفة كلير دون ولدت في ايرلندا وتقيم في سيدني بأستراليا منذ عدّة سنوات. وقد ألقت محاضرات عدّة عن يونغ، كما أشرفت على عدد من البرامج الوثائقية عن فرويد.
    وكتابها هذا عن سيرة حياة كارل يونغ ضروريّ لأيّ شخص مهتمّ بعلم النفس وبالروحانية وتطوير الذات. وهو يتضمّن حوالي 150 صورة قديمة وحديثة ليونغ، بالإضافة إلى لوحات لرينيه ماغريت وبول كلي ويونغ نفسه وبعض الأعمال الفنّية من الثقافات القديمة.

    Credits
    watkinsbooks.com
    shiftfrequency.com

    الجمعة، يوليو 11، 2014

    نافورة الدموع/2

    في عام 1774، تمكّن الروس من إخضاع خانية القرم لنفوذهم. وبعد ذلك بعشر سنوات، تمّ ضمّ شبه الجزيرة رسميّا إلى روسيا. ثم أصبحت جزءا من أراضي اوكرانيا التي كانت في ما مضى جزءا من الاتحاد السوفياتي.
    وبعد مرور حوالي عشرين عاما على بناء نافورة بختشي سراي، وكان الخان غيراي وقتها قد توفّي، قدمت إلى المنطقة الإمبراطورة كاثرين العظيمة لزيارة النافورة والقصر. تفاصيل تلك الزيارة وكلمات الإمبراطورة تبيّن أن القصر كان له تأثير هائل على المخيّلة الرومانسية الروسية.
    كان قصر بختشي سراي المحطّة الأخيرة في جولة كاثرين احتفالا بإلحاقها الهزيمة بالإمبراطورية العثمانية في الحرب الروسية التركية التي انتهت عام 1774 وأسفرت عن ضمّ الروس نهائيا لشبه جزيرة القرم.
    ولا بدّ وأن منظر كاثرين العظيمة وهي تزور ذلك المكان كان مهيبا. كان يرافقها اثنا عشر ألف فارس من فرسان التتار بأسلحتهم وملابسهم الباذخة، بالإضافة إلى حرس الشرف وحاشية من أكثر من ألفي رجل.
    كان العقل المدبّر لتلك الزيارة هو الأمير غريغوري بوتيمكين، أقوى رجل في روسيا آنذاك وصديق كاثرين الحميم، الذي كان قد أعطى أوامره بترميم قصر الخان وتجديده بهدف جعله "قصر الحمراء" الروسي.
    وقد نجح بوتيمكين في التأثير على كاثرين بدليل هذه الكلمات التي كتبتها له ليلة وصولها: استلقيت ليلة واحدة في منزل الخان الصيفي وسط المسلمين والدين الإسلامي. أمام هذا البيت بُني مسجد ينادي فيه إمام للصلاة خمس مرّات في اليوم. فكّرت في النوم، ولكن ما أن أغمضت عينيّ حتى وضع يديه في أذنيه وزأر بكلّ قوّة. يا إلهي الرحيم! مَن من بين أسلافي كان ينام بسلام بين جحافل القبائل وخاناتهم؟! إن ما يمنعني من النوم في بختشي سراي هو دخان التبغ وهذا الهدير.
    كانت كاثرين احد الرومانسيين الكبار في التاريخ. وقد بقيت في بختشي سراي ثلاثة أيّام. ويمكن للمرء أن يتخيّل أنها ورجال حاشيتها كانوا يمضون الأمسيات وهم يستمعون إلى تساقط مياه النافورة وما تتركه من أصداء طويلة في فناء القصر.
    في عام 1944، وخلال الحرب العالمية الثانية، أبعد النظام السوفياتي شعب تتار القرم بشكل جماعي إلى أراضي ما يُعرف الآن بأوزبكستان وأجزاء أخرى من آسيا الوسطى، انتقاما لتعاون بعض التتار مع ألمانيا النازية. وفي غضون عامين، توفّي 40 بالمائة من المرحّلين.
    وأعقب ذلك التطهير العرقي تطهير ثقافي، إذ تمّ تدمير الآثار التاريخية واللغوية لتتار القرم بالإضافة إلى عدد كبير من المساجد والمقابر. كما استُبدلت جميع الأسماء الإسلامية التي أطلقها التتار على المدن والبلدات والقرى في شبه الجزيرة بأسماء روسية.
    واقترح النظام اسما جديدا لقصر غيراي خان بديلا عن بختشي سراي هو بوشكينيسك "نسبة إلى بوشكين". بل إن البعض اقترحوا تدمير القصر بكامل محتوياته، باعتباره الشاهد الصامت على تاريخ شعب حُرم من حقّه في العيش بحرّية على أرض آبائه وأجداده. لكن في النهاية أدركت السلطات في موسكو أنها لن تتمكّن من محو قصيدة بوشكين، فأبقت على اسم القصر والنافورة.
    اهتمام روسيا الجيوبوليتيكي بشبه جزيرة القرم يعود إلى زمن بطرس الأكبر. لكن الأمر لا يحتاج سوى لقصيدة شعر لنفهم مكانة القرم في الروح الروسية. وليس من المبالغة القول إن خيال بوشكين منح حياة جديدة للنافورة والقصر اللذين بقي اسمهما دون تغيير بعد أن نجت مبانيهما من آثار الحقبة السوفياتية.
    وبسبب هذه القصيدة، فإن حوالي نصف مليون سائح يأتون سنويا من روسيا لزيارة القصر ورؤية المكان الذي تجري فيه قصّة نافورة الدموع التي حوّلها بوشكين إلى رمز للحبّ الخالد في الأدب العالمي.
    ولمئات السنين، تعاقبت على جزيرة القرم حضارات عديدة حاول بعضها مسح أيّ اثر للقصر أو النافورة. لكنهما بقيا لأن قصّتهما حرّكت مشاعر الروس والقياصرة. وربّما لولا قصيدة بوشكين لضاع القصر إلى الأبد.
    واليوم، فإن قصر الخان، مع المسجد والمقبرة وغيرهما من ملحقاته، هي المعالم الكبرى الوحيدة المتبقّية من الفنون البصرية لخانية التتار. لكن بالنسبة لأبناء الخانية الحاليين، فإن القصر يعني قلب الأمّة ورمز ثقافتها.
    صحيح أن النافورة تبدو اليوم متواضعة. لكن الحلم ما يزال على حاله. وما يزال القصر يتذكّر ماضيه الذي كان ذات زمن يشبه الفردوس.

    Credits
    online-literature.com
    roses-crimea.com

    الخميس، يوليو 10، 2014

    نافورة الدموع

    في عام 1238، قاد باتو، حفيد جنكيز خان، تحالفا من المغول والقبائل التركية لتأسيس امبراطورية امتدّت من المحيط الهادي إلى نهر الفولغا. وبسبب ثرائها وقوّتها، أصبحت هذه الخانية تُعرف باسم القبيلة الذهبية. ومن هذه القبيلة انحدرت واحدة من أقدم السلالات المغولية. وقد أسّست لها عاصمة أطلق عليها القرم واعتنق شعبها الإسلام في القرن الثالث عشر الميلادي.
    لكن بعد هزيمة القبيلة الذهبية في عام 1441 على يد تيمورلنك، رحل نبلاء القرم عن المنطقة وأسّسوا لهم خانية مستقلّة تحت قيادة حاجي غيراي. وفي عام 1475، سيق حاجي سجينا إلى اسطنبول حيث اجبره السلطان العثماني محمّد الثاني على الاعتراف بسيطرة العثمانيين على خانية القرم.
    وفي ما بعد، سُمح لحاجي بالعودة إلى عرشه. وفي عام 1502، خاض معركة ضدّ خان القبيلة الذهبية وألحق به الهزيمة قرب نهر الدينيبر. ثم ألحق أبناؤه هزيمة بالروس بالقرب من موسكو، وأجبر الروس بعدها على احترام الخانية، واستمرّ الحال كذلك حتى نهاية القرن السابع عشر.
    وفي بدايات القرن الثامن عشر، كان يحكم خانية القرم الإسلامية سلطان يُدعى كريم غيراي خان. وكان هذا الرجل يدير شئون الخانية من قصره المسمّى بختشي سراي، أي قصر الروضة. المؤرّخون من تلك الفترة يصفون الخان غيراي بأنه كان شخصا شرسا وعديم الرحمة ولم يكن يوفّر أحدا من بطشه. وقد شقّ طريقه نحو العرش فوق أكداس من الجثث. وعندما كان يغزو أرضا كان يحرقها ولا يبقى منها سوى الرماد.
    وطوال حياته، لم تعرف الدموع طريقها إلى عينيه. كان يستمتع بالخوض في دماء الضحايا، وكان الناس يرتجفون من مجرّد ذكر اسمه الذي يثير الرعب والهلع في النفوس.
    ويبدو أن الخان غيراي لم يكن يأبه للحبّ أو حتى للمال. كلّ همّه كان منصبّا على المجد والسلطة. ولكن فجأة وقع في حبّ أميرة جورجية جميلة تدعى "ماريّا" جلبها معه من إحدى حملاته العسكرية في بلاد الشرق. غير أن الأميرة الأسيرة والحزينة على فراق وطنها لم تكن تشعر بأيّة عاطفة تجاه الخان.
    كانت ماريّا "أو ديلارا كما تُسمّى أحيانا" متعة أبيها العجوز. كانت فتاة خجولة ووحيدة وعفيفة. وقد قاومت جميع محاولات غيراي للتودّد إليها وكسب قلبها. ومع مرور الأيّام، أصبح هذا الحبّ الشيء الأكثر قيمة في حياة الخان.
    كانت ماريّا تختلي بنفسها بعيدا عن نساء القصر. لكن هذا لم يوقف زاريما، زوجة الخان الغيورة ورئيسة حريمه، التي كانت تبيّت في نفسها أمرا وتتحيّن الفرصة للإجهاز على غريمتها ومنافستها. وتموت الأميرة الجميلة قبل الأوان وبشكل غير متوقّع عندما تقوم زاريما بدسّ السمّ في طعامها.
    عندما علم الخان غيراي بأن زوجته هي من قتل ماريّا، بادر إلى قتلها انتقاما. ثم أمر ببناء نافورة في القصر أطلق عليها "نافورة الدموع" تخليدا لذكرى الأميرة وقصّة حبّه لها.

    النحّات الفارسي الذي شيّد النافورة خلق في تصميمه الإحساس بنبع سلسبيل، وهو اسم عين ماء مقدّسة في الجنّة. كما ضمّن النافورة نقشين: نقش علويّ ويتضمّن قصيدة في مدح الخان، وسفلي ويتضمّن آية من القرآن الكريم "عينا فيها تُسمّى سلسبيلا".
    الغموض الذي يحيط بشخصية ماريّا أدّى إلى ظهور أساطير عديدة. وتحوّلت النافورة والأساطير التي نُسجت حولها إلى مصدر إلهام للعديد من الكتّاب والفنّانين الذين مجّدوا النافورة والقصر.
    الشاعر الكسندر بوشكين رأى النافورة عام 1820 خلال زيارته القصيرة إلى قصر الخان وأعجب بالكتابات ﻭﺍﻟﻨﻘﻭﺵ الزخرفية ﺍﻟﺸﺭﻗﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻜﺎﻨﺕ ﻤﺤﻔﻭﺭﺓ ﻋﻠيها. وقد عكس الشاعر انطباعاته بطريقة مبدعة في قصيدته المشهورة نافورة بختشي سراي التي نُشرت عام 1824.
    والقصيدة ليست إحدى أشهر قصائد بوشكين فحسب، بل يمكن اعتبارها النسخة الروسية من ألف ليلة وليلة. وهي تحكي قصة من شيّدوا القصر وقصّة خانية القرم الغابرة.
    النحّات الذي بنى النافورة لم يكن يتوقّع أن يشتهر عمله في جميع أنحاء العالم. وبوشكين أيضا لم يكن يتوقّع أن تحظى قصيدته بكلّ هذا الذيوع الذي تتمتّع به اليوم.
    غير أن تأثير قصيدة بوشكين كان فوريّا. وقد ساعدت قصيدته تلك في ظهور صورة رومانسية عن العالم الإسلامي، كما بدأت التغييرات التي كانت تُجريها السلطات على نسيج القصر الأصلي تثير احتجاجات الفنّانين والمهندسين المعماريين الروس وحتى بعض القياصرة أنفسهم. قصيدة بوشكين ألهمت أيضا الموسيقي الروسي بوريس اسافييف تأليف باليه بنفس الاسم.
    وبعد عام من زيارة بوشكين للمنطقة، جاء موكب من الكتّاب إلى القصر. وكان من بين هؤلاء الشاعر البولندي آدم ميتزكيفيتش المشهور اليوم برباعيّاته عن جزيرة القرم والتي تتحدّث إحداها عن قصر بختشي سراي.
    لكنّ الذي يزور القصر اليوم لا يرى سوى أطلال النافورة وبقايا البلاط الداخلي الذي كان يؤوي الحريم. هنا جناح الأمير غيراي خان. وهنا كانت تعيش زاريما ملكة الحريم إلى أن وصلت ماريّا بعد أن انتُزعت عنوة من قصر والدها في جورجيا.
    الرسّام الروسي كارل بريولوف تأثّر بقصيدة بوشكين وعمل لمدّة 12 عاما على لوحة هي عبارة عن منظر استشراقي عن الحريم في قصر بختشي سراي.
    لوحة بريولوف "فوق" تصوّر جانبا من فناء القصر. النساء ينتظرن عودة الخان وهنّ يجلسن على سجّادة حريرية بجانب نافورة. وفي اللوحة أيضا يظهر طفل يلهو بمرح، بينما تبدو الأسماك في أعماق النافورة الصافية وهي تتهادى فوق أرضية رخامية.
    زاريما الغيورة، اقرب حريم الخان إلى قلبه، ترمق الأسيرة الحزينة ماريّا بعينين يتطاير منهما الشرر. وإحدى النساء يسقط قرطها الذهبيّ في الماء، وخادمة سمراء تجلب الشراب بينما تصدح في الجوّ أنغام أغنية حزينة.
    وللحديث بقيّة غدا..

    الجمعة، يوليو 04، 2014

    لوحات وروايات/2

    الكاتبة الأمريكية دونا تارت هي آخر من ألّف رواية تستند في موضوعها إلى لوحة تشكيلية. هذه الرواية هي التي سنتوقّف عندها في هذا الجزء بشيء من التفصيل. عنوان الرواية طائر الحسّون وهي ثالث رواية للكاتبة. وقد نالت عليها جائزة البوليتزر ولاقت صدى طيّبا عند الجمهور والنقّاد. مؤلّف روايات الرعب ستيفن كنغ كتب عن الرواية واصفا إيّاها "بالعمل النادر المكتوب بذكاء والذي يخاطب العقل والقلب معا".
    تدور أحداث الرواية حول بورتريه صغير لطائر حسّون رسمه فنّان هولندي يُدعى كارل فابريتسيوس قبل 350 عاما.
    وبطل الرواية صبيّ مراهق اسمه ثيو يصطحب أمّه ذات يوم إلى متحف المتروبوليتان للفنون في نيويورك. وفي إحدى قاعات المتحف يتوقّف الاثنان أمام لوحة الطائر الصغير كي يتأمّلا تفاصيلها. وبينما هما هناك، تنفجر قنبلة فجأة ويروح ضحيّتها عشرة أشخاص من بينهم والدة الصبيّ.
    وأثناء الفوضى التي تلي الانفجار يأخذ ثيو اللوحة ويحملها معه إلى خارج المتحف. وبقيّة الرواية الطويلة تخبرنا ما الذي حدث للصبيّ وللوحة بعد ذلك. يتذكّر الصبيّ، مثلا، ما حدث له منذ الانفجار ويدرك أن قدره أصبح مرتبطا بهذه اللوحة الصغيرة، وأنه كلّما أطال إخفاءها كلّما أصبح اقلّ قدرة على إعادتها.
    يقول البطل في مكان ما من الرواية: بين الواقع والنقطة التي يتلامس فيها مع العقل، ثمّة منطقة وسطى؛ حافّة قوس قزح حيث يمتزج سطحان مختلفان جدّا وتضيع الحدود بينهما ليوفّرا ما لا توفّره الحياة. هذا هو الفضاء الذي يولد فيه الجمال وتوجد فيه كلّ الفنون".
    والسؤال الذي تطرحه الرواية هو: ما الذي يجعل الفنّ فنّا، وما الذي فعلته لوحة عمرها أكثر من 300 عام بطفل صغير؟
    لكن ترى ما الذي لفت انتباه دونا تارت في هذه اللوحة الضئيلة كي تجعلها موضوعا لرواية؟
    اللوحة صغيرة جدّا. ومع ذلك فهي تحتفظ بسحرها الخاصّ رغم وجودها في غرفة تضمّ خمس عشرة لوحة أخرى لفنّانين هولنديين كبار مثل هولس وفيرمير وستين ورمبراندت.
    في لوحة فابريتسيوس هذه، هناك شيء ما غامض؛ شيء لن تجده في طبعاتها المستنسخة، لكنك سرعان ما ستكتشفه عندما تقف أمام النسخة الأصلية من هذه اللوحة المدهشة.
    وفيها نرى طائرا مغرّدا من نوع الحسّون، وهو طائر معروف بلونه الأصفر الفاتح وبرأسه المبقّع بالأحمر وكذلك بجناحيه الأسودين. في زمن فابريتسيوس كان هذا النوع من الطيور يعامل كطائر أليف في المنازل وكان يجري تعليمه الكلام والحيل.
    الطائر يظهر في اللوحة معتليا قفصا خشبيا بينما رُبطت إحدى قدميه بسلسلة. وقد رُسم بطريقة بارعة وبعدد محسوب من ضربات الفرشاة. يمكنك أن تحدّق في اللوحة لعام كامل وتتمعّن في ألوانها وفي أسلوب رسمها، ولا تستطيع أن تعرف كيف رسمها الفنّان ولماذا.
    غير أن وراء هذه اللوحة قصّة لا تخلو من إثارة ومأساوية. فقد رسمها كارل فابريتسيوس في نفس السنة التي مات فيها. وقد قُتل وعمره لا يتجاوز الثانية والثلاثين بانفجار في مستودع للبارود في مدينة ديلفت الهولندية عام 1654م.
    في ذلك الانفجار، دُمّرت معظم لوحاته. وحدها "طائر الحسّون" مع بضع لوحات أخرى هي التي نجت. والشخص الذي يشرح اللوحة لزوّار المتحف في نيويورك يزعم انك لو نظرت إلى سطح اللوحة عن قرب فسترى بعض آثار ذلك الانفجار بوضوح.
    بعض المصادر التي تعود إلى تلك الفترة تذكر أن الانفجار لم يتسبّب فحسب في قتل الرسّام وتدمير محترفه وإتلاف معظم أعماله، وإنما دمّر أيضا ربع مباني المدينة.
    حياة كارل فابريتسيوس كانت قصيرة جدّا. ولوحاته الباقية اليوم قليلة لا يتجاوز عددها العشر، وكلّ واحدة منها تحفة فنّية. كان رسّاما واعدا، وكان أنجب تلاميذ رمبراندت، كما كان له تأثير على فيرمير. اهتمامه بالتأثيرات البصرية، ثمّ حقيقة انه استقرّ في ديلفت، تعني انه كان يُنظر إليه كجسر بين رمبراندت وفيرمير.
    ويقال إن فيرمير نفسه تأثّر بهذه اللوحة الصغيرة عندما كان يعمل على لوحته التي أصبحت في ما بعد أشهر لوحة هولندية، أي "الفتاة ذات القرط اللؤلؤي".
    والأمر الذي لا خلاف عليه هو أن "طائر الحسّون" لم تفقد شيئا من قوّتها وبريقها خلال القرون الثلاثة الماضية، كما يقول ثيو في آخر صفحات الرواية. "شيء عظيم ورائع أن تحبّ ما لا يستطيع الموت لمسه".

    Credits
    therumpus.net
    literaryreview.co.uk

    الخميس، يوليو 03، 2014

    لوحات وروايات

    أحيانا قد تنظر إلى لوحة أو صورة ما فيساورك إحساس بأنها تحكي عن قصّة أو أنها يمكن أن توفّر أساسا لكتابة قصّة أو رواية. والصورة، أيّة صورة، حتى إن كانت ساكنة ظاهريا، ليست في النهاية سوى تعبير عن حركة وسيرورة الزمن.
    والمعنى أو الطابع السردي الذي نضفيه على صورة ما ليس سوى انعكاس لمخيّلتنا. كما أن الفنّ في نهاية الأمر ليس سوى رمز أو استعادة لشيء ما اكبر.
    وفي السنوات الأخيرة، راجت ظاهرة الروايات الأدبية التي تعتمد على أعمال تشكيلية. وأقرب مثال على ذلك يرد إلى الذهن هو رواية الفتاة ذات القرط اللؤلؤي للكاتبة تريسي شيفالييه. هذه الرواية تعتمد على لوحة بنفس الاسم للرسّام الهولنديّ يوهانس فيرمير.
    وكانت شيفالييه قد رأت اللوحة لأوّل مرّة في نيويورك وكان عمرها آنذاك لا يتجاوز التاسعة عشرة. وقد فُتنت بملامح الفتاة في اللوحة وبابتسامتها الغامضة. ثم اشترت نسخة من اللوحة وعلّقتها في بيتها، قبل أن تبدأ في كتابة روايتها. وقد حقّقت الرواية نجاحا كبيرا ثم تحوّلت إلى فيلم سينمائي حقّق هو الآخر نجاحا واسعا.
    وبالتأكيد عندما تنظر إلى لوحة فيرمير هذه لا بدّ وأن تحبّها. والحقيقة أن الملمح السردي، أي قابلية اللوحة لأن تتحوّل إلى قصّة أو رواية، لا يقتصر على هذه اللوحة فحسب، بل يمكن ملاحظته بوضوح في العديد من اللوحات الهولندية الأخرى التي تعود إلى القرن السابع عشر، أي إلى العصر الذهبي للرسم الهولندي.
    الكثير من اللوحات الهولندية من ذلك العصر، أي عصر رمبراندت وفيرمير ودي هوك وهولس وفان اوستيد، توفّر لحظات سلام وتستحضر تأمّلا وجدانيّا وروحيّا. ولا يمكن للإنسان إلا أن يُعجَب بها لجمالها وإلهامها وأصالتها وأسلوبها وألوانها والبراعة التي نُفّذت بها.
    أنظر مثلا إلى هذه اللوحة أو هذه . كلّ من هاتين اللوحتين يمكن أن تنبني عليها قصّة أو رواية متخيّلة.
    وكلّ أولئك الرسّامين كانوا من العباقرة. لكن فيرمير، على وجه الخصوص، ظلّ لغزا عصيّا على الفهم. وما كُتب عنه وعن حياته قليل. لكن مناظره، بنسائها المثيرات وأماكنها المتقشّفة وما تستدعيه من هدوء وسكينة، تسمح ببعض الشروحات عن سياقاتها الاجتماعية والتاريخية.
    والنقّاد والروائيون ما يزالون إلى اليوم يبحثون عن قصص ورموز ورسائل خفيّة قد تكون اُودعَت في تلك الصور التي رسمها فيرمير والتي تشبه الأفلام الصامتة أو اللحظات الدرامية في الحياة. وفي هذه الأيّام ترك فيرمير بصمته على كلّ شيء ووجدت لوحاته تعبيرا لها في كلّ اتجاه تقريبا، من الأوبرا إلى الطوابع البريدية والموسيقى والإعلانات.
    اللوحات الروسية هي الأخرى غنيّة بالخصائص السردية. تأمّل مثلا هذه اللوحة لايليا ريبين أو هذه لفالانتين سيروف. كلّ من هاتين اللوحتين تصلح موضوعا لقصّة أو رواية. ولوحتي المفضّلة من هذا النوع من الرسم السردي أو الذي يمكن تكييفه وتحويله إلى عمل أدبيّ هي هذه . أمّا الأسباب فقد أتحدّث عنها في ما بعد.
    بالإضافة إلى رواية تريسي شيفالييه المعتمدة على لوحة فيرمير، ألّف دان براون رواية بعنوان شيفرة دافنشي تبدأ أحداثها بمشهد العثور على شخص مقتول داخل متحف اللوفر بينما يشير وضع الجثة إلى لوحة إنسان فيتروفيوس لليوناردو دافنشي.
    كما كتبت جين كالوغريديس رواية بعنوان موناليزا تجري أحداثها في فلورنسا القرن الخامس عشر وتحكي عن حياة المرأة التي تظهر في اللوحة المشهورة وعن مشاكلها وخيباتها العاطفية.
    وكتبت اليزابيث هيكي رواية بعنوان القبلة المرسومة تحكي من خلالها قصّة الحبّ التي ربطت الرسّام النمساوي غوستاف كليمت بالعارضة ايميلي فلوغي التي ستصبح في ما بعد موديله المفضّلة والتي ستظهر في لوحته المشهورة القبلة.
    سوزان فريلاند الّفت، هي الأخرى، رواية بعنوان فتاة بفستان ازرق نيلي . الكاتبة تنطلق في روايتها من حقيقة معروفة وهي أن فيرمير لم يترك وراءه سوى 35 لوحة فقط. غير أنها تفترض وجود لوحة مفقودة للرسّام، ثم تبدأ بتعقّب اللوحة المزعومة أثناء انتقالها من مالك لآخر.
    وللحديث بقيّة غدا..

    الأربعاء، يونيو 25، 2014

    تأمّلات ماركوس اوريليوس

    تخيّل أن يصبح فيلسوف حاكما أو امبراطورا على بلد ما، ما الذي سيحدث؟!
    ماركوس اوريليوس كان امبراطورا حكم روما من عام 161 إلى عام 180م. وكان يشاركه الحكم امبراطور آخر يقال له لوسيوس إلى حين وفاة الأخير عام 169م.
    كان اوريليوس الأخير في سلسلة من الحكّام الذين كانوا يسمّون بالأباطرة الخمسة الطيّبين. والمؤرّخون يعتبرونه احد أهمّ الفلاسفة الرواقيين. وما أن يُذكر اسمه حتى يتبادر إلى الذهن كتابه المشهور "التأمّلات"، وهو مجموعة من التمارين الفلسفية التي تُعنى بتحليل أحكام الإنسان على الأشياء ومحاولة استنباط فكرة أو منظور شامل عن الكون.
    وفي الكتاب أيضا يتحدّث اوريليوس عن الخدمة والواجب وكيف يمكن للإنسان أن يحتفظ بالاتزان ورباطة الجأش وسط الصراع وذلك باتّباع الطبيعة كمصدر هداية وإلهام.
    من منظور حديث، لا يمكن تصنيف ماركوس اوريليوس ضمن الصفّ الأوّل من الفلاسفة القدماء. وبالتأكيد هو ليس بمنزلة أفلاطون ولا أرسطو أو سقراط. لكن هذا لا يقلّل من مكانته كفيلسوف ولا من قيمة وأهمّية كتابه.
    والذين أرّخوا لحياته قديما قالوا انه كان رواقيّا وأنه تتلمذ على يد ايبيكتيتوس. لكن في "التأمّلات" لا توجد إشارة واضحة على كونه رواقيّا. وربّما يوحي هذا بأنه ألّف الكتاب لنفسه ولم تكن تلك محاولة منه لتعريف نفسه للجمهور. لكن من الواضح أن الرجل كان منفتحا على الأفكار والتقاليد الفلسفية المختلفة في زمانه.
    كتاب "التأمّلات" لا يقدّم نظريات فلسفية مثل تلك التي كتبها أرسطو مثلا. كما لا يمكن مقارنته بنظريات هيروكليس الرواقي الذي يقال انه كان معاصرا لماركوس. لكن هذا الكتاب يحتوي على بعض الاضاءات والحكم الفلسفية العميقة.
    يقول اوريليوس مثلا:
  • كم من الوقت يمكن أن يوفّر الإنسان لو انه لا يهتمّ بما يفعله جاره أو فيمَ يفكّر.
  • لا تنظر إلى شيء على انه ميزة لك إذا كان ثمنها أن تنكث بوعودك وتفقد احترامك لنفسك.
  • الإنسان النبيل يقارن نفسه بمن هم اكبر منه. والإنسان الوضيع يقارن نفسه بمن هم اقلّ منه.
  • الموت يحرّر الإنسان من متطلّبات الحواسّ ومن الرغبات التي تستعبدنا ومن تقلّبات العقل ونزوات الجسد.
  • انظر إلى الماضي وتأمّل كم من الامبراطوريات التي صعدت ثم سقطت. ويمكنك بعد ذلك أن تتنبّأ بالمستقبل أيضا.
  • عندما تستيقظ في الصباح، فكّر في معنى وقيمة أن تكون على قيد الحياة. أن تفكّر يعني أن تستمتع وأن تحبّ.
  • أفضل أنواع الانتقام هي أن لا تتصرّف مثل الشخص الذي أساء إليك أو ألحق بك أذى.
  • غاية الحياة ليست في أن تكون في صفّ الأغلبية، ولكن في أن تهرب لتجد نفسك في النهاية في صفوف المجانين.
  • حاول أن تستمتع بحياتك. إن كانت هناك آلهة وهي عادلة فلن تهتمّ بما إذا كنت تقيّا أم لا، ولكنها سترحّب بك وترضى عنك بسبب الفضائل التي تحوزها. وإن كانت هناك آلهة وهي ليست عادلة فلا يجب أن تقدّسها من الأساس.
  • ليس الموت ما يجب أن يخشاه الإنسان، بل الخوف من أن لا يعيش حياته أبدا.
    المؤسف أن عهد ماركوس اوريليوس الذي دام عقدين اتسم باستمرار الحروب والصراعات. ولأنه رجل مثقّف وصاحب فكر إنساني كما تشي بذلك كتاباته، فقد كان يكره الحروب وسفك الدماء ويؤمن بالحوار بديلا عن المواجهة والقتال.
    غير انه لم ينسَ أيضا انه رجل سياسة وانه مسئول عن مصير بلد وأن عليه أحيانا أن يتخذ قرارات حازمة ومؤلمة. لذا تحتّم عليه مواجهة سلسلة من الغزوات على يد القبائل الجرمانية. كما اُجبر على أن يواجه ثورات وتمرّدات داخلية من قبل بعض قوّاده. وخلال حكمه، ألحق الهزيمة بالإمبراطورية البارثينية في الشرق واستولى على المدائن عام 164م.
    ومن المفارقات الغريبة أن اوريليوس ألّف كتاب "التأمّلات" عندما كان منهمكا في تسيير إحدى حملاته العسكرية ما بين عامي 170 و180م. كان من عادته أن يفوّض الكثير من صلاحياته لقائد جيشه بينما يصرف هو معظم وقته في الكتابة والتأمّل.
    يقول ماركوس اوريليوس في نهاية كتابه: سعادتك في الحياة تعتمد على نوعيّة أفكارك".
    ويمكن القول بلا مبالغة أن هذه العبارة تختزل كلّ ما يقوله ويردّده منظّرو تطوير الذات في كتبهم ومحاضراتهم هذه الأيّام.
  • الثلاثاء، يونيو 17، 2014

    الأرض: 4 نظريات مخيفة


    قد يكون غاليليو تعرّض للتهديد من قبل محاكم التفتيش منذ ما يقرب من 400 سنة. ولكن ما حدث له لم يكن أمرا مرعبا كثيرا. وسواءً كانت الأرض تدور حول الشمس "كما كان يعتقد كوبرنيكوس وغاليليو ونيوتن"، أو العكس "كما في النموذج القديم لبطليموس أو أرسطو"، فإن الكون الذي تخيّله غاليليو ما يزال مكانا هادئا.
    لكن في هذه الأيّام، يواجه علماء الفلك تهديدات تقشعرّ لها الأبدان. وفي ما يلي بعض الأشياء التي تدعو الفلكيين للقلق والتي قد تتسبّب أيضا في إثارة قلق القارئ.
    معظمنا، نحن البشر، يعتقدون أننا ملوك الأرض وأننا نتصارع كي نمدّ ونوسّع هيمنتنا بفضل ما نملكه من أدمغة كبيرة. ولكنّ هذا هو بالضبط ما فعلته الديناصورات من قبل. ففي احد الأيّام، قبل ما يقرب من 65 مليون سنة، اعترض طريقها كويكب صغير واصطدم بالأرض مخلّفا وراءه سحابة من الغبار لم تلبث أن انتشرت في جميع أنحاء الكوكب. وبسبب الانخفاض الشديد في درجات الحرارة الذي أعقب ذلك، ماتت آلاف الأنواع والمخلوقات على الأرض. وانضمّت الديناصورات إلى عملية الانقراض الجماعي تلك. واليوم، وفي أيّ وقت، يمكن أن نتعرّض، نحن أيضا، لانقراض جماعيّ مماثل.

  • الأدلّة على احتمال حدوث اصطدام كويكب آخر بالأرض يمكن أن نجدها من خلال تحليل الاصطدامات التي حدثت في الماضي، مثل ذلك الذي أنهى عصر الديناصورات. لكن ما الذي نعرفه عن ذلك الاصطدام الذي وقع منذ زمن طويل؟ الأدلّة على الاصطدام بدأت تظهر تباعا عندما اكتشف عالم في جامعة كاليفورنيا يُدعى لويس ألفاريز عنصر الإيريديوم في طبقة تتوزّع على جميع أنحاء كوكبنا. وقد عرف أن الطبقة تحتوي على إشعاع يعود إلى 65 مليون سنة. ولأن الكويكبات تكون في بعض الأحيان غنيّة بالمعادن، فقد استنتج العالِم أن فكرة الاصطدام ممكنة ومعقولة.
    التحقّق من هذه النظرية تأكّد عندما وُجدت الحفرة الفعلية التي أنشأها الكويكب لدى ارتطامه بالأرض، وذلك في المحيط قبالة شبه جزيرة يوكاتان في المكسيك. والحفرة مغطّاة الآن بالرواسب. لكن الجيولوجيين ورسّامي خرائط الفضاء تتبّعوا بُنيتها، واكتشفوا مئات الحلقات العملاقة التي تمتدّ مئات الأميال عبر سطح الأرض.
    وبناءّ على هذه الأدلّة، يقدّر العلماء أن الكويكب الذي ضرب الأرض خلال عصر الديناصورات ربّما كان عرضه حوالي عشرة كيلومترات. وهذا خبر سيّئ، لأنه ثبت أن الكويكبات أو النيازك التي لها هذا الحجم تضرب الأرض مرّة كلّ 100 مليون سنة أو نحو ذلك. وبالتالي، قد لا نكون بعيدين زمنيّا عن حادث مماثل.
    وهناك الآن عدّة مشاريع فضائية تقوم بمسح السماء للكشف عن أيّة كويكبات قد تكون في مسار تصادميّ مع الأرض. ويأمل العلماء أنه إن كانت هناك كويكبات عملاقة قادرة على التسبّب بنهاية العالم في طريقها إلينا، أن تكون تلك الكويكبات الآن في مدار حول الشمس، ما يوفّر لسكّان الأرض إنذارا مسبقا لبضع سنوات بأن عليهم أن يفعلوا شيئا لتجنّب كارثة ممكنة.
    وتشير التقديرات إلى أن هناك حوالي 1000 كويكب قريب من الأرض، يبلغ قطر الواحد منها أكثر من كيلومتر "أي انه ما يزال يشكّل تهديدا لكوكبنا". ويذهب علماء الفلك إلى أن هناك فرصة 1% لأن يصطدم احدها بالأرض مرّة كلّ ألف عام. لذلك قد لا يكون الوقت قد حان لبناء مأوى ضخم مثل ذلك الذي صُمّم في أربعينات القرن الماضي. لكن ليس من الحكمة أيضا الركون إلى الهدوء وتصوّر أن لا شيء يدعو للقلق وأن كلّ شيء على ما يُرام.

  • مصدر الخطر الثاني على الأرض قد يأتي من الشمس. في ذروة أيّام الصيف، قد تظنّ أن أشعّة الشمس ساخنة للغاية. ولكنك في الواقع لم ترَ شيئا بعد حتى الآن. فالشمس ستصبح أكثر حرارة في المستقبل. سطح الشمس اليوم تبلغ حرارته حوالي 6000 درجة مئوية "أي حوالي 10000 درجة فهرنهايت". المشكلة هي أن الشمس ليست سوى نجم في منتصف العمر الآن. والنجوم، على عكس البشر، تصبح أكثر سخونة كلّما تقدّم بها العمر.
    العلماء يحدّدون شدّة حرارة الشمس من خلال قياس ضوئها بطريقتين مختلفتين: الأولى هي أن ننظر إلى لون الشمس، والثانية هي أن نجزّيء ضوءها نسبة إلى طيفها اللونيّ.
    الشمس الآن هي في منتصف عمرها الذي يُقدّر بـ 10 بلايين سنة. وفي غضون بضعة بلايين أخرى من السنين، ستبدأ الأجزاء الخارجية من الشمس بالانتفاخ، ما يجعل الأرض أكثر سخونة. وفي نهاية المطاف ستغلي المحيطات والبحار والأنهار وتتبخّر مياهها، ما يجعل بقاء البشر على قيد الحياة احتمالا مستحيلا. في ذلك الوقت، ربّما يكون البشر قد تمكّنوا من صنع صواريخ قادرة على حملهم إلى أماكن أبعد داخل النظام الشمسي، أو حتى إلى أماكن أخرى بالقرب منه.
  • وبعد حوالي 5 بلايين سنة، ستتضخّم الشمس للغاية بحيث تصبح "عملاقا أحمر"، بينما يتمدّد سطحها إلى ما وراء مدار عطارد اليوم. وبحلول ذلك الوقت، ستتفحّم الأرض، ولن يكون أحد موجودا وقتها ليرى الشمس وهي تتخلّى عن طبقاتها الخارجية. صحيح أن هذا الحدث مرعب، لكنّه يوفّر منظرا فلكيّا جميلا. إذ ستنتفخ الطبقات الخارجية للشمس وتتطاير بعيدا في الفضاء لتشكّل سديما ملوّنا مثل سديم الحلَقة المشهور. كما لن يكون احد موجودا على الأرض عندما ينكمش ما تبقّى من نواة الشمس لتصبح قزما ابيض شديد الحرارة جدّا.
    وقد يدهشك أن تعرف أن بعض أجزاء الشمس هي الآن أكثر سخونة بكثير من 6000 درجة مئوية. مركز الشمس نفسه تبلغ حرارته حوالي 15 مليون درجة. والطبقة الخارجية للشمس، أي الهالة الشمسية "أو الإكليل" التي نراها في الكسوف الكلّي، تبلغ حرارتها حوالي مليوني درجة مئوية "أي 4 ملايين درجة فهرنهايت". ولكن تلك الحرارة العالية لا تبيّن لنا سوى أن الجسيمات "أي الإلكترونات والبروتونات وغيرها" في الهالة تدور بسرعة كبيرة جدّا. لكن لحسن الحظ، ليس هناك ما يكفي من تلك الجسيمات لتمسك بكمّية خطيرة من الطاقة.

  • مصدر الخطر الثالث على الأرض هو السوبرنوفا أو النجوم المتفجّرة. صحيح أن شمسنا قد تتسبّب في "شوي" كوكبنا خلال بضع بلايين من السنين. ولكن هناك بعض النجوم الأخرى التي يمكن أن تنفجر، أو تتفجّر إلى الداخل على وجه الدقّة، في أيّ يوم. المعروف انه في نواة أيّ نجم، يحوّل الانصهار الهيدروجين إلى هيليوم والقليل من الهيليوم إلى كربون. يبدو الأمر مؤذيا بما فيه الكفاية، أليس كذلك؟
    لكن في نجم أكثر ضخامة، أي أكثر من كتلة الشمس بخمسة أضعاف أو أكثر، فإن داخل النجم يصبح حارّا جدّا لدرجة أن الكربون في النواة ينصهر ليتحوّل إلى عناصر أثقل كالأكسجين والمغنيسيوم. وتَشكُّل هذه العناصر الأثقل يولّد قدرا كبيرا من الطاقة. وفي نهاية المطاف تتحوّل العناصر إلى حديد، عندما تنفتح كلّ أبواب الجحيم. وعندما يستمرّ الاندماج في نواة النجم، فإن الحديد يأخذ طاقة بدلا من أن يعطيها. لذا عندما يتراكم الحديد في النواة، يتمّ امتصاص الطاقة من مركز النجم، ما يؤدّي إلى انهيار النجم إلى الداخل. وفي غضون ثوان، فإن الطبقات الخارجية تسقط إلى الداخل من ملايين الأميال ويصبح النجم سوبرنوفا أو نجما متفجّرا أو "مستعراً أعظم" كما يُسمّى بالعربية.
    علماء الفلك يعتقدون أن سوبرنوفا أو مستعراً أعظم يتفجّر في مجرّتنا كلّ 100 سنة أو قريبا من ذلك. ولكن لم نرَ أيّ شيء مثل هذا منذ أن رأى الفلكيّون الأوائل مثل تايكو برايي (عام 1572) ويوهانز كيبلر (في 1604) مثل هذا وكتبوا عنه. السبب قد يكون أن معظم النجوم المتفجّرة يُعتقد أنها تكون على الجانب الآخر من المجرّة، وهي مخبّأة عنّا بسبب الغبار في مركز مجرّتنا. وأقرب سوبرنوفا نعرفه اليوم تشكّل مؤخّرا في سحابة ماجلان ، وهي واحدة من المجرّات التابعة لدرب التبّانة، كما أنها اقرب إلينا على الأرض من بعض أجزاء مجرّتنا. وقد انفجرت السوبرنوفا في عام 1987 ووصلت إلى درجة سطوع يكفي لأن يُرى بالعين المجرّدة.
    لقد ظللنا حتى الآن بمأمن من هذه النجوم المتفجّرة بعيدا. ولكن تفجّر أيّ منها بالقرب من منطقتنا على المجرّة يمكن أن يمسحنا عن الخارطة تماما بالأشعّة السينية وبأشعّة غاما وجزيئات أخرى. ومثل هذا الاحتمال واقعيّ جدّا. وكان بعض العلماء قد صوّبوا تلسكوباتهم على جرم محدّد بدا كما لو انه نجم كبير. وعلى مدى السنوات المائة الماضية، أو نحو ذلك، سطع النجم وتغيّر إلى حدّ كبير. ربّما كان سوبرنوفا على وشك الانفجار. أو قد يكون نجما انفجر بالفعل. وربّما يكون الإشعاع الصادر عنه في طريقه إلينا الآن ويُنتظر وصوله في أيّ يوم!

  • مصدر الخطر الرابع على الأرض هو تسارع الكون. الفلكيّ ادوين هابل اكتشف في عشرينات القرن الماضي أن الكون يتوسّع باستمرار. وفي ذلك الوقت، قاس هابل التغيّرات في السماء من خلال جلوسه في العراء والبرد كلّ ليلة وباستخدام تلسكوبه الضخم. ولاحظ أن الطيف الضوئي في السماء أظهر جميع أنماط الألوان وكذلك تحوّلاتها. كما لاحظ من خلال الصور التي التقطها أن المجرّات الأبعد تتغيّر أطيافها أكثر. وفي قفزة عبقرية، استنتج هابل أن الكون آخذ في التوسّع بشكل مستمرّ.
    وفي السنوات القليلة الماضية، أي بعد أن أصبحت التلسكوبات أضخم وأكثر قوّة، تمّ اكتشاف ظاهرة ذات صلة وفاجأت الجميع. فقد تبيّن أن معظم المجرّات الأكثر بعدا كانت تتراجع إلى الخلف بوتيرة أسرع، ما جعلها تبدو أكثر خفوتا ممّا كان متوقّعا. وهذه هي الظاهرة التي أصبحت تُسمّى الآن بالكون المتسارع.
    ويبدو أن هذه النظرية تقول لنا إن مستقبل الكون سيكون باردا ومظلما. وكان بعض العلماء يظنّون أن الكون سيوقف تمدّده في نهاية المطاف ويبدأ في الانكماش. لكن يبدو الآن كما لو أن الكون سيتمدّد إلى الأبد وستبتعد المجرّات وتتباعد عن بعضها البعض وتختفي عن الأنظار. وفي نهاية المطاف، فإن نجوما ستموت وتصل إلى مراحلها النهائية كأقزام بيضاء أو نجوم نيوترونية أو ثقوب سوداء.
    وبعد 50 بليون سنة أو نحو ذلك، سيكون الكون مجرّد بقايا ميّتة لجلال وعظمة الكون كما نعرفه اليوم. ومن المثير للاهتمام أن نعرف أن كلّ التاريخ المدوّن، أي حوالي 5000 سنة، يمثّل فقط واحدا من عشرة في المليون من ذلك الرقم، أي من الـ 50 بليون سنة. ويتطلّب الوصول إلى تلك المرحلة البعيدة من عمر الكون تريليون دورة حياة، طول الدورة الواحدة 50 عاما. لذلك علينا في النهاية أن لا نقلق كثيرا.
    - مترجم بتصرّف عن مقال لـ جي باساتشوف، أستاذ علم الفلك في وليامز كوليج.

    Source
    mentalfloss.com
  • الثلاثاء، يونيو 10، 2014

    البحث عن الظلام/2

    في الولايات المتحدة اقترحت إحدى الشركات أن تصمّم للشوارع العامّة أنوارا "ذات رنين قمريّ" عبارة عن مصابيح تستجيب لضوء القمر المحيط. وستكون هذه المصابيح مزوّدة بأجهزة استشعار بحيث تسطع أضواؤها أو تصبح باهتة تبعا لمراحل القمر والغطاء السحابي والعوامل البيئية الأخرى. وتأمل تلك الشركة أن تغيّر الأضواء الجديدة مفهومنا عن المدن في الليل وتساعد على تشجيع "الأنشطة المرتكزة على ضوء القمر".
    وفي زيارته إلى منطقة لومبارديا في شمال إيطاليا، يلاحظ المؤلّف بوغارد أن أعمدة النور هناك صُمّمت لتمنع الأضواء من الهرب أفقيّا أو لأعلى. وطبقا لمنظّمة ايطالية تدافع عن السماء المظلمة، فإن أكثر من 30 في المائة من الإضاءة العامّة موجّهة نحو السماء. وهناك دعوات متزايدة لاستخدام أعمدة الإنارة المعدّلة التي تهدف إلى الحدّ من هذه الأضواء المهدرة وتوفير الطاقة والاكتفاء منها بالحدّ الأدنى الذي يوفّر إضاءة مشرقة ومعقولة.
    وفي جزء آخر من الكتاب يتحدّث المؤلّف عن مستوى الرؤية ليلا في فينيسيا؛ المدينة الايطالية التي يبلغ عدد سكّانها أكثر من 250 ألف شخص والتي يمكن أن ترى في سمائها مجرّة درب التبّانة بوضوح. وهو يعزو هذا الأمر إلى الأضواء الرومانتيكية الفريدة والمتقشّفة في هذه المدينة.
    وينقل الكاتب عن احد العلماء قوله بأن هناك في الواقع قياسا كمّيا لعدد النجوم التي يحتاج الإنسان لرؤيتها في سماء الليل. وبعض علماء الفلك يقولون إن عين الإنسان ينبغي أن ترى ما لا يقلّ عن 2500 نجم ليلا لاستحضار ذلك النوع من الشعور بالارتباط بالماضي وبالكون ككلّ.
    وقد ذهب المؤلّف أيضا إلى فلورنسا مترسّما خطى العالم العظيم غاليليو واكتشف أنهم ما يزالون يحتفظون باثنين من التلسكوبات الأربعة التي كان يستخدمها. وقد قال له عالم فلك هناك شيئا مدهشا. قال انه إلى ما قبل حوالي 400 عام في فلورنسا، كان بإمكان الجميع أن يروا النجوم، ولكن كان عند غاليليو لوحده تلسكوب. "والآن الجميع لديهم تلسكوبات، ولكن لا أحد يمكنه رؤية النجوم".

    ❉ ❉ ❉

    وفي أكثر من مكان من هذا الكتاب، يعبّر المؤلّف عن حزنه، ليس فقط لأنه فقد ضوء النجوم، وإنّما الظلام نفسه أيضا. وهو يجادل بأن فقدان الظلام لا يسبّب فقط آثارا صحّية وبيئية عديدة، ولكنه يمثّل خسارة عاطفية وجمالية بنفس الوقت.
    لقد عطّل التلوّث الضوئي العلاقة الأساسية التي تطوّرت بين البشر والعالم الطبيعيّ. وهناك في التراث الإنساني ما يشير إلى أن الظلام له تأثيره على الممارسات الثقافية والاجتماعية. وطوال التاريخ البشري ظلّت السماء الليلية تحتفظ بتساميها وجمالها اللذين يلهمان الرهبة.
    الليل كان دائما ارض الألفة والحميمية والخيال. أما الظلام فكان وما يزال جزءا من عملية الإبداع والخلق. وكل فنّان يعرف ذلك. وما يؤسَف له أننا أصبحنا بعيدين عن زمن أشخاص مثل فان غوخ وهنري ثورو وغيرهما عندما كانت سماء الليل تخبرنا قصصا عن حياتنا وعن أقدارنا.
    ويشير المؤلّف إلى نظرية الكاتب والفيلسوف الأمريكي هنري ديفيد ثورو التي ضمّنها كتابه "الحياة في الغابات" والتي يقول فيها إن الخوف الذي نشعر به في الليل أمر طبيعيّ، بل ومفيد أيضا لأنه يدفعنا للشعور المتزايد بالحياة والحيوية، كما انه يسمح لنا من خلال الظلام بمواجهة بعض إيحاءات موتنا الذي لا مفرّ منه في النهاية".

    ويورد الكاتب أيضا قصّة عن الشاعر الانجليزي سامويل تيلر كولريدج الذي كان من عادته أن يتمشّى مسافات طويلة في منتصف الليل وتحت ضوء النجوم مع احد أصدقائه حتى الثالثة صباحا وهما يتحدّثان. ثمّ يعبّر عن أسفه لأن مثل هذه الأنشطة الليلية المرتبطة بالظلام وبغياب الضوء أصبحت مفقودة من حياتنا اليوم.

    ❉ ❉ ❉

    بوغارد نفسه يتصرّف مثل مستحضر للأرواح الطيّبة يسعى وراء الظلام في أيّ مكان يتوقّع أن يعثر عليه فيه، ثم يجلس ليراقبه ويتأمّله ويسجّل بعضا من انطباعاته ومشاهداته.
    يقول مثلا: عندما أستلقي على ظهري وأغمض عينيّ، فإن هذا الطرف البعيد من الشاطئ بالقرب من نهاية المحيط يبدو أشبه ما يكون بكائن هائل يتنفّس. الذين يعيشون هنا لوحدهم ومن دون أضواء يصبحون بالفعل ذوي حساسية عالية تجاه المواسم والإيقاعات والطقس والأصوات وصولا إلى جوار البحر وما تحت السماء. الأمر يشبه أن تستلقي إلى جوار شخص تحبّه فتسمع حركة دمه وأنفاسه ودقّات قلبه".
    ويقول في مكان آخر: بعينيّ المجرّدتين، انظرُ إلى القمر في الليل وهو يصعد ببطء. أحيانا يبدو مغبّرا بالصدأ وبالألوان الزهريّة والبنّية والذهبيّة، لدرجة انه يكاد يقطر ألوانا أرضيّة ويُخيّل إليك كما لو أن ضفائره مربوطة بالأرض وأنه يشعر بكونه قريبا من هذا العالم وجزءا منه وأنه صديق. ولكن المفارقة أن القمر من خلال التلسكوب يبدو أكثر بُعدا. القمر الرماديّ والأبيض يظهر في بحر من السواد، سطحه أكثر إشراقا، ولا بدّ وأن تُذهل من الصمت المطلق للمشهد".
    وفي مكان ثالث يقول: في معظم الأيّام، أعيش مرعوبا من هذا العالم أكثر من حزني على العوالم التي فقدناها: الشمس المشرقة الصافية لظهيرة شتوية متجمّدة، أو صعود كوكبة الجبّار في أمسيات الليل الشرقية كلّ ليلة. يمكنك أن تشعر بالحزن إلى ما لا نهاية على الأطفال الجائعين وعلى ضحايا العنف المنزلي وعلى حروب لا نهاية لها بين بشر يُفترض أنهم ناضجون. لكن لا يجب أن تخاف إن رأيت الحزن منتصبا أمامك اكبر من أيّ شيء آخر رأيته من قبل، كما يقول الشاعر الألماني ريلكا. ومع ذلك، يجب أن تدرك أن الحياة لم تنسَك، وأنها تضمّك إليها ولا تسمح لك بأن تقع".

    ❉ ❉ ❉

    في نهاية الكتاب، يعيد إلينا المؤلّف الوعي بالسماء الليلية المظلمة والبدائية، وكيف أنها في التجربة الإنسانية كلّ شيء، من العلم إلى الفنّ إلى الشعر. "لقد جرّدنا أنفسنا وأطفالنا من متعة السماء الرائعة في الليل والتي ألهمت الفنّ والعلوم والدين والفلسفة منذ فجر التاريخ البشري. إننا نسرف في إضاءة الممرّات والشرفات ومواقف السيّارات وواجهات المحلات والطرق السريعة والأماكن العامّة. ولهذا أصبحت السماء الليلية الآن من الأنواع المهدّدة بالانقراض".
    ويضيف: هذا الكتاب ليس دعوة للتخلّص من الضوء والعودة إلى الظلام، لأن الضوء في الليل مدهش. انه معجزة، والناس لن يتحمّلوا عدم وجود ضوء على أيّ حال. ولكن هناك الكثير من الأشياء التي يمكن القيام بها للسيطرة عليه واحتوائه واستخدامه بذكاء ومسئولية. بإمكاننا مثلا أن نستخدم ضوءا أقلّ كثيرا من الضوء الذي نستخدمه الآن لمسائل السلامة والأمن وإنارة الشوارع. لقد تطوّرت الحياة على الأرض بنهارات مشرقة مع ليال مظلمة، ونحن بحاجة إلى كليهما".

    Credits
    patheos.com
    paul-bogard.com
    spiritualityandpractice.com

    الاثنين، يونيو 09، 2014

    البحث عن الظلام

    الليل المرصّع بالنجوم هو واحد من عجائب الطبيعة الأكثر سحرا. ولكن في عالمنا الذي تنيره الأضواء الاصطناعية، فإن ثلاثة أرباع الناس لا ينظرون إلى السماء ليلا ومعظمنا لم يعودوا يجرّبون الظلام الحقيقي.
    والمفارقة هي انه صار لدينا الآن الكثير من الضوء بحيث لم نعد قادرين على أن نراه. وأصبحنا في بعض الأحيان عميانا "بالمعنى الحرفيّ للكلمة" بسبب سطوع ووهج الإضاءة. ولكن العبارة بمعناها المجازي صحيحة أيضا، وهذا يعني أنه عندما نضيء كلّ شيء، فليس هناك حقّا أيّ سبب لكي ننظر أكثر أو نلاحظ ما حولنا.
    الإضاءة الاصطناعية قد تعني الكثير من الأشياء الجيّدة حقّا. فمن خلالها نستطيع وصل الليل بالنهار، ما يعني أننا يمكن أن نستمرّ في العمل وان نتابع هواياتنا ونذهب لتناول العشاء ونرفّه عن أنفسنا.
    لكن لّليل الكثير من السمات التي تتجاوز الظلام أو عدمه، مثل الأصوات والروائح الليلية، أي تلك الأشياء الحسّية التي لها علاقة أكثر بالليل.
    في الليل يتضاءل حجم وصخب العالم ونشعر بأن لا شيء يجتاحنا أو يعصف بنا. وفي الليل أيضا نتخلّص من تلك الأعباء التي حملناها طوال النهار. هذه الأمور تعني أن الليل هو أكثر بكثير من مجرّد الظلام. ومع ذلك فإن الظلام نفسه يتوفّر على الكثير من الأهميّة لوحده، سواءً بالنسبة لصحّة الإنسان أو صحّة البيئة.

    ❉ ❉ ❉

    في هذا الكتاب بعنوان "نهاية الليل: البحث عن الظلام الطبيعي في عصر الضوء الاصطناعي"، يتناول الكاتب بول بوغارد فكرة الاختفاء السريع للظلام من عالمنا، أو بعبارة أدقّ الزحف المتزايد للضوء.
    وقت الليل كما عرفه أسلافنا وحتى وقت قريب، أي إلى حوالي منتصف القرن العشرين، أصبح تحت التهديد. وإذا كانت أضواء العالم الآن لا تنطفئ أبدا، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف يؤثّر هذا علينا، نحن البشر، وعلى أشكال الحياة الأخرى التي تشترك معنا في بيئتنا؟
    مؤلّف الكتاب يلفت انتباهنا إلى أن الليل المظلم هو منظر طبيعيّ في حدّ ذاته، أي حالة بيئية منفصلة وثمينة للغاية لدرجة أننا نغفل عنها وندمّرها دون أن نعي خطر ذلك.
    وهو يبدأ كتابه بطاقة وحيوية. ومن اجل أن يجمع مادّة للكتاب، يذهب إلى مواقع في الولايات المتحدة، والى أماكن أخرى مثل باريس وفلورنسا وجزر الكناري وغيرها.
    يقول بوغارد إن الانتشار السريع للإضاءة الاصطناعية في عصرنا هو سمة رئيسية للرأسمالية. ثم يذكّر بكلام لـ بيل ماك ايبن مؤلّف كتاب نهاية الطبيعة الذي يقول: إن أكثر الأشياء الثمينة في العالم الحديث هي الصمت والعزلة والظلام. ومن بين هذه الأشياء الثلاثة النادرة، فإن الظلام الحقيقيّ قد يكون أندرها جميعا".
    ويورد المؤلّف أدلّة دامغة على التأثير الضارّ للحرمان من الظلام على البشر، مشيرا إلى أن الضوء الكهربائي، بديلا عن ضوء القمر أو النجوم أو حتى ضوء الشموع، له دور مهمّ في الإصابة بالسرطان. فإنتاج هرمون الميلاتونين، وهو عامل حيويّ في جهاز مناعة الجسم، ينخفض في بيئة الضوء. وقد تمّ ربط نقص الميلاتونين في الدم بزيادة مخاطر الإصابة بسرطان الثدي والبروستاتا.
    يناقش الكتاب أيضا التكلفة المادّية والانفعالية لنوبات العمل الليلية. فإيقاعات الساعة البيولوجية تتعرّض للخلخلة بفعل التعرّض للضوء الكهربائي في الليل، ما يؤدّي إلى اضطرابات النوم التي تولّد بدورها الإرهاق وتوتّر الأعصاب وازدياد العلاقات الصراعية. ومؤخّرا اعتبرت منظّمة الصحّة العالمية أن نظام العمل بالنوبات الليلية يسهم في الإصابة بالسرطان ووضعته في نفس مستوى خطورة استنشاق أبخرة الديزل.

    كتاب "نهاية الليل" مبنيّ في الواقع على سلسلة من اللقاءات مع أناس لديهم ما يقولونه حول الضوء والظلام. ومن هؤلاء شخص يُدعى كين، وهو سجين سابق، نعلم منه أن احد أساليب إضعاف الروح المعنوية للسجين هو تعريضه المستمرّ للضوء الثابت الذي يُوظّف كجزء من الذراع الطويلة للأمن. ومن غير المدهش أن كين أصبح الآن معلّما لا يُشقّ له غبار في شئون الظلام.
    ويشير الكاتب إلى انه إذا كانت مدننا الشديدة الإضاءة تُعرّض صحّة الإنسان للخطر، فإن لتلك الإضاءة انعكاسات أكبر على عالم الحيوان. فـ 30 في المائة من الفقاريات وأكثر من 60 في المائة من اللافقاريات هي كائنات ليلية. والإضاءة الاصطناعية تؤثّر بشدّة على أنماط التزاوج والتربية والتغذية والهجرة عند تلك الحيوانات. وهناك قصص عن مئات الحيوانات التي تُقتل سنويا بسبب ارتطامها بالأسوار الاسمنتية نتيجة الارتباك والتشوّش الذي تسبّبه لها أضواء المدن.
    ومن الحقائق العلمية المعروفة أن الكثير من أنواع الحيوانات الليلية تنشط عادة عند الفجر أو الغسق. وقد تطوّرت هذه الأنواع لتعتمد على الظلام. وعندما تغزو أضواؤنا الاصطناعية بيئتها، فيمكن أن تكون تلك الأضواء مدمّرة مثل جرّافة في وضح النهار.
    ويقول المؤلّف إن ألمع شعاع على وجه الأرض يمكن العثور عليه في لاس فيغاس، وهو ينبعث من مزيج من تسعة أضواء ضخمة في كازينو الأقصر. وهذه الأضواء تمثّل شرَك موت حقيقيّ للفراشات وللحشرات الأخرى التي تنجذب إلى الأضواء المبهرة.
    لكن تلك الأضواء هي أيضا مصدر دمار اكبر للخفافيش والطيور التي تتغذّى من هذا البوفيه الكبير والمضاء جيّدا. وما يحدث هو أن الأضواء تجذب هذه الكائنات من بيئتها الطبيعية البعيدة جدّا، لدرجة أن الطاقة التي تبذلها في الطيران من وإلى الكازينو لا تترك لها شيئا لإطعام ورعاية صغارها.
    وما يحزن المؤلّف هو أن الكثير من الضوء يُفقد بعض الحيوانات صوابها ويحرف دورات الطبيعة ويدمّر صحّة الإنسان.

    ❉ ❉ ❉

    تاريخيّا، كانت الحكومات تشجّع الضوء، لأن السيطرة على مدينة مضاءة جيّدا يصبح مهمّة سهلة. كان الضوء يعادل سلطة الدولة. وفي عصر لويس الرابع عشر ملك فرنسا، صدر مرسوم يقضي بأن تُعلّق الشموع في الشوارع. وكانت تلك وسيلة لإثبات قوّته ومقدرته على إبعاد الظلام. وفي السنوات التي سبقت الثورة الفرنسية، كان العديد من الباريسيين يرون في إنارة الشوارع العامّة رمزا للطغيان. وكان تحطيم مصابيح الزيت عملا مألوفا ومتكرّرا آنذاك.
    لكن اليوم أصبحت العديد من الدول تبذل جهودا حثيثة للسيطرة على التلوّث الضوئي. فرنسا، مثلا، والتي تُسمّى عاصمتها "مدينة النور"، أصدرت حكومتها مرسوما يُلزم المباني العامّة والمحلات التجارية بإطفاء أنوارها ما بين الساعة الواحدة والسابعة صباحا في محاولة للحفاظ على الطاقة وخفض التكاليف والحدّ من آثار الإضاءة الاصطناعية على البيئة الليلية.
    كما كانت جمهورية التشيك من أوائل الدول التي سنّت قوانين لمكافحة التلوث الضوئي في البلاد. وفي المكسيك أعلن تحالف يضمّ عددا من المنظمّات الشعبية أن السماء الليلية المظلمة هي جزء من التراث الثقافي للبلاد وألزم البرلمان بسنّ قانون يقضي بتنظيم الإضاءة خارج البيوت ليلا.
    للحديث بقيّة غداً..

    الاثنين، يونيو 02، 2014

    ساحرات غويا/2

    هذه اللوحة واللوحة التي قبلها هما جزء من ما سُمّي باللوحات السوداء. وقد انتهى غويا من رسم هذه المجموعة عندما أكمل عامه الخامس والسبعين. كان آنذاك يعيش لوحده في محنته النفسية والجسدية. ويبدو انه أراد من خلالها استكشاف موضوعات العنف والرهبة والشيخوخة والموت.
    وقد رسم غويا هذه اللوحات مباشرة على جدران منزله. وعلى ما يبدو، لم يكن ينوي في البداية عرض أيّ من الجداريات الأربع عشرة على الجمهور، كما لم يكتب عنها شيئا وربّما لم يتحدّث عنها أبدا. وفي عام 1874، أي بعد مرور حوالي 50 عاما على وفاته، أزيلت اللوحات من مكانها ونُقلت إلى القماش، ومن ثمّ إلى متحف البرادو حيث هي اليوم.
    و"سبت الساحرات 1 و 2" يمكن ربطهما من حيث موضوعهما بلوحته التي أنجزها في وقت سابق بعنوان "نوم العقل يوقظ الوحوش" وكذلك بمجموعة لوحاته من سلسلة "كوارث الحرب" والتي لم تُعرض إلا بعد وفاته بـ 35 سنة.
    وهذه اللوحات تُعيد إلى الأذهان ذكريات حيّة ومروّعة عن محاكم التفتيش في إسبانيا. كما أنها تتضمّن انتقادا للملكيين ورجال الدين الذين كانوا قد استعادوا السيطرة على أسبانيا بعد حرب شبه الجزيرة الأيبيرية من عام 1807 إلى 1814. وكان دعاة التنوير قد سعوا إلى إعادة توزيع الأراضي على الفلاحين وتعليم النساء واستبدال الخرافة بالعقل وبوضع نهاية لمحاكم التفتيش. ووجد الليبراليون المثاليون، من أمثال غويا، أنفسهم في مرمى نيران التقليديين الذين عملوا على إعاقة جهود الإصلاح.
    "سبت الساحرات رقم 2" كثيرا ما أثارت إعجاب مؤرّخي الفنّ. فمن ناحية، هي تقدّم نموذجا واضحا على أسلوب غويا الفنّي. والأمر الثاني أنها كانت وما تزال توفّر موضوعا خصبا للنقاش.
    وهذه اللوحة تصوّر أيضا جماعة من الساحرات المتحلّقات حول شيطان. والشيطان هنا أيضا يأخذ شكل تيس ويرتدي عباءة كاهن أو رجل دين. وعلى غرار بقيّة لوحات غويا السوداء الأخرى، فإن الحدث الذي تصوّره اللوحة يجري في وقت ما بعد الغسق، عندما لا يمكن رؤية سوى الظلام في الخلفية.
    هذا الظلام يحجب مكان الأشخاص المجتمعين. لكن يمكن افتراض أنهم موجودون في مكان منعزل وناء. الوجوه الشوهاء والقبيحة للنساء الحاضرات مع أفواههنّ الفاغرة في رهبة أو خوف هي أيضا من سمات اللوحات السوداء. والملامح الشبحية والعيون الغائرة توحي بأن ما يجمع هؤلاء الأشخاص هنا هو أمر له علاقة بالحداد أو الموت.
    النساء يتفاوتن في السنّ، لكنهنّ يشتركن في الملامح المشوّهة. كما أنهنّ يبدين مرعوبات ومنصاعات تماما لأوامر الشيطان.

    وأنت تتأمّل هذه اللوحة بجوّها المقبض والكئيب، لا بدّ وأن يلفت انتباهك فيها تفصيلان: الأوّل هو المرأة الضخمة التي تجلس في المنتصف وترتدي فستانا اسود. تبدو المرأة متحفّزة، عيناها مفتوحتان على اتساعهما وتعبيرات وجهها توحي بالصدمة والفزع، وكأنها تنتظر دورها في طقوس الشعوذة هذه.
    وعلى يمين الشيطان أو التيس يمكن رؤية شخص يرتدي الملابس البيضاء. هل ثمّة علاقة ما بين الاثنين؟ هل يكون هذا الشخص مساعد الشيطان مثلا؟ على الأرض، إلى يمين هذا الشخص، ثمّة قوارير يُفترض أنها تحتوي على أدوية وعقاقير لزوم المراسم الشيطانية ربّما.
    ملامح الشيطان نفسه ليس من السهل رؤيتها أو تحديدها. فمه مفتوح كما لو انه يصرخ أو يتفوّه بلعنات أو شتائم. وهذه اللوحة واللوحة التي قبلها يمكن اعتبارهما مصداقا للقاعدة التي تقول أن لا شيء يقوّي ويرسّخ السلطة المطلقة كالخوف.
    وما فعله غويا في هذين العملين وفي غيرهما كان وسيلته لإيصال ما كان يشعر به من كرب وشعور بالمأساة على الصعيدين الشخصي والمجتمعي. الطلاء القاتم والأماكن الليلية والشخوص المعذّبون جسديّا وعقليّا وعاطفيّا، كلّها عناصر سترتبط من الآن وإلى الأبد باللوحات السوداء.
    الاهتمام بالخوارق والغيبيات كان سمة من سمات الحركة الرومانسية. وفي تلك الفترة كانت الحكايات عن تجمّعات السحرة وظهور الشيطان في منتصف الليل شائعة بين سكّان المجتمعات الريفية. واللوحتان تعكسان ازدراء الرسّام لإيمان بعض فئات المجتمع بالخرافات وتعمّد الكنيسة المدعومة باستبداد حكم الإقطاع زرع المخاوف الغيبية في عقول الناس.
    لكن في سياق إسباني، يمكن اعتبار اللوحتين احتجاجا ضدّ أولئك الذين أيّدوا وفرضوا قيم محاكم التفتيش الإسبانية التي كانت نشطة في القرن السابع عشر.
    انسحب غويا من الحياة العامّة وتوارى عن أعين الناس في السنوات الأخيرة من حياته. كان يخشى باستمرار من أن يصاب بالجنون. ومن المحتمل انه كان يشعر بالاشمئزاز حينها بسبب الظروف الاجتماعية والسياسية في اسبانيا بعد استعادة الحكم الملكي.
    وفي أوائل عام 1790 أصبح أصمّ تماما. ومن المؤسف أن الصمم رافقه حتى نهاية حياته. والحقيقة انه لا يُعرف الكثير عن حياة غويا ولا عن أفكاره في تلك السنوات القليلة التي عاشها بهدوء خارج مدريد وتمتّع خلالها بحياة من العزلة شبه الكاملة.

    Credits
    museodelprado.es
    franciscodegoya.net
    totallyhistory.com